الأربعاء، مايو 11، 2011

عن سمعان الكلام

تظن ماما أن علينا أن نسمع الكلام، وهي محقة.

يعني، عدد الذين سمعوا الكلام ولم يصابوا بضرر، أكبر من عدد الذين لم يسمعوا الكلام فواجهتهم بعض المطبات السخيفة.
وبحسبة منطقية، فإن كلام "ماما" يبدو معقولاً، بشكل عام أنا أصدق أمي في ظنونها.. أو أجبر نفسي على التصديق.

ذات مرة، ذهب "عبادة" لشراء "الفينو" من سوبر ماركت وحيد في قريتنا كان اسمه "ماني"، وأنا لا أعرف سر التسمية، كان "ماني" بجوار محل بقالة اسمه "أم مريم"، وهي سيدة مسيحية فاضلة كانت تبيع اللانشون والبيض والجبن، والأشياء التي كانت أمي ترسلنا لشراءها في المساء.

يحكون عن "أم مريم" أنها واجهت بعض السخافات بسبب ديانتها، تقول النكتة أن أحدهم ذهب إلى المحل يسألها : "عندك عيش؟"، فردت بتلقاءية أعرفها جيداً : "في كايزر"، فرد السائل بحدة : "حتى العيش نصرتوه"، وكان أهل قريتنا يتعاملون مع كل ما هو منطوق بغير العربية باعتباره منتج نصراني يستحق المواجهة.

وقد قضيت طفولتي أحلم بمقابلة "مريم"، كان اسمها يوحي بأنها مختلفة، يكفي أنها الفتاة المسيحية الوحيدة التي علمت بوجودها خلال طفولتي، وأقول علمت بوجودها لأني لم أراها ولو مرة واحدة، كانت "أم مريم" رغم كل شيء، سيدة قروية ترفض أن يلعب الصبية مع بنتها، وكنت أنا أيضاً – وبرغم كل شيء – أمتنع عن اللعب في الشوارع مع أولاد وبنات القرية.

ذهب "عبادة" لشراء "الفينو" من عند "ماني"، وقد تأخر قليلاً.. إذا قابلت "عبادة" ذات يوم فستعرف عنه عادة التأخر قليلاً أو كثيراً بحسب ما يحدد هو المدة التي يرغب في تركك تنتظره بها. هذه عادة أخي التي لم يرثها مني، أفضل من ناحيتي الإلتزام بالمواعيد وترك القلق يقتلني بهدوء.

ثم لما تأخر "عبادة"، قالت أمي أنها تظن أن ابنها الأوسط ليس بخير، وأن عليها أن تدفع ببكرها إلى الشارع المظلم، للبحث عن الفتى الذي تأخر، وكان ترتيبي الأول، وكان لقبي "البكري"، وكانت أمي تفضل أن تناديني وهي غاضبة بلقب موزون على اسمي، ولأن مجلس العائلة اتفق على تسمتي "براء"، اختارت أمي أن تحول بيني وبين المصائب التي أكون على وشك ارتكابها بصرخة تحمل اسم "خراء".

هذا لا ينفي أن "عبادة" كان "هبابة"، والحقيقة أن عادة تحويل الأسماء الأصلية إلى شتائم على ذات وزنها لم تكن "ماما" تمارسها وحدها، زملاء الفصل كانت لديهم شتائم معروفة تلاءم أسمائهم.

نزلت، وقلبي تملأه الثقة من أن "عبادة" ليس بخير فعلاً، "ماما" قالت ذلك، وليس لـ"ماما" أية مصلحة في قول ما هو ليس حقيقياً.
في محل مجاور لـ"ماني"، رأيت "عبادة" يشاهد من هم أكبر سناً منه ومني يلعبون "البيلياردو"، كانت هذه هي المرة الأولى التي نشاهد فيها اللعبة، سرقنا الوقت في الفرجة، وظنت "ماما" أني أيضاً لست بخير، لكن أخانا الذي هو أصغر لم يكن في سن تسمح له بالنزول للبحث عن أخويه، ولأني فهمت بمرور الوقت فلسفة أخي الخاصة – واسمه حمزة – فإني أعتقد أنه لو كان في مقدوره أن يعبر عن وجهة نظره لـ"ماما" التي تشعر بالقلق لقال لها "في داهية"، ودخل يشاهد حلقة "هرقليز" الجديدة على القناة الثانية.

على كل حال، لم يستمر الوضع كثيراً، مشينا أنا و"عبادة" في طريق العودة للمنزل نحاول تفسير ما رأيناه في صالة البيلياردو، وكانت وجهة نظرنا أن قريتنا تنهار على يد تحالف رأس المال الذي يجمع "ماني" الذي سمح للشباب باللعب، و"أم مريم" التي تبيع الـ"كايزر"، وأمي التي لا تفعل ما هو أكثر من القلق، والاعتقاد بأن علينا أن نسمع الكلام..

الاثنين، أبريل 11، 2011

عن الإنسان الذي لا يبكي

يوجد نشيد إسلامي يبدأ بسؤال صعب جداً هو: يا أيها الإنسان هل تبكي لما أبكاني؟؟.. والحقيقة أنه نشيد كئيب، تزداد جرعة الحزن فيه بزيادة كل كلمة جديدة، حيث يمضي المنشد سائلاً الإنسان : أرأيت ماذا قد حصل للعالم الحيران؟، اليأس يعبث بالأمل، ويهز كل كياني.

في جامع الرحمن، الذي يقع أمام منزلنا مباشرة في "كرداسة"، كنت، والأطفال من "أشبال الإخوان" نغني هذه الأبيات صباح كل جمعة، ضمن طقس يسمى بـ"مدرسة الجمعة"، حيث نستيقظ مبكراً، ونذهب إلى المسجد لإنشاد الأناشيد ولعب "البينج بونج" وقول أذكار الصباح والهتاف بأن "الله أكبر ولله الحمد".


والحقيقة، أني كنت فخوراً بهذا الطقس، والحقيقة أيضاً، أني لازلت فخوراً بنسبة كبيرة، كانت مدرسة الجمعة مناسبة سعيدة للأشبال بشكل عام، وكان نشيد "الإنسان الذي لا يبكي" كما كنت أسميه، يكسب الأجواء طابعاً سحرياً، كنت أتخيلنا جنوداً في معركة التحرير (دون أن أدري أية بلاد سنحرر، ومن أي شيء سنحررها). وكنت أتصور أن الجنود الذين يقاتلون الأعداء فعلاً، يقضون أوقات فراغهم وهم ينشدون مثلنا نحن أشبال المسجد نشيد الإنسان الذي لا يبكي.

بالنسبة للأطفال، فإن كافة الأشياء التي تشعرهم بأنهم مختلفين، أو أكثر أهمية من أقرانهم، هي أشياء جيدة جميلة تصنع السعادة، وقد نجحت مدرسة الجمعة، والأناشيد كلها في صنع هذا، كانت لدينا أناشيد أخرى، مثل "أن تدخلني ربي الجنة هذا أقصى ما أتمنى وتهب لي الدرجات العليا يا ذا المنة.. يا رب"، وقد كانت علاقتي طيبة بهذا النشيد أيضاً، خاصة الجزء الذي يذكر الدرجات العليا، والتي كان خيالي يتوقف عند تصورها الدرجات التي نحصل عليها في المدرسة، في العلوم والحساب وغيرها من المواد، دون أن أتصور مطلقاً فكرة أن الجنة بها درجات وأننا ندعو الله أن يضعنا في درجة عالية بها.

أيضا نشيد "ناداك الإسلام فأقبل، يا ابن الإسلام لتسمعه" ولا أذكر من باقي النشيد إلا جملة ختامية تقول "يريدك أن تأتي معه"، وهذا نشيد لم أحبه، لأني لم أفهمه، وكان هناك حواراً يدور بين شخص هو "الإسلام"، وطفل هو "ابن الإسلام" حول حال العالم وأحوال المسلمين.

كانت كل معلوماتي عن العالم تتلخص في أن الناس تقتل في كل مكان، والناس كلهم مسلمين إلى أن يثبت العكس، حكى لنا الأستاذ قصة في مدرسة الجمعة، عن التتار الذين دخلوا إلى البلاد، (لم يقل وقتها من هم التتار، ولا ذكر اسم البلاد)، وقتلوا كل من فيها، حتى أن رجل تتاري خرج من بيته فوجد رجل من أهل البلد، فقال له قف مكانك، وضع رأسك على هذا الحجر، وسأدخل إلى بيتي لأحضر السيف وأقتلك، وهو ما حدث فعلاً، حيث لم يملك المسلم الضعيف وقتها إلا تنفيذ الأوامر، وتم قتله والحمد لله.

بالطبع لم يذكر المدرس العظة التي يجب أن نفهمها من القصة، وحتى إن ذكرها، فما تبقى من الجلسة في ذاكرتي هو القصة، والآن، أجد أن العظة الحقيقية من قصة كهذه هي ألا نحكي للأطفال ما يمكن أن يصدقوه بسهولة، وما يمكن أن يكتشفوا بمرور الوقت كذبه بذات السهولة.

في بعض الأوقات، أضبط نفسي متلبساً بغناء نشيد الإنسان الذي لا يبكي، وحين أفعل ذلك، أمنح عقلي بعض الوقت للتفكير
..

كوكو يختار الحرية

كعادة الذين يتزوجون حديثاً، كانت لدي ميولاً رومانسية، ويمكن ملاحظة هذا خلال عدة مواقف..

اقترحت على خطيبتي أن نشتري حوضاً لأسماك الزينة، وقد وافقت.

اقترحت أيضاً، حين ذهبنا للمول الضخم لشراء بعض الأدوات الكهربائية الناقصة، ولم تكفي نقودنا لشراء كل شيء، اقترحت أن نشتري دبدوباً كبيراً، نضعه في الصالة ونلعب به، وقد وافقت.

وأضفت اقتراحاً أخيراً، بخصوص شراء قفص صغير للعصافير، يضم عصفوراً وعصفورة، والحقيقة أن خطيبتي رفضت الأمر، وبشدة، وكان علي أن أبدأ حياتي الزوجية محروماً من العصافير، ومكتفياً بحوض الأسماك والدبدوب الضخم.

ثم.. ثم ماذا؟

يبدو أن أخي الأصغر لاحظ هو الآخر ظهور بعض أعراض الرومانسية علي، وعليه.. فقد أهداني في زيارته الأولى لمنزلي المتواضع، قفص عصافير صغير، يضم عصفوراً وعصفورة، وكانت مفاجأة سارة.

بمرور الوقت، اخترت مع زوجتي اسمين للعصفور والعصفورة، ربما كان "كوكو" و"كوكة"، بالطبع كانت إحدى صفات المتزوجين حديثاً، تلك المسحة السخيفة من الدلع التي تغلف كل شيء.

في البلكونة قمت بدق مسمار صلب طوله عشرة سنتيمترات، وثبت القفص من خلاله، وقد اعتدت أن آخر ما أفعله في يومي قبل الدخول إلى السرير، هو سحب القفص من الخارج، وبالتالي فإن أول ما أفعله صباحاً هو إعادة القفص إلى مكانه.

في الصباح، كنت أطمئن على منسوب المياة في الزجاجة الصغيرة التي تشرب العصافير منها، وكنت أضيف قدر من الحبوب إلى صندوق الطعام. وكنت أستغرق دقيقة أو دقيقتين في مراقبة القفص، وألاحظ مجدداً أني على وشك التحول إلى زوج رومانسي يحب العصافير ويلعب بالدبدوب ويراقب أسماك الزينة.

كانت أحلامي بخصوص العصافير محدودة، فقط تمنيت أن ينجب "كوكو" و"كوكة" عصفور صغير، لكن حقيقة أني لست متأكداً من أن "كوكو" ينتمي لذكور العصافير، وأن "كوكة" عصفورة أنثى، جعلت القفص يضمهما سوياً، حتى نهاية القصة.

ما الذي جعل للقصة نهاية؟

كنت أفكر أحياناً أن "كوكو" و"كوكة" قررا الاستغناء عن الحرية مقابل الحب، لا مانع من التضحية بالطيران الحر في سماء الله الواسعة، طالما أن قفصاً صغيراً يجمعني مع من أحب.

أنا وحبيبي فقط، في قفص، نلعب، نلهو، نأكل، نشرب، نمارس الجنس، نتكاثر، نغني، نزقزق، نفعل ما نشاء، مملكتنا الخاصة، لنا وحدنا، فقط هي مغلقة، لكن، لا شيء يهم.

كنت أراه اختياراً منطقياً، الحب مقابل الحرية، والحرية مقابل الحب، عدل كافي، لا يحسدون أحد، ولا يحسدهم أحد. والحمد لله رب العالمين.

لم أكن رومانسياً كفاية لأعرف أن "كوكو" و"كوكة" ليسا على ما يرام. لذلك، فقد صدمت.

خرجت إلى البلكونة ليلاً لأجذب القفص إلى الداخل، لاحظت فتحة صغيرة في الصندوق الخشبي الملحق بالقفص، لقد هرب "كوكو" بعد أن نجح في إزاحة الباب من الداخل. وقد ترك "كوكة" وحدها.

هرب "كوكو" وترك وراءه الأسئلة التالية..
كيف يمكن التضحية بحبيبة في قفص، والمغامرة بالطيران في عالم لم يكن مسموحاً بتجربته من قبل؟
هل كان الهارب على علاقة بحبيبة أخرى خارج القفص، جملت له متعة الطيران في الفضاء المفتوح، وجعلته يزهد في الحب الدائم، المحبوس؟
أي شجاعة تلك كانت تفتقدها الحبيبة، لتترك رفيقها يغادر وحده؟، هل خافت؟، هل غضبت؟، هل عجزت هي الأخرى عن تخيل الحرية؟، أم أن البقاء وحيدة، والبكاء على الحب الذي كان، هو خيارها الأفضل؟.
هل كانت حرية الهارب مضمونة؟، وهل كان البقاء مريحاً للدرجة؟
هل افتقد الهارب – بعد ذلك – سكون القفص؟، وهل ندمت الحبيبة على قرارها؟
كيف وجد الهارب قوت يومه؟، وكيف أكلت الحبيبة وحدها وجبتها – الهنيئة – الأولى؟

..
"كوكو" اختار الحرية، "كوكة" اختارت البقاء.

الجمعة، مارس 11، 2011

كمنص

كنا مائة شبل.

والشبل هو الفتى الصغير، الذي لم يصبح رجلاً بعد، كما أنه أكبر من أن يكون مجرد طفل.

وللمصادفة، كان "شبل" هو لقب الواحد منا، في الإخوان، وفي الكشافة أيضاً. أشبال الدعوة في الأولى، وأشبال البحرية في الثانية.. وهذا الشبل من ذاك الأسد.

ذلك أن الإخوان تمكنوا، بعد ترتيب طويل، من السيطرة على نشاط الكشافة في واحد من مراكز شباب القاهرة، وقد كنا مائة شبل، نذهب إلى هناك أربعة أيام أسبوعياً، نلعب، ونعسكر، ونتعلم بعض الأنشطة الكشفية، ونحفظ القرآن، ونغني أناشيد الكشافة، ونبتكر المشاهد التمثيلية الطريفة خلال فقرات السمر.

وكان معنا شبل، اسمه كمال نصر، ثم لأن الاسم لا يلاءم شبل صغير، اقترح أحدنا أن ندمج الاسم الأول بالثاني، فيصبح اسمه "كمنص"، وقد كان.

في البداية، كان كمنص ينزعج بسبب اسمه الجديد، لكن سرعان ما اكتسب اسماً ثالثاً. وهنا تبدأ الحكاية..

كان كمنص بارعاً في التقاط الكرة بيديه بكافة الطرق الممكنة، مهارته هذه أهلته ليصبح حارس مرمى فريق الأشبال. دون تفكير، كان كمنص يذهب إلى المرمى فور تشكيل الفريق، وكان حظ زملاءه سعيداً، ذلك أن العادة جرت أن يتبادل الفريق كله مهمة حراسة المرمى واحد بعد آخر، لكن في تشكيل يضم كمنص، لن يتفوق أحد عليه في صد الكرات، كما أن كمنص نفسه كان يمارس مهمته برضا وسعادة نادرين، كان فخوراً كونه أفضل من يحرس المرمى. وكنا أيضاً.

بمرور الوقت، تمنى كمنص أن يصبح حارساً مشهوراً، ضمتنا الخيمة ليلة، وقبل النوم، حكى لنا عن حلمه بأن يصبح مثل "شمايكل".

وبالنسبة لي، كان شمايكل شخص مجهول تماماً، عرفت من حكايات كمنص عنه، أنه أفضل حارس مرمى في العالم، وأنه يلعب في مانشيستر يونايتد (وفهمت بعد فترة أن هذا نادي رياضي) رغم أنه دنماركي الجنسية.

مرة، جاء كمنص سعيداً جداً، مع بداية فقرة كرة القدم دخل إلى مخزن يضم أدوات التخييم، وخرج وهو يرتدي ملابس رياضية كاملة، كتلك التي يرتديها اللاعبين المحترفين.. وقد اختار لنفسه بالطبع، زي حارس المرمى، بدلة سوداء عليها بعض الألوان، وقفازين، وجوارب طويلة تصل إلى ركبتيه، وبصعوبة قرأت الاسم المكتوب على خلفية قميصه الجديد "شمايكل".

إذن، كمنص، سيصبح شمايكل، دون أن يتخلى عن اسمه الأول.. مع اكتشاف الانترنت، بدأ كمنص يجمع معلومات عن أسطورة حراس المرمى، وكان يحكي لنا في الخيمة ما تيسر من سيرة ابن الدنمارك البار، بيتر شمايكل. وكنا سعداء بأية حكايات تأتي من الإنترنت..

ثم..

جمعنا القائد ذات يوم، فيما بين صلاتي المغرب والعشاء. كنا قبل الصلاة قد صعدنا إلى أعلى البناية التي تضم المخزن، وجلسنا في دائرة، قرأنا بعض الآيات، ثم تلونا ورد الرابطة.. نزلنا للصلاة في المخزن، وجلسنا نسند ظهورنا إلى الجدران، كانت الأجواء إيمانية، وكان الغروب قبلها جميلاً، شعرنا جميعاً أننا – بلا شك – سندخل إلى الجنة معاً.

تحدث القائد، وقد كان عميلاً مزدوجاً في الحقيقة، هو قائد الكشافة من ناحية، ومسئول هذه الوحدة الإخوانية من جهة أخرى.. تحدث عن الأخلاق، عن كل الأخلاق الجيدة التي خلقها الله، طلب منا بهدوء أن نكون أخلاقيين طوال الوقت، لأن الأخلاق جيدة، وقد صدقناه.. ووعدناه بأن نفعل ما أراد.

بعد صلاة العشاء، أكلنا سوياً بعض السوداني، وقد حاولت أن ألعب مع كمنص، فمسكت حبة سوداني، وقررت أن ألقيها تجاهه لأرى قدرته على إمساكها.. ناديته.. "كمنص.. شمايكل".. وصوبت تجاهه ورميت، وقد أمسكها ببراعة لازلت أحسده عليها.

هنا، اكتشفت أن القائد يراقب الحدث، لم يغضبه أني ألقيت على كمنص السوداني، ولا أن أجواء الإيمان تحولت إلى ساحة للعب، فقط سأل كمنص : "هل تحب اسم شمايكل؟". ببراءة طفولية لم أعرفها عنه هز كمنز رأسه موافقاً.

تحدث الأخ القائد قليلاً، معلقاً على حب كمنص لشمايكل، حذرنا أولاً من استخدام أسماء ساخرة حين ننادي بعضنا، وذكر آية من القرآن تقول "ولا تنابذوا بالألقاب"، ثم قال حديثاً معناه، أن من أحب شخصاً سيحشر معه يوم القيامة، وبما أن شمايكل كافر دنماركي، فعلى كمنص أن يتوقف عن حبه وتسمية نفسه باسمه. عسى ألا يحشر معه في النار.

تأثر كمنص كثيراً، لعله شعر أن التزامه يقف أمام حلمه، أو أن حلمه غير أخلاقي، وربما يكون حرام.. لم يحدثني كمنص عن المسألة.. لكن ما لاحظته، وقد كانت هذه أيامي الأخيرة في مركز الشباب.. أن كمنص امتنع عن الحضور بزي شمايكل، لكنه احتفظ بالقفازين، حيث أنه لا أسماء مكتوبة عليهما..

لا أعرف نهاية لقصة كمنص، فقد انقطعت علاقتي به، كما انقطعت بكل الأشبال بعد مغادرتي مركز الشباب الذي لم يعد يلاءم طبيعتي الميالة إلى الخمول.

ما أعرفه أن كمنص لم يصبح شمايكل، وأنه لا يزال اسمه كمنص.. فحين نهانا القائد عن التنابذ، كان يأمرنا بالامتناع عن قول "شمايكل"، لكن "كمنص" بالنسبة له كانت الاسم الحقيقي لـ"كمال نصر"، حتى أنه كان يناديه كما نناديه.. كمنص.

الاثنين، فبراير 28، 2011

البـ(د)ين

حالياً بالمكتبات ومحطات البنزين

الأحد، يناير 16، 2011

عن الـدعوة..



هذه الصورة توجد في مكان ما بالإسكندرية، ويبدو أن كاتبها رجل صالح، يمارس الدعوة بين البشر الفاسدين، ويقول لهم حكمة تاريخية نصها أن "الحب مش عيب، الحب الحرام هو اللي عيب"، في كسر واضح للمسافة الفاصلة بين العيب والحرام.. والحب.

السؤال في أبسط أشكاله وأعقدها هو : إذا كان المجتمع ينقسم إلى نوعين من البشر، "صالح" و"فاسد"، لماذا نلاحظ اهتمام الصالحين بنشر صلاحهم والدعوة له، فيما نكاد لا نلحظ أي اهتمام بنشر فساد الفاسدين؟.

الأمر أكثر صعوبة من بساطة تكوين السؤل، لكنه – وكالعادة – يحتاج إلى شرح بسيط للمصطلحات التي وردت في السؤال أعلاه.

الصالح هو الصالح، مقيم الصلاة، ملتزم الأخلاق الحميدة، يمتنع عن الاقتراب من المحرمات، ويحفظ للمجتمع الجميل حقه في ألا يخدش حياءه، أو يثير داخله فتنة أو ثورة أو ضجيج. الصالح بشكل عام هو الشخص الهادئ المسالم، الذي يتمنى الخير للجميع، ويثق في "صلاحية" أفكاره حتى أنه قرر أن يهب عمره للناس / يدعوهم للإلتزام بالصلاح الجميل.

والفاسد هو الفاسد، لا يصلي لا يصوم، يشرب الخمر مثلاً، يصاحب البنات الفاسدات، ويتحرر من قيد الدين والأخلاق والعرف الاجتماعي، يرى نفسه حراً في فعل أي شيء، حتى وإن كان يعلم في قراره نفسه أن بعض أفعاله لن ترضي البعض عنه.

يجب هنا، وقبل الدخول في تفاصيل أعمق، أن نؤكد أن هناك صالح، وهناك مصلح، وأن هناك فاسد وهناك مفسد، وبالطبع فإن الفرق واضح بين الفعل وتفعله. على كل حال، نحن في هذه المساحة نتحدث عن الصالحين والفاسدين، فقط لا غير.

وبالملاحظات البسيطة التي جمعها صاحب السطور، يمكن القول أن الصالحين يهتمون لأمر كل الناس، كل البشر، أنا أنت والآخرين، ويشعرون بالتزام ما غير مبرر تجاهنا، عليهم أن يجعلونا مثلهم، نصلي صلاتهم، نقول كلامهم، ونفعل أفعالهم، وننادي جميعاً بصلاح المجتمع، وبانتشار الأخلاق في كل مكان، والله أكبر ولله الحمد.

الأمر الأكثر غرابة، أنه عادة لا توجد روابط وثقية بين الصالح وبين الأشخاص الذين يدعوهم للصلاح. الأمثلة كثيرة، ما الذي يفسر مثلاً رسائل تملأ صناديق البريد الإليكترونية كلها تنادي بالتسبيح والإستغفار وإقامة الصلاة وتنهي عن الخمر والزنا والاستماع للموسيقى. المصادر مجهولة، لكنها بالطبع يقف وراءها صالح ما يرى أن هناك واجب عليه أن ينشر الصلاح هنا وهناك، حتى بين الذين لا يعرفهم أصلاً.

من جهة أخرى، وبمزيد من الملاحظة، نرى أنه لم ترد أيه رسائل تتحدث عن متعة العلاقات الجنسية مثلاً، أو تدعو إلى تجربة طعم الـ"تكيلا" المر، أو اللذة اللانهائية التي قد يحصل عليها الواحد عند خلط الـ"فودكا" بعصير البرتقال الطبيعي.

يمكنك أن ترى على الجدران في الشوارع "قم إلى الصلاة"، لكن من الصعب أن تقرأ "الحشيش مزاجه عال".

صاحب تجربة الفساد (التي عادة ما تكون فردية) لا يرى أن هناك حاجة لنشر دعوة تحث الآخرين على تكرار التجربة، ليس لأنها سيئة، بل لأن الفاسدين لا يهتمون.

أما أصحاب التجارب الصالحة، فهناك دائماً هذا الاهتمام غير المبرر، بأن على المجتمع كله أن يصلي، وعلى الجماعة أن تصبح أكبر وأكبر، وأن الأخلاق والصلاح الجماعي هو الحل الناجع الوحيد لكافة مشاكل الأمة والمجتمع.

الغريب، أنه بمزيد من الملاحظة والتطبيق، سنجد مثلاً أن أقرب الأقربين للصالحين هم فاسدين بشكل واضح، تابع مثلاً في دائرة علاقاتك أبناء أقرب منتمي لجماعة الإخوان المسلمين أو السلف (وهذا مجرد مثال)، أو لاحظ تدني أخلاق شقيق صديقك الملتزم الذي يكافح كل يوم لجذبك إلى الصلاة، هذه طبعاً مجرد أمثلة عامة واسعة.. لكنها تدل في جانب من جوانبها، أن أحدهم جعل الصالحين يفهمون أن الدعوة تصبح أفضل مع الغرباء، وأن الذين يجلسون في البيت ليسوا على ذات الدرجة من الأهمية.

ما الذي يحدث بمرور الوقت؟، وما الذي حدث بالفعل؟..

ما حدث أن كل صالح تحول إلى مصلح بشكل تلقائي، وخرج ينادي في الناس بالأخلاق الحميدة، وكله ثقة أنه على حق، وأنه يفعل الصواب، وترك وراءه أقرب أقرباءه، يفسدون في هدوء، وملأ العالم ضجيجاً حول أهمية أن نكون أناس محترمين.. وبالطبع، فإن المجتمع غير مجبر على سمع كلامه، لأنه لا يعرفه أصلاً، وإن كان ترك له الفرصة للكتابة على صخور الشواطئ والجدران، أن الصلاة خير من النوم، وأن الله أكبر ولله الحمد، وكأن الأمر في حاجة إلى تأكيد.

ما الذي حول الصلاح "الفردي"، إلى "إصلاح جماعي"، وما الحد الفاصل بين الـ"صالح"، والـ"مصلح"، وهل كل صالح مصلح، وهل هناك درجة ما من الصلاح يجب أن يتحلى بها الصالح قبل تحوله إلى مصلح، أعتقد أنه من غير اللائق أن يبدأ أحدهم "الدعوة" وقد ركع بالكاد ركعتين وصام يومين في رمضان الماضي.

ثم، إن كان الصلاح الديني هو أمر بين "العبد وربه"، ألا تشكل "الجماعة الإصلاحية" نوعاً من انخفاض في درجة الصلاح الفردي داخل كل صالح، بحيث أنه يتكل على الصلاح العام، وينسى صلاحه الشخصي ومسؤليته الشخصية تجاه مجتمعه الأكثر صغراً.

ثم، قبل خمسين عاماً، كان هناك مجتمع جميل، فيه الصالحون عاديون تماماً، يصلون الفروض، ويكتفون بتربية أبناءهم لأن التربية مسؤليتهم الوحيدة، كان لدينا في النهاية مجتمع أكثر نجاحاً، وأكثر صلاحاً، الآن، لم يعد لدى الصالح وقت لقضاؤه في المنزل، الدعوة بانتظاره، والإسلام هو الحل.

ثم، الهيئات والمؤسسات الإصلاحية، الأزهر مثلاً، الجامعة، أي مكان آخر، هل يستفيد من انتشار المصلحين، فبعد أن كان الأزهر يحتكر الدور الإصلاحي، أصبح الآن من حق أي صاحب لحية خفيفة أن يقول أي شيء طالما أنه يدعو المجتمع للصلاح، ألا يمكن أن نقول ببساطة، أن انتشار الإصلاح غير المنظم ينتقص من مكانة المكان الذي كان بحقه وحده أن ينادي بالإصلاح كونه الأكثر علماً وخبرة وتاريخاً وقداسة؟.

الفاسد، ولأنه غير واثق في أهمية ما يفعل في هذه الدنيا، فقد آثر أن يمضي في فساده صامتاً، وألا يدعو أحد، وأن يترك الصالح في حاله، عسى أن يتركه أيضاً، وكفى الله الجميع شر القتال.

أخيراً، وهذا سؤال هامشي جداً، ما الذي جعل الصالح متأكداً من صلاحية صلاحه، وما الذي جعل الفاسد متردداً في أن فساده غير صالح؟.

ثم، ألا يجوز أن يكون صالح الصالح فاسد لمجتمع ما، وأن يصبح فاسد الفاسد صالح لمجتمع آخر؟.

إنها قصة طويلة، نكتفي لختامها بحكمة قالها والد أحد الأصدقاء، وهو مربي فاضل من هؤلاء الصالحين الذين اكتفوا بإصلاح بيوتهم والعناية بأخلاق ابناءهم – فقط لا غير.

قال، تعقيباً على موضوع مشابه.. "الزيادات.. بيتعملها حاجات", والله أعلم.