للصغار فقط
عندما جلسنا على المقهى، مساء يوم 11 فبراير الماضي، وكانت الثورة قد حققت أهم نتائجها للتو، تحدثنا كثيراً عما يمكن أن يحدث لبلدنا، بالطبع لم يتخيل أحد وقتها أننا سنعود بعد شهور قليلة للجلوس على ذات المقهى للحديث مرة أخرى عما يجب أن نفعله لإنقاذ البلد.. هذا غير مهم بالمرة.. المهم، ما الذي قلناه في الجلسة الأولى..
أخبرت الأصدقاء وقتها أن الثورة ليست مجرد ثورة. وأن من الظلم والغباء الإعتقاد أننا نزلنا إلى الشوارع فقط لإجبار مبارك على الرحيل. بل لعل هذا أبسط ما في الثورة.. قالوا كيف؟، قلت التالي..
للثورة وجهان، الأول سياسي، ويطالب بانتقال للسلطة السياسية من نظام فاسد وقذر، إلى نظام سليم ونظيف. والثاني اجتماعي، يهدف إلى انتقال السلطة الإجتماعية من فئات عمرية أكبر، إلى شباب أصغر سناً.. وافقني الجميع وقتها، وذهبنا إلى بيوتنا يملأنا الفخر، وصرت أردد وجهة نظري في كل مكان.. حتى كان ما كان.
في الوجه الأول للثورة. ظهرت مشكلة أساسية وهي الفلول والمنتفعين وأصحاب المصالح، وصارت المصائب تأتي واحدة تلو الأخرى بسببهم. في اعتقادي أن هذا سهل ومقدور عليه، ربما لإيماني الشديد أن السلطة سيتم تسليمها عاجلاً أو آجلاً. وأن الثورة السياسية ستنتصر لأن الشعب يريد إسقاط النظام، ما استطاع إليه سبيلا..
في الوجه الثاني للثورة، بات الكبار في كل مكان، في المجلس العسكري، في الأحزاب، في جماعة الإخوان وتيار السلفيين، في الكنيسة، في برامج التليفزيون، وبالطبع في مجلس الوزراء.. في كل مكان يظهر الكبار ويتكلمون، والحق، أنهم يدعون أن الشباب بالفعل يجب أن يأخذ فرصته.. دعنا نعرف الكبار هنا بأنهم دائماً أكبر من الستين، وتسبق أسماءهم كلمات مثل، دكتور، مستشار، مشير، مفكر، وبعضهم نراهم على شاشات مكتوب أسفلها صفة الكبير أو البارز أو القدير.. ثم أما بعد.
الفلول، بين الكبار والصغار، هؤلاء الذين يقفون في المنتصف بين من هم فوق الستين، ومن هم تحت خط النضج. في الأربعينات والخمسينات. تراهم في كل مكان، على المقهى، في المسجد، في البرامج أيضاً لكنهم أوسع انتشاراً، وهم في الواقع يقولون كلاماً مزكرشاً. لا فائدة منه على الإطلاق.
هؤلاء، أصحاب مصلحة في أن تبقى السلطة الإجتماعية في يد الكبار وحدهم، وأن يتعطل وصول الشباب لها، حتى يمر الوقت، ويكبرون هم أيضاً، بحيث ينالون صفات الكبير والبارز.
فكر معي، كل أصحاب التصريحات المستفزة ينتمون إلى هذا السن، كل الذين يهرتلون (من الهرتلة) في حياتنا السياسية والإقتصادية والدينية في الأربعينات والخمسينات. صناع الكراهية والطائفية والعنصرية.. وكل الأشياء التي تنتهي بـ"ية" إلا الديموقراطية والحرية.. كلهم، بلا استثناء، ينتمون إلى معسكر أبناء الأربعين والخمسين، لماذا؟ علمي علمك.
اسأل نفسك، ما الذي كان يفعله ابن الأربعين في شبابه؟، في الواقع لا شيء. قضى هؤلاء شبابهم في بداية عهد مبارك، حيث أزهى عصور الاستقرار. بحيث تحول الاستقرار إلى خيارهم الوحيد في الحياة.
هل هي مصادفة أن شهداء الثورة كلهم شباب؟، طيب، هل هي مصادفة أن صفحة كلنا خالد سعيد يديرها شباب في عمر خالد سعيد الشاب أيضاً؟، هل هي مصادفة أن الذين قتلوا أمام ماسبيرو من شباب الأقباط، والذين اعتقلوا في أحداث السفارة من الشباب أيضاً؟. إذا كانت الثورة قامت لأن الشباب دعوا لها، وانتصرت لأن الشباب قتلوا فيها، واستمرت لأن الشباب يدافعون عنها، وستنتصر لأن الشباب مستمرين في مطالبهم.. فما الذي يفعله هؤلاء في حياتنا؟.
شباب الجيش يدفعون ثمن اختيارات مجلس عسكري من الكبار، وشباب الكنيسة يدفعون ثمن تصريحات غرائبية من بعض رجال الدين، وشباب الإخوان يدفعون سبب العقلية التي تدير مكتب ارشادهم، وشباب الأحزاب يدفعون ثمن خيانة رؤساء أحزابهم..
الغريب، أن اسوأ ما في المجلس العسكري ليس المشير الأكبر سناً، بل لواءات مثل بدين والفنجري والرويني، وهم للمصادفة من نفس الجيل المعطوب، والمرشد ليس مشكلة الإخوان، بل قيادات وسيطة مثل صبحي صالح وعصام العريان ومحمد مرسي، وهم من نفس الجيل. والبابا شنودة هو الأكبر سناً، لكن التحريض يصدر فقط من رجال الدين من نفس الجيل، حتى الشيخ السلفي الذي وقف في إمبابة يحرض على حرق الكنائس، لم يكن كهلاً عجوزاً، بل في بدايات الأربعينات. إذن فهذه ليست مصادفة.
بل وسبحان الله، لا سحر ولا شعوذة، كل أربعيني وخمسيني وستيني محترم في هذا البلد كان في شبابه أكثر احتراما.. عصام سلطان، حمدين صباحي، عبد المنعم أبو الفتوح، حازم صلاح أبو اسماعيل، وغيرهم، ورغم اختلافنا السياسي معهم، نراهم في النهاية أقرب إلى أفكار الشباب وطرحهم.. لكن، اسأل والدك عن رأيه في مرشحي الرئاسة، ليتلو عليك قائمة تبدأ بعمرو موسى، مروراً بسليم العوا والبرادعي.. وحين تسأله عن المرشحين الأصغر سناً يقول : لسه بدري.
وفي الواقع، فإنه وإن كان لازال الوقت مبكراً على مرشحي الرئاسة، فالأمر مختلف في الشوارع والأحزاب والمساجد والكنائس والنوادي والمصالح الحكومية وأجهزة الدولة والوزارات ومجلس الشعب والمحليات.. كل هذه الأماكن تحتاج لجرعة إنقاذ وطني شبابية. فقط، لأن الشباب قدموا السبت، وآن الأوان أن يحصلوا على الحد. حد أدنى للظهور، وحد أقصى للأعمار.
فكر، أننا نحب سلفيو كوستا الشباب، وشباب الإخوان أصحاب صفحات الفيس بوك الجريئة، وشباب الأقباط المشغولين بمسألة الوطن قدر انشغالهم بمسألة قباب الكنيسة، وشباب الأحزاب القادرين على سحب الثقة من قيادات أحزابهم إذا وقعت يوماً على بيان مشين، وشباب الموسيقى الذين انتجوا للثورة أغنيات مبهرة، وشباب المخرجين وشباب الضباط وشباب المهندسين والأطباء. حتى في الإعلام، التليفزيون المصري كبير ينتمي للكبار، يحتاج إلى ثورة، والقنوات الفضائية الخاصة مجرد فلول تقف في المسافة الفاصلة بين تليفزيون النظام، وبين وسائل إعلام شبابية كالإنترنت والفيس بوك الذي اخترعه شاب في العشرينات.
انتقال السلطة الإجتماعية لا يحتاج إلى نزول الشارع، هو فقط يحتاج إلى خروج من الإنترنت لكل بيت ومؤسسة، طيب، وما الذي يمكن أن نفعله في جيل الفلول؟؟.. سؤال مهم، من الممكن أن نخبرهم بهدوء وحكمة، أنه حظ أفضل في المرات القادمة.
الثورة انطلقت من الإنترنت الذي دخلنا عليه من هواتفنا عبر تقنية الثري جي، الجيل الثالث، فالجيل الأول ينتمي له مبارك وقد فسد، والجيل الثاني ينتمي له أبي وكان نائماً صباح يوم 25 يناير لأنه من الإخوان ولم يصدر بعد قرار بالنزول، والجيل الثالث هو أنت وأنا، خالد سعيد ومينا دنيال وسيد بلال ووائل غينم ونوارة وأسماء وإسراء. ومليون اسم آخر، اعتقدوا جميعاً أن الشارع للجميع، وأن "اللي ملهوش كبير يشتري له كبير". رغم أن "اللي ربى" ليس دائماً أفضل من "اللي اشترى".. وهذه ثورة للصغار فقط، إلى أن يثبت العكس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق