الوضع!
(1)
"مطاوع، حدثني عن الألفين وتسعة"..
قلتها وكان على وشك الخروج من الحمام. الباب مفتوح، وهو يقف بملابسه التي أتى بها من الشارع.
خلع فردة شرابه ويهم بخلع الأخرى، وسيلقي بها على ما أظن عندما يصل إلى باب الحمام، صانعاً من الشراب كرة قماشية.. ومصوباً تجاه صندوق بلاستيكي أخضر طلبت منه زوجته أن يضع به الملابس المتسخة التي يرغب في دخولها لدورة غسيل جديدة.
لاحظت أنني بمراقبتي له نسيت أن ألتقط حركة عادية يفعلها "مطاوع" كل مساء، فمع كل مرة يخلع فيها شرابه. يمسك الفردتين باهتمام. ويقربهما من أنفه.. ما الذي يتوقع مطاوع أن يجده في رائحة شراب يرتديه من الصباح إلى المساء؟.
لم يمر وقت طويل بين اللحظة التي ألقيت فيها سؤالي، وبين انتهاء "مطاوع" من تشمم رائحة شرابه الأبيض، هو يفضلها بيضاء أياً كان ما يلبسه..
توقعت أن أتلقى رداً.. لكنه أدار وجهه ناحيتي. وكانت يده وشرابه لا تزالا على مقربة من أنفه. وقال "نفسي أعرف ليه بحب أشم ريحة شرابي قبل ما أرميه في الغسيل"..
تجاوز باب الحمام، وضع يده على كتفي وبدأ يشرح نظريته.. قال أن هناك حركات عادية يفعلها بعض البشر دون مبرر. منها شم رائحة الشرابات، والنظر إلى فتحة المرحاض بعد القيام مباشرة وقبل الضغط على زر صندوق الصرف، والنظر باهتمام إلى طرف الصباع الذي خرج لتوه من فتحة الأنف محملاً ببعض المخاط. وتفحص ما خرج من الفم إلى المنديل بعد سعال قوي مصحوب ببلغم، وتأمل طرف الأنبوب البلاستيكي الأزرق الصغير ذو الأطراف القطنية، والذي يستخدم لتنظيف الأذن، والحملقة في المبولة أثناء التبول.. والتأكد من أن النظرة موجهة إلى المبولة، وليس إلى العضو، لا أحد يهتم بالنظر إلى عضوه أثناء التبول بل أثناء الانتصاب فقط.. لكن النظر للمبولة فعلاً أمر غريب..
"ولا إيه رأيك؟".. قالها مطاوع وقد أهمل الإجابة على سؤالي. وكنت على وشك الإصابة بنزلة برد، فعطست.. ووضعت يدي على أنفي.. وفور أن انتهيت.. فتحت كفي.. ونظرت.
(2)
"مطاوع، حدثني عن الألفين وتسعة"..
"حاجة وسخة".. قالها وهو يلقي بهاتفه المحمول على سطح مكتبه. كان واقفاً بجوار الكرسي، دخل الغرفة منذ دقائق، ويبدو أن إضاءة الشمس كانت جيدة بحيث قرر إجراء المكالمة بجوار الشباك.
وضع الهاتف على أذنه، وتابع بنظره حركة السيارات أسفل البناية. بدا وكأنه سينطلق في السباب فور أن يتلقى إجابة من الطرف الآخر. ويبدو أنه كان يتصل بشخص ما سعيد الحظ. بحيث لم يتلقى "مطاوع" أي رد. فألقى هاتفه. وردد "حاجة وسخة".
كانت الوقت الفاصل بين سؤالي وجملته لا يزال قصيراً بحيث توقعت أن أتلقى منه رداً. لكن يبدو أن عدم تلقيه هو على رد في اتصاله أزعجه بحيث تعكر مزاجه وارتسمت علامات الضيق على وجهه ونظر إلي.. أو بشكل أدق نظر إلى المكان الذي أجلس فيه، كانت نظرته واسعة بحيث اعتقدت أنه لا يراني أصلاً.
ثبت نظره لنصف دقيقة. ثم دس يده في درج جانب مكتبه، وأخرج علبة خشبية مستطيلة وطويلة. بها فتحات صغيرة ورسومات إسلامية على شكل مثلثات متداخلة. ويبدو أن أحد جوانبها يفتح باباً.
خمنت أنها علبة لحفظ المجوهرات أو الأقلام الغالية. لكنها كانت مبخرة، دس "مطاوع" يده الأخرى لأسفل لتعود إلى سطح المكتب وبها علبة ورقية كبيرة، صفراء، وعليها رقم 60 بحجم كبير، وكلمة "Lemon" ومليئة بأعواد البخور.. نظر جيداً لأطراف الأعواد، واختار عوداً بعناية. ثبته داخل المبخرة، وتراجع بكرسيه للخلف، بحيث يتمكن من فتح درج سحري في المكان الذي كانت تلتصق به بطنه. أخرج ولاعة صغيرة، وأشعل طرف العود. حمل المبخرة بيده وقربها من وجهه. شعر بسخونة اللهب. ثم قرر القضاء عليه بنفخة واحدة. أغلق باب المبخرة. وضعها جانباً وجلس يتأمل خيوط الدخان ترتفع لأعلى. نظر لي نفس النظرة الواسعة. ثم قال "حاجة وسخة فعلاً".. لكنها لم تكن إجابة على سؤالي.
(3)
"مطاوع، حدثني عن الألفين وتسعة"..
كنت بجواره في التاكسي الذي استقله من الدقي إلى أكتوبر. جلسنا متلاصقين. اثنين من البدناء أكبر من أن تتسع كنبة سيارة شاهين خلفية لهما. لكنها اتسعت.
في البداية ظن السائق أني أحدثه. لكن نظرة منه في المرآة لسماعات الموبايل في أذن "مطاوع" جعلته يفهم أن ثمة مكالمة تحدث.
وقد كانت هناك مكالمة بالفعل، لكن يبدو أن مطاوع لم يكترث لسؤالي بحيث لم يكلف نفسه عناء إخباري ولو بالإشارة أنه مشغول الآن في محادثة إحداهن. ما أعرفه عن مطاوع أنه يفضل أن تكون مكالماته بعد انتهاء أوقات العمل.. نسائية.
في هدوء القديسين والرهبان، نزع "مطاوع" فردة سماعة من أذنه اليسرى. وناولها لي. في دعوة صريحة للتنصت على ما يدور بينه وبين طرف آخر لا أعلمه.
"تمام تمام".. قالها لمحدثته في محاولة للتغطية على أية جلبة قد أصنعها أثناء تثبيت فردة السماعة في أذني. الآن أسمع أنا وهو.. وتتحدث هي.
"عارف.. ركوبك التاكسي ده دليل على أنانيتك.. أنت أناني قوي.. سايبني لوحدي استحمل كل حاجة.. أنا تعبت.. عارف بقالنا كام شهر على الحال ده. عارف؟ رد عليا، ولا ترد ليه... ما أنا الكلبة اللي بتهوهو.. أنا الجارية اللي أبوك جابهالك.. صح؟، طب عمرك فكرت فيا لحظة؟، عمرك تخيلت أنا تعبانة إزاي؟، عمرك؟ عمرك؟، عمرك؟.. يا أخي أنا ده عمري ما بشتكي.. عمري ما بخليك تاخد بالك من إني تعبانة وجبت آخري.. أنت أناني قوي.. سايبني لوحدي استحمل كل حاجة.. أنا تعبت"..
كان "مطاوع" يدير أصابعه في حركات دائرية رتيبة. فهمت أنه يلاحظ تكرارها لما قالته مرة أخرى.. ويبدو أنها لم تكن المرة الأولى التي تكرر فيها ما قالت.. فبهدوء دنياصوري قال "تمام تمام".. والتقط أنفاسه وأضاف "يلا سلام دلوقتي"..
كانت المدة الفاصلة بين سؤالي ونهاية المكالمة طويلة. بحيث لم أتوقع من "مطاوع" أي رد. والحقيقة أنه لم يخذلني.. سكت تماماً حتى وصلنا إلى ناصية الشارع الذي نسكن فيه. "أيوة هنا".. نزل ودفع.. ولم يكلف نفسه عناء إخباري بالسبب الذي قرر لأجله إنزالنا من التاكسي على مسافة بعيدة جداً عن المنزل.. قرر "مطاوع" أن يجرب المشي.. وأنا معه.. دون حتى أن يجيب على سؤالي.
(4)
"مطاوع، حدثني عن الألفين وتسعة"..
هل كان "مطاوع" يعلم أن اللمبة ستنفجر.
يقول "مطاوع" أن قلبه يحدثه بخصوص الأشياء المزعجة التي من الممكن أن تحدث له في الدقائق القادمة. لكنه لا ينصت عادة لقلبه. فهو صاحب قلب ثرثار، لا يتوقف عن الحديث، ثم أن الإستماع لقلب أمر قد يبدو مملاً، ويفتقد لكثير من الحكمة.. يقول "مطاوع" أنه لا يملك الوقت الممكن تضييعه في الأشياء التافهة.
يقول "مطاوع" أنه يشاهد الحوادث مرتين. مرة حين يتوقع حدوثها، ومرة بعدها بدقيقة حين تحدث بالفعل.
لم يقل "مطاوع" كل هذا حين انفجرت اللمبة. الحقيقة أن المرة الأخيرة التي سمعت فيها صوت "مطاوع" في حديث موجه إلي.. كانت منذ فترة طويلة، وبالتالي فإن ما يقوله "مطاوع" الآن، هو ما سبق أن قاله. وأنا كصديق أحاول أن أبدو مخلصاً، حفظت كلماته.. وصرت أرددها.
حين انفجرت اللمبة كانت الساعة قد جاوزت الثالثة صباحاً. وكنا سوياً على باب المطبخ. وشاهدت الشباك مفتوح بما يعني أن الهواء البارد مع السيراميك قد جعل من المطبخ ثلاجة كبيرة. وقليل من قوانين الفيزياء يؤكد أن لمبة تصلها الكهرباء في هذه الأجواء.. لابد أن تنفجر.
على ضوء شمعة لونها أحمر من تلك المخصصة للاحتفالات العاطفية، وقفت بجوار "مطاوع" أمام طاسة الزيت أراقب قطع البانية المجهزة سابقاً يتحول لونها في ميكانيكية من الأبيض للأصفر. غرز "مطاوع" الشوكة في بطن قطع البانية واحدة تلو الاخرى، وسحبها خارج الطاسة على طبق زجاجي فرش عليه منديل أبيض كبير من النوع الذي لا توجد به رائحة يمكن أن تختلط بالطعام فيفسد. رأيت المناديل تسحب الزيت.. ورأيت "مطاوع" يغرز الشوكة من جديد في بطن قطعة بانية ويقدمها لي قائلاً "بسم الله"..
(5)
حدثني عن الألفين وتسعة يا مطاوع.. حدثني من فضلك.
أعرف أنك لا تريد أن تفعل. أعلم أنك لم تعد تطيق حديثي. صوتي. وجودي.
لكنها الظروف يا مطاوع الظروف. وجودنا سوياً قدر. عقوبة. قرار شخص آخر غيرنا.
تذكر يا مطاوع الأيام الجميلة. حين كنا نشكر الله أننا لسنا شخصاً واحداً.
كنت تباهي الناس أنك لست وحدك. أنا معك. وكنت أفعل الأمر ذاته. كنت أخبرهم عنك... حدثني مطاوع. أخبرني مطاوع. ذهبت مع مطاوع.
لكنك هذه المرة ترغب في الذهاب وحدك يا رفيقي. في الرحيل وحدك. ماذا أفعل دونك يا مطاوع وماذا تفعل دوني.
حالي لا يسرك. ولا يسر أحد. حديثي صار مملاً وأسئلتي كثيرة. كنت تسألني سابقاً فأجيب. الآن أسأل أنا فلا تنطق. أحدثك فلا تكترث لوجودي. خصامنا مستحيل يا مطاوع. لا تفارقني. حاول. جرب. اضغط على نفسك وابقى قليلاً. لا.. ابقى كثيراً فالرحيل واحد. سواء كان الآن.. أو بعد سنة.. حدثني عن السنة يا مطاوع.. عن الألفين وتسعة التي كان حديثنا قبلها مسموحاً. عن الأصدقاء الذين ماتوا. والأحباب الذين انتحروا.
حدثني عن الذين قتلناهم سوياً. حدثني عن الموتى. عن الرسائل الإليكترونية الطويلة (عديمة القيمة). عن مواقع الإنترنت الإباحية. عن المدونات. حدثني عن الفيس بوك. والتويتر الذي لم نفهمه. حدثني عن الكلام. الكلام يا مطاوع.. تذكره؟.
يا مطاوع لا تحزن. الحزن لا يليق بك. والصمت كذلك. مايكل جاكسون مات. لكن ألبوماته تبيع أكثر الآن. أعلم أنك تحزن لرحيله. كنت تحبه. تتمنى أن تصبح في حجمه ووزنه.. لكنها البدانة يا صديقي صفتك وصفتي.. والبدناء في الجنة.. لأن تعذيبهم في النار سيبدو مزعجاً. ولأنهم تعذبوا في الدنيا بما يكفي..
أضحك يا مطاوع على سخافاتي.. كنت تضحك سابقاً. ما الذي حدث. ما الذي فقدته.. وما الذي فقدناه سوياً؟.
...........
أصبح شعر مطاوع طويلاً. خرج لتوه من الحمام. ويرتدي "بورنس" لبني، وبعض البخار يتصاعد من حوله. وقفنا أمام المرآة. وضع الـ"جيل" على شعره وفركه جيداً. تناثرت قطعة جيل أخضر على سطح المرآة وتركت بقعة لزجة.. لم يكترث لها مطاوع إطلاقاً. بل أكمل محاولاته للسيطرة على خصلات شعره الطويلة.
تأكدنا سوياً أن مظهره لم يعد جيداً كما كان في بداية العام. وسجلت وحدي ملاحظة أن "مطاوع" بحاجة إلى "بورنس" جديد. وعلبة جيل. والذهاب إلى الحلاق، وإصلاح نظارته المكسورة. وشراء ملابس شتوية تلاءم زيادة وزنه الأخيرة. والبقاء لفترة أطول في الحمام للاستمتاع بالدش الساخن. والاستيقاظ في وقت يسمح لجسده المترهل بالحصول على حقه من الراحة. والنوم على مرتبة جديدة غير تلك التي اشتراها لأنها طبية، فاكتشف أنها ستجبره على الذهاب إلى الطبيب للعلاج من آلام المفاصل والفقرات.
سجلت بالنيابة عن "مطاوع" أنه سيكون بحاجة للجلوس مع زوجته في بداية العام الجديد. في محاولة أخيرة لللتفاوض حول حق المواطن في ركوب التاكسي. وحول عدد المرات التي سيسمح لها بتكرار كلماتها في المكالمات الليلية التي تسبق وصوله إلى المنزل.
وسيكون من حظي أن يجد مطاوع وقتاً يسمح له بالثرثرة معي.. أو على الأقل للتأكد من فكرة أننا لا زلنا شخصاً واحداً.
كان مطاوع قد تركني أسجل ملاحظاتي. وخرج من الغرفة إلى الشارع مباشرة. تاركاً ورقة صفراء صغيرة ملتصقة على سطح المرآة بجوار بقعة الـ"جيل" الخضراء اللزجة..
"غبي.. أو لم تفهم بعد؟". ويبدو أنها إجابة على سؤالي.
هناك 6 تعليقات:
اتمنى ان السنة الجاية تبقى أحسن على مطاوع وبعدين انا مش فاهمة هو مضايق من مراته ليه مع ان الحياة وجهات نظر يعنى , عموما مدونة جميلة و قول لمطاوع ربنا معاه
--
كل عام وسيادتك بخير
غبى ومش هتفهم ابدا :)
كل سنه وانت طيب
وابقى سلم لى على مطاوع
الله. أنت دائماً تدهشني!
البوست ده أفشخ بوست قريتهولك
الظاهر إنك من ساعة ما بقيت مش أخلاقي، وقررت التمرد على العيال الاخلاقية
ومن ساعة ما بدأت تتحرر في كتاباتك وتكتب عن اللي كنت عايز تقوله بجد، بقيت مدهش فعلاً
أنا شايف البوست ده تتويج للمرحلة بعد الفنيك والكلام البلبوص
حقيقي بوست بديع
شكراً ليك
إرسال تعليق