الأربعاء، يونيو 20، 2007

الزهايمر بسبب بغداد
نازك الملائكة.. رائدة الشعر الحر ترحل في صمت


رغم أن اسمها يبدو مألوفا للوهلة الأولى، إلا أن المعلومات المتوافرة عنها عند شباب هذا العصر قليلة جدا، وهو أمر طبيعي لشاعرة ذاع صيتها في خمسينات وستينات القرن الماضي، وأمد الله برحمته في عمرها حتى بلغت الـ85، وحتى أذن الله لها بالرحيل عن عالمنا يوم الأربعاء الموافق 20 من يوليو/حزيران 2007.

إنها نازك الملائكة، الشاعرة العراقية المعروفة، والتي لا يزال البعض يعتقد أنها مصرية الجنسية، رغم أن اسمها غريب على الأسماء المصرية المألوفة، ربما لأنها قضت سنوات عمرها الأخيرة في القاهرة، وربما لأن قصيدتها الأشهر كانت عن مصر.

الزواج الذي جمع بين الشاعرة العراقية أم نزار والأستاذ الأديب صادق الملائكة، كانت نتيجته طفلة ولدت في الـ23 من أغسطس 1923، وبعناية اتفق الوالدان على اختيار اسم يلائم الفتاة الجميلة فكان اسمها "نازك"، وكان من قدر الطفلة الصغيرة أن تنشأ في بيت به شاعران هما أبوها وأمها، وهو ما جعل احترافها للشعر أمرا طبيعيا بعد ذلك.

بل إن من حسن حظها أن اسم "الملائكة" التي تحمله عائلتها ليس هو الاسم الحقيقي لها، بل هو صفة أطلقها الجيران على سكان المنزل الهادئين، والذين كادوا أن يصبحوا ملائكة لشدة أدبهم وأخلاقهم وحسن تعاملهم مع من حولهم.

ومع بلوغها الثانية عشرة، كانت بداياتها في الشعر كهواية، إلا أن تلك الهواية سرعان ما تحولت إلى احتراف بعد ذلك، وهو احتراف من نوع خاص، حيث بدأت عام 1947 نشر قصيدتها "الكوليرا"، والتي تناولت وباء الكوليرا بمصر في ذلك الوقت.

ولم تكن أهمية القصيدة أنها تأتي من شاعرة تقيم في بغداد عن أزمة صحية تحدث في القاهرة، بل لأنها خرجت عن الشكل العمودي المألوف للشعر القديم، وكتبت ما أطلقت عليه "الشعر الحر".

لكن جدلا واسعا دار بعد ذلك عن مؤسس اتجاه الشعر الحر، ففيما ترى نازك أنها أول من كتبت القصيدة بهذا الشكل، إلا أن الشاعر الكبير بدر شاكر السياب كان يعتبر نفسه أول من فعل ذلك في قصيدته الشهيرة "هل كان حبا؟" التي كتبها في العام نفسه،

ورغم الجدل الذي لم ينته حول هذه القضية، إلا أن النقاد اعتبروا نازك من المجددين في الشعر، وإن لم تكن الأولى، وهو أمر يصعب إثباته وقتها.

ومع بداية اتجاهها ناحية الشعر الحر أدركت نازك أهمية الموسيقى بالنسبة لشعرها، وهو ما دفعها للدراسة في كلية الفنون الجميلة قسم الموسيقى، بعد أن أنهت دراستها في دار المعلمين وتخرجت فيها وهي بنت العشرين.

وفي عام تخرجها في الفنون الجميلة أنهت نازك ديوانها الأول، ليخرج إلى النور وهو يحمل اسم "عاشقة الليل" عام 1947، ومع أصداء هذا الديوان وجدت أنها في حاجة لاستغلال نجاحها لتطبع بعدها بعامين "شظايا ورماد" 1949، ثم تنقطع فترة طويلة تنجز خلالها بعض القصائد لفترة قاربت الـ10 سنوات لتطبع ديوانها الثالث "قرارة الموجة" 1957 وعشر سنوات أخرى لتطبع "شجرة القمر" 1968 ثم "يغير ألوانه البحر" عام 1970، إلى أن صدر ديوانها الأخير "الصلاة والثورة" عام 1978.

ويبدو أن تقلب أحوال العراق كان له أثر كبير على مسيرة نازك الشعرية، ففي عام 1958 كتبت قصيدة تمدح فيها ثورة عبد الكريم قاسم، لكن مع بقاء الثورة ووصول قادتها إلى الحكم، رأت نازك تغير مبادئ الثوار التي آمنت بها، فما كان منها إلا أن رحلت عن العراق خوفا من الفتنة وأقامت لفترة في بيروت، ثم عادت من جديد إلى مسقط رأسها بعد هدوء الحياة السياسية.

لكن قبل عودتها إلى العراق حصلت على شهادة الماجستير في الأدب المقارن من جامعة وسكونسن في أمريكا عام 1959 وعينت أستاذة في جامعة بغداد وجامعة البصرة ثم جامعة الكويت.

ومع غياب الأضواء عن الشعر في تلك الفترة، اختارت نازك الانزواء، إلى أن غادرت العراق للمرة الثانية في تاريخ غير معروف لتقيم في القاهرة في مكان سري حيث لم يعرف بيتها إلا الأقارب والأصدقاء المقربون.

وبطبيعة الحال بدأ المرض يهاجمها مع تقدم عمرها، حيث رقدت في القاهرة ترى وتشاهد وطنها العراق يمر بمحن عديدة، إلا أنها فضلت الصمت عن الكلام، كما فضلت القصة القصيرة عن الشعر، حيث كتبت في 1997 كتابها الأخير، والذي صدم القراء حيث قرءوا القصة القصيرة للمرة الأولى للشاعرة المعروفة بالشعر الحر، وذلك في كتاب يحمل اسم "الشمس التي وراء القمة".

ويبدو أن شمس نازك قررت الاختفاء وراء القمة، فمع تكريمها في القاهرة عام 1999 في دار الأوبرا المصرية بمناسبة مرور نصف قرن على انطلاق تيار الشعر الحر غابت نازك عن الحضور لظروف مرضها، وأنابت زوجها الدكتور عبد الهادي محبوبة وابنها البراق لاستلامها.

وفي فبراير 2007 ومع إعلان القاهرة عن تنظيم أول جائزة للشعر العربي توقع الجميع أن تكون الجائزة لنازك تكريما لها على مسيرتها، إلا أن إدارة المهرجان كانت تفضل أن تكرم شخصا يستيطع الصعود إلى المنصة، وهو ما حدث حيث ذهبت الجائزة إلى شاعر آخر يستحقها وهو محمود درويش.

هنا أصبح الحديث عن مرض نازك الملائكة ضروريا بين المهتمين بها، وبين تلامذتها في العواصم العربية، الأمر الذي يدفع عددا من المثقفين والأدباء في بغداد لإطلاق بيان يعبرون فيه عن أسفهم لتجاهل الحكومة لسيدة مثل نازك، وهو البيان الذي كانت له نتيجة تذكر، حيث استجاب رئيس الوزراء نوري المالكي لدعوات الرئيس جلال طالباني، وأمر بمتابعة الحال الصحية للشاعرة العراقية الكبيرة في القاهرة.

لكن نازك لم تكن بحاجة إلى توجيهات رئاسية، فأشد ما كان يؤلمها هو حال وطنها كما صرح ابنها د. براق، وهو ما أصابها بالزهايمر لتنسى معه بلدها التي كانت يوما منبرا للشعراء، عاشت فيه أحلى أيامها كما كتبت في كتبها القليلة.

وترحل نازك الملائكة بشكل هادئ، كما وصف الجيران عائلتها قبل أن تأتي هي إلى الدنيا، ولتخرج بيانات الحسرة عن المؤسسات الثقافية العربية، ولتعلن كل واحدة أنها كانت على وشك تكريم الشاعرة الكبيرة، لكن كالعادة تأتي التكريمات متأخرة، خصوصا للشعراء الذين يُشترط في تكريمهم شرط الوفاة.

هناك تعليق واحد:

الحلم العربي يقول...

معلومات كانت تنقصنا بحق عن الشاعرة الكبيرة التى رحلت في صمت كما قلت

شكرا