كانت مجرد فكرة ساخرة، أن تتم معالجة فيلم "إحنا بتوع الأتوبيس" مرة أخرى، وتقديمها من جديد في 2008 باسم "إحنا بتوع المترو"، وفي الفيلم، يقبض نظام مبارك على ركاب مترو أنفاق كامل بعد الإشتباه بهم.
لكن الفكرة تحولت إلى واقع.. يمكنك تجربته بنفسك، فقط عن طريق.. ركوب المترو.
مع ظهور مترو الأنفاق في القاهرة كان أسهل شيء في الوجود هو "التزويغ" من دفع التذكرة، وهي طريقة سهلة جداً خاصة مع غياب "كومسري" الأتوبيس الذي ينادي كل لحظة "تذاكر يا حضرة".. اعترف أني في المرة الأولى التي ركبت فيها المترو كنت أمسك التذكرة في انتظار الكومسري الذي سيتأكد من أنني أحملها، وسيقطع لي واحدة أخرى في حال ضياع الأولى أو تزويغي من شراءها.
لكن هذا لم يحدث، وكانت متعتي الأولى والاخيرة هي إبلاغ موظف الشباك بأني نازل "الأوبرا" في حين أني سأذهب "للخلفاوي" حتى أحظى بتذكرة بـ"50 قرش" بدلاً عن أختها الكبرى "أم 75"..
واضطررت مرة للقسم أمام مراقب الماكينات أن موظف الشباك الأول غلط وأعطاني هذه رغم دفعي لثمن تذكرة أكبر، وكانت النتيجة 10 جنيهات و40 قرش غرامة، دفعتها رغم أنفي.
الآن.. بعد طول خصام مع المترو لصالح لعنة الله في الأرض "ميكروباص الجمعية"، اضطررت مرة أخرى لركوب المترو مع زوجتي المصون التي تختاره لأنه "الحاجة الوحيدة اللي مفيهاش مطبات"، حيث أن المطبات خطر على الحمل.
تخاطب زوجتي مشاعري الأبوية التي لم تتفجر بعد، وأستجيب أنا بسهولة، وأركب المترو، وأستمتع بقصر المسافة بين "فيصل" و"البحوث"، من أول شارع الهرم حيث أسكن، للدقي حيث أعمل..
في المرة قبل الأخيرة، سحبني الظابط من يدي، وقال "الشنطة".. مددت يدي بها.. قال "افتحها".. فتحتها فقال "إيه ده".. أخبرته بأنه "لاب توب".. نظر إليه بحب وتمني، دقق النظر في البطاقة التي طلبها مني منذ قليل.. "اسمك إيه؟؟"..
لسبب لا اعرفه أصبحت أتمتع بكراهية لكل ما يرقد النسر على كتفه، ولسبب أعرفه فإن الكراهية تتحول إلى غلظة واستهانة وازدراء، حتى في المرة الأخيرة التي استدعاني فيها "البية" من مكتب أمن الدولة ليسألني "بتعمل إيه على الإنترنت؟"، كانت النتيجة أنني انفجرت في وجهه بصوت عالي أخبره أنه لا يملك الحق في "لطعتي" في الاستقبال ساعة ونصف ليسألني في النهاية "بتعمل إيه على النت" وإن كان عندي تليفون في البيت أم لا، ولماذا لا أسكن بيت جدتي في شبرا بعد أن تزوجت؟؟
(سأحكي لكم الحكاية فيما بعد.. انتظروها)
لهذه الأسباب أخبرت الظابط في المترو بصوت عالي إن اسمي مكتوب في البطاقة، وإنه إن كان يعاني من مشكلة في قراءته فتلك مشكلته الشخصية التي ربما يبحث عن شخص غيري ليحلها له، ولعل هذا ما جعله يعطيني البطاقة مرة أخرى في هدوء ويسمح لي بالمرور بالمعجزة التي أحملها في يدي "اللاب توب"..
وركبت المترو ووصلت عملي، وعدت مرة أخرى، وأنا لا زلت مواطن صالح مسكين لا أعرف خطورة ركوب المترو باللاب توب.. لكني عرفت.. الجمعة الماضية.
السبوبة وحدها اضطرتني لركوب المترو يوم الجمعة، قبل الصلاة، في الفترة التي أعتقد أن الله خلقها لننام فيها فقط، حتى هؤلاء الذين يلتزمون بقراءة سورة الكهف كل جمعة، يفضلون قراءتها مساء الخميس، حتى يحظون بحقهم الدستوري في النوم قبل الصلاة وحتى موعد التواشيح الأولى.
لكن.. لا نوم مع سبوبة.. موعدي في المعادي.. إذن هو المترو..
داخل محطة فيصل.. سألني ظابط آخر عن اسمي في البطاقة، وعن الشنطة واللاب توب.. وسمح لي بالمرور..
في محطة المعادي مررت دون إزعاج.. ذهبت لسبوبتي، صليت الجمعة، اصطحبت لاب توبي في طريق العودة.. ورجعت إلى المحطة، قطعت تذكرة من فئة موحدة "100 قرش".. وضعتها في الماكينة.. ووضع الظابط ذو النظارة السوداء يده على حقيبتي.. و"ثانية واحدة يا أبو الكباتن"..
...
في مكتب أمن الدولة قلت للظابط، "أنا مواطن بدافع عن حقي يا باشمهندس"، وقد تسبب ذلك في ثورة عارمة كادت أن تجعله يستخدم معي "التنميلة" التي أمر مساعده بإحضارها من الغرفة المجاورة، طالما يغضب سيادته من "باشمهندس" لماذا لا يعرف صديقه وزميله في المترو أن الله وهبني اسماً غير "أبو الكباتن" وأنه يستطيع منادتي بـ"أستاذ" أو "حضرة" أو حتى "باشمندس" علماً بأني لن أستخدم معه التنميلة التي لا أعرف شكلها ولا طريقة استخدامها..
...
- ايه ده يا "أبو الكباتن"؟؟
- لاب توب..
- وأنت رايح فين يا "أبو الكباتن"؟؟
- الجيزة
- سيد.. أوصف لـ"أبو الكباتن" طريق ميكروباصات الجيزة..
- بس أنا هركب المترو..
- لا معلش يا "أبو الكباتن"، ممنوع ركوب المترو بأي أجهزة كهربائية.. واللاب توب جهاز كهربائي.. يا "أبو الكباتن"..
..
أخبرته أنني أركب المترو يومياً، ويتم تفتيشي والسماح لي بالمرور.. أخبرته أنني اركب الطائرة به وأشغله فيها، أخبرته أن اللاب توب أكثر من مجرد "جهاز كهربائي"، أخبرته أن المترو وسيلة مواصلات عامة.. وأن من حقي أن أركبه..
كل هذا لم يصلح معه، إذن، فهي القسوة مرة أخرى.. على طريقة "هو أنا كل يوم هلطش اتنين ظباط"...
"شوف يا باشمهندس.. أنا هركب المترو باللاب توب، غصب عنك.. أنا صحفي وهخرب بيوتكم.. وبمووووت في الفضايح، وانتوا مش ناقصين، وبعدين هتعمل معايا إيه.. أنا دلوقتي بزعق وبقولك إني مواطن غير صالح أرفض تنفيذ تعليمات وزارة الداخلية.. ياريت نروح مع بعض لرئيس المحطة"..
اكتشف الباشمهندس أن المحطة ليس لها رئيس ولا بها نقطة شرطة، سحبني على غرفة خالية، وسألني.. "بتشتغل فين؟؟"، "بشتغل في الدستور" (كان هذا منذ شهور)، بدأت النظرة تختلف.. دستور يعني فضائح، وربما يكون هناك مواطن شقي يجرب كاميرا موبايله أثناء هذا التلاحم الفريد الحميد بين الشرطة والشعب والمترو..
أفسح لي الطريق وهو يذكرني بأنه ليس خائفاً من "حتة صحفي"، تماماً كما أفرج عني "الباشمهندس" في أمن الدولة من أسابيع ثلاثة حين أخبرته أن "3 منظمات حقوق انسان واحدة منهم برة مصر، وقناتين فضائيتين الجزيرة واحدة منهما عارفين إني في مكتب أمن الدولة"..
في المترو بعد أن مررت وركبت.. تحولت العربة التي ركبتها إلى مقهى ثقافي.. ومحراب صلاة.. مقهى للحديث حول الظلمة اللي عايزين يمنعوا المواطنين من ركوب المترو.. وجدوى جهاز الأمن في مصر ومدى كفاءته، ومحراب للدعاء على الظلمة ذاتهم.. والدعاء لي بإن "ربنا يديك على قد نيتك"..
الآن.. يكتمل الفيلم في رأسي.. "إحنا بتوع المترو".. أبحث فقط عن أغنية مثل التي غنتها شادية في الفيلم.. "عملتوا إيه يا ولادي؟؟".. في الخلفية يرد الكورال "شيلنا لاب توب في المترو يا أمي"..