الخميس، مارس 25، 2010

موسيقى حزينة جداً..


كان هناك مطعم في شارع فيصل، اسمه "الزعيم"، وكنت أمر عليه مرتان أو ثلاثة في اليوم، ففي الشارع المجاور له، يوجد مركز للطباعة وفصل الألوان، ولدى أبي هواية يمارسها باستمرار، الاستغناء عن الهاتف وإرسال ابنه الأكبر للإطمئنان على سير العمل في مركز الطباعة، وبالتالي كلما وجدني أمامه في العمل يثبت نظره علي للحظة ثم يقول : "اذهب إلى مركز الطباعة".

ولأني لم أكن متأكداً من جدوى ذهابي وإيابي، ولأن استغراق الرحلة لوقت أطول يعني إهدار فرصة للقيام بذات الرحلة مرة جديدة، فإن عدت مبكراً، يراني أبي، ويركز نظره للحظة ثم يأمرني بالذهاب إلى مركز الطباعة، الذي جئت منه لتوي.. ولأني طفل فضولي أفضل الاستكشاف، كان لابد أن أدخل يوماً إلى مطعم "الزعيم".

تأكدت أن جيبي به ربع جنيه يكفي أجرة الرجوع للعمل، ثم أحصيت ما معي، وطلبت عدة ساندوتشات، فول، طعمية، بطاطس، شاورما، لا أذكر بالضبط، لكن الأكل كان سيئاً للغاية، أو أنها كانت الموسيقى.

مرت فترة طويلة بعد خروجي من المطعم وأنا أقول أني حزين، لأني سمعت موسيقى حزينة في مطعم "الزعيم" الموجود في شارع فيصل.

والموسيقى الحزينة في الواقع لم تكن إلا موسيقى تصويرية لمسلسل رأفت الهجان، وكانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها الموسيقى وحدها بعيداً عن المسلسل، كان ذلك منذ فترة بعيدة، كنت طفلاً. كانت مهاراتي في الحياة لا تتجاوز الذهاب إلى العمل مع أبي والإنتقال طوال النهار بين المكتب ومركز الطباعة.

لكنها – الموسيقى – لمست قلبي، وأخبرتني بأشياء كثيرة. منها أن الحياة لا تستحق أن نضيعها في أكل الساندوشات السيئة في مطعم "الزعيم". وأن الموسيقى حلال بشكل عام، وأن الحزن لطيف، وأن مراقبة الشارع من داخل ميكروباص في الطريق بين المكتب ومركز الطباعة أمر جميل، وأني سأكبر ذات يوم، وسأشتري سيارة، بها كاسيت جيد، يسمح لي بالاستماع لموسيقى رأفت الهجان، والشعور بالحزن.

في الشهور التي جاءت بعد دخولي وخروجي من مطعم "الزعيم"، عرفت المترو. ركبته في المرة الأولى وحدي، ويالها من تجربة. من "كرداسة" إلى "شبرا". رحلة لها في قلبي مكانة كتلك التي في قلب راهب تجاه رحلة العائلة المقدسة.

ركوب السلم الكهربائي، انتظار القطار، النظر لهؤلاء الذين أجبرتهم ظروفهم – مثلما أجبرني أبي – على ركوب المترو في السابعة صباح يوم جمعة شتوي بارد. كنت أتحسس غطاء رأسي الصوفي كل دقيقة، وأشعر أني غريب عن المكان والزمان، أو أني لا زلت نائماً.

النزول في محطة غير التي تريدها، فقط لأنك لاحظت أنها خالية من الناس، وأن بإمكانك الجلوس على الكرسي البلاستيكي الثابت، والإستماع للموسيقى الناعمة الحزينة القادمة من السماعات المثبتة في السقف.

لازلت أذكر اللحظة، جلست، شعرت ببرودة الكرسي، أرحت رأسي على الحائط، ودندنت بأغنية حديثة وقتها لمطرب مغمور ظهر في برنامجي المفضل "أسهر معانا" ووصف أغنيته بأنها "لمست مع الناس".. وكانت تقول في بدايتها "دايما دموع.. دموع.. دموع".. ولا أذكر شيء آخر منها.

في المترو، علمت أن داخلي "روح". وأن علي أن أعتني بها، وأتوقف عن سماع الموسيقى الحزينة لأنها تجعلني حزيناً. لكني تراجعت عن وجهة نظري في المرة التالية لركوبي المترو، كانت أغنية "اخترناك" تصدح في كل مكان.

أنا أحب الموسيقى الحزينة.

الأربعاء، مارس 17، 2010

ريحة البلد



الاثنين، مارس 01، 2010

ماذا حدث للبراء أشرف؟..


لا يمكن اعتبار "براء" أحد الذين يسافرون باستمرار. يمكن القول أنه سافر عدة مرات. وفي الغالب، كان وحيداً في أسفاره، ولغرض ما منظم ومرتب، دورة، معرض، ورشة، دراسة قصيرة.. وكلها أسفار في نطاق العالم العربي الصغير. الذي سيكتشف "براء" مرة بعد أخرى، أنه أكبر مما كان يتخيل.

طيب، في اللحظة التي استلم فيها جواز سفره الجديد، فعل ما يمكن أن يفعله مواطن مع جواز سفر جديد تطلق عليه "مصلحة السفر والهجرة" اسم "جواز سفر مميكن".. دس أنفه بين صفحاته، شم رائحته، تأكد من كون أوراقه سليمة ونظيفة، وبدأ يعبث في الملصق الورقي على خلفيته وقرر من اللحظة الأولى أن جوازه لن يحمل في خلفية غلافه ملصق أبيض كريه.

ثم ركز النظر على بياناته الشخصية في الصفحة الأولى، وتأكد أن موقفه من التجنيد "غير مطلوب"، وأعتبر لحظة استلامه للجواز المميكن الأخضر بالملصق الأبيض الكريه لحظة تستحق أن توصف بأنها تلك التي يستحيل نسيانها.

ثم أنه استقل الطائرة فهبطت في "بنغازي"، وطائرة أخرى بعد يوم واحد لـ"طرابلس" وهو يكتب هذه السطور بعد يوم عمل صعب، ومن غرفة فندق مفردة، وعلى سرير عليه مفرش بلون أبيض كريه، وتوجد علبة صودا بجواره وهو مستغرق في الإنصات لأصوات تطاير الصودا خارج المياة وداخل العلبة، ويتذكر نصيحة أمه بأن يشرب الصودا فور أن يفتح العلبة، حتى لا تتحول إلى مجرد مياة بطعم السكر.

لماذا يشعر "براء" بأن ثمة ما حدث له، ويستحق أن يطرح سؤالاً تقليدياً كالذي تم وضعه في عنوان هذه السطور؟، ثم، لو افترضنا أن ثمة ما حدث فعلاً لبراء، فهل يعني هذا أن حدوث أمر كالذي حدث، له أهمية ما بحيث يتم طرح السؤال بشكل علني على صفحات الإنترنت.

أيضاً، ما توقعات "براء" حين يطرح سؤال كهذا، هل سيحصل على إجابة من أحدهم؟، يعني هل يعرف أحد "براء" أكثر مما يعرف "براء" بحيث يخبره عما حدث له بحيث لزم أن يطرح سؤالاً كهذا؟.

هل "براء" يعبث؟، ممكن، هل يمكن أخذ السؤال على محمل الجدية؟، ممكن أيضاً، هل يمكن تجاهل كل هذا والتمتمة بقدر بسيط من اللعنات على ديانة اليوم الذي أصبح فيه مسموحاً لكل مسافر يشعر بالفراغ في "طرابلس" أن يفتح صفحة جديدة ويكتب ما الذي حدث لي؟، هل أنا أعبث؟، وكيف كانت مشاعري حين استلمت جواز سفري المميكن الأخضر بملصق أبيض كريه على ظهر غلافه.

هل يرغب براء في الكتابة؟، فقط، هكذا، يريد أن يكتب، أن يمرر يده على الكيبورد، ويرى هل تأثرت سرعة يده في النقر بهجره الكتابة منذ فترة.. كل شيء ممكن هذه الأيام، وكل شيء مقبول في "طرابلس"، والفراغ، والسفر، وغرف الفنادق، والأسرة ذات المفارش البيضاء. كلها عوامل مساعدة ومحفزة..

أوك أوك.. يعني لحظة، سأخبرك.. سأقول ما الذي حدث.. نعم.. لدي ما يمكن قوله، إني أتذكر. أو أدعي التذكر.. لا فارق، إني على كل حال أشعر بأن ثمة ما يمكن أن أقوله، وما يمكن اعتباره إجابة على سؤال وضعته عنواناً لهذه السطور، أعرف ككاتب شعورك كقارئ تجاه سؤال بلا إجابة، خاصة إن كان من النوعية الرومانتيكية القديمة.. ما الذي حدث لكاتب هذه السطور؟.

لا يمكن اعتبار "براء" أحد الذين يسافرون باستمرار. يمكن القول أنه سافر عدة مرات. وفي الغالب، كان وحيداً في أسفاره، ولغرض ما منظم ومرتب.. كيف كان "براء" يقضي وقت فراغه في أسفاره التي لا يمكن اعتبارها كثيرة، لكنها على كل حال تكررت عدة مرات.

في "الطائف" مثلاُ. قضى "براء" الوقت في التجول بشارع طويل جداً لإحضار بعض الطلبات، وقضى الوقت يفكر في فتاة طويلة بيضاء جميلة، زميلته في المدرسة الثانوية، ويجهد عقله في ابتكار طريقة لإخبار والده – رفيق رحلة الطائف – بقصة الفتاة ورغبته المستقبلية البعيدة في الزواج منها.. كان التفكير في الفتاة يفتح لعقله عالم كامل من الألوان والأصوات والروائح. كان التفكير فعل يستحق أن يأخذ مكانته، وأن يكافئ الفتى نفسه بقدر كبير من التفكير في حبيبته. الذين تصادف سفرهم الأول، مع حبهم الأول، يعلمون جيداً كم كان الأمر جميلاً. ولا وصف له. (وهذا ليس مجرد كليشية، فهو بالفعل لا وصف له).

في الرياض، كانت الفرصة جيدة لقضاء الوقت وحيداً. وكتابة عدة خطابات للفتاة ذاتها، لم يكن هناك ما يمكن قوله في تلك الخطابات، فقط كان يريد أن يكتب في نهاية كل خطاب، "الأحد، 8 أغسطس، الرياض".

في اليمن لم يتمكن من فعل أي شيء مختلف، فقد قضى يوماً وحيداً، أصابته فيه حمى شديدة، فقرر العودة من حيث أتى، وكانت فرصة جيدة لأن يقابل فتاته ذاتها بعد عودته مباشرة في حديقة اسمها "أم كلثوم" في مواجهة مشرحة مستشفى القصر العيني. وكانت المقابلة الأولى.

في الدوحة تمشى كثيراً على الكورنيش، واكتشف لذة النوم منفرداً في غرفة فندق يحمل سبع نجوم ويخبرك أحدهم أن القناة التي تستضيفك ستدفع كل شيء عند رحيلك. ينام عارياً لأول مرة في حياته، ويقضي الصباح في الحديث الإليكتروني المتواصل مع زميلة العمل، يخبرها بأن داخلها شيء مميز عليها أن تكتشفه.. ويعود إلى القاهرة وقد اكتشف لتوه الطريقة التي يمكن أن يخبر بها والده عن زميلته التي يرغب في الزواج منها، إن أمكن.

في القاهرة ستخبره جدته أنها عثرت على حقيبة بلاستيكية بيضاء مليئة بالخطابات بينه وبين فتاة اسمها على اسم خطيبته الحالية، وتعود تواريخها إلى سنوات ماضية، حين كان يسافر للرياض، وأنها قامت باحراقها بحيث لا تفسد الود الجديد بين حفيدها وابنها، فالأوراق تثبت أن الحفيد لم يتعرف على خطيبته منذ شهرين أو ثلاثة كما قال، بل منذ سنوات ثلاثة أو أكثر، كان من الصعب إخبار الجدة أن الأمر مجرد تشابه أسماء، وحرمانها من متعة اكتشافها الخاص وسرها الكبير مع حفيدها، فقد قتلت الحسرة على ما كان يمكن فعله بالحقيبة المليئة بالخطابات، ثم حمدت الله عندما أدركت مع الأيام أن صفحات الإنترنت كانت ستكون مصيرها الوحيد، وفهمت كون الله رأى أن الستر أفضل للجميع.

في "المغرب" يستنشق هواءاً مختلفاً، ويتأمل النجوم، ويكتب لطفلة صغيرة بدأت تتكون داخل رحم زوجته، ويفكر أن الله كريم، ويتخذ بعض القرارات المتهورة. ويدرك طول المسافة بين بيته في الهرم، وصحراء "ورزازات" حيث كان يجلس وحيداً يراقب السماء ويخبرها بأسراره الخاصة.

في "طرابلس" لا يحدث أي شيء. لا يفكر، لا يكتب خطابات لأي أحد، لا يتحدث على الإنترنت، لا يراقب النجوم، ولا يشغل باله أي شيء يمكن أن يقوله والده.

فقدت الأسفار قيمتها، هكذا مبكراً. وفقدت لحظة استلامه لجوازه المميكن الأخضر بالملصق الأبيض الكريه ما كان يميزها. فما الذي يمكن أن يفعله "براء" في "طرابلس" أو أي مكان آخر، ولا يملك القدرة على فعله في القاهرة. وما الأفعال الجديدة التي تستحق أن تفعل يعني.. ما المشاعر الجديدة. ما الذي يمكن أن يحدث لبراء ويكون مختلفاً بحق عما حدث له بالفعل؟.

قد يفتقد صغيرته. قد يشعر ببعض الهدوء. قد يجد في الأجواء بعض التحدي والحركة. لكنه لا يرى في السفر أي فرصة لفعل أي شيء مختلف. مجرد انتقال بين جغرافيتين. بلا أي قيمة، ولا أية إضافة.

ما حدث للبراء أشرف. أنه أصبح البراء أشرف، ففقد القدرة على الدهشة، وعلى استغلال الفرص وخلقها، يشعر بثقله، وأن خفته السابقة صارت مفتعلة، وأن عليه أن يحيى حياة الشيوخ، يتحرك ببطء، يفكر ببطء، يزهد في السفر والمفاجآت. لا شيء جديد ليكتشفه، ويصير اللون الأبيض بالنسبة له، لون فراش السرير الذي يرقد عليه الآن، والملصق الصغير في خلفية غلاف جواز سفره المميكن، مجرد لون أبيض كريه.

هذا ما حدث، دون أدنى فكرة، عما يمكن أن يحدث.