‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصة. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، أكتوبر 14، 2009

عن الطفل الذي تبول في زجاجة الفنيك!

إن تدهورت صحتي الجنسية يوماً، فسيكون الفنيك هو السبب. وإن تحسنت فجأة. فسيكون الفنيك أيضاً. وسأنافس بحبات الفنيك المجفف أقراص الفياجرا عديمة القيمة.

والفنيك. للذين سيدعون عدم معرفتهم به، هو منظف قوي الرائحة، أسود اللون داخل الزجاجة. حتى إذا ألقيت بقطرات منه داخل الماء، ابيض لونه وظهرت رائحته، وسيمكن لأقوياء الملاحظة معرفة أنه يستخدم عادة في الحمامات الرخيصة والعامة، أو تلك التي يدخلها عدد أكبر من المفترض.

ولا تحتاج إلى ذكاء إضافي لمعرفة أن الحمام مغسول بالفنيك منذ ساعات، فالرائحة أقوى من أن تتم إزالتها. ولم تشكل رائحة الفنيك لي وأنا طفل أية مشكلة. إلا أنني أسمع عن أشخاص ينزعجون منها، كما أن هناك أزواج منعوا دخول زجاجات الفنيك والخمر لبيوتهم. بإعتبار الإثنين من المحرمات.

ولا أعلم تحديداً إن كان الفنيك يستخدم لتنظيف الحمام فقط، أم الأرضيات بشكل عام. لكني أذكر جيداً إني دخلت الحمام يومها فوجدت زجاجة بجوار القاعدة. وبما أني أتبول عادة واقفاً خاصة في الحمامات العامة. حيث لا يمكن أن تأمن على نفسك عواقب الجلوس مكان أحدهم. فقد تمكنت خلال فتحي لـ"سوستة" بنطلوني أن ألمح زجاجة فنيك نصف ممتلئة. وقادني شيطاني إلى خلط البول بالفنيك، ومعرفة ما يمكن أن يحدث.

كل خيالاتي كانت مركزة تجاه ما يمكن أن يحدث للفنيك. (فكرت أن ثمة تفاعل كيميائي سيحدث وستنفجر الزجاجة بعدها بفترة). لم أتخيل أن ثمة مكروه يمكن أن يصيبني. فأي إحتمال لوقوع ضرر كان سيمنعني بالتأكيد من التضحية والمغامرة بأعز وأغلى ما أملك (وقتها والآن).. عضوي التناسلي الحبيب.

كنت في سنوات الإعدادية الأولى. وكانت فكرة الخروج من الفصل أثناء الدرس خلابة، تجعل طالب فاشل مثلي يدخل الحمام في كل الحصص بلا توقف. ومظهري البدين كان يمنع المدرسين من الإعتراض. خشية أن يكون الطالب – الذي هو أنا - يعاني من مرض ما يمكن مع منعه من الذهاب للحمام أن تسوء حالته ويصبح أكثر بدانة.

وقد استخدمت بدانتي – في حالات كثيرة هذه واحدة منها – أسوأ إستغلال. يمكن فقط أن تعرف أني كنت أقضي في زيارة الحمام الواحدة عشر دقائق أو يزيد. ما أتاح لي فرصة التفكير بعمق داخل الغرفة الصغيرة المغسولة بالفنيك. وإبتكار بعض الألعاب. منها التبول داخل زجاجة.
سأجيب عن السؤال إذن وأختصر السطور، لا داعي لمزيد من الوصف، ما الذي حدث حال إحتكاك طرف عضو تناسلي صغير، مع فوهة زجاجة فنيك نصف ممتلئة؟.

لأسباب ما، تكون الأجزاء غير المكشوفة في الجسم أكثر حساسية تجاه الكحوليات، وسأعلم بمرور الوقت وبمزيد من البحث، أن الفنيك ينتمي لهذه الطائفة من السوائل، يساوي زجاجة عطر خمس خمسات التي استخدمها صديق بدين لي للتخلص من آلام التسلخات، فكان أن لزم بيته يومين يقاوم الحرقان والنار بين فخديه.

لكن للحرقان في مقدمة العضو إحساس لا يمكن وصفه ولا ينصح بتجربته، الخبراء فقط، أصحاب تجربة ممارسة الجنس أكثر من مرتين أو ثلاثة بشكل متتالي، أو أيام الثانوي حين كانت العادة السرية لعبة لطيفة لقتل الملل. هؤلاء يعرفون شيئاً بسيطاً عما يمكن أن يصيب فوهة العضو. لكن يبقى للفنيك تأثير قاتل. يكفي أن تعلم أنك ستعيش أسبوعك التالي في قلق وكوابيس، تتلخص في إمكانية أن يختفي عضوك أو يتلاشي بتأثير المادة الكحولية السوداء القادرة للتحول لللون الأبيض حال إختلاطها بالماء، أو البول في مثل هذه الحالة.

الصورة التي يمكن أن تتخيلها فتتألم، لأني بصراحة أحاول أن أؤلمك فلست من أنصار التألم وحدي فيما أصف لك حالتي. الصورة تشبه وضع قلم بلاستيك في النار، ورؤية البلاستيك الصلب يتحول إلى سائل مع إنبعاث رائحة كريهة سريعة الإنتشار. لعلك مارست لعبة حرق الأقلام خلال مرحلة لعبك خلف المكتب للهروب من المذاكرة أيام الثانوي. على كل حال ضع عضوك مكان القلم، وتخيله يسيح أسفل شمعة بريئة تقف على سطح مكتبك.

رأيت وجهي للمرة الأولى أحمر، لم يكن محمراً أو يملأه الدم. بل كان أحمر.. لا يوجد وصف مناسب أكثر من ذكر اسم اللون. الدم الساخن انتشر في كل مكان داخل جسدي، وأمسكت عضوي جيداً للتأكد من أن الدم لا يخرج منه. يمكن أن أعترف أنها اسوأ لحظات خوفي على الإطلاق. كانت فكرة عودتي للفصل دون عضو (ثم استكمال الحياة بهذا الشكل) أسوأ من أن يحتملها خيال طفل مثلي.

عدت للفصل بعد إنتهاء الحصة، أو قبل نهايتها بقليل، وبررت للمدرس غيابي بإسهال أو إمساك. وساعد مظهري العام ووجهي المجهد، في إقناعه بأني لست بخير. وأمضيت باقي اليوم بأرجل مفتوحة، أفكر في غبائي وجنوني، وأذكر نفسي بمشهد سابق قريب، حين أردت أن أفهم معنى كلمة "كهرباء" فوضع أصبعي بين طرفي فيشة المكواة، ووضعت الفيشة في الفتحة، وتركت أقدامي دون حذاء، وفهمت معنى الكلمة مرتين. مرة بالتجربة، ومرة بشرح عملي من أبي خلال علقة تالية.

في العام التالي، وبعد تجاوز أزمة الفنيك بسلام. وبقاء فقط بعض الهواجس. وحين كنت قلقاً من تأخر بلوغي. رغم أن أقراني لم يبلغوا بعد. فقد كان مشهد الفنيك حاضراً. خاصة وأنه مع فصل الجهاز التناسلي في منهج العلوم في السنة الإعدادية الثالثة. شرح لي المدرس مواصفات السائل المنوي، وكونه أبيض لزج. ولأن التجربة أحد أسس "البحث العلمي" فقد لاحظت أن السائل لدي شفاف وكأنه مياة.. ودار حديث طويل بعد حصة علوم بيني وبين المدرس. هل كلمة أبيض تعني أبيض، أم إنه أبيض شفاف؟. وبررت حيرتي بأن أحد الزملاء حاول تضليلي وتشكيكي في لون السائل.. لكن المدرس فهم وحده وقتها أنه أمام طفل إختار ممارسة العادة السرية حتى قبل البلوغ.

وبالطبع مع التأكيد على إنه "أبيض" صريح، كما "اللبن". وأنه لزج. وباعتبار الأوصاف المذكورة لا تظهر في تجاربي، فهذا يعني أمرين. إما أن بالتجربة شيء خاطئ، أو أن الفنيك يضرب من جديد وأني أصبحت عاجز جنسياً بسبب التهور والتبول في زجاجة نصف ممتلئة بسائل أسود أفقد سائلي بياضه الذي هو مهم طبعاً أهمية غير قابلة للنقاش. كل ما كان موجوداً في كتاب العلوم كان مهماً في هذا العام.

لم يكن إحتمال أني لم أبلغ بعد مطروحاً. وظلت صورة الزجاجة في يدي لحظة التبول حاضرة. تطارد أحلامي، وتهدد مستقبلي، إلى أن أبيض السائل وحده. وأضفت إلى معلوماتي ما سيمكن تسميته بعد قليل بالـ"عادة السرية".

حكمة القصة أنه من المفيد أن تمتنع عن اللعب مع عضوك، وأن تكتفي باللعب به. هذا والله أعلم.

الاثنين، فبراير 16، 2009

حمادة


قال، وسأعرف بعد ذلك بساعة أن اسمه "حماده" : يا باشا أنت تسيبها ورجالتك يركنوها.

مساء الفلانين، وقد تحول فجأة إلى عيد قومي يحتفل به الجميع ويجعل الشوارع أكثر إزدحاماً من ليلة العيد الصغير.

أجبرتني الظروف، لا الحب أو الرومانسية، على الذهاب إلى باخرة تحمل اسم "نايل سيتي" ترقد في مكان مميز على ساحل الزمالك.

نصف ساعة لتجاوز الأمتار المائة الفاصلة بين ناصية الشارع ومدخل الباخرة، أخبرت زوجتي وصديقتنا المشتركة أن دخول الباخرة في تلك الساعة حلم جميل كنت غير متأكد من قدرتنا على تحقيقه.. لكن "حمادة" ظهر فجأة، وأشار بكفه الصغير محركاً إياه أعلى وأسفل يسألني إن كنت أبحث عن "ركنة" في مكان قريب.

فتحت الزجاج الكهربائي، وأملت رأسي للخارج قليلاً، وسألت : "ينفع أركن؟".. فقال جملته الأولى بثقة، وفتح بابي.. ودعاني للنزول بإنحناءةبسيطة من جسده الرفيع.. وكنت قد أدركت أنه انخدع ربما بمظهري، وأعطاني أكثر مما أستحق من المعاملة الطيبة.

سألته : "أسيب المفاتيح؟".

قال، "الباشا يسيب أي حاجة.. وإحنا نحطها في عنيننا".

شيء ما جعلني اسأل زوجتي، حين عادت خطوتان للخلف، لأخذ كيس بلاستيكي يحتوي هدية صغيرة كانت ترقد في الكنبة الخلفية للسيارة، "ليه هتاخدي الشنطة؟، الدنيا أمان".. رغم أنها رأتني قبل دقيقة أسلم مفاتيح سيارتي لشاب كل ما سأعرفه عنه بعد ساعة أن اسمه "حمادة".

لا تزال زوجتي قادرة على البقاء حريصة معظم الوقت، ودعت الحرص في وقت مبكر من حياتي.. بدأت أفهم فكرة أننا نكمل بعض، وقد ظلت لفترة تقنعني بها دون أن تجد مني أي اهتمام.

في الداخل، تناولنا عشائاً مكسيكياً ساخناً، كنت قد راهنت زوجتي، وصديقتها، أننا لن نجد فرصة لتناول العشاء في المطعم الذي قصدناه، وهو واحد من عدة مطاعم انتشرت في القاهرة في السنوات العشر الأخيرة، وكانت نقطة قوتي في الرهان أننا لم نتصل للحجز، وإن اتصلنا فالإجابة معروفة.. "للأسف يا فندم كله مشغول عشان الفلانتين".

لكن مظهرنا، أنا وزوجتي والصديقة، وابنتي الصغيرة على كتفي بابتسامة لا تفارقها، جعل مدير المطعم عند البوابة يؤكد وجود مكان، يبدو أنه أدرك أننا لم نأتي للفلانتين أو غيره، هي مجرد سهرة صغيرة للإحتفال بصديقة ستغادر القاهرة بعد ساعات لإنجلترا.. وستعود بعد ستة أشهر.

ساعة، كنا قد انتهينا من الطعام، ومن شرب خليط من الكولا بدون السكر والكريز، بناء على نصيحة من الصديقة المشتركة، تذوقته للمرة الأولى بحذر وفهمت أنه كان يستحق.. وخرجنا.

سأقتل هذا الشخص، رأيت سيارتي مركونة فوق الرصيف، هي في الواقع بين الرصيف وأرضية الأسفلت، أدركت أنني لو ركبتها، وبفعل وزني الثقيل، فإن أسفل السيارة ستصيبه أضرار كثيرة، إلتفت أبحث عن الشاب صاحب فكرة الركن..رأيته يجري قادماً.. بابتسامة واسعة، ومفاتيح سيارتي في يده "الباشا يستنى لحظة واحدة بس..".. ورأيت سيارتي تنزلق بليونة من أعلى الرصيف لتقف بمحاذاتي وبابها مفتوح يدعوني للركوب.

وصلت زوجتي وصديقتها لمكان السيارة، نويت أن أعطيه عشرة جنيهات لمعاملته الطيبة، تأكدت من أن زوجتي لن تراني، ستقتلني إن رأتني أفعل.. لكن صوتها جاء من الخلف.. "مش أقل من عشرة جنيه أكيد"، هي أيضاً تراه شخص يستحق.

أزعجني أن يكون تقدير زوجتي للأمور بقدر تقديري، فأضفت خمسة أخرى، ووضعتها في يده.. وسألته "اسم الكريم إيه؟".

تعلمتها من أصدقائي، أن اسأل هؤلاء الذين "نشاهدهم ولا نراهم" على حد تعبير صديقي أحمد، عن اسمائهم وأعمارهم وطبيعة دراستهم.. قالوا أن الأسئلة الصغيرة، تجلب لهؤلاء قدر لا ينتهي من البهجة، كما أنها تعطي لأمثالنا موضوعات دائمة يمكن الحديث عنها مع الأصدقاء المشتركين.

قال، بلهجة رسمية، وكأنه يعرف نفسه لقائد كتيبته، "حمادة.. رابعة آداب، من أمبابة، ومش مرتبط".

عجبتني الطريقة، سألته، كام سنة يا حمادة، قال "22 يا باشا.. فاضلي تيرم واتخرج".

فكرت أنني أستطيع أن أمنحه شيئاً إضافياً، شعرت أنه يجب أن أفعل لحمادة شيء أكثر من مجرد 15 جنيه أطويها بعشوائية وأدسها في يده.. كدت أعطيه كيساً بلاستيكياً به بقايا وجبة مكسيكية لم تتناولها صديقة زوجتي. لكني تراجعت. فما يحتاجه حمادة أكبر ربما من الطعام..

سألته "أقولك سر؟"..

رد "في بير ملوش قرار"..

كدت أسأله عن الطريقة التي يستطيع بها الرد بسرعة على أي جملة غير متوقعة، وعن روحه المتدفقة الدافئة في ليلة باردة كليلة الفلانتين، وعن حماسه المبالغ فيه، وعن ابتسامته، وعن قدرته على التكيف مع الواقع، وعن حبيبته التي غاب عنها عشية الفلانتين ليساعد أمثالي في إيجاد مكان مناسب لركن سياراتهم.. هو بالتأكيد لديه حبيبة مخلصة، رغم أنه أخبرني بكونه "مش مرتبط".

قلت "أنا كمان درست في آداب، صحافة وإعلام، ودلوقتي بشتغل مخرج ومتجوز وعندي بنت، أنا اشتغلت شغلانتك يا حمادة من 6 سنين"..

رد في سرعة "وماله يا باشا هو عيب؟؟"..

قلت "عمره ما هيبقى عيب، بس قلت أقولك إن المكان اللي أنت واقف فيه ده هيوديك مكان تاني أحلى وأحسن..كل سنة وأنت طيب يا حمادة.. أنت بطل".

تعلمتها أيضاً من "أحمد"، هو أخبر الطفل البدين – وقد كان يشبهني - ماسح الأحذية في المقهى بأنه بطل، وقال يومها أنه من المفيد أن نفعل ذلك مع الذين اختاروا أن يفعلوا شيئاً آخر غير التسول.

تحركت بالسيارة، وكانت زوجتي ترمقني بنظرة جميلة، تعرف هي أنني كنت أكذب، وأنه لم يحدث يوماً أن عملت كحمادة، لكني مستعد لفعل ذلك.. بدت زوجتي متفهمة لكذبتي الصغيرة وأسبابها.

قلت لصديقتنا المشتركة، الجالسة في الكنبة الخلفية، وقد كانت تعاني من بعض الحزن والضيق، أنني أخبرت حمادة بذلك لأنه يستحق أن يخبره أحدهم بأن مستقبل أفضل ينتظره.

لم تستوعب الفكرة تماماً، غيرت الموضوع.. قلت أنني سأكتب يوماً كتاب صغير، اسمه "حوارات صغيرة" أدون فيه ما جرى بيني وبين الناس في الشارع، وهي حوارات تستمر دقيقة أو دقيقتنا، ويمكن استخلاص بعض الأفكار منها.. كانت صديقتنا مشغولة بسفرها فلم تعلق، وكانت زوجتي منشغلة بالطفلة، تابعت القيادة، وكنت منشغل بحمادة.

الخميس، نوفمبر 06، 2008

صورة بعد الثلاثين


إذن، يمكن أن تعبر هذه الصورة عما أتخيله لنفسي بعد الثلاثين.

مفرط في البدانة، أسير بمساعدة عكاز رفيع، يكاد يفقد القدرة على صلب طوله نتيجة الضغط عليه..

أعيش في مدينة أوربية باردة، وحيداً، متعتي الأساسية تتلخص في شراء الوجبات السريعة وقضاء نصف النهار بين طرقات الهايبر ماركت.

أشعر بالبرد، أفقد القدرة على الإهتمام بملابسي، وألجأ لترزي متخصص في ملابس البدناء.. أفقد الاهتمام بالآخرين، الذين سيفقدون هم – بمرور الوقت – اهتمامهم بي.

لا أملك تليفون، ولا لاب توب، تنعدم علاقتي بالأشياء التي شكلت – لفترة طويلة – علاقاتي الأساسية بالعالم.

أبحث عن أصدقاء جدد، في الكنائس المهجورة، ومساجد الجالية الإسلامية، والمراكز الثقافية، والمسارح، والسينمات المتخصصة في عرض الأفلام الكلاسكية.

أبحث عن أشخاص مثلي، قضوا العقود الأولى من حياتهم يفعلون أشياء مميزة – أو هكذا قيل لهم – حتى إذا ما انتهى التميز، جلسوا قليلاً، ونظروا إلى ما فعلوا، فأدركوا أنه لم يكن ما تمنوه تماماً، فقرروا الرحيل.

نقرر الجلوس لسماع الموسيقى، سأصبح وقتها قادراً على امتلاك حس موسيقى خاص، سأصبح متذوقاً للفنون، للجمال، سأضيع ساعة كاملة من نهار السبت أمام لوحة فنان تشكيلي لا يزال يضع فيها اللمسات الأخيرة فيما يجلس وحيداً على الرصيف بانتظار حسنة.. لن أعطيه شيئاً، فقد أصبحت قادراً على فهم أن الفن لا يصنع لأجل مقابل من الآخرين، وأن المجتمع يساعد الفنان حين يحتقر أعماله بقوة، فيصنع هذا الفنان أعمالاً خالدة، يعرفها الناس فور رحيله.

سأتحدث مع أصدقائي بعدة لغات، سأتحدث عن القضايا الكبرى، سأقول وجهة نظر عميقة في نتائج انتخابات الدول الأخرى، وسأتحدث عن الأحوال في مصر وأقول أنه ربما لا يزال الوقت مبكراً للتغيير.

سأعرف أصدقاء آخريين عن طريق البريد، أرسل لهم أخباري، ويرسلون لي بطاقات بريدية ملونة، سنتحدث عن الحب، والجنس، والسياسة والدين، والأيام القديمة التي عشناها ولم نستمتع بها.

سأستمتع بكوني غير مزعج لأي أحد، مجرد بدين عربي في مدينة أوربية صغيرة.. لا يشرب الخمر، لا يقود السيارة بسرعة – فهو لا يملك واحدة، لا يملك وجهة نظر تجاه حكومة البلد التي يعيش فيها، ولا حكومة البلد التي أتى منها يوماً.

........

سأتصل بزوجتي السابقة من كابينة الهاتف بجوار المنزل، سأسمع صوت أبنائي مرة كل أسبوع، في ميعاد ثابت، ولمدة محددة، سأعرف أنهم لا زالوا قادرين عن العيش بدوني لعام آخر، أشكرهم على ذلك، ونتبادل جميعاً الأمنيات الطيبة.

ستخبرني زوجتي – السابقة التي اختارت ألا تتزوج بعدي – أن الأولاد يرغبون في زيارتي الصيف القادم، أقول أنها فكرة غير جيدة، فالأجواء متقلبة، كما أن المدينة هنا خالية من أي أشياء قادرة على صنع البهجة لأطفال لم يتجاوز أكبرهم العاشرة.

سأجعل عنواني معروفاً لعدد قليل من أصدقاء العشرينات، سيزورني بعضهم حين يمرون على المدينة الأوربية التي أسكنها، ستظهر شفقتهم حيال الوضع الذي اخترته لنفسي، سأضحك، وأدخن السجائر معهم، ثم أودعهم عند الباب بأمنيات طيبة، سيسألون عما إذا كنت أحتاج لأي شيء، سأجيب بأني سمعت عن بضعة كتب جديدة في القاهرة، وأحتاج إلى نسخ منها، سيخرج أحدهم ورقة، يكتب أسماء الكتب، ويعدني بارسالها.. وسأندهش بشدة بعد ذلك لأن الكتب ستصلني فعلاً.

سأخبر الجميع أنني قررت كتابة رواية، سيساعدني أحدهم ويجعل مدير أحد المكتبات يحدثني بخصوص نشرها، أقول له أنني لا زلت أحتاج إلى الكثير من الوقت حتى أنتهي من الكتابة، يقول أنه سيعاود الإتصال بي بعد شهر، لكنه لا يفعل.

....

إذن، يمكن أن تعبر هذه الصورة عن حالي بعد سبع سنوات، إذن.. يمكن أن أصبح سعيداً الآن، فلا زلت أملك بعض الوقت، كما أن النهاية غير مزعجة على الإطلاق.

الاثنين، أغسطس 25، 2008

شانل تو©

مررت اليوم أمام مكتبة "الجهاد الإسلامي"..

أنت لا تعرفها، هي هناك في قنا، أو لمراعاة القواعد النحوية واللغوية، هي "هنا" في قنا.. فأنا "هناك" الآن..

تعال أنت، واسأل أي طفل صغير عنها، وسيدلك على مكانها بمنتهى البساطة، فهي – للمفارقة – بجوار مبنى مديرية الأمن، وبابها يسبق باب مكتب أمن الدولة..

مررت اليوم هناك.. وتذكرت سعاد.. رغم أني لم أكن بحاجة إلى ذلك.

وسعاد، إن كنت لا تعرفها، هي زميلتي في سنة أولى كلية، والتي قضيتها كلها في قنا متوهماً أنني طالب مواظب على دروسه وتعليمه، وقد كنت كذلك بالفعل، حتى أني قبل نهاية العام بقليل حصلت على جائزة الطالب المثالي من مجلس الكلية، وفي نهاية العام نفسه، رسبت في ثلاث مواد تسببن في بقائي طالباً بالصف الأول، إلا أن سعاد نجحت وقتها بامتياز وصعدت للصف الثاني.. وانتهت صداقتنا!

ما العلاقة إذن بين مكتبة الجهاد وسعاد؟؟

لا علاقة على الإطلاق، فقط كانت المكتبة هي المكان الوحيد الذي تباع فيه المصاحف بـ"قنا"، وقد اشتريت من هناك واحداً بعد أن طلبت مني سعاد شراء مصحف والبدء في حفظ القرآن معها.

ففي نهاية العام، كان اضحاً أن ثمة تغييرات طرأت على صديقتي، فهي للمرة الأولى مسكت موبايلاً غير موبايلي، حيث استلمت أخيراً مكافأة التفوق من إدارة الكلية، وأكملت عليها مائة جنيه لتشتري جهاز مستعمل إلا أن حالته كانت لا تزال جيدة.. بحيث يمكنها من إرسال الرسائل واستقبال المكالمات والاستفسار عن الرصيد كل قليل متظاهرة بأنها تجري مكالمة مهمة مع صديقة لها قصدتها في خدمة.

كما أنها أخبرتني على الهاتف الأرضي، فقد كان طبيعي أن يكون هناك هاتفاً أرضياً بمنزلها، ما لم يكن طبيعياً هو أن يكون هناك هاتف في شقة الطلبة التي سكنت بها في قنا طوال عامي الأول، والحقيقة أنه لم يكن هناك هاتف، فقد استعنت بأحد أصدقائي الموهوبين، بحيث استطاع سرقة خط الشقة المجاورة، والتي كان سكانها مسافرين في زيارة دائمة للقاهرة..

أخبرتني سعاد على ذلك الهاتف، أن أبوها تمكن أخيراً من قبض الجمعية التي دخلها مع زملاءه في شركة المهندس للتأمين، وستذهب معه مساء الجمعة لشراء "دش" كامل، بطبق صغير نسبياً، كما أنه – أبوها - أحضر مساء الخميس كهربائي متخصص، أعاد تشغيل التليفزيون القديم مع تركيب ريموت كونترول جديد له، وقد توقف الريموت عن العمل مساء الأحد التالي، وذهب والد سعاد للخناق مع الكهربائي، الذي أكتفى برد 10 جنيهات من ثمن الريموت، ولعن اليوم الذي دخل فيه بيت أبو سعاد، رغم أنها أخبرتني في مكالمة تالية، أنه كان ينظر لها نظرات لها معنى واضح، مبدياً إعجابه بأناقتها، حيث ارتدت في ذلك اليوم "جيبة" أختها المتزوجة، والتي كانت تكشف عن ساقيها حتى منظقة ما بعد "السمانة".

شهر كامل أتى بعد ذلك، وأنا أسمع من سعاد حكايات لا تنتهي عن القناة الثانية، والتي تصر على تسميتها "شانل تو" رغم انجليزيتها المكسرة (شأن إنجليزيتنا جميعاً)..

كانت معلوماتي عن القناة الثانية تقتصر على الفيلم الأمريكي الذي تتم إذاعته مساء كل جمعة، وبعض برامج المنوعات التي شاهدت عليها للمرة الأولى أغنية فيلم تيتانيك، التي سحرتني كلياً رغم عجزي عن فهم كلمة واحدة، حيث أني لم أحاول أصلاً.

أخبرتني سعاد بقصص أفلام "شانل تو" كلها، "الآخرون"، و"السرعة"، و"اقتل الجرس" و"المهمة المستحيلة".. وهي أفلام عرفت بعد ذلك أنها نفسها "The Others" و"Speed" و"Kill Bill".. وللأسف ضاعت مني نمرة سعاد لفترة، بحيث لم أستطع أن أخبرها أن "Bill" ليس بجرس، بل هو بني آدم طبيعي مثلي ومثلها، لكنه شرير بعض الشيء.. بحيث يريد الآخرون قتله.. لكن بالتأكيد أن أحدهم أخبرها، فمن الصعب على فتاة مثل سعاد أن تعيش حياتها وهي مقتنعة بأن "Bill" مجرد جرس.

كانت سعاد مصرة على أن صديقي "علي" يشبه الممثلة الأمريكية المعروفة "نيكولاس كيدج"، ولأني لا اعرف من ممثلات أمريكا غير جوليا روبرتس وراشيل كوري ومادلين أولبرايت، فقد أخبرني "علي" في لحظة صراحة أن نيكولاس راجل ملو هدومه، وبالطبع لم أصدقه، فكيف تكذب سعاد ولديها في البيت "شانل تو"..

ذات مرة، عشت مع سعاد تجربة فريدة، كان ذلك مساء الثلاثاء، وهو ذاته اليوم الذي يسهر فيه والدها في العمل لساعة متأخرة، وهو أيضاً موعد مكالمتنا الليلية الوحيدة في الأسبوع، لكن سعاد كانت مرتبطة وقتها بمشاهدة فيلم مهم على "شانل تو"، لم أعرف اسمه حتى الآن، أعرف فقط أنه "مهم".. وهي عادة علمتها لي سعاد، فلا يوجد فيلم "حلو" وفيلم "وحش".. الفيلم إما "مهم".. أو أن يكون غير ذلك.

وقد اقترحت على سعاد أن تجمع بين الحسنيين، تشاهد الفيلم، وتحكيه لي في الوقت نفسه، وسأبقى أنا على السماعة أسمع صوت الفيلم من ناحية، وصوت سعاد من ناحية أخرى.. وبذلك تكون هي شاهدت فيلمها، وأكون أنا استمتعت بالمكالمة.

كان عندي أمل بسيط في أن تمر قبلة سريعة أو مشهد رومانسي خلال الفيلم المهم، بحيث استغل الفرصة واقترب أكثر من سعاد وأصارحها بحبي لها، الذي هو في الحقيقة لم يكن أكثر من مجرد رغبة في ممارسة الجنس عبر الهاتف بأي شكل ومع أي شخص، بعد أن قرأت عنه في مجلة "الشبكة"، خلال خبر قصير عن اكتشاف شبكة دعارة تقدم خدمة الجنس عبر الهاتف.. وكانت الشبكة تباع وقتها في مدخل محظة القطار، كما أنها كانت أول شيء أشتريه عند وصولي قنا قادماً من بيت أبي في القاهرة، وهو بيت لا تدخله سوى مجلة "الوعي الإسلامي" و"العربي" و"الأزهر الشريف".

لكن الفيلم كان من نوع الأكشن السياسي، وهو نوع اخترعته بنفسي، فالمشاهد التي يتضمنها الفيلم إما قتال عنيف، أو نقاش عنيف، وبالطبع فإن العنف لم يكن بأي حال من الأحوال يصلح كمدخل للجنس الهاتفي، فلا أنا ولا سعاد كنا نفضل الطرق السادية وقتها، (أخبرتني بهذا بعد ذلك، بعد أن اشترت جهاز كومبيوتر ودخلت على النت وشاهدت مواقع إباحية عديدة، وكان أبوها قد فكر في مشروع الكومبيوتر بعد أن شاهد إعلاناً على شانل تو يفيد بأن جدول الأفلام متاح على موقع القناة على الإنترنت)..

مر الشهر الأول لشانل تو، وبدأت أسمع كلمات أخرى باعتبارها أسماء قنوات، منها mbc التي هي في الحقيقة "شانل وان".. أيضاً طلبت منها مرة أن تسمعني صوت "الجزيرة" فقد كان هذا هو اسم المحطة الوحيد الذي أعرفه، وقد طلبت منها ذلك باهتمام، مؤكداً أن أبي محافظ لدرجة أنه عندما ركب الدش في بيتنا بمصر (القاهرة) حذف كل القنوات وترك الجزيرة لأنها مهمة ومفيدة وبتتكلم في السياسة وبتشتم حسني مبارك وعمرو موسى وشعبان عبد الرحيم.

والحقيقة أن أبي كان يرفض مسألة الدش بالكامل، حتى رضخ أخيراً لرغبة أمي بشراءه، وكانت رغبة أمي تلك هي الشيء المشترك الوحيد الذي يجمعها بسعاد..رغم أن أمي لا تعرف شيئاً عن شانل تو.. كما أنها تعرف أن "Bill" ليس بجرس.

كانت أمي تريد الدش لمشاهدة "عمرو خالد" على شانل إقرأ.. وكذلك فعلت سعاد، فبعد شهر ونصف، اكتشفنا سوياً اقرأ، وقد كنت معها على الهاتف، وسمعت صوت الشيخ عمرو خالد للمرة الأولى، وبمرور الوقت، بدأنا نسمعه سوياً، أو بمعنى أدق، تسمعه سعاد، وأسرح أنا على الهاتف، مركزاً كل فترة، لعله يتحدث عن "أداب ليلة الزفاف" أو "النكاح في الإسلام" فهي مداخل مناسبة لفكرة الجنس الهاتفي التي كانت لا تزال مسيطرة على عقلي.

كما أن خطب الجمعة التي كنت أحضرها في المسجد كانت عادة تتناول مثل هذه الموضوعات، وقد كانت وقتها وسيلة جميلة بالنسبة لشاب مثلي يطلق لخياله العنان، مفكراً فيما يقوله الشيخ، ومستغرباً أنهم وجودوا مرة بعد الصلاة شاب يكبرني قليلاً يتأوه وهو يمارس العادة السرية في حمام المسجد.

أنا نفسي فكرت في فعل ما فعله ذلك المراهق، خاصة بعد خطبة حضرتها حكى فيها الشيخ قصة، عن زوج كتب لوحة وعلقها في صالة بيته، مكتوب عليها إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه، محاولاً لفت نظر زوجته إلى أنها غير مهتمة بنظافة البيت، فما كان من الزوجة إلا أن خلعت اللوحة، وعلقتها على سريرهما، في إشارة إلى أن الزوج لا يرضي زوجته على السرير.. وكم كانت فكرة الزوجة المحرومة مثيرة بالنسبة لشاب مثلي..

أما الشيخ عمرو، فهو لا يفعل مثل شيوخ المسجد، ويخذلني في كل حلقة، حتى أني بدأت اسأل سعاد عن إن كانت اقرأ تعرض برامج للشيخ علي الطويل، أو سعيد المستكاوي، وهم من أشهر شيوخ منطقتنا، إلا أنها أجابت بالنفي.

بدأت ألاحظ أن سعاد لا تسميه "الشيخ"، فقد قال هو في إحدى حلقاته أنه لا شيخ ولا مفتي، بل هو داعية، وقالت لي أنهم يكتبون اسمه على الشاشة مسبوقاً بكلمة "الأستاذ".. وبدلاً من أن تناديه بكلمة "أستاذ" أو "داعية" أو "شيخ".. أكتفت باسمه الأول "عمرو" لتصبح جملتها على الهاتف معتادة "شششش ششش عمرو بدأ".

الإيشارب القصير الذي كان يغطي نصف شعر سعاد، والتي كانت تقضي نصف يومها في جذبه على شعرها من الوراء إلى الأمام، حيث اعتاد الإيشارب الانسدال وحده للخلف، كاشفاً عن صبغتها الكستنائية التي كانت تثيرني، ذلك الإيشارب اختفي فجأة، وعرفت سعاد طريقها إلى الخمار الطويل، وقابلتني في الجامعة قبل الامتحانات.. وسألتني أن اشتري مصحفين من مكتبة الجهاد، واقترحت أن نحفظ القرآن في الأجازة.

وفي مساء اليوم ذاته، وكان يوم الأربعاء، أول مايو، أجازة عيد العمال، اتصلت سعاد بي، طالبة تخفيض عدد المصاحف من اثنين إلى واحد، حيث وجدت هي مصحفاً جيداً في المنزل، بحجم مناسب بحيث تستوعبه حقيبة يدها، كما أن به رسوماً عثمانية كثيرة، لذا "اشتري أنت مصحف عشانك، وهبقى آخد منك الخمسة جنيه بتاعتي اللي كنت هتجيب بيها مصحفي أول يوم امتحانات.. ششش ششش عمر بدأ"..

بشكل ما انقطعت علاقتي بسعاد..

لكن.. كيف وصل الحال بنا إلى الوضع الحالي، وكيف أخبرتني أنها لا تفضل السادية في الجنس وإن كانت لا تمانع في تجربتها مرتين ثلاثة.. أنا أخبرك.. إن لم تكن علمت من سعاد..

لمشاهدة كأس العالم، طلب أخوها من أبوها تركيب طبق أكبر يسمح بالتقاط اشارات الـ"هوت بيرد"، أو الطائر الساخن، وقد حدث، وتزامن مع أجازة طويلة لـ"عمرو" من شانل اقرأ..

وعلى الطائر الساخن شاهدت سعاد قناة "الجنس في المنزل" وحلقات "الجنس والمدينة" واتصلت بي في القاهرة، لنبدأ رحلة طويلة من الكلام على التليفون باستخدام كروت "مفتاح الزيرو"، والتي تكفي بالكاد لنا بممارسة مرتين تلاتة من الجنس الهاتفي الممتع، أحدها على الأقل تنتمي للنوع السادي المؤلم، وهو نوع أصبحت أفضله أنا وسعاد، بعد أن طلبت من أبي مشاهدة كأس العالم على التليفزيون، رغم أني.. "مليش في الكورة"..

ورغم أني امتنعت وقتها عن شراء "الشبكة" فقد عرفت الطريق إلى موقعها "المجاني" على الإنترنت ومواقع أخرى عديدة، ورغم أني زرت قنا بعدها مرات عديدة، وفي كل مرة كانت الفرصة متاحة لتحويل ما يجري على الهاتف بيني وبين سعاد إلى واقع ملموس ومحسوس، رغم ذلك، بقيت علاقتي مع سعاد مقتصرة على الهاتف، سواء على الخط الأرضي و"مفتاح الزيرو" أو حتى دقيقتين ثلاثة على الموبايل، فقد كنا نفهم الغرض من المكالمة من توقيتها ومن اللحظة الأولى لفتح الخط..

اليوم، وأثناء مروري أمام "مكتبة الجهاد الإسلامي"، تذكرت سعاد.. رغم أني لم أكن في حاجة إلى فعل ذلك، فقد غادرت منزلها منذ لحظات، حيث رقصت ومرحت وضحكت.. فالليلة فرح سعاد، على جارها، والذي يعمل والده كهربائي، كان قد صلح لأبوها التليفزيون منذ سنوات، مبدياً إعجابه بشياكة بنته.. التي هي سعاد.

قنا
11-1-2008

السبت، يونيو 07، 2008

قتب!


هل سيصبح عندي "قتب"؟؟..

هل سينمو داخل ظهري ظهر آخر، يشكل قوس مشدوداً بالعكس، بطنه إلى قفاي.. ووجهه إلى الواقف خلفي.. هل ستفقد ملامحي لون الطفولة، وأتحول، بحكم العمر.. إلى رجل ناضج، مظهره يوحي بأكثر من سنه بعشر سنوات.. يهده التعب، ويعلن عدم القدرة على حمل المزيد من الكراتين..

إن أصبحت يوماً بـ"قتب"، فستكون الكراتين هي السبب بالتأكيد، سنوات عملي الأولى مع أبي، في مجال بيع الكتاب، حمل الكراتين من المخزن إلى بطن السيارة نصف النقل، والعودة بها، بعد المعرض، إلى المخزن مرة أخرى.

زمان، زمان جداً، بعيد هذا الوقت لدرجة أني غير متأكد من أنني ذات البني آدم الذي حدثت له هذه الأحداث، أيام كان عمري عشر سنوات ربما، كنت، وأخي، نحمل صباح كل جمعة، عشرة كراتين، من مدخل بيتنا، إلى ظهر سيارة أبي نصف النقل، كانت لدي أبي سيارة من هذا النوع، قديمة، ضيقة، وكان مكان الكاسيت فيها فارغاً، ومظلماً، وكنت أتصور أنه مكان ملاءم لسكن العفاريت، وأن هناك شبح يسكن في هذا الفراغ المستطيل، سيخرج في أي لحظة، ويقتل الجالسين في صالون السيارة.

لهذا السبب ربما كنت أفضل الجلوس في الصندوق الخلفي للسيارة، أجلس مرة، وأقف مرات، ممسكاً بسقف الكابينة، خلف أبي مباشرة، لأستقبل الهواء البارد – أو الساخن – بوجهي، بابتسامة ملائمة.

صباح كل جمعة، كنا ننزل، أنا، أخي، وأبي، إلى الشارع مبكراً، قبل الصلاة بساعة على الأقل، نحمل الكراتين، ونذهب بالسيارة إلى مسجد بعيد جداً عن منزلنا، يطل على ترعة المنصورية، كنت – ولا أعرف لهذا سبب – أتخيل أن هذا هو المسجد الذي يخطب فيه الشيخ الشعرواي، وبالطبع لم يكن الزحام يسمح لي بالدخول، لأعرف من هو الخطيب، كما أن عمري – وقتها – لم يكن ليسمح لي بمقارنة ما يقوله الخطيب – الذي لم يكن الشعراوي بأي حال – بما يقوله الشعرواي نفسه في خطبه المتلفزة.

نصل إلى المسجد، ونتولى جميعاً، أنا وأبي وأخي الأصغر، تنزيل الكراتين من صندوق السيارة إلى رصيف مجاور للمنزل، وسرعان ما تعمل أيدينا بقدر من الاحتراف، لتفريغ الكراتين من الكتب، وفرشها، بنظام معروف ومألوف، على الرصيف، في انتظار المصلين.

كنا أحياناً، نجلب معنا بعض الترابيزات الصغيرة، لفرش الكتب عليها، وكانت مسألة الترابيزات تخضع لمزاج أبي، فهو إن كان متحمساً اليوم، يصر على رفع الترابيزات من مدخل البيت إلى صندوق السيارة، وإن لم يكن كذلك، يكتفي بالكراتين، بدون ترابيزات، وقد أثبتت التجربة، أن وجود الترابيزة، لم يكن مؤثراً بأي حال على مبيعات الكتب.

كانت الكتب جميلة، أحجامها ثابتة، قطع صغير يشبه قطع روايات الجيب، معظمها لمؤلف واحد وبغلاف مميز، مؤلفها اسمه أحمد ديدات، عرفت بعدها أنها كان مسيحياً وأسلم بعد فترة طويلة. كانت تباع بسرعة، وإن كان سعرها لا يحتوي على مكسب كبير.

كتب أخرى أكبر، للشيخ الغزالي مرة، ولشيوخ آخرين، كان لدينا كتاب من القطع المتوسط عن الموت، وآخر عن المخدرات، وثالث عن النار، وكلها كانت تباع بسرعة مدهشة، كما أن أبي كان يملك أعداداً كبيرة من كتاب لمؤلف اسمه "عبد الصبور شاهين" يتحدث فيه عن رواية اسمها "أولاد حارتنا"، من تأليف رجل اسمه "نجيب محفوظ" يقال وقتها أنه قد حصل على جائزة اسمها نوبل، وهي جائزة غالية، يعطيها اليهود لهؤلاء الذين يسبون الدين، كما يقول شاهين في ظهر غلاف كتابه.

كنت أستمتع بالجلوس طوال وقت الصلاة بجوار الكتب، وما أن يخرج الناس من الجامع، حتى يلتف الناس حول رصة الكتب، وحول باعة آخرين يبيعون الفاكهة أو العصائر أو الجرائد.. كنت أعرف بعض الأسعار، واسأل أبي عما يغيب عني من أسعار.

كنت أحب أبي جداً، أتعلق به لأقصى حد، كنت أتعلق بجلبابه الأبيض الطويل، لم يكن أبي يحب الجلاليب البيضاء القصيرة التي يرتديها المصلين في ذلك المسجد، أكره الجلاليب القصيرة، أشعر أنها "مش حلوة"، بمقاييس الأطفال، كانت اللحية، والسواك، والجلباب القصير، كلها أشياء مش حلوة، جادة ورصينة وتدخل على القلب الخوف والرهبة.

ربع ساعة ويختفي الناس من حول الفرشة، ونتولى، أنا وأبي وأخي الأصغر، حمل ما تبقى من كتب، ورصها في الكراتين، وحملها داخل صندوق السيارة، والعودة إلى المنزل، وإنزالها مرة أخيرة إلى مدخل المنزل.

بقدر ما كنت أحب أبي، بقدر ما كنت أحب حمل الكراتين، لم تكن تلك العملية تسبب لي أي قدر من الإزعاج على الإطلاق.. كنت سعيداً بها، فخوراً بأني أفعلها صباح كل جمعة..

كنت أشعر بأني رجل صغير، أحمل هم هذه الأسرة، وأننا – أبي وأخي وأنا – شركاء في شركة صغيرة، ستكبر يوماً ما، وسنجلس نذكر هذه الأيام، التي كان رأس مالنا الوحيد فيها أكتافنا الضعيفة، القادرة على حمل الكراتين من وإلى السيارة.

كنت معتاداً، حين أقف بجوار الكتب، أن أرقب أبي من بعيد، يقف مع بعض الرجال، يتحدث عن أشياء عدة، كان أبي يبدو لي وكأنه شخص أسطوري، يعرف شيء عن كل شيء، كان يتحدث في السياسة، والأدب، والدين، وأحياناً كان يلقى – مع هؤلاء الذين انتهوا من صلاتهم منذ دقائق – بعض النكات والقفشات.

انتهت هذه الأيام فجأة، لا أعلم على وجه التحديد سبب امتناعنا عن الذهاب إلى المسجد البعيد بالسيارة والكراتين، بالتأكيد حدث شيء ما لا تستطيع ذاكرتي إلتقاطه، لكن السنوات التالية شهدت بعض الرخاء، أسس أبي شركته الخاصة، وأصبح لديه عشرات العمال القادرين على حمل الكراتين، وقد كان يحرص – ولا يزال – بين فترة وأخرى، على حمل كرتونة من هنا لهناك، أو على ربط كرتونة بنفسه، والتأكد من إغلاقها بإحكام، كما أنني شاهدته مرات كثيرة، يعطي نصائح ذهبية لبعض الموظفين الجدد، عن كيفية ربط الكرتونة، أو رص الكتب بطريقة سليمة تمنعها من السقوط ولو بعد مائة عام.. هكذا قال.

اختفت السيارة نصف النقل ذات الصندوق في ظروف غامضة أيضاً، باعها أبي ليشتري بعدها سيارة مستعملة من نوع "داتسون 1800".. وكانت بصندوق خلفي من نوع الـ"ستيشن"، وهو صندوق يسمح له برص مجموعة من الكراتين ونقلها لعملاء شركته الجديدة.

بمرور الوقت اختفت الداتسون، وحلت البيجو – الـ"ستيشن" أيضاً – محلها، وهو تغير قد يلفت النظر إلى أن الأسرة المتوسطة الحال قد شهدت بعض التحسن المادي.. وهو ما سيؤكده حلول الـ"شاهين" بعد ذلك بسنوات، ثم سيارة جديدة من موديل حديث يشتريها أبي هذه الأيام.

لا يزال أبي شغوفاً بإمتلاك سيارة بصندوق واسع، وعندما اصطحبني – الأسبوع الماضي – لصالة بيع السيارات التي سيشتري منها سيارته الجديدة، تقدم بسرعة من السيارة، وفتح الصندوق، وأشار لي بابتسامة ذات مغزي، "شايف كبير إزاي".. لا يعرف أبي أنه بنظرته أعاد لي ذكريات قديمة، بطعم الكراتين وصلاة الجمعة.

لم يكن أبي مقتنعاً بمسألة ركوب سيارة موديل 2008، يقول أنه غير مهتم بالمظاهر، وأنه يحتاج سيارة تحتمل الكراتين التي يأخذها معه إلى العملاء أو المطابع، كان ينوي أن يشتري سيارة نصف نقل بصنودق خلفي وبـ"2 كابينة" بحيث تسمح بحمل الكراتين، وباصطحاب أخوتي الصغار في المشاوير العائلية.. لكن شيئاً ما أقنع أبي بأنه يستحق بعض الرفاهية أخيراً بعد رحلة شاقة في الحياة، توقف فيها أحياناً أمام مسجد على ترعة المنصورية لبيع الكتب مع ولديه الصغار.

أما أنا، فقد عملت مع أبي لفترة طويلة، انتهت مع نهاية عامي الدراسي الأول في الجامعة، بعدها قررت الرحيل وشق طريقي وبدء رحلتي الخاصة، دون أن أنسى أنني قد حصلت على بعض الخبرة من قبل، خاصة فيما يتعلق بحمل الكراتين وبيع الكتب، كما أني وجدت نفسي أخيراً، قادراً على الوقوف مع الرجال بعد صلاة الجمعة، للحديث في أمور عدة، السياسة والدين، وربما إلقاء النكات والقفشات.. لعل مظهري يبدو، لهذا الطفل الصغير، الذي رأيته يبيع الكتب بجوار المسجد، كرجل أسطوري، قادر على الحديث في أي شيء، وإن كان يرتدي بنطلون وقميص، رافضاً بأي حال، الخروج بالجلباب من باب البيت.

لا يعلم هذا الطفل، أن بيننا ذكريات مشتركة، فقد بدأت من حيث يقف، كما أن مسألة هامة تشغلني هذه الأيام تتعلق بالـ"قتب" الذي بدأ يظهر لي، وقناعتي التامة بأن الكراتين – التي يحمل الطفل مثلها كل جمعة - هي السبب..


الاثنين، أبريل 28، 2008

check your mail




تسأله : شوفت فيلم "You've Got Mail"..
يخبرها أنه أحد أفلامه المفضلة.

............

يبدو أن أفلام توم هانكس كلها مفضلة بالنسبة إليه، الحقيقة أنه النجم الأجنبي الوحيد الذي يحفظ اسمه، هو يعاني من حفظ أسماء نجومه المفضلين، جلس مرة ساعة كاملة يحاول أن يتذكر اسم "ميج ريان" لأحد أصدقاءه، ظل يخبره أنها تلك ذات الشعر الأصفر والإبتسامة الساحرة، لكن صديقه كان مملاً بحيث رفض الاشتراك في اللعبة، مخبراً إياه أن كل نجمات هوليود بشعر أصفر وابتسامات ساحرة.

لكنه لا ينسى أبداً توم هانكس، لقد منحه هذا النجم سعادة لا تنتهي، فهو أولاً ذو اسم سهل، يلتصق بالذاكرة من أول فيلم، وهو من ناحية أخرى صاحب أفلام ثلاثة، منحته عدد لا نهائي من لحظات السعادة، كما أنه ليس وسيماً جداً مثل زملاءه، توم هانكس يمكن أن يصبح مصرياً ببساطة، لو شاهدته دون أن تعرفه في شوارع القاهرة، فستقول أنه على الأرجح من المنصورة أو المحلة، وإن أقسم لك أحدهم انه اجنبي غير مصري، فستقول "يمكن يكون من سوريا أو فلسطين". ليس أبعد من ذلك أبداً.

منحه هانكس اللذة السرية كاملة في فورس جامب، كان يعتقد أن "فورست" هي ذاتها "فيرست" (First) وأن "جامب" هي "القفزة"، و"فورست جامب" هو "القفزة الأولى".. لكنه أدرك بعد مشاهدته للمرة الثانية، أن هانكس اسمه في الفيلم فورست، وأن جامب هو اسم والده، وأنه لا علاقة للجري الذي يجريه فورست في النصف الثاني من الفيلم بأي قفزات أولي أو ثانية.

ثم صفعه الصفعة الأقوى في "You've Got Mail"، هل يوجد سحر بهذا الشكل، هل يمكن أن يحدث هذا، تمنى يومها أن يتوقف الزمن بميج ريان بحيث لا تكبر أبداً، تظل كما هي، بقصة شعرها، ورقبتها البيضاء الرقيقة، تمنى أن تظل تستخدم معجون الأسنان نفسه إلى الأبد بحيث تظل أسنانها هكذا، لا أبيض من ذلك ولا أصفر، تمنى أن يتقدم علم الاستنساخ، أن يتمكن العلماء من تكرار جسد "ميج" في الآف النسخ، وان تصبح ابتسامة "ميج" متاحة لأي فتاة من شبرا حيث كان يعيش وقتها، لكن امنياته كلها لم تتحقق، يتقدم الزمن بميج، مثلما يتقدم بتوم، وتعجز محاولات الاستنساخ في إبقاء النعجة دولي على قيد الحياة، فما بالك بميج ريان.

لكن عزاؤه أن توم كلما كبر، كان يكتسب من السحر قدراً مضاعفاً. حدث ذلك في "صالة الوصول" أو "the terminal"، يؤكد أنه لم يضحك ويبكي في حياته في نفس الوقت إلا أثناء مشاهدته لهذا الفيلم.
............

تسأله : شوفت فيلم "You've Got Mail"..
يخبرها أنه أحد أفلامه المفضلة.

............

لدى "
Joe Fox" مكتبة ضخمة، هو سليل عائلة تجارية كبيرة تتخصص في الكتب، سياستها استحواذية بحيث تمكن من شراء كل مكتبات المدينة، عدا ركن صغير، تشرف عليه " Kathleen Kelly"والتي ترث المكتبة عن أمها.

هذا في الواقع، لكن على الإنترنت، يتعرف "فوكس" على "كيلي" مصادفة، وينتظر خروج خطيبته من المنزل كل صباح ليفتح حاسوبه المحمول، ويكتب رسالة جديدة إلى صديقته الإليكترونية، وينتظر رداً منها، "كيلي" تفعل الأمر ذاته.

تصبح شاشة الحاسوب لكل منهما نافذة سحرية تطل على السعادة، سعادة سرية صادقة، رسائل طويلة، تكتب في دقائق، تتحدث عن إذا ما كان كل طرف نام جيداً أم لا، سعيد في حياته؟، مسرور لأن المطر يهطل على المدينة وهناك توقعات بثلوج، كل التفاصيل التي تبدو تافهة، تصبح فجاة ذات قيمة.
..............

تسأله : شوفت فيلم "You've Got Mail"..
يخبرها أنه أحد أفلامه المفضلة.

.............

رغم أنه يتذكر الفيلم جيداً، لكنه لا يعلم على وجه التحديد ظروف وملابسات تعرفه بها.

هو يعرفها و"خلاص"، بدون أي مقدمات، بينهما علاقة تسمح لها بطرح الأسئلة الشخصية، وتسمح له بالإجابة عما يروق له منها.

هو – مثل أي شخص عادي – يحب الأسئلة المحرجة من فتاة جميلة تلبس جيب واسعة تصل إلى ما بعد الركبة بقليلة، يفضل هذا الـ"ستايل"، تذكره هي بالـ"snow white"، وككل الرجال – الذين هم في الحقيقة لم يبارحوا مكانهم في روضة الأطفال – فإنه يحب فتاة الثلج الأبيض، ويحلم بها في الليالي الصافية التي يكون الجو فيها ملائماً للنوم دون غطاء.

يحب اسئلتها، يترك نفسه لها تحلله كما تشاء، تخبره أنه بحاجة للذهاب إلى طبيب نفسي لتلقي العلاج، يسألها عن أعراض المرض الذي تلاحظه عليه، فتقول "قلة الحب.ز انت مش بتحب نفسك كفاية".. يقول "فعلا.. ده أحد أهم عيوبي"، يضحك داخله حتى يكاد يفلت "كركرة" هنا أو هناك، يتسائل إن كان هو لا يحب نفسه فمن المجنون الذي يفعل، يطمأن نفسه بنفسه، هو يحب كل شيء فيه، كل تفاصيله، كل أشياء، يحبه حتى في الاشياء البغيضة التي يعرف أنها بغيضة.. لكنه يستسلم لها، يوافق على الذهاب للطبيب، وإن كان يعلم أنه لن يفعل أبداً.

يسألها دائماً عن "عيوبه"، يفرح بما تقول، تخبره بالعيوب التي يعتبرها هو مميزات لا تعوض، تقول أنه "ديكتاتور مع هؤلاء الذين يحبونه"، أنه "ملوش أمان.. يكون قدامك وبعدين يختفي"، أنه "مودي جداً، بمزاج متقلب بين لحظة وأخرى".. أنه "ملول".. يدلدل رأسه لأسفل، يرسم تكشيرة، يقول أن صراحتها هذه المرة كانت شديدة على قلبه الضعيف، وأنه سيعمل على التخلص من عيوبه بسرعة، تخبره هي بأنها آسفة على تدخلها في حياته الشخصية، مذكرة إياه أنه هو الذي بادر بطرح السؤال "المحرج".. يضحك في سره من جديد، ويعلن استمتاعه باللعبة.

تقريباً، مارس معها كل الألعاب المشابهة، قابلها عدد لا نهائي من المرات، أنفق على مكالمتها مائة جنيه وأكثر، سألها مليون سؤال، وجاوب على تريليون.

لكنها اليوم، تطرح سؤالاً عادياً، لم يتردد لحظة في الإجابة عليه، لكن مع الحرف الأخير من السؤال، يدرك أن الخطر قادم، وأن عليه أن يحترس.
..............

تسأله : شوفت فيلم "You've Got Mail"..
يخبرها أنه أحد أفلامه المفضلة.
.............
ما المانع في أن تصبح لديه حبيبتان وأكثر؟!.
حبيبته الأولى – رغم أنها تذكره بخطيبة توم هانكس في الفيلم – لكنها ليست على نفس الدرجة من السوء، كما أن علاقته بها تخطت مرحلة الحب، هي الآن زوجته الحامل في شهورها الأخيرة، والتي أخبرها الدكتور بأن الجنبن طفل جميل، مكتمل النمو، وأنه يقترح عليها تسميته "مروان".

هل لأن "أم مروان" انتفخت قليلاً، لأنها تحمل مروان بداخلها، وستظل منتفخة بعد خروج مروان من جسدها ستة أشهر على الأقل، هل الإنتفاخات المؤقتة تلك تسمح له بتكرار ما فعله هانكس وريان في فيلمه المفضل.

لكن، هل يحب هو "أم مروان" فعلاً، أم أن الأمر لا يتعدي مجرد إلتزام ومسؤلية تجاه الأطفال التي تقول الإعلانات أنهم عادة ما يكونون الضحية، وهو – كرجل – يرفض أن يكون له ضحايا من فئة الأطفال، يفضل الضحايا من النساء، أو الرجال الأقوياء.

يترك صديقته السائلة تثرثر قليلاً، يغمض عينيه، ويعود بذاكرته بضعة سنوات، ويتذكر حبيبته الأولى.

لا شيء يؤكد أنه يحبها، الصدفة هي الشيء الوحيد الذي جعلهما حبيبين، ومن ثم زوجين. لا شيء أكثر، لا شيء أقل. الخطوبة كأي خطوبة، والشبكة كذلك، الفرح في مكان مهجور، وبحضور الأصدقاء المقربين، والحمل بعد الزواج بشهور قليلة، و"صباح الفل يا ابو مروان.. يتربى في عزك يا أخويا".. و"بس".

يعود للصديقة السائلة، يسمع منها ما تقوله بشأن الفيلم الذي شاهدته هي مؤخراً، ينسجم مع كلامها حتى النهاية، يسمعه بمنتهى التركيز، لا مجال لدخول "أم مروان" إلى عقله للتشويش.

تقول له أنه – كأي زوج – لا ينعم بالسعادة في حياته، يخبرها بالعكس تماماً، "أنا سعيد جداً، لدي وظيفة جميلة، وزوجة اجمل، وطفل من الجنة، وسيارة حديثة، وموبايل بكاميرا، وصحة معقولة، وذكاء مقبول، وملابس كثيرة، وقدرة متوسطة على ممارسة الجنس ثلاث مرات أسبوعياً، ودراية ببواطن الأمور فيما يتعلق بالسياسة والإقتصاد وماشابه"..

يقول لها أنه "مبسوط" أكثر من أي بني آدم، لكنه لا يرفض المزيد من الإنبساط، يطلب منها إكمال حديثها، معتذراً عن المقاطعة.

تقول له ببساطة أنه كذاب، فهو – كأي رجل – لديه وظيفة جميلة يخشى من أن يفقدها في أي لحظة، وزوجة أجمل تدمن التدخل في خصوصياته، وطفل من الجنة يستهلك المزيد من البامبرز كل يوم، وسيارة حديثة عليها أقساط، وموبايل بكاميرا مودليه يعود إلى الوراء سنوات ثلاثة، وصحة معقولة تجعله ينهج كل ليلة بعد أن يصعد دورين فقط هما الطريق إلى شقته، وذكاء مقبول من المقربين منه فقط، وملابس كثيرة مكدسة في الرف العلوي من الدولاب، كلها ضيقة غير صالحة للإستخدام، وقدرة متوسطة على ممارسة الجنس أمام شاشة الكومبيوتر حيث أن حالة أم مروان لا تسمح لها بأكثر من مرة في الأسبوع، وكما انه أصبح يمل أردافها المتضخمة، ودراية ببواطن الأمور تجعله يعلم إن مفيش فايدة.

يبتسم ابتسامة المنهزم، يخبرها أنها إن عملت في مجال التسويق فستكون قادرة على بيع الموت بأغلى سعر، تكشر هي تكشيرة المنتصر، وتطلب منه عدم التهريج، والإنصات.

"أنت مش مبسوط للأسباب السابقة، وأنا أيضاً لأسباب تتعلق بخطيبي الثري الذي يعمل في فودافون ومشترك في نادي الصيد ونادي اليخت، وعنده عربية حديثة اشترتها له أمه كاش، ويغدق علي الهدايا لكنه في النهاية مخنث لا يجيد التعامل مع النساء مثلك أنت".

تطلب زجاجة مياة معدنية صغيرة، ثم تحدق في عينيك وتضيف "وقد شاهدت فيلم You've Got Mail وأدركت أنه الحل المثالي، رجل متزوج غير راضي، مع فتاة مخطوبة على وشك الزواج غير مبسوطة، والعديد من الرسائل كل صباح، تسأل عن إذا ما كنت نمت كويس أم لا، وإن كنت سعيد لان المطر يهبط على المدينة مع توقعات بثلوج".

يطلب هو الآخر زجاجة مياة معدنية صغيرة، تمد هي يدها بزجاجتها، وتطلب منه أن يشرب "مطرحها" حتى يصبح مجبراً على الجري وراءها.

يغمض عينيه مرة اخرى بعد أن يشرب، ويفكر هذه المرة في الفتاة الجالسة أمامه، هل كانت ستقول كلاماً مماثلاً منذ عامين عندما لم يكن مرتبطاً على الإطلاق؟.

إطلاااااااااااقاً، أبداً، عمرها ما كانت ستفعل، هي ليست مجنونة، هي فقط "قذرة"، أو لعلها "مادة بعض الشيء"، لعلها أي شيء، لكنها لم تصاب بالجنان بعد.

ما الجديد إذن، ما القيمة المضافة التي أضافها الزواج له، بحيث يصبح في نظر "snow white" رجل ناضج قادر على إعطاءها السعادة التي عجز موظف الـ"فودافون" عن منحها إياها.

سيسألها هذا السؤال في مرة أخرى، هي الآن جادة جداً، تنتظر منه إجابة..

أعاد التفكير في مقولته الأخيرة، إنها تصلح للعمل في مجال التسويق، فكر هو في حل تسويقي يكسب فيه الوقت ولا يخسر الموقف، طلب مهلة للتفكير.

إنها المرة الأولى ربما التي يطلب فيها رجل من فتاة تبيع له الحب التفكير، لماذا يفكر، إنها تبيع له ما يحلم به في أحلامه السرية طوال الشهور الأخيرة من حمل أم مروان، ما الذي يحتاجه أكثر من ذلك، إيميل صباحي قصير، وإيميل آخر في منتصف اليوم وربما رسائل قصيرة في المساء، بالإضافة إلى مقابلات هامشية في كافية بعيد، وحضور حفلة عرض منتصف النهار في قاعات سينما جالاكسي مع طلاب الجامعة الثانوي.

إنه "مشروع السعادة"، إنها الفرصة التي لن تتكرر، إنه الـ"عرض" غير المتكرر، إنها الحالة التي سيحسدك عليها رجال الأرض والكواكب الأخرى، إنها الفعلة التي لن يحاسبك عليها مروان حين يصبح في سنك، إنها النصيحة التي ستمنحها انت إياه إن أطال الله في عمرك لتعيش حين يصبح هو زوج تحمل زوجته في الشهور الاخيرة، ستهديه نسخة من الفيلم، وتشاهده معه، ثم تدله على الطريق الصحيح، إنها الخيانة الإليكترونية التي هي ليست بخيانة، يذكر مرة قرأ لكاتب مغمور اسمه البراء أشرف على موقع إسلام اون لاين
مقالاً يصف ما يحدث له، اللعنة على كل شيء، كل هذا التفكير ينهش في عقله منذ أن فارقها، وكيف اقتنعت هذه الغبية بأنه بحاجة إلى التفكير، لن يفكر أصلاً، إنه موافق إلى الأبد، موافق على الدوام، موافق حتى النهاية، موافق و"خلاص".

يعود إلى المنزل، الليلة كأي ليلة، والطعام كأي طعام، والأحداث كأي احداث، لن تدرك أم مروان أن شيء ما حدث، وكيف تدرك، علاقته بها ليست رومانسية ولا روحانية بحيث تعرف ما به من نظرة عين كما تدعي، كل الزوجات كاذبات، لا توجد زوجة قريبة من زوجها بما فيه الكفاية، كل شيء في هذا البيت كئيب، اللعنة على الصدفة التي جعلته يصبح فجاة أبو مروان، اللعنة على كل من تزوجوا قبله ولم يخبروه بالحقيقة.

ينام، كأي نوم، يخشى أن تداهمه فتاة الـ"snow white" في أحلامه، لكن هذا لا يحدث، يستيقظ، تساله زوجته للمرة الأولى ربما عن إذا ما كان قد نام جيداً بالأمس، فجأة يكتشف أن هذه المرأة تحمل داخلها قدر من الرقة.

يضبط نفسه يلقب زوجته بالـ"مرأة" ويلقب الـ"snow white" بالـ"فتاة"، يسخر من وساخة عقله الذكوري، يسأل نفسه، ومن الذي حول أم مروان من فتاة إلى "إمرأة"، يفخر بذاته قليلاً، لكنه يلعن اليوم الذي تعلم فيه أن يصبح أنانياً، يقول أن نصيحة الذهاب للطبيب النفسي ليست سيئة، لكن هذه المرة للعلاج من الحب الزائد للنفس.

يدخل الحمام، يجلس في المكان المعتاد للجلوس، يفرغ ما داخل جسده من فضلات، ويطهر نفسه باستخدام الكوز، كم يكره هذا الكوز، كم يفضل إفراغ فضلاته في العمل حيث أن الحمام هناك به "شطافة" تضخ الماء بقوة تطهره في لحظات بدون أي تدخل من يديه، لماذا لا يملك شطافاً سليماً في بيته، يذكر أن أم مروان ذكرته بذلك أكثر من مرة، وأنه لم يفعل أي شيء بخصوص السباك الذي يجب أن يأتي ويصلح كل أجهزة الحمام مقابل مائة جنيه كاملة.

يخرج، يجد على الباب من الداخل "بورنس"، بلون لبني جميل، يجرب أن يقيسه، يجد على مقاسه بالضبط، يسال أم مروان، كيف استطاعت أخيراً الحصول على مقاسه، تخبره بأنها "تصرفت، وكل سنة وأنت طيب، زي النهاردة من 4 سنين كانت خطوبتنا".

يتأكد من أنها تعرف شيئاً عن الـ"snow white"، لكنها لا تعرفها، كما أنها إن علمت، فسيكون رد فعلها مختلفاً.. يفعل ما أعتاد فعله كل صباح، ويهرع إلى الشارع.

ساعة واحدة بعد ان يصل مكتبه، ويسمع رنين موبايله، يرد، يجدها هي، الـ"snow white" تتحدث، تسأله، "ها.. مردتش عليا في الـ offer بتاع إمبارح".. يقول أن لديه اجتماع مهم الآن، ويغلق الخط.

يسأل نفسه، ويسأله صديقه، ما الذي يمنعك إذن من التقدم خطوة للأمام، يقول "لاشئ"، يتمتم بكلمات غير مفهومة، يقول أشياء لا منطق لها، يسكت في النهاية، ويقرر عدم الرد على الهاتف أبداً.

هل يخشى – لا سمح الله – أن يقع في معصية؟، هل يخاف الله؟، يعلم أن مسالة الخوف من المعصية لا تشغل باله، كما أنه غير متأكد من ان حديثه الإليكتروني مع هذه الفتاة في امور تتعلق بإذا ما كان نام كويس، أو رأيه في هبوط المطر على المدينة يشكل أي "حرام".

لا علاقة للأمر بالخوف من العصيان، يتعلق إذن بالسيناريو الذي اختاره لنفسه منذ زمن، هو لا يحلم على الإطلاق بعلاقة ثنائية من هذا النوم، هو غير مستعد للتورط في علاقة تربطه بأنثى أخرى غير زوجته، هو لا يفضل أن يكون ظالماً لأم مروان التي أفقدها الكثير من بهجتها، وأعطاها الكثير من الكآبة والقلق والوزن الزائد بعد الولادة.

هو يحب أم مروان، هو يحترم الصدفة التي جمعته بها، هو فخور بأن زوجته لاحظت ضيقه ذلك الصباح فأرسلت في طلب السباك ليصلح الشطاف ودفعت مائة جنيه كاملة من مرتبها الشخصي.

تطارده الـ"snow white"، بدأ يحلم بها، بدأ يمارس الجنس معها في أحلامه، يمارس الجنس، لا الحب، الحب لأم مروان، والجنس لها، الحب للأرداف البدينة، والجنس للجيب المتدلية عن الركبة بقليل، الحب لفراش الزوجية، والجنس لقارعة الطريق.

..................

تخبره أم مروان هذا الصباح أنها شاهدت "You've Got Mail"، تسأله : شوفته؟

يخبرها أنه أحد أفلامه المفضلة.. تسأله : "أنا نزلته من النت وجبت ترجمته، تيجي نشوفه سوا؟"، لا تنتظر منه إجابة، تشبك يدها في يده، تعلو ضحكة من مروان، يغلق هاتفه، ويستعد لمشاهدة فيلمه المفضل.

خلال المشاهدة، يدرك أن الأمر أختلط عليه، وان زوجته لا تشبه خطيبه هانكس، هي في الحقيقة لديها خصر ميج ريان، وجزء من ابتسامتها، كما أنها أصغر كثيراً من ميج ريان، والأهم أنها تحبه، في حين أن ميج لا تفعل.
...............

الثلاثاء، أبريل 22، 2008

أعمل إيه أنا دلوقتي..؟؟

كطالب ثانوي يعرف عن نفسه أنه فاشل، جلس يخطط طويلاً لمستقبله، أمسك الورقة والقلم، اطفأ الأنوار وأضاء الأباجورة وكتب..

"نجاح في الثانوية العامة يا دوب.. 54 %، ومنها على معهد فني صناعي، سنتين بتفوق، وبعدها معادلة كلية الهندسة، وهناك، خمس سنين من الإنتحار، أطلع بعدهم مهندس كهربائي، وأشتغل في مصانع أوليمبك إليكتريك، بـ900 جنيه في الشهر، وأتجوز هند".

يطبق الورقة البيضاء بعناية، يخبأها تحت ورقة جورنال يستخدمها كمفرش لدرج مكتبه الصغير، ويصلي طويلاً، داعياً الله أن يمنحه النجاح في ثانوي، والدأب في المعهد، والتوفيق في الهندسة، وأن يعطل كل العرسان المتقدمين لـ"هند"، التي شارفت على الإنتهاء من دبلوم التجارة، وستذهب للعمل في مصانع "العربي" بـ"600" جنيه في الشهر.

هو يعرف أن الله كريم، وأنه سيعطيه ما طلب إذا أخلص النية في الدعاء، وركز في الصلاة قدر استطاعته.. سيغير نغمة موبايله من أغنية هيفاء الأخيرة إلى نشيد "يا مكة"، وسيمتنع عن الكلام مع هند في المساء مكتفياً بمكالمات صباحية سريعة وقصيرة.

يمر العام الأول من الثانوية، لم تمنعه نتيجته العالية من الاستمرار في الدعاء، أخبرته أمه أن أمامه فرصة ذهبية لدخول كلية تجارة جامعة جنوب الوادي، لكنه اهمل نصيحتها، وركز في الدعاء، "يا رب، المعهد يا رب"..

يمر العام الثاني، يعرف من البداية أن الفيزياء ستقتله، يضيف للدعاء فقرات خاصة بالفيزياء.. ويدخل الامتحانات مغتسلاً.. كأنه يودع الدنيا!.

يوم النتيجة، يصر على الذهاب للمدرسة بنفسه، يستوقفه رنين الهاتف، يتردد في الرد، لكنه يفعل، على الخط صوت يعرفه جيداً، مدير المدرسة، "مبروك يا ابني، أنت طلعت الأول".

بعد ساعات من الفرح، يدرك أن الطريق أمامه أصبح مفتوحاً للهندسة، ولهند أيضاً، سيوافق أبوها بالتأكيد حين يعلم أن العريس مهندس، ستفرح هند هي الأخرى، وبالتأكيد سيفرح هو.

يدخل غرفته.

يفتح الدرج.

يقرأ بعناية الخطة السابقة.

يدرك أنه استطاع اختصار فترة طويلة، وأن الحلم تحقق فجأة!.

يبتسم. يبكي. يقرر الصلاة.. يسجد.. يشكر الله بقوة، يسأله "أعمل إيه أنا دلوقتي..؟؟".

الأربعاء، أكتوبر 24، 2007

أبي يحب أمي.. (قصة غير حقيقة)


مر عام آخر..

واليوم، يكمل أبي وأمي عشرة أعوام كاملة على لقائهما الأخير.

أذكر ذلك اليوم جيداً، بكل تفاصيله، رغم أنني كنت لا زلت طفلاً صغيراً، لم يراوح مكانه بعد في الصف الرابع الإبتدائي بمدرسة خاصة جيدة، كانت تعرف في قريتنا بأنها مكان أبناء الأسر الأيسر حالاً.

لم تأخذ أمي في حقيبتها أي شيء، كانت فقط أختي الصغيرة على كتفها الأيمن، بينما أسدلت الكتف الأيسر في سلام، حيث كانت تعاني من ألم به يتلازم مع كل حركة، مع أن أبي قال أنه لم يلمسها في ذراعها أو يستخدم العنف، وأنا شخصياً، أصدق كلام أبي، وأصدق أيضاً كدمات أمي.

الذين حضروا إلى البيت في ذلك اليوم، لم يلحظوا أن أمي نسيت أن تلبس نقابها وسط كل هذا، ارتدت الخمار وحده، كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها أمي بهذا الشكل، ومن يومها، لم ترتدي هي النقاب أبداً، كما أني لم اسألها عن السبب في خلعه.

أكره نقاب أمي.. وسأخبركم بالأسباب..

سألت جدتي ذات مرة عن سبب ارتداء أمي – دون نساء العائلة – لهذا الشكل الغريب من الملابس، قالت جدتي أن "أمك حلوة"، لذلك فمن الأفضل ألا يراها الرجال الغرباء..

لكني – وقد كنت طفلاً لا يحسب على الرجال – كنت أحب رؤية وجه أمي في الشارع، ففي أحلامي البسيطة، كان مستقبلي يتلخص في كوني سأتخرج يوماً من الجامعة، وأتزوج فتاة يشبه وجهها وجه أمي، طويلة مثلها، رفيعة مثلها، بيضاء، بابتسامة ساحرة، وحنان جارف.

وكرهت نقاب أمي أيضاً بسبب "سوق الكشافة"، حيث كان من عادة مدرستي، أن تقيم سنوياً سوقاً خيرياً للكشافة، تباع فيه الملابس المستعملة، والأعمال الفنية اليدوية الرخيصة، وبصفتي من الأشبال فقد كنت أشارك، وكانت أمي تحضر بعد إلحاح مني ومن أخي الأصغر.

في المرة الأخيرة التي حضرت فيها أمي، مشيت وراءها طويلاً أحاول اللحاق بها لأناديها، رأيتها وسط الزحام، وحاولت مفاجأتها من الأمام بإلقاء نفسي في حضنها، وقد فعلت، لأكتشف أنها ليست أمي، وأنها والدة طفل آخر، أزعجه كثيراً أن يرتمي طفل غيره في حضن أمه، خاصة إن كان هذا الطفل يتمتع بوجه أبيض مستدير، وخدود محمرة.. واسمه مثل اسمي.

لهذا كرهت نقاب أمي، واستمتعت يوم رحيلها برؤية وجهها الأبيض وراء دموعها، وكانت تلك هي المرة الأولى.

رحلت أمي، وبقيت أنا وأخوتي برفقة أبي دون تفكير، فقد أخبرتنا أمنا بما سيحدث قبل ذلك، وبالدور المطلوب منا أداءه، قالت أنها سترحل قريباً، وأنها ستبدأ البحث عن شقة وعمل، وستأخذنا إلى هناك بأي طريقة، لكن علينا أن نحتمل الأيام التي سنقضيها مع أبي، حتى تنفذ هي وعدها.

وقد فعلنا، رفضنا المغادرة رغم أن خالنا أمرنا بركوب السيارة، صعدنا إلى أعلى، وجلسنا في انتظار عودة أبينا الذي كان لا يزال يواجه خالي بصوت عالي أخافنا نحن الصغار.

كانت تلك هي المرة الأخيرة التي يتقابل فيها الزوجان، على الأقل في وجودي، بعد ذلك أخبرتني جدتي لأبي أنهما تقابلا مرة أخرى في مكتب المحامي الذي أنهى إجراءات الطلاق.

كانت هذه هي الطلقة الثالثة، وهو ما جعل كل شيء يمر بهدوء، اتفقا على التفاصيل، وأصبح واضحاً أن كلاهما قد اتخذ قراره النهائي بالإنفصال.

والحقيقة أن الإنفصال لم يكن القرار الوحيد، فبعد رحيل أمي شهد منزلنا بضعة تغييرات هامة، دخل التليفزيون الملون إلى المنزل بعد قدوم جدتي للعيش معنا، فقد اشترطت الجدة وجود التليفزيون، وهو ما كان يرفضه أبي قبل ذلك، مكتفياً بوجود واحد أبيض وأسود قديم أحضرته أمي من بيت جدي بعد أن اشترت جدتي واحداً جديداً.

دخلت بعض قطع الأثاث الجديدة، وبضعة سجاجيد، تم شراء غسالة أتوماتيك حديثة، وأخذت أمي القديمة، وبات مفهوماً أن البيت يستعد لقدوم إمرأة أخرى، غير أمي وجدتي، وهو ما تأخر قليلاً حتى تمت إجراءات الطلاق وحتى انتهت الإمتحانات، وحتى وجد أبي عروسه الجديدة، بديلة أمي.

بعد ثلاثة أشهر سمح لنا أبي برؤية أمنا، ذهبنا للقاءها في بيت جدتي، و فهمنا منذ اللحظة الأولى في اللقاء أن وعودها السابقة مستحيلة التحقق، وأنها في حاجة إلى من يحلها من وعدها، وقد فعلنا دون كلام، فلم نسألها عن شيء، واكتفينا بسماعها تخبرنا بأخبارها وبشوقها البالغ لنا.

كانت الدراسة على وشك البداية، وذهبت للمدرسة في أول يوم لأجد أمي هناك، عملت أمي مدرسة في القسم المخصص للبنات بمدرستي، وهو ما وفر لي لقاء يومي بها، وحلوى كثيرة تسببت في زيادة وزني بشكل ملحوظ، والأهم، أنني اكتسبت قدرات تمثيلية لا حدود لها.

تخيل نفسك طفل في الصف الخامس، تنتظر منك أمك أن تخبرك بفظاعة الحياة مع أبيك، وينتظر منك أبيك أن تخبره بمدى بشاعة الإحساس الذي تشعر به وأنت تقابل أمك يومياً في "الفسحة".. وفوق كل ذلك، فإنك لا تسلم من تعليقات الزملاء الذين يلقبونك بـ"ابن الميس".

لكن تعليقات الزملاء هي الشيء الأسهل، فأنت تعلم أن الله يعاقبك على ما كنت تفعله مع "محمد أشرف" زميلك في 2/6، فهو الآخر "ابن ميس شريفة"، وقد ساهمت أنت ومن معك في تكدير صفو حياتك بتعليقاتكم الجارحة.

مر العام الأول، واختارت أمي أن ترحل عن المدرسة إلى مدرسة أخرى، منهية عذابي في الكذب بالنهار والليل، ومتفهمة ضيقي البالغ من الإجابة على سؤال واحد مرتين في اليوم هو "عملت إيه مع أبوك / أمك؟؟"، ثم الرغبة القوية عند الطرفين في أن أخبرهما بما قاله الطرف الآخر عنه.

تزوجت أمي بعد ذلك، وانشغلت أن في أمور مراهقتي، لكن الباقي في ذاكرتي حتى الآن هو صورة "سناء" الموظفة في شركة أبي، والتي سألتني يوماً ما "مش تحاول تصلح بينهم؟؟"، فأخبرتها أنا بما أعتقده "بابا وماما بيحبوا بعض.. بيحبوا بعض جداً.. بس هما لسه محبوش الحياة مع بعض في بيت واحد"..

أفكر الآن أن رأيي كان صحيحاً، فأبي يحب أمي، وأمي تحبه.. ولدي أدلة..

تزوجت أمي بعد ذلك من رجل آخر، وتطلقت بسرعة، كذلك تزوج أبي ونجح زواجه، إلا أنني ضبطته مرات عديدة، ينادي زوجته الحالية باسم أمي.

أما أمي، فلازالت ممتنعة عن الحديث، عن كل ما له علاقة بالماضي، مكتفية بإعطائنا – أنا وأخوتي - بعض الإرشادات والنصائح في حال وقوع مشاكل بيننا وبين أبينا، إنها حقة سيدة غريبة، تحتفظ بالكثير داخلها، وإن كتبته يوماً، فسيبكي القلم والأوراق، وسنبكي جميعاً.

أبي يعلن كل يوم كراهيته لأمي، يقسم على ذلك، ورغم أنه امتنع بالفعل عن قول ذلك منذ عامين تقريباً، إلا أنه لا يزال يرد كل مصائب الدنيا إليها، معتقداً أنها السبب في كل الأشياء السيئة التي حدثت في حياته.

لكن أبي يخطأ أحياناً أمامي، معتقداً أنني مازلت صغيراً، فيقول ما معناه أن أمي ليست السبب، وأن انفصاله عنها كان السبب الحقيقي.

قال لي أبي دوماً أن اليوم سيأتي لأحاسبه فيه على كل ما حدث، وأني سأحاسب أمي كذلك، لكني لم أفعل، فبالنسبة لي، أبي وأمي مراهقين، لا يزالان متوقفان عند المرة الأولى التي التقيا فيها في الجامعة، لا يدركان الفرق بين لقاؤهما الأول وبين لقاؤهما الأخير.

كل ما حدث أن الخلاف هذه المرة كان حاداًً، بحيث استمر عشر سنوات، وربما يستمر لعشر سنوات أخرى، أو حتى إلى نهاية العمر، لكن الحقيقة، التي أعرفها أنا جيداً.. أن أبي يحب أمي.. وأمي أيضاً تحبه.. وأنا أحبهما سوياً..

الخميس، أكتوبر 11، 2007

بيان ختامي


الآن، والآن فقط، توصلت لاختياري الأخير..

فبعد دراستي للقائمة الطويلة التي أعطاها لي أحدهم عند بداية الطريق، مكتوب أعلاها "اختار طريقة موتك بنفسك"، في حين تراصت أشكال وأصناف الموت من السطر الأول حتى الأخير، مع تدخل بسيط بخط اليد يعلن عن عدم توافر أشكال معينة من الموت.. حيث نفذت بعض الأصناف، كما أن أصناف أخرى يلزمها وقت تطويل لتصبح جاهزة.. والإدارة ترفض انتظار الزبائن كل هذا الوقت.. فالزبون المنتظر.. قنبلة موقوتة.. دائماً على حق!

أخذت القائمة وجلست على جانب الطريق، بعد خطوات بسيطة مشيتها من البوابة، حيث أعطاني أحدهم القائمة إياها..

بحثت عن أي ركن مظلل للجلوس، لكن أنفي لاحظ رائحة رطوبة قوية، ربما مصدرها تلك الشجرة، فضلت الحرارة عن الرطوبة، وجلست بعيداً عن الشجرة، ونظرت بلامبالاة.. إلى القائمة.

"أنت تختار".. ياله من شعار، الآن، وقبل بداية السير، علي أن اختار الشكل الذي أرغب في ان تنتهي به رحلتي..

سأختار بالتأكيد.. أفكر في اختيار أي رقم، بدون تفكير، رمية زهر، على أن اجتهد في سيري بعد ذلك لتعديل اختياري، لكني لا أفضل المراهنة على موتي، فأمثالي يبحثون عن ميتة كريمة، يعوضون بها ما فقدوه من كرم في حياتهم.

تتداخل الأشكال والأصناف أمام عيني، أشعر أنها أكثر مما ينبغي، فأقرر التفكير بشكل عكسي، سأستبعد الأصناف التي لا أرغب فيها حالياً، مع العلم أن ما لا أرغب فيه الآن، لن أرغب فيه مجدداً.

إذن، أنا لا أريد أن أموت مقتولاً، أفضل أن أصطحب جسدي كله معي إلى الحياة الأخرى، لا أريد أن أشغل بالي وأضيع وقتي بالبحث عن أصبع مفقود أو عضو مبتور، أو عين سقطت بفعل رصاصة خرجت من بندقية قناص قرر الرد على موبايله وهو يصوب تجاهي من أعلى البمنى، فانحرفت الرصاصة لتصيب عيني بدلاً من قلبي، وهي في الحالتين.. مميتة..

لكني لا أفضل ذلك، إذا كنت عشت عمري أحاول الاهتمام بجسدي كلما أمكن، فإني لن أسمح بإهانته الآن، ثم.. ما هو المقابل..

أن تموت مقتولاً، بفعل فاعل، فهذا يعني أنك فعلت شيئاً يستحق، أنك اتخذت قراراً مهماً، أو فعلت شيئاً خطيراً، وهي أشياء، لم أفعلها في حياتي بعد.. ولن أفعلها.

فليستمتع المقتولون بموتهم، هم السابقون، وليلحق بهم غيري، سأبحث عن ميتة أخرى.

إذن، لا أريد أيضاً أن أموت على فراشي، هو موت بلا ثمن، كما أن مقدماته تجعله بطيئاً.. كما أني في الحقيقة.. أكره أن يراقبني أحدهم بينما ألفظ أنفاسي الأخيرة، محاولاً تلقيني الشهادة بطريقة لا تؤذني.. متناسياً أن ما من شيء يؤذي الميت لحظة موته.. لا شيء مؤذي أكثر من الموت..

أنا أكره الذين يراقبوني وأنا لا زلت على قيد الحياة، في البيت، في الشارع، في عربات المترو، في الكنبة الخلفية داخل الميكروباص، في المقهى، كل هؤلاء لا أحبهم.. لكني أعبر عن كرهي لهم بالطريقة التي يستحقونها.. أراقبهم..

نعود للقائمة.. وقد استثنيت الآن شكلين من أشكال الموت.. القتل السريع.. والفراش البطيء.. ما رأيي إذن في الموت أثناء العمل؟؟.. أجلس على مكتبي.. أنهمك في العمل.. وأتوقف فجأة.. بلا حراك.. قد يستمر الأمر دقيقة أو اثنتين.. لكن كل شيء ينتهي بسرعة..

أوووف، أراهم الآن، زملائي، يلتفون بسرعة من حولي، يحاولون أن يفعلوا شيئاً ما، هم في الحقيقة يحاولون أن يبدون وكأنهم يحاولون، لأنهم ببساطة، ينشغلون أكثر بالفرجة، أرحل، ويأتي أحدهم بجريدة قومية كبيرة، ويغطي جسدي متمتماً بجمل نصف مفهومة "لا إله إلا الله".. "سبحانه".. "اتعظوا".. "هادم اللذات".. ليتحول موتي إلى درس وعبرة وعظة وقصة يلقيها أحدهم في ليلة حزينة بين أصحابه.. شكراً، لا تناسبني هذه الطريقة..


ليس أفضل إذن من الموت أثناء عرض فيلم أجنبي شاهدته من قبل عشر مرات، وبينما أتناول الفيشار أو السوداني، في ليلة باردة، أمدد ظهري على الكنبة، وأمد قدمي على المنضدة القماشية، تنحشر الحبة في حلقي، وأرحل سريعاً قبل أن يتمكن أحد سكان المنزل من اسعافي..

لكن زوجتي ستبكي كثيراً، ليس لأنها تحبني أكثر مما أتوقع، فقط لأن رحيل أحدهم (أياً كان) بهذه الطريقة، سيجبر الجميع على البكاء.. وأنا.. لا أحب البكاء بكل تفاصيله.. خاصة لو كان هذا الذي يبكي.. شخص آخر غيري.

ثم أني لا أفضل الموت التليفزيوني بكل أشكاله، بحيث لا يستغل موتي في النهاية كفقرة إعلانية لقناة ما، أياً كانت، دينية أو إباحية، لا فارق هنا بين "الناس".. و"سبيس تون".

قاربت القائمة على الانتهاء، اسبتعدت بضعة أشكال دون تفكير، لعلهم وضعوا اختيارات مثل "النحر على يد تنظيم القاعدة"، و"الانتحار بالكهرباء"، و"الغرق متعمداً" لمجرد صناعة قائمة مزدحمة.. لكن في الحقيقة.. لا أحد يفضل مثل هذه الطرق.

توقفت قليلاً عند "الإعدام"، وسرت في جسدي رعشة ملائمة، لا اسوأ من أن تترك الدنيا كدجاجة فاسدة غير صالحة للاستخدام الآدمي، لا اسوأ من انتظارك بعض الوقت حتى ينطق القاضي بالحكم، وانتظارك وقت آخر حتى يقرر موعد التنفيذ، ثم اجبارك على ارتداء الكيس القماشي الأسود، وملئ اذنك بحيثيات الحكم، وكأن من المهم عندهم أن تعرف.. لماذا أعدموك.

لا اسوأ من أن يحرمك أحدهم من متعة النظر إلى المكان الذي تريده وقتما يحين وقت الرحيل.. أنا شخصياً سأنظر إلى أعلى.. إلى السماء.. إلى سقف حجرتي.. إلى سطح عربة المترو.. إلى أي مكان عالي.. فعند الموت.. تصبح الأشياء من حولك ليست ذات أهمية.. وينحصر تفكيرك في.. الخطوة التالية.

سأختار إذن.. لكن طريقتي التي أرغبها ليست مذكورة.. سأكتب في خانة "أخرى تذكر".. سأقول "حين تحين الساعة.. فأفضل أن يأتيني أحدهم بملامح هادئة، وابتسامة جميلة، ليعطيني ورقتي.. ويمهلني دقيقة أحضر فيها شنطتي.. وحين اسأله (وكأني لا أعلم) عن وجهتنا.. يقول هو بهدوء : خمس دقائق.. ثم تعود"..