الاثنين، أكتوبر 24، 2011

عن الحكايات والسجائر

تقول الحكاية، أنه بينما كنت أفكر في الماضي، كان صديقي يفكر في المستقبل.

سيقرأ الأصدقاء سطوري، فيعتقد أحدهم أنني أقصده هو، ويعتقد آخر أنني أقصد صديقنا الأول، فيما يظن الثالث أنني أقصد صديقاً آخر رحل بعيداً منذ زمن. شخص آخر، (وهو ليس صديقي بأي حال) سيرى أنني لا أقصد أحد بعينه، بل ربما يستغرق في القراءة معتقداً أنني أقصد نفسي تحديداً، وأن ذلك الصديق، الذي يفكر في المستقبل، لا وجود له في الواقع، هو مجرد ظل داخلي، تطورت علاقتنا بحيث صار صديقي.

جميع الإجابات صحيحة.. جميع الإجابات خاطئة.

(؟)

تقول الحكاية، أنه بينما كنت أفكر في المستقبل..

ذلك أنني أفكر وأفكر وأفكر، فلا أمل، أي لا يصيبني الملل، ولا أمل، أي أنه لا يوجد أمل في أن ينتهي التفكير بالوصول إلى نتيجة.

أفكر، وأكتب، وأفكر، هل كتبت أولاً، أم أن الفكرة خلقت الكتابة، أظل أفكر، وأكتب، وتتوالى الحكاية، تفكير كتابة، كتابة تفكير. حتى إذا ما تعبت، فكرت، أنه من الملاءم التوقف عن الكتابة والتفرغ للتفكير.


تقول الحكاية، أنه بينما كان صديقي يفكر في الماضي، كنت أفكر في المستقبل.

جاءتني هذه الجملة وأنا أغادر المقهى البارد الدافئ. بارد لأن الجو بارد، ودافئ لأني لم أكن وحدي.

لماذا أفكر في المستقبل إذن بينما يفكر صديقي في الماضي؟.

ذلك، أن البدايات مهمة، لكن النهايات أهم. يقولون هذه الأيام أشياء كثيرة تتعلق بأن النهايات حتمية، فكل شيء ببداية له نهاية، هذه حقيقة. لكن البدايات عادة تبقى مفهومة وقادرة على شرح نفسها. أما النهايات، فهي العبث الكامل. وبين البداية والنهاية، تظل الأسئلة (بينهما) تتعلق بـ : "كيف ينتهي الأمر بنا؟"، لا نسأل عادة أنفسنا عن الطريقة التي بدأت بها الأمور. البدايات غير مهمة، المهم، كيف يمكن أن تنتهي الحكاية دون أن ننتهي نحن؟. هذا هو المهم.

لهذا، ربما، أهتم بالمستقبل، رغم أني لا ألوم صديقي أبداً، على اهتمامه بالماضي.

(!)
أكتب وبين أصابع يدي اليمنى سيجارة. سحبتها الآن من علبة سجائري الثانية (اشتريت علبتان فقط طوال عام كامل). أصبحت أشتري السجائر وأدخنها ببطء بينما أنقر وأكتب. (لماذا؟)، رغم أني تعلمت تدخينها منذ قليل.. ربما لأملك القدرة على طلب سيجارة من صديق على المقهى أو زميل بالعمل. تلاءمني جملة "هات سيجارة".. أحبها، أشعر بود حقيقي بينما يفتح أحدهم علبة سجائره ويناولني واحدة.

أصبحنا في عالم منحط، وقح، من الممكن أن يعطيك أحدهم سيجارة بأريحية شديدة، لكنه يراقب نفسه بينما يسمح لك (دون أن يسامحك) بأخذ قدر قليل من مشاعره. صارت السجائر أرخص من المشاعر. وصرت تعيساً لأني أحب أن يعطيني أصدقائي أشياء تخصهم، ويأخذون حكاياتي في المقابل. أحب تبادل التفاصيل بين الأصدقاء. فالتفاصيل الصغيرة، بداية واضحة لحكايات لطيفة، أنا أحب اللطف، فمن اللطف، تولد الدهشة.. ولا قيمة لهذه الحياة دون دهشة.. إذن، لا قيمة لهذه الحياة دون حكايات.

(@)
تقول الحكاية، أنه بينما كنت أهتم بالعبث، كان صديقي يهتم بالمنطق.

رغم أن المنطق مصنوع من العبث. فقبل وجود المنطق، كانت الحياة عبثية، وبمرور الوقت، تراصت مجموعة من العبثيات بشكل عبثي آخر، بحيث أمكن لنا أن نرى في وجودها متلاصقة منطقاً ما. فاخترعنا المنطق، ونسينا بمرور الوقت، أنه في الأساس عبارة عن عبث.

من العبث مثلاً، أن نسمح لأنفسنا بخسارة الأصدقاء، خاصة، ونحن ندرك يقيناً أن الحياة دونهم تعيسة. لكن من المنطق، أن ندرب أنفسنا تدريجياً على الوحدة. على البقاء وحدنا لأطول وقت، بحيث، يزول ألم الفراق سريعاً، ونبدأ في مصادقة أنفسنا.

ذلك أن الصداقة هذه الأيام، صارت كمخدر قوي، يمنعنا من الإحساس بألم وقاحة الحياة وانحطاطها. لكن الحقيقة، أن الحياة تبقى وقحة ومنحطة. نكتشف هذا فقط حين تفاجئنا الوحدة صباحاً، ونلاحظ، كيف أن علينا البقاء وحدنا لوقت طويل، دون أصدقاء، دون حكايات، دون تفاصيل، دون لطافة أو دهشة.. مع اللاشيء.

تقول الحكاية، أنه بينما كنت أهتم بالمستقبل، كان صديقي يهتم بالماضي. مع أن علينا سوياً، أن نهتم لأمر أنفسنا.

أفكر، في الابتسام بوجه الأصدقاء والزملاء، وسؤالهم بشكل مباشر.. "هات حكاية".. هل يسحب الواحد منهم علبة حكاياته، ويعطيني واحدة. بذات الرحابة والأريحية، التي يناولني فيها سيجارة من علبة سجائره.


علي أن أتوقف عن طلب السجائر والحكايات. ففي المقابل يجب أن أعطيهم شيئاً ما، سجائر أو حكايات أيضاً. وأنا لا أحمل علبة سجائر عادة، كما أن حكاياتي نفذت. تبقى واحدة وحيدة في العلبة. ممنوع علي حكيها أبداً، ذلك أن البقاء دون حكاية، أسوأ كثيراً من البقاء دون سيجارة، لكن كلاهما مؤلم.

في المرات التي أطلب سيجارة، فيفتح الصديق / الزميل العلبة، ويجد سيجارة وحيدة، يصبح من الواجب أن أتظاهر بعدم الرغبة في التدخين، ليس من اللائق إطلاقاً سحب السيجارة الأخيرة من علبة أحدهم. لكن صديقي / زميلي يتظاهر هو الآخر بأن علي عدم التردد في سحبها، قائلاً أن هناك علبة أخرى جديدة في مكان ما. لكن سحب حكاياتي الأخيرة من علبة الحكايات، يعني، أن الحكايات نفذت بالفعل، وأن علي المواجهة.. وفي الحياة الوقحة المنحطة، عليك، بكافة الأشكال، أن تتجنب المواجهة.

تقول الحكاية أن هناك حكاية واحدة باقية. وأن عليها أن تظل باقية، كما أن عليها أن تبقى وحيدة.

الاثنين، أكتوبر 17، 2011

في مسألة ماسبيرو

(1)
بعض التفاصيل الصغيرة، تصلح لتفسير المسائل الضخمة.. إذا كنا نتحدث عن "ماسبيرو" مثلاً، فيمكن الإشارة إلى أن المبنى مصمم على شكل حدوة حصان.

في كتاب ما كنت مضطراً لدراسته للحصول على شهادة الإعلام، كان هناك فصلاً غبياً يتحدث عن تصميم مباني البث الإذاعي والتليفزيوني.. ومن بينها شكل حدوة الحصان. الكتاب يقول أن مبنى ماسبيرو واحد من مباني قليلة في العالم مصممة على هذا الشكل، هناك مبنى أخر في الإتحاد السوفيتي المنهار على ما أذكر..

لماذا هو كذلك؟، سؤال وجيه، لأن الأستديوهات تحتاج إلى عزل عن الضوضاء من الخارج، لهذا، توجد مكاتب الموظفين على أطراف الحدوة، وتوجد الأستديوهات في الداخل.. طيب، فرضنا مثلاً.. العلم نور والهندسة لها أسبابها طبعاً.. لكن، هل هذه أسباب كافية ليصبح المبنى على شكل حدوة حصان؟.

قاعدته ضخمة للغاية، وخازوقه طويل وسميك، ممتد إلى السماء، هو التجلي الأول للقبح في مدينة لم تعرف قبله المباني الأسمنتية الصماء.

حكمة : لا تحتفظ في مدينتك الجميلة بمبنى على شكل حدوة حصان.

(2)
جرت العادة ونحن صغار، أن نذهب مساء الخميس إلى جدتي لقضاء نهار الجمعة معها كاحتفال أسبوعي بالأجازة. وكانت جدتي لديها تليفزيون. فيما كان بيتنا يفتقر إلى واحد مثله.

زمان، كان الأطفال ينامون مبكراً، ويستيقظون كذلك، وزمان أيضاً، كان التليفزيون يعرض برنامج اسمه سينما الأطفال صباح يوم الجمعة.

كنا نجلس أمام الجهاز العجيب نشاهد البرنامج الأعجب. وقضينا سنوات نشاهد بشكل أسبوعي حلقة جديدة من مسلسل تقوم ببطولته كلبة اسمها "لاسي"، وهي كلبة يفترض أنها ذكية وقوية ونشيطة، وتكاد تتحول إلى إنسان من فرط ما تقوم به من أشياء مدهشة.

في مرة من المرات، سألت أخوتي بينما نشاهد "لاسي"، ما الذي نفعله في أنفسنا؟، كيف نسمح لهم بالضحك علينا وجعلنا نصدق أن هناك كلبة تفعل كل هذه الأشياء؟.

بجوار التلفزيون، كانت هناك جهاز سنعرف بمرور الوقت أن اسمه "فيديو"، وكانت هناك عدة شرائط منها فيلم "الإرهاب والكباب". لاحقاً، تغيرت خطتنا بحيث أصبحنا نقضي نهار الجمعة في الفرجة على يسرا ترتدي فستاناً جميلاً.

الآن، تقضي طفلتي وقتها أمام إم بي سي، وبراعم، وسبيس تون، وكلها قنوات تعرض أفلام وبرامج أبطالها ليسوا كلاباً.

معادلة : إذا كانت طفلتي لا تشاهد "سينما الأطفال" والكلبة "لاسي"، فما الذي يفعله ماسبيرو في حياتنا؟

(3)
في المسجد يتحدث الشيخ عن التليفزيون المليء بالعري والنساء والأغاني والفحشاء. ويرى أن هذا حرام.

في الكنيسة يتحدث القس عن أن التليفزيون حرض الناس ضد الأقباط، ويرى أن هذا أيضا حرام.

في المقهى ينزعج الزملاء من أن المباراة تذاع على قنوات مشفرة ويمنون أنفسهم بيوم يشاهدون فيه منتخبهم الوطني على تليفزيونهم الوطني، ويعتقدون أن البث المشفر للمباريات حرام.

في الصعيد أخبرتني صديقة أن القناة الثامنة خير وسيلة لإجبار أطفالها على النوم، فهم يخافون من معظم مذيعينها. تضيف صديقتي : يا حرام.

سؤال : ما كل هذا الحرام؟

(4)
يذاع برنامج "صباح الخير يا مصر" في وقت مريب. بعضنا يستيقظ ويرحل إلى عمله قبل بدايته، وبعضنا يفعل هذا بعد نهايته. من الذي يشاهده إذن؟.

أبناء الطبقات الغنية لا يشاهدون القنوات التعليمية وبرامجها لأنهم - والحمد لله - يحصلون على دروس خصوصية في كل المواد. أبناء الطبقات الفقيرة لا يشاهدونها أيضاً لأنهم لا يملكون تليفزيوناً في البيت. من الذي يشاهدها إذن؟.

تمكنت صغيراً من معرفة سبب ممارسة أمي لبعض الطقوس الغريبة في البيت. كنت أراقبها وهي تفسد أشياء كثيرة في المطبخ. بمرور الوقت، ضبطتها مرة تشاهد برنامج "مجلة المرأة". ثم توقفت بعدها عن فعل هذه الخطيئة. من الذي يشاهد برنامج اسمه "مجلة المرأة" إذن؟.

علل؟!

(5)
إذهب إلى ماسبيرو وقف أمامه في تمام الثانية ظهراً. ثم راقب المشهد.

سترى سيدة في الخمسين، بدينة بعض الشيء، ترتدي خماراً كبيراً لونه أزرق أو بني، تحمل في يدها اليسرى حقيبة بلاستيكية بيضاء كبيرة، ويدها اليمنى مفرودة، أسفل علبة حلويات عليها شعار ماسبيرو، وهو عبارة عن رسم أسود كبير بذات شكل المبنى الضخم.

داخل العلبة، توجد قطع صغيرة من الحلويات، تقول الأسطورة أن الدور العاشر بالمبنى الضخم يحتوى على مطعم وكافيتريا، تقدم الحلويات والوجبات بأسعار مخفضة للعاملين.

تقول الحقيقة العلمية، أن العاملين في ماسبيرو عددهم يتجاوز الأربعين ألف. وحين تذهب إلى المبنى في الثانية ظهراً، ستشاهد عدداً كبيراً من العلب المرسوم عليها شعار ماسبيرو.

فكر : ما كل هذه الحلويات؟

(6)
يوجد في مصر شيء اسمه "حزب الكنبة"، والكنبة هي أريكة كبيرة مريحة، يطيب الجلوس عليها لساعات دون فعل أي شيء، عادة يمكن تسمية الجلوس على الكنبة بالأنتخة.

هذه الأنتخة، تحتاج عادة إلى نوع من التسلية وقتل الملل، بعض الدراسات تشير إلى أن أعضاء حزب الكنبة يميلون إلى مشاهدة التليفزيون المصري بينما يأنتخون على الكنبة.

تعتقد الحكومة، أن حزب الكنبة يقف في طريق تقدم الأمة واستمرار السلاسة البشرية وبقاء الحضارة. وهذه بالطبع أسباب كافية للتخلص من حزب الكنبة. لكنها ستصبح مجزرة، فكيف سنتخلص من كل هؤلاء؟.

توصل العلم الحديث إلى حقيقة تؤكد أنه بإغلاق قنوات التليفزيون المصري، سيختفي حزب الكنبة، بل لعلنا نصبح قادرين على التخلص من الكنبة نفسها.

أغنية شعبية : كل شيء يهون.. حتى التليفزيون.

(7)
مبنى واحد، قادر على قتلنا في منازلنا، حتى إذا هربنا منه ونزلنا إلى شوارعنا، نقتل أمامه، ويملأ الدم جدرانه الخارجية تماماً كما يملاً طرقاته الداخلية.

مبنى واحد. على شكل حدوة حصان، ينتج من الحلويات أضعاف ما ينتج من المعرفة. يحمل اسم اتحاد الإذاعة والتليفزيون، والحقيقة، أن اتحاده فقط ضد الشعب ورغباته وأفكاره وإرادته.

مبنى واحد، لم يعد حتى مسلياً للأطفال، يختطفه بعض الكبار ويجلسون أعلى خازوقه يتحكمون في شاشاته الكثيرة، التي لم تذع يوماً ما هو أكثر إفادة من بيان تخلي المخلوع عن سلطته.

مبنى واحد، يكذب / يقتل / يحرض / يدمر / يشوه / يهدم.. ما فائدة وجوده في بلادنا إذن؟.

جواب نهائي : اهدموا ماسبيرو

الأحد، أكتوبر 16، 2011

القتل اللذيذ

نحن شعب نحب الفوازير، لكننا لا نحب حلها. تأمل معي هذه الحكايات وحاول أن تفكر..

في اعتقاد كاتب هذه السطور، فإن أخر مصري مات في مسألة تتعلق بالوطن وتمكن أبناء الوطن من معرفة لماذا وكيف وأين ومتى مات، هذا المصري الشهيد المغفور له، بالتأكيد كان مجند في الجيش المصري في حرب أكتوبر سنة 1973، وبحسبة بسيطة، فإن هذا التاريخ مر عليه ما يزيد عن 38 سنة..

طيب، الذين ماتوا بعدها..؟؟، تشاء الأقدار وحدها، ثم الحكومة المصرية، أن تبقى كل حوادث القتل مجهولة وغامضة ولأسباب مختلفة. وكأن قدر القتلى في بلادنا أن يموتوا مرتين.. الأولى بالرصاص، والأخرى بالتخمين في الأسباب الواقفة وراء مقتلهم..

تعالى نفكر، ضحايا حريق قطار الصعيد (2002)، لدينا على الأقل تسعة روايات مختلفة للحادث. وبما أننا في الصعيد، حاول أن تجاوبني بالسبب في محرقة بني سويف (2005) التي أكلت النيران فيها عشرات من شباب المسرحيين.. عاجز عن حل الفزورة.. حاول أن تحل الفوازير التالية إذن.

كيف غرقت العبارة (2008)؟، ولماذا؟، وأين هي الجثث المختفية؟، هل تعلم أن بعض أهالي الضحايا يعتقدون أن أبناءهم لازالوا على قيد الحياة؟، تعتبرها نكتة، هي نكتة تعيسة على كل حال.

وبما أننا جئنا بسيرة العبارة والقطار، وهي من وسائل المواصلات المعروفة في بلاد تركب الميكروباص والتكاتك مثل بلادنا، دعني أذكرك بحادث سقوط الطائرة المصرية في رحلة أمريكا (1999)، حاول أن تحصل على إجابة. كيف ولماذا مات ركاب الطائرة؟، ذكر نفسك بالتفسيرات العلمية والشعبية.. تذكر كيف خمنا كل التخمينات الخاطئة، ولم نصل في النهاية إلى أي شيء.

يا راجل، حتى المصريين عندما يموتون في الخارج تبقى ملابسات وفاتهم غامضة، سعاد حسني (2001)، أشرف مروان (2007)، وبينهما إيهاب الشريف السفير المصري في العراق (2005)، وحتى يا أخي مروة الشربيني شهيدة الحجاب (2009)، لا نعرف سبباً واضحاً لمقتلها.. لماذا؟، فقط لأنها مصرية تنتمي إلى بلاد تقتل أبناءها مرتين.

ثم، هل أتاك حديث موقعة الجمل (2011)؟، هل تعرف حقاً أين ذهب القناصة؟، طيب هل أنت متأكد من أن هناك قناصة فعلاً في وزارة الداخلية؟، هل شاهدت أحدهم بنفسك؟. من الذي قتل المتظاهرين إذن بالرصاص الحي؟ عاجز عن الإجابة.. قابلني في ماسبيرو..

من الذي قتل 24 قبطياً في ليلة واحدة (2011)؟، الجيش، الأيادي الخارجية، الأصابع الداخلية، البلطجية.. مرة أخرى تظهر في حياتنا كلمات تنتهي كلها بحروف "ية".. وجميعها لا يعني أي شيء في الواقع.

في صفحة الحوادث كنت اقرأ طفلاً عناوين تبدأ عادة بـ"النيابة تكشف ملابسات جريمة
الأسكندرية"، وفي دهاليز الخبر تقرأ عن المفتش العبقري الذي تمكن من الإمساك بطرف الخيط والوصول إلى الجناة.. أين هؤلاء العباقرة في حوادث قتل جماعي للمصريين. بعضها بثت وقائعها على الهواء مباشرة.

يا صديقي. إذا كان من حقك أن تموت مقتولاً في هذا البلد، فمن حقي أن أعرف كيف مت؟، من قتلك؟، لماذا قتلك؟.. ليس اعتراضاً على القتل لا سمح الله، فهذا وطن سيقلتنا حتى نقتله.. لكنه فقط ملل من الفوازير التي لا تنتهي.. عيب علينا أن نعيش ونحن نبكي على قتلانا فلا نعلم من الذي قتلهم.

يا صديقي، قتل المصريين صار قتلاً لذيذاً، لأن القاتل مجهول طوال الوقت، أرجوك، اترك لنا ورقة جوار جثتك تخبرنا فيها باسم قاتلك، لأن داخليتنا وخارجيتنا وحكومتنا ومجالسنا ما عسكر منها وما تمدن.. كل هؤلاء غير قادرين على حل الفزورة. من قتل المصريين بالأمس، ومن يقتلهم اليوم، ومن سيقتلهم غداً بإذن الله.. وعلى كل حال، البكا على رأس الميت، وإكرام الميت دفنه.. لكن إكرام الشهداء، ألا يتحولوا بمرور الوقت إلى موتى بقاتل مجهول.

ظروف صعيبة

يعتقد بعض الأطفال أنه إذا كان البرتقال لونه "برتقالي"، فإن اللبن لابد وأن يكون لونه "لبني". وبنفس المنطق، يعتقد صديقي أن هناك خطأ إملائي يتكرر في كل خطابات الساسة هذه الأيام.

كنا على المقهى، نجلس ونشاهد أحد الذين يظهرون في المؤتمرات الصحفية، وكالعادة، فقد قال بين كلماته.. "البلاد تمر بظروف عصيبة"..
سألني: عصيبة يعني إيه؟.
قلت : يعني عصيبة..
....

فكرت في انهاء حيرته، قلت، عصيبة يعني صعبة.
قال، طيب، إذا كانت عصيبة تعني صعبة، فهذا خطأ إملائي، كان المفروض أن يقول صعيبة وليست عصيبة..

فكرت، الكلام منطقي.. قلت : "عصيبة" جاءت من كلمة "عصب"، يعني البلاد تحتاج إلى أعصاب قوية هذه الأيام..
قال : عصب؟.
قلت : عصب..
سحب نفساً من شيشته وضحك قائلاً : ناقص تقولي جمعة العصب..
.....

سكت قليلاً، وشرب كثيراً من الشاي والقهوة.. وازدحم المقهى بعدد كبير من الشباب.. وبينما كنت أحدثه في موضوع آخر لا علاقة له بالبلاد، نظر إلي بغضب.. وقال :
على فكرة.. إنت بتقول أي كلام.. بقى عصيبة يعني عصب؟.

حاولت مناقشته، رفض، طلب الحساب ورحل. كان مؤمنا بأن الكلمة خاطئة، وأن الأفضل أن يقول الرجل على الشاشة أن البلد تمر بظروف صعيبة.

جلست نصف ساعة بعدها وحدي، ثم رحلت مبتسماً أشعر بالقلق تجاه المسألة.

الأربعاء، أكتوبر 12، 2011

في مسألة الموت لأجل الوطن

في القاهرة، يمكنك أن تسمع هذه الأيام كلام غريب عن أن الوطن يجب أن يعيش حتى وإن كان المقابل أن نموت نحن.

هنا فقط، يصبح الشاب أكثر أهمية لأنه قتل في المظاهرة وأوصى قبل وفاته بأن تمر جنازته على ميدان التحرير، أيقونة الثورة الأولى.

هنا فقط، نهتم لأمر الشهداء. فقط لا غير. ونسأل أنفسنا ليل نهار، ما الذي قدمناه لهم بعد موتهم.

في بلادنا، توجد لجنة لتعويض أسر الشهداء والجرحى خلال الثورة، اللجنة تضم بعض الوزراء، وبعض رجال المجلس العسكري، وبعض رجال القانون، بالإضافة إلى عدد من الأسماء المعروفة والمشهورة.. من الممكن أن نقول أن اللجنة تضم الجميع، لكنها في النهاية، مجرد لجنة.

هنا، في القاهرة، تتحول حكايات الضحايا إلى مواد للتسلية، نصنع عنها الأفلام، وتشتد المنافسة بين صناع الأغاني.. من يبكينا أكثر ونحن نتذكر شهداء الوطن؟.

ثم، نفكر في الأمر من زوايا مختلفة. فحين تهتم برامج التليفزيون بالشهداء أبناء الطبقات المتوسطة والعليا، يهتم نشطاء الإنترنت بشباب جاءوا من المناطق العشوائية، فتبقى القاهرة عدة أيام لا تنطق بغير "الفقراء أولاً".. لماذا الفقراء أولاً؟، لأنهم قدموا شهداء في الثورة، طيب، وإن كانت الثورة قامت وانتهت بلا شهداء، ما الذي كان سيحدث؟، وما الذي كان سيتغير؟.

ثم، أننا نمارس حيلة عاطفية قذرة، حين نترك الموضوع الأساسي ونجلس للبكاء، مات هذا الشاب وهو يدافع عن زوجته، لهذا المهندس طفلة لديها شهر واحد، كان هذا الشهيد يحلم بالهجرة إلى الخارج.. وهكذا..

طيب، بعض الأحياء أيضاً لديهم زوجات، وبعضهم لديهم زوجات وأطفال، وبعضهم لديهم زوجات وأطفال ويحلمون بالهجرة.. من يهتم لأمرهم؟.. في الواقع هم لم يصبحوا شهداء بعد. من الممكن أن نهتم فقط لأمر القتلى، رغم أن حكمة مصرية قديمة تقول أن الحي أبقى من الميت.

كأنك تظن أني معترض على تكريم الشهداء أو تعويض أسرهم، إطلاقاً. بل على العكس. من الممكن أن نظل نكرمهم ونبكى عليهم ونطلق أسماءهم على شوارعنا وندفع نصف ميزانية الدولة لأسر الجرحى.. طبعاً.. هذا حقهم، لقد ضحوا بأفضل ما لديهم، حياتهم.

ما المشكلة إذن؟، المشكلة فقط، أن علينا ونحن نفعل ذلك، أن نتأكد أيضاً من اليوم سيمر دون مزيد من الشهداء. فتكريم الشهداء جزء منه، أن يبقى الشرف لهم وحدهم. دون أن يتم استهلاك الأمر. انتهت أحداث الثورة الأولى ونحن لدينا مائة شهيد مثلاُ.. فلنهتم بهم، بأن نجعلهم مائة فقط، لكننا نستمر في إضافة المزيد للرقم حتى ننام في القاهرة ونحن عاجزين عن حساب عدد شهداء اليوم الواحد.

الله، خلقنا كي نعيش، والأوطان موجودة كي تحيا ونحن بها، لأنها تحيا بنا ونحيا بها. كيف وصلنا إذن إلى حال نرى فيه الشهادة حل؟.. الشهادة وسيلة. لكن علينا أن نذكر، أن الوطن الذي نموت فيه، ليس وطناً، من الممكن أن يكون مقبرة جماعية..

الشهداء سيدخلون الجنة، لأن هذا حقهم عند الله، للكن حقهم لدينا، أن نمنع أنفسنا من التحول لشهداء واحد تلو الآخر. حتى هذه اللحظة، أبكي على الشهداء بنصف عين، ربما لأني لم أفقد في الثورة صديقاً مقرباً.. لكن، إن مات أحد أصدقائي مقتولاً لأجل الوطن، لعلي أفقد القدرة على البكاء. وأملك القدرة على كراهية الوطن.

معظم أصدقائي يعتقدون أن الحياة دون وطن، أفضل من الموت لأجل الوطن. لأن الله وهبنا الحياة أولاً ثم اختار لنا الوطن. فمن الممكن أن نعيش بدون وطن. لكن من المستحيل أن نشعر بالوطن ونحن نموت – فقط – على أرضه، دون أن نملك القدرة للحياة بشكل حقيقي فيه.

الموت كريه. ما الفائدة من محاولة تجميله؟، ما الفائدة من القول بأن الشهداء يعيشون الآن حياة أفضل؟.. هذا غير حقيقي. الشهداء ماتوا. ينالون قدر كبير من المتعة في السماء، لكنهم ماتوا. قتلوا. اخترق الرصاص أجسادهم. الشهداء تألموا، والأمهات مصابات بالقهر.. الموت كريه، وسيبقى كريه، حتى وإن كان لأجل الوطن.

ثم أننا نفضل دائماً أن نبكي فقط، هل فكرنا يوماً أن لدينا مسئولية ما عن هؤلاء القتلى؟، هل حافظ الآباء على حقوقنا قبل أن نولد، هل اجتهدوا لإقامة مجتمع يمكن أن تحل فيه المشاكل بطرق أخرى غير القتل؟، هل دافعنا عن قيمة الحياة؟، هل اعترضنا على القتل بشكل عام، هل نكره حوادث الطرق والعبارات الغارقة والقطارات المتصادمة والأوبئة المنتشرة.. نحن نفقد احترامنا التدريجي للموت. رغم أن الموت هو الموت.

منذ عامين، كانت الصحف اليومية تتنافس في إضافة رقم جديد في عداد ضحايا فيروس حمل اسم أنفلونزا الخنازير.. بعد مرور أسبوع، أصبحت الزيادة في الرقم عادية.. بل أننا لاحظنا في الأسبوع الخامس أن الرقم يزداد ببطئ، فحمدنا الله أن الوباء انتهى.

ما فائدة شهداء العبارة إذا كانت العبارات تسير بعدها دون صيانة؟، ما فائدة شهداء القهر إذا كان القهر مستمر؟، وما فائدة شهداء الفتنة إذا كانت الفتنة لم تعد أشد من القتل؟.. ما فائدتنا كأحياء وقد صرنا نلتقي في الجنازات وحفلات التأبين، وكفانا الله شر الحياة.

ما الفائدة من أن نصنع في اليوم التالي لاستشهاد صديقنا صفحة على الإنترنت نسميها "كلنا صديقنا".. ثم ينضم لها الملايين. في الواقع، ربما يكون من الأفضل أن نسميها "كلنا هنا حتى نمنع أنفسنا من أن يلاقي واحد آخر منا مصير صديقنا". لأن صديقنا نفسه كان يتمنى أن تستمر حياته، وهو قد يشعر بالسعادة حين يعلم أننا صنعنا هذه الصفحة. سيشعر بالسعادة، لكنه.. لن يشعر بالحياة.

قبل أن نصنع للموت هذه القيمة، من الأفضل، أن نصنع للحياة قيمة أكبر. وقبل أن نسأل أنفسنا، ما الذي قدمناه للشهداء بعد رحيلهم، من الممكن أن نسأل، ما الذي قدمناه لهم وهم أحياء؟. وقبل أن نقول أن الوطن يجب أن يعيش وإن متنا نحن، علينا أن نفكر.. هل يستحق هذا الوطن الحياة، وهو يقتلنا واحد تلو الآخر، ولأسباب متعددة..

المجد للشهداء، وللأحياء أيضاً.

تحيا مصر.. فقط لا غير

أريد أن أحكي لكم قصة بطولية قمت بها صباح 25 يناير، أنا شخصياً أعتبر نفسي بطلاً بعد ما حدث..

كنا في سيلانترو ميدان مصطفى محمود. في العاشرة صباحاً نشرب الأميركان كوفي ونأكل سيزر سلاد، الأول نوع من القهوة والثاني نوع من السلطة، إذن، كنا نشرب القهوة ونأكل السلطة، ونفكر فيما يمكن أن يحدث لنا بعد ساعات.

ندخل على الإنترنت كل دقيقة نتابع الفيس بوك وتويتر لنعرف أي معلومة. نتبادل النكات، ونتواعد على اللقاء مجدداً في المساء في "سبكترا"، حيث مطعمنا الإيطالي المفضل.

أنت تتوقع أني أهزر أو أشتغلك، الله يسامحك. على كل حال لم تكن هذه الأمور مهمة. ما كان مهماً هو التالي : وقفت في منتصف سيلانترو، وأخبرت أصدقائي بأني لن أسمح لأي شخص بالحديث عن استمرار المظاهرات بعد يوم 25، قلت، اليوم أجازة، نعمل مظاهرات، ونرجع بكرة نشتغل.. مفيش 26، ولا فيه 27.. مفهوم؟.

فكرت أنا وأحد أصدقائي في عبور الشارع والوقوف أمام مسجد مصطفى محمود لاستطلاع الأمور. اقتربنا. ويا للهول، عشرات الشباب والرجال والنساء، كلهم بملابس سوداء.. الله أكبر، المظاهرة ستنجح.. استبشرنا خيراً.

مرت دقيقة أو دقيقتين، حتى رأيت عدة نعوش تخرج من داخل المسجد، وكان الرجال والنساء بالملابس السوداء يبكون، ثم أصبح المكان خالياً فجأة. مجرد جنازات حارة لأشخاص اختاروا الموت صبيحة يوم الثورة. الله يرحمهم.

أصابنا الإحباط، واستدرنا للعودة إلى سيلانترو. فوجدنا سيارة أمن مركزي ضخمة تقف أمامه، ورأس صديقة محجبة يدخل إلى الصندوق الخلفي، فأدركنا أن تنظيم سيلانترو المحظور أصبح خلف الأسوار. فوقفنا مكاننا نفكر، هل سنذهب إلى "سبكترا" في المساء فعلاً؟.

أجرينا بعض الإتصالات، لحسن الحظ كانت زوجتي في الحمام داخل سيلانترو، لتخرج وتجد الكافية خالي من الناس، وتغافل الحارس وتهرب. أدركت وقتها أن أفضل مكان يمكن الذهاب له هو داخل المسجد. رغم أن هناك ساعتين تفصلنا عن موعد المظاهرة.

ما البطولة في كل هذا؟. أبداً، ولا شيء. كل ما في الأمر، أنني دخلت المسجد وأمرت بعض الشباب، دون أن أعرفهم بالخروج فوراً لأن المظاهرة ستبدأ الآن.. ولم يكن الأمر يحتاج سوى لنبرة حازة وصوت مرتفع، وبدأت المظاهرة. نظرت حولي خارج المسجد وسألتهم : "حد صوته قوي يهتف؟؟".. فلم يرد أحد، كان الأمن يحيط بنا، وكان الرعب يملأنا، فيما كان بعضنا لم ينتهي بعد من ربط رباط حذاءه.. حالنا كان غريب، وأحلامنا كانت بسيطة.. فقط لا تضربونا.

فكرت أن صاحب الصوت العالي سيظهر وحده عندما ابدأ أنا بالهتاف.. فهتفت : تحيا مصر.. تحيا مصر.. تحيا مصر.. وكرر الشباب الهتاف، فظهرت جماهير من كل مكان، وصرنا عدة مئات.

ولأني أفضل الكلمات الصغيرة القصيرة في الهتاف، كنت أردد : أرحل.. برة..، ولأن الهتاف بحاجة إلى حماس، كنت أشير بيدي للأمام، ففهم البعض أن "برة" المقصود بها كسر الكردون والخروج للشارع، فتحولت الوقفة إلى مسيرة.. وأنتم تعرفون باقي القصة.

بالذمة، ألست بطلاً؟.. طبعاً بطل وألف بطل، بل وأهم بطل في الثورة (بعد الشهداء طبعاً).. ليس لأني أمرت الشباب بالخروج، ولا لأني لم أذهب إلى سبكترا منذ ذلك التاريخ، ولا لأني قررت خروج المظاهرة قبل موعدها..

بطل، فقط، لأني عندما اخترت الهتاف، لم أجد خيراً من : تحيا مصر.. فقط لا غير.

للصغار فقط

عندما جلسنا على المقهى، مساء يوم 11 فبراير الماضي، وكانت الثورة قد حققت أهم نتائجها للتو، تحدثنا كثيراً عما يمكن أن يحدث لبلدنا، بالطبع لم يتخيل أحد وقتها أننا سنعود بعد شهور قليلة للجلوس على ذات المقهى للحديث مرة أخرى عما يجب أن نفعله لإنقاذ البلد.. هذا غير مهم بالمرة.. المهم، ما الذي قلناه في الجلسة الأولى..

أخبرت الأصدقاء وقتها أن الثورة ليست مجرد ثورة. وأن من الظلم والغباء الإعتقاد أننا نزلنا إلى الشوارع فقط لإجبار مبارك على الرحيل. بل لعل هذا أبسط ما في الثورة.. قالوا كيف؟، قلت التالي..

للثورة وجهان، الأول سياسي، ويطالب بانتقال للسلطة السياسية من نظام فاسد وقذر، إلى نظام سليم ونظيف. والثاني اجتماعي، يهدف إلى انتقال السلطة الإجتماعية من فئات عمرية أكبر، إلى شباب أصغر سناً.. وافقني الجميع وقتها، وذهبنا إلى بيوتنا يملأنا الفخر، وصرت أردد وجهة نظري في كل مكان.. حتى كان ما كان.

في الوجه الأول للثورة. ظهرت مشكلة أساسية وهي الفلول والمنتفعين وأصحاب المصالح، وصارت المصائب تأتي واحدة تلو الأخرى بسببهم. في اعتقادي أن هذا سهل ومقدور عليه، ربما لإيماني الشديد أن السلطة سيتم تسليمها عاجلاً أو آجلاً. وأن الثورة السياسية ستنتصر لأن الشعب يريد إسقاط النظام، ما استطاع إليه سبيلا..

في الوجه الثاني للثورة، بات الكبار في كل مكان، في المجلس العسكري، في الأحزاب، في جماعة الإخوان وتيار السلفيين، في الكنيسة، في برامج التليفزيون، وبالطبع في مجلس الوزراء.. في كل مكان يظهر الكبار ويتكلمون، والحق، أنهم يدعون أن الشباب بالفعل يجب أن يأخذ فرصته.. دعنا نعرف الكبار هنا بأنهم دائماً أكبر من الستين، وتسبق أسماءهم كلمات مثل، دكتور، مستشار، مشير، مفكر، وبعضهم نراهم على شاشات مكتوب أسفلها صفة الكبير أو البارز أو القدير.. ثم أما بعد.

الفلول، بين الكبار والصغار، هؤلاء الذين يقفون في المنتصف بين من هم فوق الستين، ومن هم تحت خط النضج. في الأربعينات والخمسينات. تراهم في كل مكان، على المقهى، في المسجد، في البرامج أيضاً لكنهم أوسع انتشاراً، وهم في الواقع يقولون كلاماً مزكرشاً. لا فائدة منه على الإطلاق.

هؤلاء، أصحاب مصلحة في أن تبقى السلطة الإجتماعية في يد الكبار وحدهم، وأن يتعطل وصول الشباب لها، حتى يمر الوقت، ويكبرون هم أيضاً، بحيث ينالون صفات الكبير والبارز.

فكر معي، كل أصحاب التصريحات المستفزة ينتمون إلى هذا السن، كل الذين يهرتلون (من الهرتلة) في حياتنا السياسية والإقتصادية والدينية في الأربعينات والخمسينات. صناع الكراهية والطائفية والعنصرية.. وكل الأشياء التي تنتهي بـ"ية" إلا الديموقراطية والحرية.. كلهم، بلا استثناء، ينتمون إلى معسكر أبناء الأربعين والخمسين، لماذا؟ علمي علمك.

اسأل نفسك، ما الذي كان يفعله ابن الأربعين في شبابه؟، في الواقع لا شيء. قضى هؤلاء شبابهم في بداية عهد مبارك، حيث أزهى عصور الاستقرار. بحيث تحول الاستقرار إلى خيارهم الوحيد في الحياة.

هل هي مصادفة أن شهداء الثورة كلهم شباب؟، طيب، هل هي مصادفة أن صفحة كلنا خالد سعيد يديرها شباب في عمر خالد سعيد الشاب أيضاً؟، هل هي مصادفة أن الذين قتلوا أمام ماسبيرو من شباب الأقباط، والذين اعتقلوا في أحداث السفارة من الشباب أيضاً؟. إذا كانت الثورة قامت لأن الشباب دعوا لها، وانتصرت لأن الشباب قتلوا فيها، واستمرت لأن الشباب يدافعون عنها، وستنتصر لأن الشباب مستمرين في مطالبهم.. فما الذي يفعله هؤلاء في حياتنا؟.

شباب الجيش يدفعون ثمن اختيارات مجلس عسكري من الكبار، وشباب الكنيسة يدفعون ثمن تصريحات غرائبية من بعض رجال الدين، وشباب الإخوان يدفعون سبب العقلية التي تدير مكتب ارشادهم، وشباب الأحزاب يدفعون ثمن خيانة رؤساء أحزابهم..

الغريب، أن اسوأ ما في المجلس العسكري ليس المشير الأكبر سناً، بل لواءات مثل بدين والفنجري والرويني، وهم للمصادفة من نفس الجيل المعطوب، والمرشد ليس مشكلة الإخوان، بل قيادات وسيطة مثل صبحي صالح وعصام العريان ومحمد مرسي، وهم من نفس الجيل. والبابا شنودة هو الأكبر سناً، لكن التحريض يصدر فقط من رجال الدين من نفس الجيل، حتى الشيخ السلفي الذي وقف في إمبابة يحرض على حرق الكنائس، لم يكن كهلاً عجوزاً، بل في بدايات الأربعينات. إذن فهذه ليست مصادفة.

بل وسبحان الله، لا سحر ولا شعوذة، كل أربعيني وخمسيني وستيني محترم في هذا البلد كان في شبابه أكثر احتراما.. عصام سلطان، حمدين صباحي، عبد المنعم أبو الفتوح، حازم صلاح أبو اسماعيل، وغيرهم، ورغم اختلافنا السياسي معهم، نراهم في النهاية أقرب إلى أفكار الشباب وطرحهم.. لكن، اسأل والدك عن رأيه في مرشحي الرئاسة، ليتلو عليك قائمة تبدأ بعمرو موسى، مروراً بسليم العوا والبرادعي.. وحين تسأله عن المرشحين الأصغر سناً يقول : لسه بدري.

وفي الواقع، فإنه وإن كان لازال الوقت مبكراً على مرشحي الرئاسة، فالأمر مختلف في الشوارع والأحزاب والمساجد والكنائس والنوادي والمصالح الحكومية وأجهزة الدولة والوزارات ومجلس الشعب والمحليات.. كل هذه الأماكن تحتاج لجرعة إنقاذ وطني شبابية. فقط، لأن الشباب قدموا السبت، وآن الأوان أن يحصلوا على الحد. حد أدنى للظهور، وحد أقصى للأعمار.

فكر، أننا نحب سلفيو كوستا الشباب، وشباب الإخوان أصحاب صفحات الفيس بوك الجريئة، وشباب الأقباط المشغولين بمسألة الوطن قدر انشغالهم بمسألة قباب الكنيسة، وشباب الأحزاب القادرين على سحب الثقة من قيادات أحزابهم إذا وقعت يوماً على بيان مشين، وشباب الموسيقى الذين انتجوا للثورة أغنيات مبهرة، وشباب المخرجين وشباب الضباط وشباب المهندسين والأطباء. حتى في الإعلام، التليفزيون المصري كبير ينتمي للكبار، يحتاج إلى ثورة، والقنوات الفضائية الخاصة مجرد فلول تقف في المسافة الفاصلة بين تليفزيون النظام، وبين وسائل إعلام شبابية كالإنترنت والفيس بوك الذي اخترعه شاب في العشرينات.

انتقال السلطة الإجتماعية لا يحتاج إلى نزول الشارع، هو فقط يحتاج إلى خروج من الإنترنت لكل بيت ومؤسسة، طيب، وما الذي يمكن أن نفعله في جيل الفلول؟؟.. سؤال مهم، من الممكن أن نخبرهم بهدوء وحكمة، أنه حظ أفضل في المرات القادمة.

الثورة انطلقت من الإنترنت الذي دخلنا عليه من هواتفنا عبر تقنية الثري جي، الجيل الثالث، فالجيل الأول ينتمي له مبارك وقد فسد، والجيل الثاني ينتمي له أبي وكان نائماً صباح يوم 25 يناير لأنه من الإخوان ولم يصدر بعد قرار بالنزول، والجيل الثالث هو أنت وأنا، خالد سعيد ومينا دنيال وسيد بلال ووائل غينم ونوارة وأسماء وإسراء. ومليون اسم آخر، اعتقدوا جميعاً أن الشارع للجميع، وأن "اللي ملهوش كبير يشتري له كبير". رغم أن "اللي ربى" ليس دائماً أفضل من "اللي اشترى".. وهذه ثورة للصغار فقط، إلى أن يثبت العكس.

الأحد، أكتوبر 09، 2011

دعاء ركوب الثورة

مرة جديدة، حسبي الله ونعم الوكيل.
هذه المرة من نصيب الشيخ المحترم صفوت حجازي الذي يعرف وحده حكاية شقة العجوزة. تلك التي استقبلت بعض شباب الثوار ليلة موقعة الجمل، حيث الخمر والنسوان والملذات، فالليلة خمر ومزز، وفي الغد ندرس موضوع اسقاط النظام.

يقول الشيخ العلامة، ابن حجازي. (ولاحظ أنه لا توجد شدة في كلمة "علامة"، فالمقصود أن الشيخ علامة مهمة في تاريخنا المعاصر، بالإضافة إلى كونه علامة تجارية في المحطات الفضائية)، أن الشباب الذين يتهمون الإسلاميين بركوب الثورة، هم أيضاً ركبوا أشياء أخرى في شقة العجوزة، والتي اختاروا ليلة موقعة الجمل بالتحديد كي يعملوا فيها جمال وبغال، ويركبوا خيبتهم القوية، ويتركون شباب الإخوان، الطاهر النقي النظيف الجميل اللطيف الذي لا يذهب للعجوزة ولا للشابة حتى، يتركون هؤلاء الشباب يموتون دفاعاً عن الميدان.

لماذا نقول حسبي الله ونعم الوكيل للشيخ المحترم إذن؟
حينما اتصلت به، وعرفته بنفسي، داعبني قائلاً أنه هو أيضاً له ابن اسمه براء. قلت بركة. وأضفت، "اقبلها مني يا شيخ إذن وكأنني ابنك، حسبي الله ونعم الوكيل".. قال، والدهشة تسيطر على صوته، في مين؟، قلت : في حضرتك، تعليقاً على تصريحاتك بخصوص شقة العجوزة.

قال، بعد تنهيدة طويلة، "بيني وبينك ربنا"، وأضاف حديثاً شريفاً تعني خلاصته، أنه تصدق بعرضه على المسلمين، بمعنى أن كل من سبه أو قذفه أو اتهمه باطلاً، فإنه يرجو من المولى عز وجل أن يجعل هذا في ميزان صدقاته.. وحتى نبدأ الحوار سألته : وماذا عن أعراض شباب شقة العجوزة؟، غالبا هم لم يتصدقوا بأعراضهم.. ماذا سنفعل في اتهامك لهم؟.. سكت قليلاً، ثم قال – مع تنهيدة أخرى قصيرة – مش عارف بقى.

لوهلة شعرت كأني أحدث توفيق عكاشة، وأنا هنا أسخر من الشيخ وأتهكم عليه، ولا يضيرني ذلك كون الرجل تصدق بعرضه ولن يتضايق، فقد أخذ الشيخ يحدثني عن محاولات اغتيال يتعرض لها على يد هؤلاء الشباب، وعن ضربهم له ليلة عيد الفطر في ميدان التحرير، وعن أنهم يتهمونه في عرضه وولده وأهل بيته، ويلومني، لماذا لم أتدخل إذن عندما كادوا يقتلونه؟. تنهدت أنا أيضاً وأضفت : مش عارف بقى.

لمدة ثلاث دقائق ظل الرجل يتحدث في جمل قصيرة تبدأ كلها بـ"مش صفوت حجازي"، نذكر منها ما يلي : مش صفوت حجازي اللي لما يغلط الناس تعلقله المشنقة، مش صفوت حجازي اللي ننسى عمل ايه في ميدان التحرير، مش صفوت حجازي اللي الناس تتهكم عليه.. إذن، فالشيخ الفاضل معترف ضمنياً بالخطأ، لكن مشكلته كلها ليست مع الشباب، ولكن مع صفوت حجازي نفسه، الذي يعتقد أن شخص مثله لا تجوز مسائلته أو سؤاله أو حتى عقابه، رغم أن الشيوخ كانوا يعاقبون – عادي جداً – في دولة الخلفاء المسلمين التي يتمنى صفوت وجماعته أن تعود يوماً.

عاد مرة جديدة وقال : بس أنا معايا دليل بالصوت والصورة من داخل شقة العجوزة. قلت : الله أكبر، هيا بنا يا رجل نفضح الشباب.. هيا بنا، ما الذي تنتظره يا شيخ الإسلام. عليك أن تنتقم لنفسك، حطمهم، اقتلهم، حتى تقوم دولة الإسلام.. الدولة الحرة الجميلة الديموقراطية الرائعة، التي ستسمح للشباب في المستقبل بفعل كل ما يريدون داخل الشقق طالما أنها ملكية خاصة، بمعنى أن الشباب يمكن أن يشربوا الخمر ويلهون مع النساء في شقة العجوزة بعد وصول الإسلاميين في الحكم. لكن قبلها، حرام والفضيحة واجبة.

أضاف أنه لن يترك هؤلاء الشباب في حالهم بعد اليوم، ابتسمت واعتبرت المسألة منتهية، مسألة صورة رجل الدين، الشيخ الفاضل، القداسة التي كنا نراها صغاراً حين نشاهد خطيب المسجد بملابسه الأزهرية الجميلة. الآن، يمكن أن يجعلنا الخطيب في الجمعة المقبلة نشاهد فيلماً إباحياً تم انتاجه في تل أبيب بحجة أنه ينتقم من الأعداء.

سألته، لماذا لم تقل ما قلت في أي برنامج تليفزيوني، واخترت أن تقوله في مؤتمر لحزب الحرية والعدالة، وهل يعبر رأيك هذا عن رأي الحزب؟، سكت، وغير الموضوع، قال، عموماً، من حقي أيضاً أن أقول لك حسبي الله ونعم الوكيل، ابتسمت مرة جديدة، وفكرت في مسألة أخرى.. الشيخ صفوت يقول أنه سيبرز السي دي إذا قال الشباب أن الإسلاميين ركبوا الثورة مرة أخرى، ضمنياً، الرجل لا ينفي أن الإسلاميين ركبوا الثورة، لكنه أيضاً يعتقد أن الركوب حلال طالما كان إسلامياً شرعياً دينياً إخوانياً.. وطالما أننا في النهاية نذكر.. دعاء ركوب الثورة.
أخيراً، ولأن أعصابي ما عادت تحتمل، قلت له، يا شيخ يا محترم، قلت في نهاية خطبتك، أن الكلمة نور، وبعض الكلمات قبور، وأنا غير متأكد من أن كلامك كلام قبور، لكنه على الأقل، ليس بنور. هذا، والله أعلم.

الثلاثاء، أكتوبر 04، 2011

مشروع قتل كرة

(1)

توجد حكايتان عن شارع الخلفاوي، الأولى حين ضربني حمزة في وجهي بقطعة صفيح (أخي الذي يصغرني بخمس أو ست أو سبع سنوات، لا أدري، ولا يهم). وسببت الضربة جرحاً غائراً تداوى بعد ذلك بغرزتين ليترك علامة دائمة أسفل فمي.. وهذه حكاية عادية وغير مهمة. وحين انفجرت كرتنا أسفل حافلة بيضاء كتب عليها بالأزرق شركة القاهرة للأدوية..

عندما اشترينا الكرة الجديدة، الغالية، الجيدة، الجميلة.. اجتمعت اسرتنا ثلاثة اجتماعات هامة. الأول، حين تم اتخاذ القرار.. سوف نشتري كرة، ماذا؟، من أين؟، لماذا؟.. والثاني حين جاءت الكرة.. من يلعب بها؟، أين يلعب بها؟، متى يلعب بها؟.. والثالث حينما فقدناها أسفل الحافلة البيضاء.. متى حدث هذا؟، كيف؟، ومن السبب؟..

وبالطبع، فإن كل ما سبق لم يكن يعنينا كأطفال نحب اصطياد ساعة العصاري ونحن نلعب الكرة في شارع الخلفاوي. الشارع السحري، الذي يضيق ويتسع حسب الحاجة، وحسب ساعة نزولك إليه.

في الأيام التي نزلنا فيها مبكراً، كيوم قتل كرتنا، كانت حافلات شركة الأدوية تحتل الشارع بأكمله، فالشركة في شارع الترعة البولاقية المزدحم، والشركة ضخمة، ضخمة جداً، لم نكن نعرف مكانها ولا حتى شكل البناية.. لكن هذا العدد من البشر لابد وأنه يعمل في شركة ضخمة للغاية.. ضخمة جداً.

نحضر أحجارنا الصغيرة، ونصنع مرمى هنا وآخر هناك، نرسم حدود الملعب بخيالنا، ونقسم عدد الأطفال أياً كان إلى فريقين، ونلعب.

لكل أطفال الخلفاوي في كرتنا نصيب. تجمعنا الكرة وتفرقنا نتائج المباريات، التي لا تنتهي غالباً إلا حين نعجز عن رؤية المرمى بسبب الظلام. أو تتدخل أم أثناء اللعب وتسحب أطفالها لسبب أو لآخر. فنعجز عن صنع فريقين بعدد قليل. نزيح الحجارة وقتها ونذهب لشراء الأيس كريم.

محمد كان آخر من لمس الكرة قبل أن تستقر أسفل القاهرة للأدوية، تدرك أنني أتحدث عن الحافلة.
مرت بسرعة لا تلاءم ضيق الشارع، لم ندركها، فاجتمعنا لنعلن أن حقنا سيعود، وانتظرنا الحافلة في اليوم التالي.

نزلنا إلى الشارع مبكراً، لنكتشف وقتها فقط، أن كل حافلات القاهرة للأدوية نسخ متطابقة، وعجزنا عن كشف الحافلة القاتلة. لكن بقايا الكرة كانت لا تزال بين أيدينا.

أحدنا، أنا أو عبادة، (أخي الذي يصغرني بعام أو نصف أو عامين، لا أدري ولا أهتم)، قررنا أن محمد هو المسئول عن قتل كرتنا. ولذا، فإنه وأحمد، شقيقه الذي يكبره أو يصغره بعامين أو ثلاثة، مطالبان بشراء كرة جديدة، تطابق كرتنا، خاصة وأن أسرتنا لم تكن على علم وقتها بجريمة قتل الكرة.

(2)

لمدة شهر أو شهرين، كنت أصعد ستة أدوار كاملة، وأطرق باب شقة أحمد ومحمد، ليطل وجه رجل طويل، فهمت وحدي أنه والدهما، وأطلب منه أن يشتري لنا كرة جديدة. وفي كل مرة كنت أحصل على ذات الإجابة، أول الشهر.

كانت معلوماتي عن الآباء وقتها محدودة، فقط كنت أشاهد "ونيس" قبل النزول إلى اللعب ساعة العصاري، وكنت أظن وقتها الآباء لطفاء وطيبون. وتشغلهم أمور أطفالهم. لم يخبرني عقلي وقتها أن الرجل الطويل يكذب أو يتهرب من دفع عشرة جنيهات كاملة، هي ثمن كرتنا المغدور بها والمأسوف عليها.

بمرور الوقت اكتشفت عدة أشياء، منها أن الكرة يمكن أن تعود للحياة مرة جديدة. اشترينا كرة بلاستيكية رخيصة، ووضعناها داخل الكرة الأولى، ثم أعدنا نفخها، فحصلنا على كرتنا مرة أخرى، لكنها هذه المرة أثقل وزناً (وهذا أمر جيد) وأكثر متانة.

ثم اكتشفت أن الأسرة التي تسمي طفلين فيها بأحمد ومحمد، هي أسرة لن يدفع ربها عشرة جنيهات ثمن كرة قتلها طفله.

ثم لاحظت أن محمد لا ذنب له في المسألة، وأننا قررنا، زوراً وكذباً، أن عليه دفع الجنيهات العشرة، فقط لأنه آخر من لمسها، وتركنا الجاني الأصلي، سائق الحافلة.

ثم اكتشفت، أن مركز شباب الساحل قريب وواسع ودخوله مجاني من خلال فتحة ضيقة في السور. ثم أن الحافلات لا تمر خلاله.

(3)

توجد في الحي الثاني بمدينة أكتوبر مدرسة اسمها "جيل 200"، تقول الأسطورة أن المطرب محمد فؤاد هو صاحبها ومديرها، وحين كنت طفلاً، كنت أصدق هذه الأساطير، فما الذي يمنعه من أن يكون كذلك، خاصة وأنه يظهر مع عدد كبير من الأطفال في أغنياته المصورة..

وحين كنت أمر أمامها، أفكر في مسألة الأسطورة، كانت كرة جميلة تموت تحت عجلات سيارتي. وكان طفل في مثل سني عندما قتلت كرتي يقف وعيونه تملأها الدموع، يفكر، بأي كرة سيلعب في الأيام القادمة.

بسرعة، غادرت مقعدي وقدمت ورقة مالية تحمل رقم عشرين، وانحنيت أمام الطفل أقدم اعتذاراتي. وقدمت عرضاً سخياً، بأنه يمكنني اصطحابه لأي مكان لشراء كرة جديدة، أو يأخذ النقود ويتصرف هو، وبذكاء طفل يعرف ثمن الكرات جيداً، سحب الورقة، وانتشل بقايا كرته من تحت العجلات، وانصرف يمسح دموعه.