مشروع قتل كرة
(1)
توجد حكايتان عن شارع الخلفاوي، الأولى حين ضربني حمزة في وجهي بقطعة صفيح (أخي الذي يصغرني بخمس أو ست أو سبع سنوات، لا أدري، ولا يهم). وسببت الضربة جرحاً غائراً تداوى بعد ذلك بغرزتين ليترك علامة دائمة أسفل فمي.. وهذه حكاية عادية وغير مهمة. وحين انفجرت كرتنا أسفل حافلة بيضاء كتب عليها بالأزرق شركة القاهرة للأدوية..
عندما اشترينا الكرة الجديدة، الغالية، الجيدة، الجميلة.. اجتمعت اسرتنا ثلاثة اجتماعات هامة. الأول، حين تم اتخاذ القرار.. سوف نشتري كرة، ماذا؟، من أين؟، لماذا؟.. والثاني حين جاءت الكرة.. من يلعب بها؟، أين يلعب بها؟، متى يلعب بها؟.. والثالث حينما فقدناها أسفل الحافلة البيضاء.. متى حدث هذا؟، كيف؟، ومن السبب؟..
وبالطبع، فإن كل ما سبق لم يكن يعنينا كأطفال نحب اصطياد ساعة العصاري ونحن نلعب الكرة في شارع الخلفاوي. الشارع السحري، الذي يضيق ويتسع حسب الحاجة، وحسب ساعة نزولك إليه.
في الأيام التي نزلنا فيها مبكراً، كيوم قتل كرتنا، كانت حافلات شركة الأدوية تحتل الشارع بأكمله، فالشركة في شارع الترعة البولاقية المزدحم، والشركة ضخمة، ضخمة جداً، لم نكن نعرف مكانها ولا حتى شكل البناية.. لكن هذا العدد من البشر لابد وأنه يعمل في شركة ضخمة للغاية.. ضخمة جداً.
نحضر أحجارنا الصغيرة، ونصنع مرمى هنا وآخر هناك، نرسم حدود الملعب بخيالنا، ونقسم عدد الأطفال أياً كان إلى فريقين، ونلعب.
لكل أطفال الخلفاوي في كرتنا نصيب. تجمعنا الكرة وتفرقنا نتائج المباريات، التي لا تنتهي غالباً إلا حين نعجز عن رؤية المرمى بسبب الظلام. أو تتدخل أم أثناء اللعب وتسحب أطفالها لسبب أو لآخر. فنعجز عن صنع فريقين بعدد قليل. نزيح الحجارة وقتها ونذهب لشراء الأيس كريم.
محمد كان آخر من لمس الكرة قبل أن تستقر أسفل القاهرة للأدوية، تدرك أنني أتحدث عن الحافلة.
مرت بسرعة لا تلاءم ضيق الشارع، لم ندركها، فاجتمعنا لنعلن أن حقنا سيعود، وانتظرنا الحافلة في اليوم التالي.
نزلنا إلى الشارع مبكراً، لنكتشف وقتها فقط، أن كل حافلات القاهرة للأدوية نسخ متطابقة، وعجزنا عن كشف الحافلة القاتلة. لكن بقايا الكرة كانت لا تزال بين أيدينا.
أحدنا، أنا أو عبادة، (أخي الذي يصغرني بعام أو نصف أو عامين، لا أدري ولا أهتم)، قررنا أن محمد هو المسئول عن قتل كرتنا. ولذا، فإنه وأحمد، شقيقه الذي يكبره أو يصغره بعامين أو ثلاثة، مطالبان بشراء كرة جديدة، تطابق كرتنا، خاصة وأن أسرتنا لم تكن على علم وقتها بجريمة قتل الكرة.
(2)
لمدة شهر أو شهرين، كنت أصعد ستة أدوار كاملة، وأطرق باب شقة أحمد ومحمد، ليطل وجه رجل طويل، فهمت وحدي أنه والدهما، وأطلب منه أن يشتري لنا كرة جديدة. وفي كل مرة كنت أحصل على ذات الإجابة، أول الشهر.
كانت معلوماتي عن الآباء وقتها محدودة، فقط كنت أشاهد "ونيس" قبل النزول إلى اللعب ساعة العصاري، وكنت أظن وقتها الآباء لطفاء وطيبون. وتشغلهم أمور أطفالهم. لم يخبرني عقلي وقتها أن الرجل الطويل يكذب أو يتهرب من دفع عشرة جنيهات كاملة، هي ثمن كرتنا المغدور بها والمأسوف عليها.
بمرور الوقت اكتشفت عدة أشياء، منها أن الكرة يمكن أن تعود للحياة مرة جديدة. اشترينا كرة بلاستيكية رخيصة، ووضعناها داخل الكرة الأولى، ثم أعدنا نفخها، فحصلنا على كرتنا مرة أخرى، لكنها هذه المرة أثقل وزناً (وهذا أمر جيد) وأكثر متانة.
ثم اكتشفت أن الأسرة التي تسمي طفلين فيها بأحمد ومحمد، هي أسرة لن يدفع ربها عشرة جنيهات ثمن كرة قتلها طفله.
ثم لاحظت أن محمد لا ذنب له في المسألة، وأننا قررنا، زوراً وكذباً، أن عليه دفع الجنيهات العشرة، فقط لأنه آخر من لمسها، وتركنا الجاني الأصلي، سائق الحافلة.
ثم اكتشفت، أن مركز شباب الساحل قريب وواسع ودخوله مجاني من خلال فتحة ضيقة في السور. ثم أن الحافلات لا تمر خلاله.
(3)
توجد في الحي الثاني بمدينة أكتوبر مدرسة اسمها "جيل 200"، تقول الأسطورة أن المطرب محمد فؤاد هو صاحبها ومديرها، وحين كنت طفلاً، كنت أصدق هذه الأساطير، فما الذي يمنعه من أن يكون كذلك، خاصة وأنه يظهر مع عدد كبير من الأطفال في أغنياته المصورة..
وحين كنت أمر أمامها، أفكر في مسألة الأسطورة، كانت كرة جميلة تموت تحت عجلات سيارتي. وكان طفل في مثل سني عندما قتلت كرتي يقف وعيونه تملأها الدموع، يفكر، بأي كرة سيلعب في الأيام القادمة.
بسرعة، غادرت مقعدي وقدمت ورقة مالية تحمل رقم عشرين، وانحنيت أمام الطفل أقدم اعتذاراتي. وقدمت عرضاً سخياً، بأنه يمكنني اصطحابه لأي مكان لشراء كرة جديدة، أو يأخذ النقود ويتصرف هو، وبذكاء طفل يعرف ثمن الكرات جيداً، سحب الورقة، وانتشل بقايا كرته من تحت العجلات، وانصرف يمسح دموعه.
هناك تعليق واحد:
نادرا ما تستحق تدوينة أن أطلق عليها تدوينة صباحية .. تدوينتك تستحق هذا اللقب بجدارة .
ده قصة قصيرة يا استاذ وحلوة كمان .
الجميل بجد أنك قريب من الطفل اللى جواك ، شايفه لسه وأظن أنك دايما بتتواصل معاه .
شكرا على الحالة اللى عملتها التدوينة
إرسال تعليق