الاثنين، يوليو 11، 2011

الجلسة الثالثة : نصف كيلو لبن.

في الصالة الضيقة، جلس الأستاذ عبد الحميد يشرح لطفلته الصغيرة سلمى مسألة مهمة، لماذا يأكل النمل السكر؟

وجهت سلمى هذا السؤال إلى والدها، مؤمنة أنها ستجد لديه الإجابة دون شك، وكيف لا، وقد اعتادت على إيجاد أجوبة نهائية وواضحة على كل سؤال تسأله في حضرة أبيها مدرس الجغرافيا الأستاذ عبد الحميد الرحيمي.

في المطبخ المجاور للصالة، والضيق أيضاً بطبيعة الحال، فشقة صالتها ضيقة لن تكون أبداً ذات مطبخ متسع. كانت السيدة حنان، زوجة الأستاذ عبد الحميد، مدرسة اللغة الأنجليزية، تقطع ما تبقى من أصابع الموز، داخل طبق نصف دائري كبير، ممتلي بقطع صغيرة من الفاكهة تعوم وسط مياة مذاب بها السكر، فيما تسميه باسم سلطة الفواكه، وهي تتركه في الثلاجة بعض الوقت، ثم تخرج الطبق الكبير وتعيد توزيع السلطة داخل أطباق صغيرة، حافظة لكل فرد في الأسرة "منابه"، وهذه كلمة تدل بطريقة أو بأخرى على القدر الذي يستحقه كل فرد من طبق سلطة الفواكه.

الساعة تقترب من التاسعة، والأنباء التي ينقلها الراديو في المطبخ، والتليفزيون في الصالة، وشباك الجيران من المنور، كلها تقول أن البلد ليست على ما يرام. إذن، يمكن أن تصبر سلمى قليلاً على أجابة سؤالها، خاصة وأنه فيما يبدو، فإن بقاء والدها في المنزل دون عمل سيستمر بضعة أيام..

بميكانيكة معتادة، وضعت السيدة حنان ورقة مستطيلة بجوار التليفزيون، وأخبرت زوجها، أنها طلبات مهمة، يجب احضارها من البقالة القريبة، أو الذهاب إلى السوبر ماركت في الحي المجاور، ذلك أن البقا ء في المنزل يستلزم وجود احتياطي من الغذاء يكفي لكل فرد في الأسرة منابه.

سحب الأستاذ عبد الحميد الورقة، ثم نزل. لم يجد أهمية لارتداء قميصه وبنطاله، اكتفى بالجلابية الواسعة، والشبشب البلاستيكي.

أمام ثلاجة زجاجية باردة، ممتلئة بأصناف مختلفة من الجبن، قال الأستاذ عبد الحميد طلبات زوجته، زجاجة زيت عباد شمس، وكيلو كامل من الجبن الأبيض ملح خفيف، وأربعة أكياس من العيش البلدي المغلف، وكيلو ونصف من اللبن كل نصف وحده في كيس منفصل.

لم يعرف الأستاذ عبد الحميد أبداً الحكمة في تقسيم اللبن إلى أكياس متساوية، ولم يكن يرغب في معرفة السبب. في النهاية هذا أمر يخص زوجته ويريحها. وغالباً، فإن ابنته سلمى لن تسأله يوماً عن أمر كهذا، وإن سألته، فسيكتفي بالقول : اسألي ماما.

عندما عاد الأستاذ عبد الحميد إلى المنزل، كان شكله قد تغير بعض الشيء. جلبابه متسخ، وعليه بقع بيضاء. ورأسه متورم قليلاً، وهناك ثقب صغير يتوسط جبهته، بالتحديد في مكان زبيبة الصلاة التي تمنى يوماً أن يمتلكها.

كانت إحدى فردتي شبشبه مفقودة، ويمكن أن نفهم، إن الرصاصة التي اخترقت جبهته، جعلته يسقط على الأرض، ما جعل أكياس اللبن تنفجر كانفجار رأسه تماماً.

ليست كل أكياس اللبن، كيسان فقط، كيلو واحد، ليختلط الدم باللبن، في مزج غير مريح بين لوني الأحمر والأبيض، وهي ألوان متنافرة، لا نراها إلا على علم مصر بصحبة النسر، واللون الأسود الذي سترتديه الأستاذة حنان وباقي أسرتها حداداً على مقتل زوجها في الشارع الخلفي دون سبب واضح.

الشاشة تقول، أن الفوضى تعم البلاد، وأن السجون باتت مفتوحة، وأن البلطجية في كل مكان، والشباب الذين أحضروا لها جثة زوجها إلى المنزل، يقولون أن زوجها كان بطل لمظاهرة ضخمة خرجت من الحي المجاور، وأن حمله لطلبات المنزل، لم يمنعه من الهتاف "يسقط يسقط.. أرحل أرحل". حتى اصطاده القناصة حين ظنوا أنه قائد المسيرة.

السيدة حنان، لا تصدق أن زوجها مشى يوماً في مظاهرة، ولا أن للبلطجية مصلحة في قتله.

بعد صدور تصريح دفن الجثة، وبعد انتهاء الجنازة السريعة، عادت السيدة حنان إلى منزلها وجلست وحيدة في صالتها الضيقة. كان أطفالها متفرقين في بيوت الأقارب.

نظرت إلى المكان الذي اعتاد الأستاذ عبد الحميد الرحيمي الجلوس فيه، فوجدت كيس أبيض صغير. عليه من الخارج بعض النقط الحمراء، تذكرت على الفور أنه دخل منزلها مع جثة زوجها.

صف كيلو لبن ملوث بالدماء. هذا ما تبقى من الطلبات التي كتبتها في ورقة مستطيلة وطلبت من زوجها النزول لشراءها.

في جلستها الصامتة، سألت السيدة حنان نفسها، عما يجب أن تفعله بكيس اللبن الملوث بدماء زوجها. لسبب أو لآخر تظن أن له قيمة أكبر من قيمة أي كيس لبن آخر.

اللبن لبن كأي لبن، لكن الدم دم الأستاذ عبد الحميد الرحيمي الذي لا يقدره في هذا العالم أكثر من تلامذته إلا زوجته، ثم ابنته سلمى التي لم تعلم بعد السبب في أن النمل يأكل السكر.

فكرت السيدة حنان، أن اختيارتها محدودة، من الممكن رمي الكيس وتناسي الموضوع وكأنه لم يكن، فما أهمية نصف كيلو لبن وزوجها مات.

من الممكن أيضاً فتح الكيس وشرب اللبن، لكن، هل تفارق رائحة الدم الكيس؟. ثم أليست هذه قسوة نادرة، أن تشرب الزوجة اللبن الذي مات زوجها وهو يحاول إحضاره إلى منزلها.

من الممكن إعطاء الأمر بعداً أعمق. ستشرب السيدة حنان اللبن فقط في اليوم الذي يدخل قاتل زوجها السجن، أياً كان اسم القاتل، أو صفته أو وظيفته.

هذا تحدي، من ناحية، لن تتمكن السيدة حنان من شرب اللبن حامضاً أو منتهي الصلاحية، ومن ناحية أخرى، تعلم، كربة منزل محترفة، أن أقصى مدة يمكن الاحتفاظ خلالها بكيس لبن ملوث بالدم، هي عشرة أيام في أفضل الأحوال.. فالدم، لا يحفظ اللبن على أي حال.

ما الذي يمكن تقديمه للسيدة حنان حتى تتمكن من التصرف حيال نصف كيلو لبن ملوث بدم زوجها؟.

الجلسة الثانية : عزت والكشاف

من أين حصل عزت على الكشاف؟

كشاف كهربائي أصفر اللون، غريب بعض الشيء، لا يعمل بالبطارية، لا يعمل بالكهرباء. ذلك أنهم في وطن الكشاف الأصلي، هناك في الصين، اخترعوا طريقة تجعل الكشاف يعمل بالشحن اليدوي.

يوجد في جانب الكشاف مكان يمكن الضغط عليه بشكل مستمر لشحن البطارية الداخلية بالطاقة، وجعل الكشاف قادراً على الإنارة.

ما الذي يجعل عزت يحتفظ بكشاف كهذا؟، هل اشتراه من راديوشاك مثلاً، بالطبع لا، لأن عزت لا يعلم ما هي ضرورة وجود محل مثل راديوشاك في الحياة، لم يدخله إلا مرة واحدة، وفشل في فهم طبيعة المحل، وغادره بعد أن لاحظ أن أسعاره غالية بشكل غير مبرر.

ثم أنه من الصعب تخيل عزت يدخل خصيصاً إلى محل لشراء كشاف.
هل حصل عليه – إذن – كهدية من صديق؟.
وهل يمكن أن يعطي أحدهم لصديقه هدية عبارة عن كشاف أصفر يعمل بالشحن. ثم أن عزت يعيش دون أصدقاء.

هل سرقه عزت من أحدهم؟
يمكن تخيل شخص مثل عزت يسرق فعلاً، هو لا يعتبر السرقة فعلاً مشينا بالكامل، عادي يعني. من الممكن سرقة إحدهم إذا كان هذا ضرورياً. لكن، ليس من المفيد أن نسرق كشافاً.

كيف إذن؟
ما حدث، هو أن عزت كان يجلس على مقهى اسمها "الفرافيش"، وهي تقع بجوار ممر البورصة الممتلئ عن آخره بالمقاهي.

وقف أمام عزت شاب لطيف، طلب منه أن يأخذ من وقته دقيقة، وكان يحمل في يديه مجموعة من الأشياء الصغيرة وبعضها يضيء وينطفئ بانتظام.

أخبره عزت أن أياً ما كانت السلع التي يبيعها فهو لن يشتري منه شيئاً. أخبره بذلك بلطف وصدق وهدوء وأدب.

فقرر البائع الشاب أن يرفع الحرج عن الزبون الذي لم يعد زبوناً، بعد أن رفض فكرة الشراء من أساسها. قال : "على فكرة يا باشا.. القهوة دي بتاعة الشواذ". ثم هم بالإنصراف.

كان عزت على استعداد لقبول أي شيء على نفسه. إلا فكرة الجلوس على مقهى يجلس عليه الشواذ، والسبب بسيط، عزت يخاف من كل ما يمكن أن يكون غير طبيعياً. الشواذ، الأقزام، والغرباء بشكل عام.

فكر عزت أن عليه أن يشتري أي شيء من البائع الشاب اللطيف. كان يحمل ماكينة حلاقة كهربائية، وعزت يحلق بانتظام عند الحلاق، ثم مضرب بلاستيكي أحمر يضيء بلون أزرق، فهم بعد ذلك أنه صاعق للناموس، لكن عزت يعيش في منطقة لا ناموس فيها.

ثم كشاف أصفر يعمل بطريقة مبتكرة، قرر شراءه، بعد أن أخبره الشاب أن سعره في المحلات عشرة جنيهات، لكنه سيبيعه له بخمسة، وسيعطيه معه طقم مفكات صغير هدية.

اكتشف عزت أنه لم يستخدم المفك أبداً في حياته، لكنه لم يجد حرجاً في أن يمتلك طقماً للمفكات، قد يستخدمه يوماً لسبب أو لآخر.

في غرفته بالمنزل، فتح عزت الدرج الأخير في مكتبه، ووضع الكشاف بجوار طقم المفكات، وكلاهما بجوار علبة الهاتف المحمول الذي اشتراه عزت قبل عامين ولا زال يحتفظ بالعلبة، عسى أن يحتاجها إذا قرر بيعه يوماً.

أغلق عزت الدرج بهدوء واطمئنان، عادة لا تمتد يد عزت لفتح هذا الدرج لأي سبب. وعند فتحه، فالسبب الوحيد هو الإحتفاظ بشيء لا يحتاجه عزت أبداً.

بعد هذا بعامين، ستمتد يد عزت لفتح الدرج، وإخراج الكشاف.

سيبتسم حين يكتشف أن الكشاف لديه قدرة على العمل بعد كل هذا الوقت، سيأخذه وينزل. وسيستخدمه لمدة يومين، في تفتيش السيارات المارة أسفل العمارة التي يسكنها، وذلك كجزء من نشاط سيعرف بعد ذلك باسم اللجنة الشعبية.

الآن، تمتد يد نسائية للدرج يومياً، تفتحه، تخرج الكشاف، وتتأكد من قدرته على العمل، ثم تعيده إلى مكانه وتغلق مرة جديدة.

لدى صاحبة اليد - وهي أم عزت في الغالب – سؤالين، من أين حصل عزت على الكشاف؟، وإلى أين ذهب عزت؟.

الجلسة الأولى : غسيل

(1)

الشارع ضيق، في نهايته محل بقالة متوسط الحجم، اختار صاحبه أن يكتب اسمه أعلى البوابة بأضواء النيون، بعد أسبوع، لاحظ أن النيون الأبيض مزعج، فطلب من ابنه احضار سلم وقام بدهان خطوط النيون بطلاء أخضر.. عندما تجد نفسك في بداية الشارع من الناحية الأخرى، ستلاحظ أن الضوء الأخضر يملأ نهايته..

في الشارع الواسع الموازي، يوجد محل أدوات صحية جديد، افتتاحه الليلة، وقد اختار صاحبه أن يكتب اسمه أعلى البوابة باستخدام لافتة بلاستيكية ملونة، تصنع بالكومبيوتر، وتضاء بالنيون الأبيض من الخلف.

أمام المحل توجد كراسي حمراء من النوع المستخدم في الأفراح ومجالس العزاء، كما توجد سماعات سوداء ضخمة ينطلق منها صوت مقرئ كويتي معروف يتلو سورة يوسف، وتوجد ماكينة فيها ضوء ليزر أبيض، موجه إلى السماء، وتتحرك بانسيابية، نهاية خط ضوء الليزر تحتك بنعومة مع السحب الكثيفة بأعلى.. فتصنع شكلاً جمالياً لا يلحظه أحد.

إذا كنت تقف أمام منشر الغسيل في الشارع الضيق، فسوف تشعر بالضوء الأخضر من يمينك، وإذا رفعت رأسك قليلاً سترى أضواء الليزر، لكن، ما الذي يمكن أن تراه على منشر الغسيل نفسه؟.

توجد خمسة حبال، كلها مشغولة بأصناف مختلفة من الغسيل، من مظهر الشباك، خلف المنشر، ستفهم أنها ليست شقة جديدة. وبقدرة بسيطة على الملاحظة، ستتمكن من معرفة عدد الذين يعيشون خلف الشباك.

في الحبل الأول، من جهة الشباك، توجد أعداد كبيرة من الملابس الداخلية، بيضاء وملونة، وبمقاسات متعددة. يشعر المصريون بقدر من الحرج تجاه مسألة نشر الملابس الداخلية في الحبل الأخير من ناحية الشارع، يتم سترها عادة في الحبل الأول. بحيث لا يتمكن المار من رؤية شيء، إلا الملابس العادية، التي لا يشكل عرضها أي حرج أو خجل.
هذه مقدمة طويلة، لما يمكن أن نحكيه بخصوص الحبل الأول.

(2)
أقصى اليمين، ترى جوربين، تم نشرهما بواسطة مشبك خشبي واحد. ستشعر أن الجوربين هما آخر ما تم نشره، الحبال مزدحمة بحيث تم حشر الجوربين في النهاية، فقط لأنه من الأفضل أن نقوم بنشر كل شيء، فدورة الغسيل والنشر داخل المنزل لا تتوقف، لا يوجد داعي لتوقفها، ولا توجد فرصة.

"أسماء" هي صاحبة الجوربين، تمكنت أخيراً من الهتاف بـ"الشعب يريد إسقاط النظام". بعد أن سمعت الجملة تتكرر كثيراً في التليفزيون. يمكن أن نفهم أن أسماء تملك أربعة سنوات فقط في هذا العالم.. طفلة صغيرة في بيت ممتلئ بالكبار، لم يخبرها أحد أن مجيئها لهذا العالم كان غلطة في ليلة صيفية جميلة.. فالأب والأم، يمارسان الجنس في الأساس لإنجاب الأطفال، وبالتالي، ليس من المفيد إخبار الطفلة بكذبة سخيفة كتلك.

بجوار الجورب، توجد جيبة قماشية سوداء، طويلة، رفيعة، مثلثة. تصبح أجمل عند رؤية "نهى" داخلها.. نسيت نهى هذه المرة أن تفتش جيوب جيبتها قبل وضعها في السبت البلاستيكي الأزرق المخصص للغسيل. لك أن تعلم أن داخل جيب صغير في جانب الجيبة، ترقد شريحة صغيرة تستخدم لتشغيل الهاتف المحمول، ما الذي دفع نهى لنسيان شريحتها داخل جيبتها، بل، كيف انتقلت الشريحة من داخل الهاتف إلى داخل الجيب؟.

الحكاية، أنه في عصر يوم جمعة، كانت نهى في زيارة إلى شارع محمود بسيوني بوسط البلد، بالتحديد في الشقة رقم 5 في العمارة الرابعة من جهة اليسار، قابلت هناك سعاد، التي تعمل خياطة، وتؤجر فساتين محتشمة تصلح لحضور حفلات الخطوبة والزفاف.

ولأن نهى نحيفة بشكل مثالي، وهي صفة أصبحت نادرة في بنات بلدها، فقد استلزم الأمر القيام يتضييق الفستان المطلوب، بحيث يلاءم جسدها، ولا يلحظ أحد أنه مؤجر.. من العيب أن تقوم فتاة مثل نهي بارتداء فستان تم تأجيره في خطوبة أخوها الوحيد.. أحمد.

وأحمد يرتدي الجينز الأزرق المجاور لجيبتها على الحبل، هو ليس أزرق بشكل كامل، يحمل صفة الـ"بلو بلاك" أي أنه في المسافة الوسط بين الأزرق الغامق والأسود الغامق بطبيعة الحال، وهو لون انتشر بين بنطلونات الشباب في السنوات العشر الأخيرة.

هذه هي المرة الثالثة التي تقوم فيها أم نهى بغسل بنطلون ابنها أحمد، دون أن تفارقه رائحة الغاز. يختار أحمد عادة عدم الدخول في نقاشات مع أمه بخصوص فلسفتها في الغسيل. هو يعتقد أن أمه لديها قدرة مستمرة على إفساد ملابسه الشبابية، بغسلها بماء ساخن، أو وضع ألوان غامقة مع ملابس بيضاء.. بعد خلاف امتد لسنوات قرر أن يستسلم، هو مقتنع بأن عدد الأبناء الذين نجحوا في تغيير سلوكيات أمهاتهم قليل للغاية، وهو على كل حال، ليس منهم.

يستسلم أحمد لأمه أيضاً في الصباحات التي توقظه فيها مبكراً لسبب وحيد، أن يخلع ما يلبسه وهو نائم لتتمكن من غسله ضمن دورة الغسيل الصباحية. حاول مرات كثيرة أن يعترض، دون جدوى.

على كل حال، سيغادر أحمد هذه الشقة بعد عدة أشهر، فقد بدأت رحلة زواجه بخطوبة ستحدث بعد أسبوع.

خطوبة، اختارت نهى أن تحضرها بفستان مؤجر من عند السيدة سعاد، وبينما كانت تعدل من مقاس الفستان، امتد الكلام بينها وبين زبونة أخرى، حول البلد والأحوال، مر الوقت بحيث تأكدت نهى أن أمها مصابة بقلق هستيري الآن، أخرجت هاتفها المحمول، حاولت الإتصال فلاحظت أن الهاتف غير قادر على اتمام المكالمة، حاولت مرة جديدة، دون نتيجة. بعد قليل فهم الجميع أن الهواتف كلها معطلة. كحل بديل أخرجت نهى شريحة كانت تحتفظ بها بعد أن أخذتها هدية عند شراء هاتفها الجديد، الشريحة الجديدة لا تعمل أيضاً، والشريحة الأولى مستقرة في جيب الجيبة السوداء.

(3)
أم نهى ترتدي عادة في المنزل هذه الجلابية الزرقاء المجاورة لبنطلون ابنها أحمد على الحبل. السؤال الوحيد الذي يمكن أن تسأله عن أم نهى هو : لماذا لا تتم منادتها بأم أحمد؟. رغم أنه ابنها الأكبر، وما هو اسمها الأصلي؟، وماذا كانت كنيتها في الوقت الفاصل بين ولادة أحمد، ثم ولادة نهى بعد ذلك بخمسة أعوام؟. الإجابة : لا توجد إجابة.

قد يفسر الأمر الحاج أمين، الذي ذهب إلى المقهى اليوم بالقميص البني، فالقميص اللبني منشور هو الآخر بجوار جلابية زوجته.

توجد مقولتين تلخص حياة الحاج أمين، الأولى أن "مفيش حاجة هتحصل"، والثانية، مطلع أغنية شهيرة لأم كلثوم، اللي شوفته قبل ما تشوفك عنيا، عمر رايح، يحسبوه إزاي عليا.

الجملة الأولى هي شعاره الحقيقي في الحياة، يعتقد الذين يعرفون الحاج أمين، أنه لم ينظر خلفه يوماً قط، لم ينظر خلفه بالمعنى الحرفي، عادة تراه يجلس على المقهى وعيونه مصوبة أمامه بشكل مستقيم، فالحاج يؤمن، أن لا شيء خلفه يستحق.

هو ليس حاجاً أصلاً، مظهره يجعلك فقط تهبه لقب الحاج من باب الاحترام، أو الدعوة له بأن يصير كذلك يوماً، رغم أنه هو نفسه، لم يخطط يوماً للحج أو العمرة. مضى الرجل حياته غير مهتماً بها، فهل من المنطقي أن يهتم لأمر يخص ما سوف يحدث بعد وفاته؟.

أما الجملة الثانية، فهي التي تعمل داخل عقله بلا توقف، وهو يعتقد أنه يغنيها لكل عيل من عياله، أحمد، نهى، أسماء، بترتيب حضورهم إلى العالم، وبترتيب ملابسهم المنشورة على حبل الغسيل.

بدقة، يجر الحاج أمين خطاً بين مرحلة وأخرى في حياته، عندما انتهت دراسته الجامعية، لم يخرج منها بحب أو صداقة أو انتماء سياسي يمكن أن يكمل به الحياة خارج أسوار الجامعة. وكانت أهدافه في حياته العملية واضحة، أن يعمل حتى يحصل على أجر، وأن ينال معاشاً معقولاً حين يتقاعد. وعندما لاحظ أنه أصبح أباً لثلاثة عيال تزوج أمهم في الوقت الذي كان عليه أن يتزوج فيه، قرر أن تكون حياته كلها لهم. مؤمناً بشعاره الأساسي : مفيش حاجة هتحصل. وهو يقرأ الجرائد بانتظام، ويجلس على المقهى يتابع ما يتم بثه على الشاشة، فقط ليتأكد أن شيئاً لن يحدث فعلاً.

(4)
بجوار قميص الحاج أمين، يوجد جاكيت أسود، قماشه ثقيل، هذه هي المرة الأولى له على هذا الحبل. القميص أتى به أحمد، في ليلة باردة، وصل فيها إلى شارعهم الضيق في حلوان منهكاً تملأه رائحة الغاز والخل.

الجاكيت يخص ضابط أمن مركزي، مجهول الاسم، قرر خلع ملابسه الرسمية فور انسحاب الشرطة من الميدان، وكان صديق أحمد يراقبه، بحيث لملم الملابس الملكية ووضعها في كيس بلاستيكي على سبيل الاحتياط، وعندما اشتكى أحمد ليلاً من برودة الجو، كان على الجاكيت أن يبارح الكيس، ويستقر فوق كتفي أحمد، الذي نزع على الفور النجوم الصفراء أعلى الكتفين، وللمصادفة، كان مقاس الجاكيت ملائماً تماماً.

أم نهى لا تعرف كل هذا، جاكيت أسود متسخ داخل المنزل، يجب أن يدخل فوراً إلى دورة الغسيل، بغض النظر عن المكان الذي أتى منه.

لأن الشارع فارغ تماماً، ولأن الوقت سرقنا ونحن نحكي هذه القصة، فإن يداً ستمتد بهدوء، تقطع الحبل من اليمين واليسار، وتحمله هو وما عليه من ملابس، إلى المجهول.

في الصباح، ستعتقد أم نهى أن الفاعل حرامي يسكن شارعهم، وستعتقد أن الحل هو مراقبة الجيران بهدوء ورؤية ملابسهم، عسى أن تظهر القطع المسروقة يوماً، وستقول نهى أنه سجين هارب يبحث عن أية ملابس ليتخلص من زي السجن الأزرق. سيقول أحمد أنه من فلول النظام، فيما سيستمر الحاج أمين في قراءة الصحف، عله يجد خبراً يعرف من خلاله الجاني.

أسماء، صارت مقتنعة أن كافة الأشياء الشريرة التي تحدث في هذا العالم بسبب رجل عجوز اسمه مبارك، لكنها لا زالت غير قادرة على فهم كيفية وقوع سرقة كبيرة بهذا الحجم، أخذت كمية ضخمة من ملابس الأسرة، رغم أن النظام، سقط بالفعل؟!. على كل حال أسماء تردد.. إيد واحدة.

حلقة تجريبية من مسلسل : ثورة مضاعفة
من أعمال ورشة قطع أول

الرسالة الأولى : إلى إياد صالح، بخصوص نكتة يسرا

أما بعد، أما قبل، أما أما..
في القاعة التي لم تكن واسعة بما يكفي، ولا ضيقة، كنا أنت وأنا، ومعنا ستة، نشاهد الفيلم الذي كان علينا أن نشاهده حتى لا نعتقد يوماً أن شيئاً مهماً قد فاتنا..

في الربع الأول من الفيلم، فتحت أنت حقيبتك وأخرجت جهازك، وانهمكت في العمل، كان عليك أن تفعل ذلك، لم تكن هناك قيمة مضافة لمشاهدة ما يحدث على الشاشة..

في الربع الأخير من الفيلم، وبينما انتهيت أنا من فعل كل الأمور المسلية التي يمكن فعلها خلال مشاهدة فيلم ممل، فكرت أن علي أن أكتب لك رسالة، بخصوص الأشياء التي بدأت تحدث مؤخراً، دون أن نفهمها..
ما الذي يحدث يا إياد؟، لماذا يفعلون ذلك بنا؟.. نحن لم نخطئ، ذهبنا إلى هناك بحسن نية.. ما الداعي إذن لفعل ذلك بنا..

تقول أنه ليس علينا أن نفهم كل شيء، هذا مستحيل أساساً، يجب أن تبقى بعض الأشياء غير مفهومة لأن هذا يعطينا أمل في الحياة، ولذة في اكتشاف أمور جديدة.. أنا موافق تماماً. لكن في المقابل، لو استمر الحال هكذا، فمن الممكن أن ينتهي المطاف بنا – أنا وأنت – وقد اتجهنا لحضور ورشة عمل مع المخرج الشاب الجميل، الذي نحبه، (تعلم بالطبع أني أكذب) ليعلمنا أن السينما فن لطيف، وأن علينا أن نكتب أفلاماً وألا نيأس، لأنه هو نفسه كتب أفلاماً كثيرة ثم ألقاها في المرحاض.. المشكلة، أننا لازلنا نعتقد أن حتى فيلمه الوحيد الذي خرج به علينا يستحق أن نلقيه في المرحاض.. هل سنخبره بهذا وقتها، أم سنسأله أسئلة صعبة، من نوعية : أخبرنا كيف استطعت أن تنتج سينما نظيفة لا تظهر فيها سيقان مزة هنا أو هناك..

أوه يا إياد، سأخبرك مرة أخرى أن علينا أن نصنع أفلاماً ثم سأضيف كلمة : بقى.. بمعنى أن علينا أن نصنع أفلاماً لمواجهة الملل.. أنت وأنا والذين يجلسون حولنا على المقهى يعلمون أن السينما غير مهمة فعلاً.. المهم، هو التظاهر بأنك تهتم للسينما، وأن لديك شيء تقوله.. المهم النفس.. والنفس الحلو يحتاج إلى كلام فيه قليل من الموسيقى والحزن والأمل، والكلام عن السينما جميل، إذن، وبينما يذهب عم مجدي لإحضار حجر جديد، علينا أن نتحدث عن السينما، حتى يأتي أحدهم ويغير الموضوع.

لا شيء يهم يا إيدو لا شيء يهم.. ستمر الأيام، وسنفعل في السنوات القادمة أشياء جميلة. وسنجلس من آن لآخر على المقهى نسأل، متى شعر رجل الشطرنج أن السنوات مرت سريعاً؟ قبل أن يركب الباخرة؟، بعد أن وصل؟، أم حين كان يلعب الشطرنج على الرصيف مع الرجل الذي سنفهم في النهاية أنه لم يكن موجوداً أصلاً..

ستسامحني على الفقرة السابقة، أنا الآن أفشي سر خطير.. لكني أعلم مسبقاً أنك ستسامحني.. لهذا أحبك يا إيدو.. لأنك لا تحملني أكثر مما ينبغي..

أنت تفهم في الأصول، لا تحاول أن تفسرني، ولا أنا أحاول أن أفسرك.. ربما من فترة إلى أخرى نجلس قليلاً نتحدث عن أنفسنا.. نضحك على الصورة التي يرانا عليها الآخرون، نجتهد في وصف العلاقات المعقدة التي تجمع بين زملاؤنا.. ونشتكي – بكذب واضح – من هموم الحياة، ثم نعلن قبل رحيلنا أن كل شيء سيصبح جميلاً، وأن الأشياء كلها لا تستحق أن نخسر صحتنا.. وأن الأصدقاء المشتركين لديهم ما يجعلهم يبدون كرجال نزلوا لتوهم على الكوكب، ويشاهدون أفلام الأبيض وأسود بمنتهى الإنبهار..

الإتفاقية المشتركة هي الحل، كانت فكرة لامعة فعلاً. لا أدري من أين أتيت بها.. أصبحت أستخدم الاتفاقية يومياً. شيء مذهل أن يصبح لديك صديق حقيقي تعقد معه اتفاقية كالتي بيننا.. ثم تطبق شروطها بنفس راضية.. لم أكن أتخيل حجم الراحة النفسية التي أشعر بها في كل مرة أنفذ فيها اتفاقيتنا.. خاصة وأن ضميري مرتاح، أنك هناك، فيما وراء البحار، تطبق الجزء الخاص بك بمنتهى الرضا.. صديقي أنت يا إيدو.. صديقي صديقي يعني.. لا هزار..

عموماً، كنت أريد أن أقول أن الفيلم كان يستحق أن تفتح جهازك وتعمل داخل القاعة.. ولأن هذه الرسالة ستنشر على الإنترنت، وسيقرأها أناس غيري وغيرك.. علينا أن نعطيهم شيء يفرحوا به، وبالمرة يمكن أن ينسيهم الموضوع الأصلي فلا يزعجونا بأسئلة عن الاتفاقية وعن الشطرنج وعن عم مجدي.. نحن نهتم للجمهور في البداية والنهاية، الفن فن، لكن الجمهور جمهور أيضاً.. أفكر أن أكتب لهم ما جعلني أؤمن أن وجودك في حياتي ليس حدثاً مستقبلياً، وأنك لم تكن صديقاً عابراً.. وأن صداقتنا جزء أصيلة من خرسانة المجرة الفضائية التي سنزورها يوماً.. إنها نكتة يسرا

حيث تقول الحكاية، أن الفنانة المشهورة كانت تركب طائرة، وبينما تطير في السماء، سقطت فجأة في البحر.. غرق كل الركاب، عدا يسرا، وراكب آخر.. فبعد وقت طويل من مقاومة الغرق، انتهى بهما الحال على جزيرة مهجورة.
في اليوم الأول، ابتسم لها، وفي اليوم الثاني اصطاد خروفاً وجعلها تأكله. في اليوم الثالث تحدثا كثيراً، وفي اليوم الرابع حدث ما كان يجب أن يحدث منذ اليوم الأول عندما تجد نفسك على جزيرة مهجورة ولن يأتي أحد لإنقاذك أنت أو يسرا..
بعد فترة، شهر ربما، وبعد أن شعر الراكب المحظوظ بقدر كبير من الملل.. طلب منها أن تحلق شعرها كله.. وقد فعلت، ثم طلب منها أن تجلب بعض القش من الأرض وتصنع منه لحية كثيفة.. ثم أخذها من يدها وجلسا على الشاطئ.. تأمل البحر قليلاً ثم قال : أما يا براء يسرا دي طلعت حكاية، شهر معاها في الجزيرة لوحدنا.. ياه.. حصل بينا العجب..

وقد أخبرتني يا إياد، أن حكمة هذه القصة، أن الخطيئة بحاجة دائماً لصديق مخلص تخبره عنها.. وقد كانت هذه رسالتي الأولى.. ومن الممكن أن نؤجل الحديث عن الخطايا للرسائل القادمة..

الكلاب أولاً

توجد لوحة إعلانية ضخمة للغاية، تطل على المحور، بالتحديد عند نهايته وقبل دخولك مباشرة إلى ميدان لبنان..
اللوحة بيضاء، لكن كلب أسود ضخم يحتل مساحة لا بأس بها داخلها..

بجوار الكلب، وبخط إنجليزي رديء، مكتوب
The Art of Training
وبخط أقل رداءة وبحجم أصغر، يوجد رقم تليفون في الأسفل، بالتحديد أسفل أقدام الكلب الأسود الضخم..

كما هو مفهوم، فالأمر يتعلق بتدريب الكلاب، ليس فقط القيام بتدريبهم على أمور جميلة ولطيفة ومفيدة، بل أيضاً، فعل هذا بفن.. وهو ما تعنيه حرفياً كلمة آرت. وهذا دون شك، أمر جميل.

فكرت، بينما أقود سيارتي، أن أطلب الرقم المكتوب أسفل الإعلان، وأخبره أن "الفقراء أولاً يا ولاد الكلب"، راجعت نفسي حين لاحظت، أن صاحب الإعلان يقول رسالته بوضوح، حيث يعتقد أن "الكلاب أولاً يا ولاد الفقراء".

عندما وصلت إلى ميدان لبنان، كان أمر اللوحة لا يزال يشغلني، بالصدفة كانت ياسمين حمدان تغني في الراديو.. تخصص الإذاعة ساعة يومياً للأغاني الغريبة والمريبة، مثل ياسمين ومشروع ليلى وزياد رحباني..

"لازم فرحان مبسوط بزحمة الستات عليك". هذا بالضبط ما كانت تقوله ياسمين، خارج السيارة، كانت هناك عدة فتيات ممن يمكن أن نطلق عليهن "مزز" دون مبالغة، الفتيات تفعلن أشياء مختلفة، في انتظار التاكسي، في انتظار أحدهم، في انتظار الانتظار.

بشكل أو بآخر، قررت الإتصال بصاحب تدوينة "الفقراء أولاً يا أولاد الكلب". كانت فكرتي واضحة جداً..
في المرة القادمة، وعندما تقرر أن تصبح جريئاً، عليك أن تتحلى بقدر من الحزم والصرامة. أنت تؤكد أن الفقراء أولاً.. هذا حقك، بل أنه حقيقي فعلاً. لكن أن تخاطب المجتمع بقولك : يا أولاد الكلب، فإن الأمر يبدو بسيطاً وسهلاً. تبدو ليناً ولطيفاً، والأمر لا يحتمل اللطافة.

أقترح عليك، أن تغير العنوان قليلاً، وتبحث عن شيء أكثر قوة.. يعني.. من جانبي تناسبني أكثر كلمات مثل.. أولاد القحبة، أولاد الوسخة.. هذا واقعي أكثر، هذا مناسب.

مظبوط

في المدخل الرخامي البارد، كنا أربعة.
وائل، علاء، أحمد، وأنا.. يجمعنا انتظار الوقت المناسب للدخول إلى الأستديو. أمامنا شاشات صغيرة متنوعة الأحجام، مضبوطة على الإنترنت، نكتب كل قليل عن أي شيء، ونقرأ تعليقات الأصدقاء على مسألة تأخر دخولنا إلى الأستديو.. الجو اللطيف يمنعنا من الملل.

السقف عال، والأصوات حوالنا أيضاً. ومن جهة بعيدة يراقبنا شخص يبدو أنه مدير إنتاج البرنامج.. بعد فترة، اقترب، وسألنا عن أحوالنا، كنا قبل مجيئه صامتين.. وكان الملل على وشك أن يجذب هو الآخر كرسياً وينضم إلينا..

سألنا الرجل، "شربتوا حاجة؟".. تبادلنا جميعاً ابتسامات ادعاء الخجل، وساد صمت للحظة. جاء من بعيد شاب ينتمي إلى البوفية، ودون طلباتنا في ورقة صغيرة..

كان الشاي ضرورياً بالنسبة لي، مع زجاجة صغيرة من المياة المعدنية، واختار أحمد الكولا.. فيما طلب علاء ينسون بجرعة "مظبوطة" من السكر..

بعد رحيل الرجلين، سأل علاء عما تعنيه تحديداً كلمة مظبوط.. وأجاب وائل بأنها غالباً معلقتين ونصف من السكر. فكرت أن أعترض، فقد طلبت شاي زيادة، وكنت أعني أيضاً معلقتين ونصف من السكر. وفي اعتقادي، أن مظبوط تشير إلى معلقة ونصف، وليس إلى معلقتين ونصف.

جاء الينسون، وشربنا كلنا. ثم دخلنا إلى الأستديو وسجلنا حلقة من الممكن وصفها هي الأخرى بالمضبوطة.

في طريق العودة إلى المنزل، كان السؤال يجلس بجواري على الكنبة الخلفية لسيارة القناة. هل يمكن أن تكون لكلمة مظبوط أكثر من معنى؟

هجمة - غير - مرتدة

دين، سياسة.
سياسة، دين.

(1)
عندما قال "السادات" جملته الشهيرة، "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين"، فإنه، لم يكن يقصد المعنى الحرفي لما قال، على كل حال، كان عليه – ربما – أن يكتفي بالجزء الأول من الجملة، ويصمت.

السادات نفسه لم تكن لديه القدرة على تطبيق مقولته وإثبات صحتها، نظرة سريعة على نهاية خطبته الشهيرة في البرلمان، التي عزل فيها البابا ووزع على الشعب حزمة من القرارات، ربما تؤكد أنه عجز عن فصل الدين عن السياسة.

في نهاية الخطبة، (كانت خطاباً ثم تحولت إلى خطبة)، ردد السادات أمام أعضاء البرلمان – وأغلبته من المسلمين – الآيات الأخيرة من سورة البقرة، "أعفو عنا، وأغفر لنا، وأرحمنا، أنت مولانا فأنصرنا على القوم الكافرين".. كان النواب مبهورين ببلاغة الرئيس حتى أنهم رددوا بين كلمة وآخرى "أمين"، غير مدركين، أن الرئيس كان يقصد البابا، بكلمة الكافرين، ويطلب من الله أن ينصره عليه!.

هذا ليس موضوعنا، يكفي فقط أن نتأمل إشارة "لا" في مقولة السادات، لنتأكد أن بها بعض التطرف، السياسة، بل الحياة كلها، لا تعرف أو تعترف بالحلول النهائية القاطعة.. يمكن أن يكون بالسياسة بعض الدين.. هذا مؤكد، السؤال هو : هل يمكن أن يكون بالدين بعض السياسة؟.

بداية، يجب التأكيد فقط أن المقصود بالدين هنا هو أي دين، والمقصود بالسياسة هي أية سياسة، بصراحة، لست على استعداد للدخول في نقاشات لا تنتهي، حول الإساءة التي قد أوجهها لأي من الدين أو السياسة، أنا بشكل عام ضد الإساءات، مطلبي الوحيد في العالم أن نلعب جميعاً سوياً..

(2)
أحقر اللحظات التي عشتها في طفولتي كانت حين يقرر الأطفال إقصائي بعيداً عن الملعب وقت المباراة، بحجج فارغة، منها أني بدين، أو لا أجيد اللعب، أو لا أرضى بمهمة حراسة المرمى التي لم تكن تأتيه الكرة أبداً لبراعة الفريق الذي ألعب به، واعتماده خطط الهجوم طوال الوقت.

كنت خلال حراستي للمرمى، أدعو الله أن يتمكن فريق الخصم من تنظيم هجمة مرتدة، حتى تقترب الكرة من مرمانا، وأصبح قادراً على لمسها.

إقصائي في اللعب، خلق مني طفلاً بيضاوياً، عندما تمكنت من شراء كرة، كنت أمنع الجميع من اللعب بها، أو أحملها وأرحل حين يحدث في الملعب أي شيء يزعجني.. كان الجميع حريص على ارضائي، فقط لأني صاحب الكرة، لم تكن لديهم أية أسباب أخرى تجبرهم على احتمالي، حتى إذا ظهرت كرة أخرى، انصرفوا عني، لأبدأ بعدها التفكير، كيف يمكن أن أفسد عليهم لعبهم بكرة غير كرتي؟!.

الإخوة المدافعين عن علاقة الدين بالسياسة، لديهم بعض الحق، السياسة هي فن الممكن، وعلم التعايش، كيف يمكن أن تصبح الأمور ممكنة إذا قرر قادة المجتمع من أهل السياسة عدم الإكتراث بديانة الشعب؟، وكيف سنتعايش جميعاً إذا أهملنا حقيقة أن بعضنا ينتمي للدين (أ)، والبعض الآخر ينتمي للدين (ب)؟.. أغلب الظن أن الدعوة للفصل التام، غير صحيحة، أو لنقل أن بها بعض التعسف.

في المقابل، هل يمكن أن نتخيل ممارسات دينية دون قدر من السياسة؟، يمكن أولاً أن نتوقف أمام لفظة "ممارسة دينية" ونتأملها.. في مصر مثلاً، الذين يطلبون دمج كتلة الدين مع كتلة السياسة، نسميهم الإسلاميين.. هذا حقيقي وواقعي ومنطقي. لكن، ضمن بضعة حقائق علمية وسياسية ودينية..

فالدين اسمه الإسلام، والشخص الذي ينتمي لهذا الدين اسمه "مسلم"، أنا مثلاً مكتوب عندي في البطاقة أمام خانة الديانة "مسلم"، ومعظمنا كذلك، لكن في المقابل، لم نرى بطاقة مكتوب عليها : إسلامي.. إذن، نحن نتحدث عن فئة تدين بذات دين الغالبية العظمى من الشعب، لكنها اختارت أن تتفوق عليه، وتتبع "منهج إسلامي"، وليس "منهج الإسلام"، الفارق بسيط، المنهج الأول منهج سياسي، والمنهج الثاني ديني.. ربما، أنا غير متأكد، لست خبيراً على أي حال.

بالعودة للتاريخ مثلاً، يرى البعض أن معارك أتباع دين الإسلام، حين كان وقتها دين جديد، في مكة المكرمة، ومع قريش.. كانت في الواقع معارك سياسية. قادة قريش كانوا يخافون على تجارتهم ومكانة قبيلتهم ودولتهم، هذا بالنسبة لهم أهم كثيراً من مسائل معقدة مثل : من الله؟، من نعبد؟، ما هو ديننا؟، هل محمد (ص) نبي فعلاً؟..

لعل هذا ما جعل أصحاب الدين، يلجأون لفعل سياسي محترف، وهو الهجرة، ثم تأسيس أول دولة في الإسلام، وهي المدينة المنورة.. ثم بمرور الوقت، وبعد عدد من المعارك، جاء صلح الحديبية كأول معاهدة في التاريخ.. والذي يقرأ نصوصها، يتأكد من كونها معاهدة سياسية كاملة، فيها من النصوص ما هو متعارض مع الممارسة الدينية بشكلها المجرد.

إذن، كانت لديهم قدرة على إدخال بعض السياسة للدين، وعدم الفصل. كانوا مدركين للبيئة التي يعملون بها، كانوا على معرفة بضرورات التعايش، ودرسوا بمهارة فن الممكن، وتمكنوا بمرور الوقت من فتح مكة، وانتصر الدين السياسي.

يمكن إذن أن نجلب إلى الدين بعض السياسة. الدين له جوهر، والسياسة لها آليات، بعض السياسات لا دين لها، هذا صحيح، لكن، لا يمكن تصور دين بلا سياسة.
كيف يمكن إذن أن نخشى على جوهر الدين من آليات السياسة؟..

(3)
يمكن هنا ضرب مثل آخر بعيد عن الإسلام، بل عن الديانات السماوية كلها.. البهائية مثلاً.

عندما يطالب البهائيون بحقهم الطبيعي في كتابة دينهم في خانة الديانة، هذا أمر تنقصه بعض السياسة. يمكن مثلاً أن يحدث الأمر بالتدريج، يمكن أن نطالب جميعاً بأن تكون هذه الخانة اختيارية.. بحيث يمكن حذفها لمن يريد.. هذا حق أي شخص يرى لديه مصلحه في حمل بطاقة شخصية لا توجد بها ديانته.. كما أنه لن يضر أي شخص على كوكب الأرض.

بعد ذلك، يمكن أن نطالب بأن يكون متاحاً أن نكتب خانة الديانة وبجوارها بضعة نقاط أو مساحة فارغة.. ثم نأتي في النهاية لنطالب بأن يكون بإمكان المواطن أن يكتب الديانة التي يريد.

ما أذكره، أن الشعب المصري كان بحاجة لأن يعلم ما هي "البهائية" أصلاً حين أثيرت هذه المسألة، وقد شاهدت في التليفزيون بعض البرامج تشرح معنى أن تكون بهائياً، هذا يؤكد أم مظاهرة صغيرة أمام مجلس الدولة منذ سنوات، ودعوى قضائية أمام القضاء بخصوص مسألة البطاقة، كان أمراً خالياً من السياسة.

يمكن النظر أيضاً لمظاهرات الأقباط أمام ماسبيرو من ذات وجهة النظر، كان الأمر بحاجة إلى ممارسة سياسية. من وجهة نظري كمواطن يرغب في اللعب المشترك، أعتقد أن مشكلة الأقباط الأساسية في مصر أنهم دين بدون سياسة.. دينهم يدخل في السياسة فعلاً، لكن السياسة لا تدخل دينهم.. وهذا ما يجعل البسطاء ينظرون للتظاهرات باعتبارها غير مفهومة أو مبررة..

الخوف ربما، أن يفقد رجال الدين بعض قدسيتهم باستخدامهم السياسة، في المقابل، قلنا مسبقاً أن الإسلاميين في مصر ليسوا رجال دين أصلاً.. فلا يوجد دين اسمه "الإسلامي"، يوجد دين اسمه الإسلام، وغالبية الشعب يعتقد أنه ينتمي له. وبالتالي، ما الخوف إذن أن يستخدم رجال هذا التيار قدراً من فنون السياسة خلال خطبهم ومؤتمراتهم الحاشدة في إمبابة والعباسية وطفط اللبن.

أما بخصوص دخول الدين في السياسة، فالرحمة.. الرحمة فعلاً. كيف يمكن أن نطلب من الناس صراحة أن يتناسون دياناتهم.. خصوصاً في بلد مثل مصر، يحرص فيه أبناء الإسلام على الذهاب إلى صلاة الجمعة، فيما قد لا يهتمون بالذهاب إلى مظاهرة سياسية للمطالبة بالحرية مثلاً.

في المقابل، فإنه من المؤكد أن لا "دعوة في السياسة"، فالدعوة سلوك ديني واضح، يصعب معه أن نطلب من أصحاب تيارات غير دينية أن يلعبوا في ذات اللعبة. فواحدة من أهم قواعد اللعب التي تعلمتها بعد رحلة طويلة من الإحتفاظ بالكرة.. أن قوانين اللعبة يجب أن تكون واحدة، فلا أفضلية لصاحب الكرة على اللاعب الموهوب الذي تمكن من تسديدها عبر هجمة ذكية "غير مرتدة".. فأحكام الكرة سياسة.. والردة لفظ ديني من الأفضل أن يبقى خارج الملعب.

في المرات القادمة، دعونا نسأل عن دين السياسة.. وعن سياسة الدين.. وأن نتأكد جميعاً من قدرتنا.. على اللعب سوياً.

عن هوس العمق

يعتقد كاتب هذه السطور، أن قصة "هوس العمق" لباتريك سوزكيند، هي واحدة من أفضل القصص القصيرة على الإطلاق.

وقد بحث الكاتب عن القصة على الإنترنت، دون جدوى، كما ذهب لأكثر من مكتبة للحصول على المجموعة القصصية التي تحمل نفس الاسم، دون أية نتيجة.

المرة الوحيدة التي قرأ فيها هذه القصة كانت في سيارة صديق اسمه أسامة العبد، وهو مخرج شاب، قام بعد ذلك بإخراج فيلم قصير عن قصة هوس العمق.

القصة مهمة، وعليها أن تنتشر في كل مكان. سنرتكب هنا خطيئة أدبية ونكتب القصة مرة جديدة، بالطبع لا وجه للمقارنة، بل لا توجد مقارنة أصلاً، لأن الهدف، هو إخباركم بأن القصة عظيمة، وأن المؤلف أعظم..
..........

كانت هناك فنانة شابة جميلة، تسكن في مدينة أوربية هادئة، وترسم لوحات بألوان الزيت. فكرت أن عليها ألا تترك لوحاتها حبيسة مرسمها، وأن الوقت قد حان لعرض اللوحات في معرض صغير بالمدينة.

لأن للفنانة عدد كبير من الأصدقاء، كانت كثافة الحضور إلى المعرض عالية، الكل يرغب في مشاهدة اللوحات الأولى للفنانة الشابة الجميلة.

بعض الصحف كتبت عن المعرض، وقد بيعت معظم اللوحات. في اليوم الأخير، زار المعرض ناقد كبير يكتب في المجلة الفنية الأولى بأوربا.

تفقد اللوحات بهدوء وتأني، تفحص لوحة لمدة ساعة كاملة، ثم التقى الفنانة بجوار لوحة أخرى وقال : أسلوبك جيد، وخطوطك مميزة، لكن ينقصك العمق.

لأنها فنانة صغيرة، موهوبة جداً، لكنها صغيرة، لم تفهم ما الذي تعينه كلمة عمق على وجه التحديد. شغلتها الكلمة باقي الليلة، ثم تجاوزت الأمر في الصباح.

بعد يومين، كتب الناقد الكبير مقالاً في المجلة، يتناول فيه معرضها، وقال أنها فنانة لها مستقبل، لكنه يعتقد أن العمق ينقصها.

مرة ثانية وجدت الفنانة نفسها في مواجهة العمق، فكرت كثيراً، ودخلت على الإنترنت تبحث عن معنى كلمة عمق، لم تفهم في الواقع أي شيء.

في المقهى الذي اعتادت أن تشرب فيه قهوتها الصباحية، سمعت همساً يدور في منضدة مجاورة، كان الرجل العجوز يخبر رفيقه – العجوز أيضاً – أن التي تجلس بجوارهم هي الفنانة الجميلة التي كتب عنها الناقد يقول أنها بحاجة إلى العمق.

عادت إلى مرسمها تحاول أن ترسم لوحات جديدة، كانت كلما بدأت في لوحة، تتوقف لتسأل نفسها : هل هذه لوحة عميقة؟، وكيف يمكن أن تصبح لوحاتي عميقة. لذلك، فإنه لمدة شهر كامل، لم تتمكن الفنانة من رسم أي شيء جديد. وظلت تفكر كل لحظة في العمق.

فكرت أيضاً أن تأخذ أجازة، وانتقلت من مدينة أوربية إلى أخرى، زارت عدد كبير من المعارض والمتاحف، ولم تكن لديها القدرة بعد على رؤية العمق في لوحات كبار الرسامين. كانت تراها لوحات جميلة وعبقرية، لكنها لا تفهم معنى أن تكون اللوحة عميقة، وأن يكون لدى الفنان عمق يظهر في فنه ولوحاته.

عندما عادت إلى مدينتها، لاحظ أصدقاؤها أنها أصبحت تسرف في الشرب ليلاً، وأنها صادقت عدد من الشبان السيئين. حاولوا أن يساعدوها على تجاوز محنتها، لكنها كانت مشغولة بأمر وحيد.. العمق.

لم يكن هناك سبب حقيقي يمنعها من قبول دعوة أحدهم لتعاطي المخدرات، بل على العكس، كان السبب الأساسي الذي دفعها للتعاطي، هو العمق، كانت على استعداد لفعل أي شيء، حتى يصبح لديها عمق.

بعد شهور، زارتها إحدى صديقاتها، طرقت الباب، وانتظرت طويلاً، وبعد أن ساورها القلق، استدعت الشرطة التي كسرت الباب، وكانت جثة الفنانة الجميلة تتوسط غرفة الرسم، بينما كانت لوحة جديدة معلقة، لولا أنها لم تكتمل بعد.

في المجلة الشهيرة، كتب الناقد الكبير، أن المدينة فقدت فنانة جميلة، كان لديها مستقبل كبير، لولا موتها المبكر.

لم يذكر الناقد في مقاله أن الفنانة كان ينقصها العمق.

محاولة لشرح التكنيك

في محاولة للإجابة على سؤال الصديق الذي سأل منذ يومين عن التكنيك.. يمكن اعتبار التكنيك هو التالي، مع التأكيد على أن المعنى لا يوجد في بطن الشاعر، لأن البطن عادة ليس المكان الذي يمكن أن يضع فيه الشاعر معاني الأشياء التي توجد في أبيات قصائده.. وعليه، فإن التكنيك هو :

- عدم الإتصال بسوبر ماركت الطيب، خلال الأوقات التي يفترض أن يؤدي أتباع الدين الإسلامي صلواتهم خلالها.. وعند الإتصال في أي وقت آخر، لا توجد حاجة لطلب أي شيء من الأشياء التي يعترض عليها السادة الأفاضل الذين يظهرون على القنوات التالية بالترتيب، الناس، الحكمة، الحافظ، وغيرها من القنوات التي تبدأ عادة بحرفي الألف واللام. وللتسهيل، علينا أن نعلم أن "الطيب" لا يبيع الدخان بأنواعه المختلفة وبعض أنواع المياة الغازية التي يعني اسمها أن علينا دعم اسرائيل بكل ما نملك حتى تقتل إخواننا في غزة.

في حالة نجاح المتصل في الوصول إلى سوبر ماركت الطيب، وتصادف ذلك مع أن السلعة التي يريدها موجودة، فإن قواعد التكنيك تحتم عليه عدم التفاؤل، بأن أحدهم سيأتي فعلاً ويعطيك ما طلبت، أغلب الظن أن الطلب سيلغى من تلقاء نفسه، خلال متابعة العاملين لبرنامج شيق على التليفزيون، أو أن يحين موعد الآذان بينما طلبك على وشك الخروج من المحل..

- على الفيس بوك، يفضل ألا نتردد في قبول طلبات الصداقة المجهولة، لماذا؟، لأن وجودهم هو الحكمة الحقيقية من وجود الفيس بوك نفسه. يعتقد بعض الذين لا يؤمنون بالتكنيك أن موقع الفيس بوك هو موقع للتواصل بين الأصدقاء.. وهذه أسطورة، الواقع، أن الترجمة الحرفية لكلمتي فيس بوك، تعني كتاب الوجوه، وفي العادة، فإنك لا تطالع وجوه أصدقاءك في الكتب، عادة نرى صور أشخاص لا نعرفهم، ويدفعنا التكنيك، للتعامل معهم وكأننا نعرفهم، نعلق على ما يقولون، نضغط على زر أعجبني على صورة أو فيديو لطيف، ثم نرصد ببطء، كيف يعيش هؤلاء، كيف يسمحون لأنفسهم باعتقاد الترهات..
في حالة امتناعك عن استخدام التكنيك، ورفض الصداقات المجهولة، فإنك تعيش حياة ناقصة، دون أن تتكون لديك تلك القدرة على معرفة الأشياء المدهشة التي يفعلها سكان الكوكب.

- في الليالي الباردة، وبينما يداهمك النوم خلال مشاهدتك لفيلم عربي قديم، أو فيلم أجنبي لم تشاهده من قبل، لا تستسلم للنعاس أبداً، واصل المشاهدة بأي شكل، التكنيك يحتم عليك أن تنتصر لقيمة المعرفة، في مقابل النوم، لأنك يوماً ما، ستلوم نفسك بشدة، على أنك حتى الآن لا تعرف نهاية الفيلم الذي كان مثيراً في منتصفه، بل قد تضطرك الظروف، لتحميله مرة أخرى من الإنترنت، ومشاهدته مرة جديدة، حتى يستريح ضميرك، وتموت وأنت مطمئن أنك تعلم نهايات الأفلام المجهولة، التي شاهدتها في الليالي الباردة بينما يداهمك النوم.

- عند الاستيقاظ، يفضل أن تسأل نفسك، ما الشيء الضروري حقاً الذي يجعلني أغادر الفراش؟، التكنيك يحتم عليك أن تجد في يومك ما يستحق، فإن لم تجد، أكمل نومك في هدوء، لا أنت ستكسب شيء من يوم لا داعي له، ولا البشرية على استعداد لاحتمالك وأنت لا تعلم سبب واحد يدفعها لفعل ذلك. انظر حولك، الشارع مزدحم، ووسائل المواصلات لا تأتي أبداً.. تخيل شكل الشارع بنصف عدد المواطنين، وتخيل مدى سعادة النصف الآخر وهم يمارسون أحد أفضل الأفعال البشرية.. النوم.

- حين تبدأ في تصوير فيلمك القادم، فيلمك الذي تؤمن به، فيلمك الذي انتظرته طويلاً، فكر في مشاهد تعبر عنك، اقترح على المنتج المشهد التالي : البطل يقف على سطح عالي، يمسك بالكاميرا، ينظر إلى العدسة في آسى، ثم يلقيها بقوة في الهواء، لتطير حتى تسقط على الأرض وتتناثر إلى قطع صغيرة، أخبر المنتج أنك تؤمن بالفن، وأن الفن هو التكنيك، وأن التكنيك هو أن تستخرج الشريط من الكاميرا المهشمة، وتستخدمه في فيلمك، وتجعل المشاهد يرى وجهة نظر شيء يسقط من أعلى، ويستسلم للريح، التكنيك نفسه، يملي عليك أن تتوقع من المنتج أي شيء، في الجلسة التي ستخبره فيها بنواياك.

عموماً، الأمثلة لا تنتهي، وسنكون غير منصفين إن افترضنا قدرتنا على شرح التكنيك في جلسة واحدة، يمكنك أنت أيضاً الحديث عن تكنيك الخاص، ويمكن أن نلتقي في وقت قريب لاستكمال الشرح..

عن التنين

في الفترة ما بين العودة من المدرسة، والذهاب إلى النوم، يستطيع بهاء أن يقضي بعض الوقت مع ابن خالته، عمر.
بيت بهاء على بعد بيتين من بيت عمر، وعمر بهاء على بعد عام واحد من عمر عمر. أي أن عمر أكبر من بهاء بعدة أشهر. وهما جيران، فضلاً عن كونهما أقارب.

خلال لعبهما المشترك، تحدث بعض الخلافات الصغيرة، هذا غير مهم، كل الأطفال في حالة شجار دائم ما لم تكن التكلفة عالية.
في الليالي الصافية، يتمكن بهاء وعمر من إجراء بعض المحادثات الفكرية المعقدة..
نقلت لنا أم بهاء هذه المناظرة، وقالت في نهايتها.. لا حول ولا قوة إلا بالله..

قال عمر أنه يصلي، لأنه يريد من الله أن يحبه.
وقال بهاء أنه يصلي أيضاً، لكنه مقتنع أن الله غير موجود أساساً.
اعترض عمر، وقال : ربنا موجود.. ربنا كبير، أكبر من أي شيء وكل شيء.
قال بهاء، بل أنه غير موجود، حتى أن التنين أكبر من ربنا.

اعترض عمر.. واعتبر بهاء يقول كلاماً والسلام. لكن بهاء أصر على موقفه، حتى أنه قال : يا ربنا.. يا ربنا..، ثم نادى بصوت أعلى.. فلما لم يستمع لأي شيء، ولا حتى صدى صوته قال لـ عمر.. أرأيت، إن كان موجوداً لتمكن من الرد علينا.. التنين موجود لكنه في الغابة مع التماسيح والأسود.

بشكل أو بآخر، وصلت هذه المناظرة إلى والد بهاء، الذي رأى من الحكمة أن يتدخل لتصحيح أفكار الطفل عن الله.
قال : بهاء، ربنا موجود.. بل أن التنين غير موجود.. إنه كائن أسطوري..
قال بهاء : طبعاً لا.. التنين في الغابة وأنا أراه في التليفزيون.. لكني لم أرى الله في أي مكان.

عندما استمعت للحكاية السابقة من والد بهاء، فكرت قليلاً، ثم أدركت أن صديقي دون أن يدري، قتل عند طفله اليقين بالحقيقة الوحيدة التي يعرفها حالياً.. وهي التنين.

هل كان عليه ألا يناقش معه قضية التنين، وأن يقنعه فقط بأن الله موجود بالفعل، وأنه هو خالق التنين.. ثم يتركه يكتشف هو وحده.. أن التنين كائن خرافي غير موجود.. وحتى إن لم يكتشف.. ما الذي يضير أن يكبر ويعيش حياته معتقداً في وجود التنانين.. المهم.. أن يكبر وهو يعتقد في وجود الله.

التنين يخص بهاء، والله يخصنا جميعاً.. هذه دعوة لأن نتحدث بعد ذلك عن الله، ونترك التنانين التي تخصنا خارج الموضوع.

مجلس الإدارة

قررت مع بعض الأصدقاء أن نبدأ مشروعاً استثمارياً كبيراً. فكرنا في المجال الذي يستوعب أفكارنا وأحلامنا، ويناسب الأموال التي يمكننا جمعها.. واستقر بنا الحال على افتتاح شبكة للاتصالات، تستفيد من الحرية التي في البلاد، وتحصل على رخصة مجانية من الحكومة. وتنافس شركات المحمول الثلاثة. وقد كان.

كنا نبحث عن التميز، فقدمنا أرخص الخطوط وابتكرنا خدمات جديدة ومفيدة وجيدة. وأصبحنا في أقل من عام شبكة قوية بها ملايين المشتركين، الحمد لله.

حدث هذا بفضل الإدارة الحكيمة، وحرصنا على الابتكار، واجتماعنا شبه الدائم كمجلس للإدارة حتى نحسم كل الأمور بأسرع شكل.. كان بيننا عهد، أن تكون شبكتنا نافعة، تحافظ على الناس، وأن يرضى عنها الله، وأن تساهم في بناء المجتمع.

كنا مختلفين، أحدنا يحب الموسيقى، والآخر يفضل أن يقضى وقته في قراءة القرآن. أحدنا بدين جداً، وكانت شريكتنا الوحيدة رشيقة للغاية تأكل طعاماً صحياً وتشرب الشاي بدون سكر.

هذه الاختلافات المهمة، لم تمنعنا من التفاهم حول أمور شركتنا وخططنا لنصبح في سنوات أكبر شبكة للاتصالات في العالم العربي.

لكن، سرعان ما ظهرت بعض المشكلات غير المعتادة، والتي كانت دائماً تبدأ مثلما تنتهي.. دون تقدم.

لاحظ شريكنا الملتزم مثلاً، أن الخطوط التي نبيعها قد تستخدم في ممارسات إباحية في المساء، بعد أن ينام الآباء والأمهات، وتعبث الفتيات مع الفتيان، وقدم مقترحاً بعدم السماح لأي فتاة بالحصول على خط إلا بعد أن تكون متزوجة، أو مكتوب كتابها على أسوأ الأحوال.. أخلاق المشتركين في الشبكة جزء من أخلاق الشبكة نفسها.. وأخلاق الشبكة جزء من أخلاق مجلس الإدارة، ونحن لا نسمح بالعبث بأي حال.. استغفر الله.

ولاحظت شريكتنا الرشيقة، أن المكالمات الطويلة تؤثر على الصحة، كما أن الاستمرار في الحديث حتى وقت متأخر يمنع المتصلين من الاستيقاظ مبكراً. فقدمت مقترحاً بإغلاق الشبكة عند التاسعة مسائاً، وقطع أي مكالمة تكون أطوال من خمس دقائق، وعلى المتصل الذي يريد مكالمة أطول، أن يرسل إلينا بطلب يوضح فيه الأسباب التي يحتاج لأجلها أن يتحدث لوقت طويل، وحتى إن وافقنا، تكون الدقائق الإضافية أغلى من الدقائق العادية.. لم تكن صحة المشتركين محل تفاوض أو نقاش عند مجلسنا بأي حال..

لاحظ صديقنا المهتم بالموسيقى، أن بعض الأشخاص يضعون أغنيات شعبية كنغمات لهواتفهم، وقد صدمته هذه الحقيقة لفترة، وقدم مقترحاً يمنع أي شخص من وضع أغنية غير جميلة على هاتفه، وأن اختيار النغمات سيتم من خلال قائمة بالنغمات المعتمدة من مجلس الإدارة، وذلك حفاظاً على الذوق العام، ومنعاً للتلوث السمعي.. كيف يمكن أن يتقدم مجتمعنا ونحن نستمع لموسيقى سيئة.. هذه مسؤلية كبيرة، ومجلس الإدارة لا يسمح بأي تنازل قد يعطل عجلة الإنتاج.

لاحظ صديقنا المهتم بأمور الإنترنت، أن كاميرات الهواتف تستخدم في تصوير بعض الأشياء المخلة، ويتم رفعها على الإنترنت. فقدم مقترحاً بنزع الكاميرات من الهواتف، أو منع رفع الفيديوهات إلا من خلال موقعنا على الإنترنت ويقوم قسم كامل بمراجعة فنية وشرعية وأخلاقية للفيديو قبل السماح برفعه.. المصيبة أن هذه الفيديوهات تشوه صورة المسلمين أمام الغرب، كيف يمكن أن تكون شبكتنا جزءاً من ذلك؟؟..

أما أنا، فكانت تشغلني مسألة البلوتوث، كنت أراها وسيلة لمعاكسة الفتيات الساذجات وإقامة العلاقات غير الشرعية، فقدمت مقترحاً بنزع البلوتوث من الهواتف.. يجب أن نحاصر الفتنة ونحافظ على أخلاق بناتنا.. هذا أمر مفروغ منه بالتأكيد.

زوجتي كانت مهتمة بالأمن والأمان، لاحظت أن المجرمين يستخدمون الهواتف للإتفاق على أعمالهم الشريرة، فقدمت مقترحاً من خلالي بإنشاء قسم خاص لمراقبة المشتركين في شبكتنا بحيث نمنع الجرائم قبل أن تحدث ونحافظ على أمن البلاد.. فالعين الساهرة على أمن البلاد، عين لا تدخل النار..

أما صديقة زوجتي، فقد اكتشفت أن زوجها يخونها من خلال بضعة رسائل نصية على هاتفه، فاقترحت أن يكون لدينا قسماً خاصاً يقرأ الرسائل بعناية قبل أن ترسل من هاتف إلى آخر، حتى نتمكن من محاصرة الخيانة الزوجية والقضاء عليها.. فاستقرار الأسرة أول خطوة لاستقرار المجتمع بالكامل، والأطفال هم الضحية للتفكك الأسري، وأبغض الحلال عند الله الطلاق، كما هو معروف.

كنا فخورين بأنفسنا كمجلس إدارة يهتم بأمور المجتمع ويحافظ على الشبكة والمشتركين بها. كان يملأونا الإيمان بأن ما نفعله مفيد وضروري ومهم ويلبي احتياجات الجمهور.. كنا أقوياء، ننجح في اقناع المشتركين بأن كل هذه الإجراءات مهمة ومفيدة.

لم تكن أخلاقنا تسمح لنا بأي حال أن تستخدم شبكتنا في أي أمر غير إيجابي، أو أي فعل يغضب الله، أو يضر بصحة المشتركين، كانت مسؤلية كبيرة، وكنا نتحمل المسؤلية على الوجه الأمثل..

ذات يوم، دخل علينا عامل من البوفية، وكان يقدم لنا الشاي والقهوة والنسكافية. كنا نناقش مقترحاً بإغلاق الشبكة تماماً خلال أوقات الصلاة حتى لا تكون شبكتنا سبباً في عدم صلاة أحد المشتركين عند قيامه باتصال في ذات الوقت.. وبالتالي تكون الشبكة، ومن بعدها مجلس الإدارة، مذنبة أمام الله كونها قدمت خدمة قد تساعد أحدهم على أمر غير جيد..

قال، من أنتم؟..ضحكنا جميعاً، حيث افترضنا أنه يلقي نكتة غير جيدة.. واستمر اجتماعنا فيما خرج هو لجلب المزيد من المشروبات..

اطمئنان على جودة التخزين

الأمر يشبه الاطمئنان – فقط – على جودة التخزين..

يعني، لا أريد أن أستخرج ذكريات التحرير الآن وألقيها على الورق، أولاً : لأن كتابتها الآن لها معنى واحد، نوع من استعراض العضلات، لقد ذهبت إلى التحرير، لقد وقفت مع الشعب، لقد ناضلت وقاتلت وافترشت الأرض، أنا بطل أنا مناضل أنا ثائر..

وهذه بالطبع ترهات، قصة الثورة بشكل عام لا تحتمل غير "أنا" واحدة، "أنا الشعب". فقط لا غير.

إذن، ومن باب الاطمئنان فقط، على جودة التخزين.. يمكن استخراج ثلاثة صور عشوائية، وعرضها على حضراتكم، دون انتظار لاستحسان أو نقد، أو تهليل أو تكبير، أو أي شيء، فالأمر فقط – وللمرة الأخيرة – مجرد اطمئنان، على جودة التخزين.

(1)

28 – 1
بعد صلاة العصر، عند بداية كوبري قصر النيل من ناحية الأوبرا، كنا على وشك تجاوز الكوبري لولا ضربنا والبعض منا يصلي العصر.. يقال أنها لم تكن صلاة العصر أصلاً، وأن العصر في هذا الوقت لم يكن قد حان. على كل حال.. حدث هذا بعد لحظات من الضرب..

كنت أتنفس بصعوبة، وعلى وشك إلقاء نفسي في النيل، لم تكن تعنيني مسألة عبور الكوبري، كان كل ما يشغلني سؤال واحد.. هل يمكن فعلاً أن ينتهي اليوم وبعضنا أموات؟، هل يمكن فعلاً أن يقبل هذا النظام فكرة قتل فرد واحد من الشعب؟..

أنا أؤمن بأن الأرواح كلها جميلة، وأن كل ما حدث كان مجرد هزار، وأن النهاية لابد أن تكون سعيدة دون أن يموت أحد، كيف إذن سمحوا لأنفسهم بضربنا بهذه الوحشية؟.

بجواري يقف شاب يرتدي قميص أبيض، هو أيضاً غارق في تأملاته. لكنه يتابعني، يسير بجواري.. وأسمع صوت أنفاسه بوضوح.. قال، وهو يدرك أنه لا يحدث أحداً غيري : بقولك إيه؟..

كرد فعل طبيعي كان لابد أن أضيف : إيه؟..
قال : هو كوبري قصر النيل ده بيتفتح؟..

سكت، وسكت هو أيضاً.. بعد دقيقة أضاف ما معناه أن بإمكان الثوار أن يفتحوا الكوبري على الشرطة لمنعهم من ضربنا.. لكن ستبقى المشكلة، كيف سنصل للتحرير إذا فتحنا الكوبري..

أدركت إن النظام سيقتل بعضنا بالفعل، لأنه من الصعب أن يصمد أمام خيالنا.

(2)

يوم ما في بداية شهر فبراير.
بجوار مقهى ريش يوجد شارع طويل، في مقابل بار أستوريل مباشرة، لا أعرف اسم الشارع، ولن أهتم بمعرفة اسمه يوماً ما.

في المساء، بينما امتلأ الميدان بحكايات اللجان الشعبية، كان شابين يرتديان الجينز، يقفان في منتصف الشارع الفارغ تماماً. ويلعبان كرة الريشة.

راقبت بهدوء، انسيابية الريشة تنتقل من مضرب إلى الآخر وتسير في الهواء.
كنت أحمل أكياس بيضاء ثقيلة مليئة بعلب الكشري.. وكنت عائداً لتوي من المقهى بعد أن حصلت على حقي الطبيعي في أحجار التفاح..

هل يدرك الجالس في القصر، أن الشباب في التحرير يأكلون الكشري ويلعبون الريشة ويشربون التفاح؟.. وإن أدرك، فماذا هو فاعل بنا؟. أو مفعول به منا؟.

(3)

الميدان واسع، لكن أماكن النوم ضيقة.
الليل بارد، ومليون بطانية لن تجلب الدفء للذين ينامون على الرصيف.

أنا، وحمزة، ومحمد، اخترنا النوم في سيارتي التي خبأتها بعناية في جراج قريب من طلعت حرب.

نمت في مقعدي، وحمزة إلى جواري، ومحمد بالكنبة الخلفية. استسلمت للنوم بسرعة، عائد لتوي من التحرير، من خط القتال مع البلطجية، والصباح سيحمل قتالاً جديداً.

نمت.
ولم أرى في نومي أية أحلام.

في الصباح أخبرني حمزة، أن شخيري كان عالياً.. حتى أنه ظن أن طائرات النظام بدأت تقصفنا..
....

فن الحساب على المشاريب

قال صديقي، أن عصر الخسائر انتهي، فقلت أنه بدأ لتوه.

صديقي هذا شاب من شباب الإخوان، ووالده كذلك، وقد قضى والده السنوات الخمس الأخيرة في السجن، ليخرج بعد أن خرج مبارك من قصره، وأزاحه الله من على صدورنا.

لماذا بدأ عصر الخسائر إذن؟.. حتى أن صديقي قال : ما الذي يمكن أن نخسره مجدداً، لن ندخل السجون ولن نعاني من القمع، إذن فالعصر عصر مكاسب، والله أكبر ولله الحمد.

قلت، بل لا حول ولا قوة إلا بالله، السجن ليس خسارة على الإطلاق.. دعني أشرح لك.

عندما دخل أيمن نور إلى السجن في قضية تزوير، كنا جميعاً نعلم أنها قضية سياسية وأن الرجل يعاقب فقط على ترشحه للرئاسة أمام مبارك، السؤال هو : هل خسر نور فعلاً بسجنه؟.. للوهلة الأولى يمكن أن أقول أبداً، بل العكس تماماً..

تحول سجن أيمن نور إلى رصيد ضخم له عند البسطاء الذين فهموا اللعبة ببساطة، وأكتسبت قضيته مكانة دولية، حيث تحدث عنه أوباما ورؤساء أوروبا، والأدهى أن الرجل كان يكتب في الصحافة بشكل يومي مقالاً يقال أنه كان يهربه، وكانت تلك نكتة طبعاً أن يتمكن سجين من تهريب مقاله السياسي بشكل يومي، ثم ينشر في الصحف..

إذن، السجن والقمع هنا، كان سخيفاً من ناحية، لكنه كان من ناحية أخرى يصنع رصيداً للمعارض السجين المقموع.. لاحظت هنا تغير نظرات صديقي، وارتفاع حاجبيه.. وكأنه يريد أن يعترض..

قلت : أعرف ما تريد أن تقول، ما الذي جعل أيمن نور يصل لهذه الحالة إذن؟..

عندما خرج من السجن، استقبلته وسائل الإعلام استقبال بطولي، فعلى كل حال الرجل دفع ثمن موقفه.. ويستحق قدراً من الشهرة..

أيام قليلة وبدأ عصر خسارته، وستندهش حين تعرف كيف خسر هذا المحامي كل ما كسبه في سجنه.. في خناقة زوجية يقال أنها كانت عادية جداً، طلق نور زوجته جميلة إسماعيل. لم يكن نور ذكياً كفاية ليعلم أنه بينما كان داخل محبسه، كان الشعب يغزل حكايات رومانسية جميلة عن الحب الذي يجمع زوجين عارضا الرئيس، وعن الزوجة المخلصة التي تلف بلاد العالم تروج لقضية زوجها.. ولأن أبغض الحلال عند الله الطلاق.. فقد أيمن نصف رصيده.. ولم يكن في حاجة إلا إلى حادثة بسيطة أخرى ليفقد ما تبقى..

خرج أيمن على الصحف يقول أنه تعرض لاعتداء من بلطجية بعد أن أكد نيته الترشح مجدداً للرئاسة. في اليوم التالي كشفت بعض الصحف أن الإصابة التي يقول أيمن أنها نتيجة الضرب المبرح، هي في الواقع حرق نتيجة إساءة استخدام الـ"سيشوار" خلال عملية لزرع الشعر..

فقد أيمن ما تبقى من رصيد لأنه طلق زوجته وكان ينوي أن يزرع شعره.

لم يتذكر أحد أنه قضى في السجن سنوات، حتى الذين أعطوه أصواتهم في الانتخابات، أصبح من الصعب عليهم أن يثقوا في رجل مطلق يستخدم الـسيشوار.

أخذت رشفة من قهوتي، بينما كان صديقي مشغولاً بالتقليب في موبايله، لاحظ أنني أنتهيت من الحديث، نظر لي قائلاً : أنت عايز تقول إيه؟.

أخبرته أنني أريد أن أقول أولاً أن هذه قهوة سيئة جداً، وأن إدارة هذا الكافية سخيفة ولا تحرص على راحة الزبائن.. أما بخصوص موضوع الخسائر والمكاسب.. فالأمر سهل يا صديقي لو تعلم..

فما كان كان، وما لم يكن لم يكن، أفعل أو لا تفعل وأجب عن أسئلتك بنفسك..

لم تعد هناك فرصة للتستر وراء قمع نظام أو رقابة أمنية. عصر الخسائر بدأ لأن الرجل الحر مربوط من لسانه وأفعاله. لأن الفرعون مات ورحل، ولأن الشعب أصبح أكثر وعياً.

سألته، هل يعلم الإخوان – مثلاً - ما الذي تغير في مصر؟.. هل أدرك الإخوان أن حسني مبارك لم يعد موجوداً؟. الأدهى.. هل يدرك الإخوان خسائرهم..

يقال أن أسوأ ما في الدنيا، ألا يكون لديك شيئاً تخسره.. ويقال أيضاً.. ألا يكون لديك شيئاً تكسبه.

زمان، كان الإخوان يحاربون اليسار وكان النظام يوازن بينهما في المجتمع.. كان الإخوان أقصى يمين المجتمع، وكان اليسار أقصى يساره.

بعد يمين الإخوان نبتت قوى آخرى، السلف الذي لم يعد صالحاً بالضرورة، وألف مبروك عبود الزمر خرج من السجن.. أما يساراً فقابل يا صديقي ورحب بالضيوف الجدد، ليبرالين، أقباط، بهائيين.. هؤلاء الذين لم يعد لديهم حرج في التحرك سياسياَ، بعد أن أستوعبهم الميدان، وأرفع راسك فوق.. أنت مصري.

هذا بالطبع يحدث في لحظة لم يعد هناك نظاماً من الأساس يصنع نوعاً من التوازن، هنا وجد الإخوان أنفسهم في لحظة نادرة، لحظة التطوع الإجباري على الحساب على المشاريب.

السلف يتحركون بحرية، يفتشون عن كاميليا وعبير، تحرق الكنائس، فيما يعتقد البسطاء أن هذا من فعل المتدينين الأشرار، ولأنهم ليسوا خبراء في شئون الحركات الإسلامية.. يصفون الجميع بلفظة وحيدة سهلة وبسيطة.. "الإخوان"..

يا راجل، سائق التاكسي قال لي أن "أسامة بن لادن" من الإخوان، وأن الاحتمالات قوية أن يتولى "عصام العريان" قيادة "القاعدة" بعد أن يعود "أيمن الظواهري" من أفغانستان ويرشح نفسه في انتخابات مجلس الشعب، لأن أيمن – يا عيني – تعب من السفر ويريد أن يعود ويستقر في بلده..

من الناحية المقابلة، تطوع الإخوان أيضاً للحساب على مشاريب "نعم" في الاستفتاء، أقول لك على سر، تأسست الإخوان 1928، ومن ساعتها يا مؤمن لم يفصحوا عن رأيهم في أية انتخابات رئاسة أو تعديل دستوري.. كانوا دائماً يحسمون الأمر داخلياً ويخرجون على الإعلام بذات العبارة "نترك حرية الإختيار للأفراد"، علل إذن حرصهم في مارس الماضي على الحساب على مشاريب "نعم". وحشد الناس لها بفجاجة، واستخدام الدين بشكل مثالي، والوقوف أمام تيارات ليبرالية لم تكن لتصبح بهذا العداء معهم لو أن الإخوان ميعوا موقفهم كما اعتادوا، وهذه هي السياسة..

لكنه استعراض العضلات دفعهم للحساب على المشاريب، فيخرج شيخ سلفي يسميها "غزوة الصناديق"، ويصر سائق التاكسي أنها كانت أيضاً غزوة "إخوانية".

اقتربت منه هامساً وقلت : "بذمتك، هل تعتقد أن الانتخابات البرمانية سيتم تأجيلها فعلاً؟".. قال : "طبعاً لأ".. قلت : "وهل يعلم الإخوان بأن الانتخابات لن يتم تأجيلها؟"، قال : "بالتأكيد"..

صرخت في وجهه : "لماذا تتقدمون إذن وتعلنوا أنكم لن تشاركوا في المظاهرات، وهل طلب منكم أحد أن تشاركوا أساساً.. اسكتوا، قولوا أنكم تعبتم من إرهاق الثورة وقد اخترتم اليوم نفسه للسفر إلى الساحل الشمالي في معسكر ترفيهي يضم كل أعضاء الجماعة، اسهروا يوم الخميس سهرة طويلة جداً واستيقظوا عصر الجمعة والنوم سلطان، أفعلوا أي شيء، بعد أن تدركوا أن ما تبقى في جيوبكم لم يعد يسمح بالحساب على مزيد من المشاريب".

عصر الخسائر بدأ يا صديقي، كل يوم يخسر الإخوان عدد لا بأس به من البسطاء الذين يصوتون لهم، وكل يوم يكتشف هؤلاء البسطاء أن مصر فيها رجال محترمين لا ينتمون للإخوان، ويعملون لصالح البلد، ويقررون أن أصواتهم ستذهب لهم هذه المرة.

كل يوم يرى الشعب صورة أكثر وضوحاً، أن الإخوان ليسوا جزءاً من الحركة الوطنية، بل هم جماعة تبحث عن فرصة، وتستغل الوقت، تجري هنا وهناك تنشيء في مقرات وتطبع بيانات تقارن بين موقفها النبيل، وموقف "العلمانيون" أعداء الأمة.. والشعب.. أصبح مدركاً أن العدو الوحيد له رجل اسمه مبارك يرقد الآن في المستشفى في انتظار الموت أو المحاكمة.

الخسائر بدأت، والنتيجة الأخيرة فيما يبدو هي.. خشيت أن أقول، فما تبقى في جيبي قد لا يكفي للحساب على ما طلبنا.. تصنعت الإنشغال وقت له.. "بقولك إيه.. ما تحاسب إنت".. ورحلنا.

حسبي الله ونعم الوكيل

(1)

يقول صديقي "عمر كامل"، أن أفضل ما حدث في التحرير هو أننا تمكنا أخيراً من معرفة بعضنا.

لم يكن عمر يقصد معرفتي به، لم تكن معرفتنا أصلاً بسبب التحرير. كان يقصد ببساطة، أن المصريين تمكنوا من معرفة المصريين، وأن الجزر المنعزلة، باتت قادرة على الاتصال ببعضها البعض.

إذن، عندما يقول "صبحي صالح"، المحامي الإخواني الشهير، وعضو لجنة تعديل الدستور المصري، والعضو السابق بالبرلمان، أن على شباب الإخوان أن يتزوجوا فقط من الأخوات، وأن زواج الأخ من بنت محترمة ومتدينة ومن بيت طيب يعطل النصر، واصفاً الأخ المذكور بالـ"فلوطة"، وهي كلمة لا معنى مؤدب لها في الواقع.. فإن هذا يعني ببساطة أن الأخ صبحي لم يتمكن من معرفتنا.

وهذا شيء محبط، مثلاً، عندما شاهدت فيديو "عفاف شعيب" الخاص بالبيتزا والكباب والريش، سألت نفسي ذات السؤال، كيف سمحت لنفسها بقول هذه الترهات أمام كاميرا تنقل كلامها للشعب المصري، هل تجهل عفاف شعبها؟، بحيث تقول هذا دون أن تدرك أن الرد الطبيعي عليها هو الرفض والسخرية.

طيب، إذا كانت عفاف فنانة ليست ذات علاقة بالسياسة، وبالتالي فإنه ليس من الواجب عليها أن تراعي الذوق والذكاء فيما تقول، ماذا عن صبحي؟.

الأستاذ صبحي الذي جلس في البرلمان المصري، ودخل المحاكم المصرية، ويعيش في الأسكندرية ويعدل الدستور المصري، كما أنه من الإخوان المسلمين فرع مصر، كل هذا ولا يدرك أن ما قاله يمكن توجيهه للشعب السعودي الشقيق مثلاً.. حتى أنه لو قاله في السعودية فلن يسلم من البعض يعتبرونه عنصرياً.

ما قاله "صبحي صالح"، هو مزيج نادر بين ثلاثة مكونات بغيضة، أولها العنصرية، وثانيها التطرف، وثالثها التعصب. وقبل أي شيء، يغلفها جهل بطبيعة الشعب الذي ينتمي له المحامي الشاطر.. لذا، كان لابد من مكالمة.

في المساء، فكرت أن علي أن أكسب ثواباً بطريقة أو بأخرى، بحثت عن رقم تليفون الأستاذ صبحي صالح، وكتبت على الفيس بوك أخبر أصدقائي عن نيتي مكالمته في الصباح وإخباره فقط أن "حسبي الله ونعم الوكيل". وفتحت مناقشة كانت نتيجتها 159 تعليق، و16 استحسان، معركة كلامية طويلة حول ما إذا كان يجب أن أتصل به أم لا، في النهاية كان الشعار الذي يملأ التعليقات هو : "الشعب يريد رقم صبحي صالح".

في الصباح، دخلت غرفتي وأحسنت إغلاقها، ثم طلبت الرقم وانتظرت، كانت توقعاتي كلها أنه لن يرد، أو على الأقل سيرد سكرتيره. لكنه رد بنفسه.

قلت، اسمي براء، أعمل مخرجاً للأفلام الوثائقية، مواطن مصري، ليست لدي مشكلة كبيرة مع الإخوان.. قال : تمام.

قلت، أتصل بك لقول جملة قصيرة، أرجو أن يتسع صدرك لها : حسبي الله ونعم الوكيل.. قال : في من؟، قلت : فيك.. ثم كررت الحسبنة ثلاثة مرات.. وكنت أرتعش.

(2)

لم أكن حتى هذه اللحظة واثقاً من جدوى ما أفعل. مالي أنا وصبحي وما يقول، هو حر، وأنا حر، هو يأمر الإخوان بالزوجات من الأخوات، ولا أنا من الإخوان لا من الأخوات، إذن فليتزوج الأخ أخته وأريح أنا دماغي..

ما دفعني للمكالمة فقط هو إخبار صبحي أنني موجود. أعيش في ذات العالم وأتنفس هواء نفس الكوكب، وأحمل جنسية كالتي يحملها. وأن هذه أسباب كافية تدفعني للإتصال به وإخباره أن حسبي ربي.

فكرت، أن المحامي المحترم، لا يعلم بوجودي، وهذه حقيقة، لو كان يعلم، لامتنع عن قول ما قيل. وأن دوري فقط ينحصر في إخباره أن البلد واسعة، فيها هو وإخوانه، وفيها أنا وأصدقائي، وفيها أناس آخرون.

كيف يسمح لنفسه إذن بقول ما يوصف بالعنصرية والتطرف والتعصب؟

قال : الإعلام يحرف كلامي. قلت : كلامك الأخير كان فيديو تتحدث فيه بصوت وصورة. كما أنني عرفته من الفيس بوك وليس من جريدة ليبرالية ذات خلاف معك مثل المصري اليوم أو غيرها.

قال : لكنهم..، قاطعته : إذا كان الإعلام يحرف كلامك بالشكل الذي ينسب لك عشرة تصريحات كلها خاطئة، فالأولى أن تلتزم الصمت، ثم أنك محامي تعلم، أن الدخان دون نار أسطورة..

قال : كنت أهزر..، أخبرته أنه ليس من حقه أن يهزر للأسف، وهو عضو في لجنة تعديل الدستور، ثم سألته : هل ستمنعون في الدستور زواج الإخوة من غير الأخوات؟.. وهل يعتمد الإخوان تفسيرك للآية الكريمة " أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ", حيث وصفت غير الأخوات بالأدنى والأخوات بالخير؟.

ثم أنك تقول، إن على الأخ أن ينصر الله على المجتمع، لكن، هل المجتمع في حرب مع الله؟، ولماذا تأكدون دائماً أن هذا مجتمع لديه مشاكل مع الله، ثم إذا كانت هذه حقيقة، هل يمكن أن تكتفي بدورك كمحامي، وتدع الله يقرر ما يشاء بخصوص المجتمع؟..

سكت لحظة، والتقطت أنفاسي، قلت : أنا آسف، سامحني، سني صغير وأن رجل محترم.. لكن حرام عليكم.. أتمنى أن يكون لي أصدقاء من الإسلاميين، لكني أصبحت أخاف منهم، أفكاركم مخيفة، وأسلوبكم عنيف..

حكيت له أن جدي كان إخوانياً كبيراً اسمه "جابر رزق"، قال أنه يعرفه، وأضاف "الله يرحمه"، أخبرته أن لا جدي ولا رفاقه من رعيل الإخوان الأول قالوا مثل ما يقول في مؤتمرات النصر في الإسكندرية وأمبابة. وأن الدعوة إلى الله، هي كما كتب رجل إسكندراني عظيم اسمه "عباس السيسي" ذات يوم "دعوة حب". وللأسف فما قاله لا يعرف الحب، أكثر مما يعرف الكراهية.

(3)

ما أدهشني، أن الرجل تأثر فيما يبدو بكلامي الأخير، فقال : "أنا آسف". قلت له أني لست في حاجة إلى إعتذار، حيث أحاول مؤخراً أن أكتفي بالتأكد من أن النوايا طيبة. لكن البلد تحتاج إلى اعتذار منه ومن كل من قال كلمة فيها رائحة الفتنة والكراهية والعنصرية والتعصب والزهو السياسي المقيت.

أنهينا المكالمة على وعد بلقاء لم يتحدد له موعد. حتى نكمل نقاشنا..

فكرت أن أخبره قبل الإغلاق بجملة "عمر كامل"، أننا أصبحنا أخيراً نعرف بعضنا.. لكن، هل يعرف عمر نفسه الأستاذ صبحي؟..

هنا يمكن أن نلمس عمق المأساة. ذات المكالمة التي استحقها "صبحي صالح"، يستحقها أيضاً هؤلاء المثقفين على الفيس بوك، الذين لا يدركون أن هناك عالم موازي، يحمل أفكاراً مغايرة.

الإخوان جزيرة، لا يعرفون أحداً خارجها، والمثقفين كذلك، الفيس بوك جزيرة كبيرة، كل واحد له من الأصدقاء ألف، وهم في الغالب على شكله وأفكاره، قد لا تسمح له الفرصة باختلاف حقيقي.. لأنه في الحقيقة، لا أحد مختلف معه.

ما يقال داخل الكنائس يبقى داخلها، وما يقال في المساجد كذلك، كيف نزعم أننا إيد واحدة، إذا كنا لا نعرف بعضنا، كيف نعتقد أننا أحرار في كلامنا، إذا كنا لا نعرف كيف يؤثر على الآخر.

هذه الجزر يجب أن تتصل. جزيرة الإسلاميين وجزيرة المثقفين، جزيرة السلف وجزيرة الأقباط، جزيرة المجلس العسكري وجزيرة "تويتر".. كلنا، واجب علينا، أن نتصل، حتى وإن كان اتصالنا يبدأ بـ"حسبي الله ونعم الوكيل".

كيف يحكي مطاوع حكاية النوم؟

في المساءات التي يخاصم النوم فيها منزل الأسرة، يجلس مطاوع وبالقرب منه طفلته الصغيرة، تحرك رأسها في تواتر غير ممل، ناقلة عيونها بين قناة "براعم" في التلفزيون، وبين وجه مطاوع المثبت تجاه شاشة جهازه الإليكتروني، يكتب شيئًا ما.

على شاشة "براعم"، يوجد جرافيك جذاب بخلفية موسيقية هادئة، عبارة عن قمر له عيون، ينام ويشخر بصحبة عدد من الطيور، الموسيقى مصممة بحيث يعتادها الأطفال وينامون، أول برنامج جديد سيكون في الصباح، والأطفال ينامون مبكرًا، وهي معلومة قرأها مطاوع على دعوات أفراح الـ"هاي كلاس" التي جاءته مرة أو مرتين في حياته، لكنه لم يرها تتحقق أمام عينه، فالطفلة لا تنام مبكرًا، بل ربما هي لا تنام أصلًا.

والحقيقة، أن مطاوع يشكر الله ومستشفى الولادة والسيد الرئيس على ابنته، فهي - وإن كانت مصابة بأرق دائم - إلا أنها غير مزعجة، تبكي وقتما يكون للبكاء ضرورة، وتضحك وقتما ترى الضحك يملأ المكان.

لماذا لا ينام مطاوع إذن ويتركها وحدها مع شاشة براعم؟ الحقيقة أن هذا ممكن، لكن مطاوع سيترك معها ثلاجة يمكن فتحها بسهولة، وباب للحمام يمكن دفعه بحيث تبدأ فقرة "الكريزي ووتر"، وبشكل عام، فالأطفال وإن كانوا لا ينامون مبكرًا، فإنهم لا يتركون وحدهم في ساعة متأخرة كهذه.

هنا، يكتشف مطاوع أن عليه أن يمارس دوره كأب، وأن يبدأ في الحكي، الحكايات تسحب النوم إلى عيون الطفلة، وتحبب النعاس إلى قلبها، وتقنعها بفكرة أن إغلاق عيونها والانطلاق في الأحلام أمر مقبول وجائز وغير مؤلم على الإطلاق.

الخطوة التالية، أن يختار مطاوع حكاية تصلح للنوم، في مرات سابقة، حكى مطاوع - بسلامة نية - عن الأمور العادية التلقائية التي تحدث في العالم، بعد ساعة، كانت الطفلة تستيقظ فزعة، ومنطلقة في الصراخ، ثم تقول بين دمعة وأخرى "حكاية نوتي".. ونوتي في لغة الطفلة تعني شيئًا سيئًا غير جيد يفضَّل ألا يحدث مجددًا.

يتخذ مطاوع وضعية الحكي، يضم الطفلة ويريحها على جسده، كم تمنى أن يرزقه الله بطفل أو طفلة ينام على جسده، الطفلة على جسده الآن لكنها لا تنام، النوم في حاجة إلى حكاية، والحكاية في حاجة إلى خيال، ما أوسع خيالك يا مطاوع، أطلق لنفسك العنان، واحكِ يا فتى، هذه طفلتك التي تمنيتها من الله في حديثك الأخير معه، هذه هي، عامان ونصف من البراءة في حجرك، قل ما لديك، أخبرها، لون لها العالم، اخترع الشخصيات، اخلق الحكايات والأحداث.. مطاوع.. افعل ما يجب أن تفعله، كي تفعل الطفلة هي الأخرى ما يجب عليها أن تفعل، وتنام.

كان يا ما كان، يا سعد يا إكرام..
من هو سعد؟ ومن هي إكرام؟.. ماذا فعل سعد في حياته ليصبح اسمه حاضرًا في قصص كل أطفال العالم، وإكرام، اسمها سخيف، والتاريخ وإن كان يذكر سعد زغلول وسعد الصغير وسعد الدين إبراهيم، فإنه لا يذكر ولا إكرام واحده..

ما يحلى الكلام إلا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام..
زيد النبي صلاة، ثم مرة أخرى، على الأطفال أن يصبحوا متديِّنين، عليهم أن يعرفوا الأنبياء ويصلوا عليهم، لكن هل يمكن أن يحلى كلام به بعض الإباحية، وقد بدأ بالصلاة على النبي الكريم؟ ولماذا يا مطاوع تحكي للطفلة حكاية إباحية، اصنع قصة تليق بطفلة، اترك معتقداتك جانبًا وأخبرها بأي شيء كي تنام وتتفرغ أنت لعالمك الإباحي الحقيقي..
أوك، و"أوك" هذه تعني "حسنًا" في ترجمة الأفلام، تمام كما تعني "FUCK" "تبًّا".. سامح الله "أنيس عبيد" الذي ترجم الأفلام الإنجليزية لنا في الصغر، فأضاع لنا العربي والإنجليزي، وتركنا هكذا، نتأرجح بين الرذيلة والفضيلة..
طاوِعني يا مطاوع واترك أنيس عبيد في حاله، وركز في حالك، بص في ورقتك يا رفيق، انظر إلى طفلتك، هي في حاجة لحكاية حقيقية، تجلب لها النوم وتنتهي السهرة..

أوك.. كان في بنت اسمها إيه.. عن من يحكي مطاوع، الفتيات اللاتي يعرفهن أسوأ من أن يتم إدراج اسم واحدة منهن في قصة للطفلة البريئة.. عمَّن يحكي إذن؟

عندما فكر مطاوع، بعمق لا يلائم تفاهة المسألة، قرر أن كل الحكايات غير صالحة، لا الحكي عن البنات، ولا الولاد، لا الحكي عن أحد.. فكر مرة أخرى، ثم أعاد التفكير، مرر يده على شعر الطفلة، ونظر في عيونها بدفء - أو هكذا ظن - ثم بدأ الحكي..

"كان في طفلة اسمها مليكة، كانت عايشة مع بابا وماما، بابا كل يوم كان بيحكي حكاية جديدة.. مرة عن القطة، مرة عن الأسد، مرة عن الحمار.. لكن النهاردة، بابا يحكي عن مليكة، البنت الجميلة، قبل نومها، بتتفرج على براعم، وتشوف القمر نايم، وتقعد مع بابا، يحكي حكاية، وتنام، وتصحى الصبح، تتفرج على براعم تاني، لما القمر يكون صحي"..

يعتقد مطاوع أن حكايته كانت واقعية جدًّا، فلا هو كذب، ولا هو أخبر الطفلة بأمور ينبغي ألا تعرفها في سن كهذه.. يكاد مطاوع ألا يصون السر، فيخبر طفلته بالحقيقة، يحكي لها عن العالم، عن الحب، عن الله، عن السيد الرئيس، عن مايكل جاكسون، عن الأشياء التي يجب أن يحكي عنها.

يكاد مطاوع أن يخبرها عن نفسه، أن يحكي الحكاية من البداية، عن الطفل الذي لم تُحْكَ له الحكايات صغيرًا، فقرر أن يؤلفها كبيرًا، وانتهى به الحال، جالسًا أمام جهازه الإليكتروني، يحكي القصص للناس، لكنه عاجز عن ابتكار قصة تلائم صغيرته.

يكاد مطاوع أن يفعل، لولا أن الطفلة ترضى بنصيبها وتقرر أن تنام.. يعلن مطاوع أن "توتة توتة.. خلصت الحدوتة"، ثم يطرح سؤاله التقليدي: "حلوة ولا ملتوتة".. ترد الطفلة في حماس: "حلوة".. يقبلها ويسحبها للسرير، يفكر في الطريق أن يسألها إن كانت تنافقه أم أن القصة جيدة فعلًا.. سيكون مزعجًا أن تتعلم الطفلة الصغيرة النفاق في وقت مبكر كهذا.. العالم سيعلمها النفاق لكن بعد قليل.. يفكر أن يحرجها بسؤال صريح عن معنى كلمة "ملتوتة" التي لا تختارها أبدًا.. قبل أن يصل إلى باب غرفة النوم تكون الطفلة قد استسلمت للنعاس.. يتركها مطاوع في سريرها ويعود للنقر على جهازه، عليه أن يكتب قصة جديدة للبشر.. قصة ليست حلوة.. قصة ملتوتة..

استفتاء

سأرحل في الصباح.




بينما يستعد أبناء بلدي لقول كلمتهم بخصوص تعديل دستوري مهم بعد أن قاموا – وكنت معهم – بثورة عظيمة، ستكون الطائرة تحلق في السماء وأنا داخلها.




لن أتمكن من التعبير عن رأيي في التعديل الدستوري، هذا شيء سخيف ولطيف، فمن ناحية ستكون هذه هي المرة الأولى التي يمكن أن أشارك بها في انتخابات حقيقية، ومن ناحية أخرى، لا أملك وجهة نظر محددة للإدلاء بها في صندوق الإقتراع، لا أنا موافق على التعديل الدستوري، ولا أنا معترض.




إذن، هل يمكن أن نقرأ من المشهد السابق شيئاً ما؟.. بالتأكيد..




هكذا هي العادة، أكون في المكان الخاطئ، أعجز عن اتخاذ قرار، وأرحل في الوقت غير المناسب.




الآن، وبينما أجلس أمام التلفاز أشاهد أفلاماً أمريكية لطيفة، وأتناول تفاحة حمراء – أمريكية هي الأخرى – وترقد بجانبي حقيبة سفري التي لم أحزمها بعد، أفكر بعمق في رغبتي الحقيقية أن أسافر هذه المرة دون عودة.




في الداخل تنام طفلتي، أخبرتها أني مسافر في رحلة عمل، اعترضت قليلاً، حتى سألتها عن نوع اللعبة التي تريدها هذه المرة، قبلتني قبلة طويلة، وقالت : "عروسة".. ثم دخلت لتنام.




بإمكان طفلتي أن تلحق بي، وأن تبدأ حياتي الجديدة هناك. هذا بالطبع لن يحدث، لأن علي العودة مرة أخرى بعد أسبوع. لكن.. قليل من الأمنيات لن يضير.




بشكل عام، صرت أفضل أن الأنظر إلى الأمور وهي خلفي. لا داعي هنا لكلمة "صرت"، لأنني لم أصبح كذلك مؤخراً. هذه هي عادتي التي لم أعرف سواها في سنوات عمري السابقة.




ليس لأني لا أجيد المواجهة. فأثناء عملي، أراني قادراً على المواجهة بشكل كبير. مواجهة المشاكل، مواجهة الزملاء، مواجهة العملاء.. لكن يبقى الشخص الوحيد الذي أصمت أمامه هو أنا.




لذا، كانت عادتي أن أنتظر قليلاً حتى تمر الأشياء، ثم أنظر إليها وهي خلفي. فلا أراها رؤية سليمة، بحيث أقيمها تقييماً زائفاً، وأمضي وداخلي رضا عن حالي وقراري واختياري.




عندما بدأت العمل، (قبل عشر سنوات كاملة)، تلقيت بعض الدروس عن "التفكير خارج الصندوق". أعتقد أنني فكرت خارج الصندوق بالفعل طوال السنوات السابقة، بمرور الوقت، يمكن أن أقول أن صندوقي لم يعد يلعب دوراً ضرورياً في حياتي، تركته جانباً. الآن، أكتشف أني أفكر في الهواء الطلق، بدون صندوق حتى.. وتاهت صناديقي في الأماكن التي تركتها فيها.


الآن، أعتقد أن قليلاً من التفكير في أمر الصندوق نفسه كان ضرورياً. ربما لتجنب لحظات الحيرة، أو للإبقاء على الصداقات التي انتهت فجأة، أو لأية أسباب أخرى.




أنا أساساً لا أملك الشجاعة الكافية لأصبح بوهيمياً كاملاً. كيف فقدت صندوقي إذن؟




ما الذي يعطيني هذه القدرة على السير في طرق مجهولة فجأة ودون أدنى تفكير. لقد تركت عملي السابق وأنا أتناول شطيرة في سيارتي بصحبة شخص كنت أظنه صديقي. ثم بدأت عملي الحالي وأنا أشرب مشروباً ساخناً في سيلانترو، بصحبة شخص أصبح فيما بعد صديقي، لا الشطيرة كانت سيئة بحيث تجعلني أترك عملي، ولا المشروب كان جميلاً بحيث يمنحني حماساً للمغامرة والعمل في مكان لم يتم تأسيسه بعد.




كيف اتخذت قراري إذن في المرتين؟ وإذا كنت أعلم عن ذاتي هذا التهور، ما سر الرغبة القوية داخلي في أن أرحل الآن دون عودة؟....




( : )



الخوف، من أن تفوت حياتي وقد فوت على نفسي فرصة مشاهدة عدد أكبر من الصور والأفلام وقراءة حجم أكبر من الكتب، وزيارة أماكن أبعد من التي ذهبت إليها.




القلق، حيال حياتي السابقة وقراراتي التي لم أفكر بها أصلاً، حتى أنه لا توجد ضمانة وحيدة أنني سأفكر – قليلاً – بخصوص أية أمور قادمة في المستقبل.




الرغبة، في النسيان، والتناسي، والإختفاء فجأة في وقت غير مناسب، ومتابعة الأمور من بعيد. أو حتى عدم متابعتها، لن يفرق شيء.




الحب، البحث عن مكان أحبه حقاً، ويمكن ألا أتنازل عنه. في الصباح شعرت بالضيق لأني سأنتقل من سكني الحالي الذي أظن أني أحبه إلى سكن جديد في منطقة سكنية أخرى، وفي المساء أخبرتني زوجتي أننا لسنا في حاجة ضرورية للإنتقال. استرحت قليلاً. لكني لم أرفض في البداية فكرة الانتقال من المكان الذي أحبه، هذا يعني أني لا أحبه أصلاً.. هل يمكن إذن أن أعيش في مكان آخر لا أتنازل عنه بذات السهولة؟




الخيال : الأرض الواحدة تلد خيالاً واحداً. والمنزل الواحد يلد ذات الحكايات.. أي سخافة تلك التي تجبرك على عدم مراوحة مكانك في الأرض.. والثبات.




الحكمة : قديماً قال العرب، أن الحجر المتحرك لا ينبت عليه عشب. وبمرور الوقت، نكتشف جميعاً، أن نمو العشب ليس بالضرورة أمراً إيجابياً.. للصحراء، وللأحجار الجافة، شكل جميل دون شك.




الأسطورة، رأيت في المنام أن أرض مولدي ليست أرض مماتي، وأخبرتني أمي بهذا ذات مساء. فكأني أفتش عنها.