الخميس، مايو 29، 2008

"حاجات".. (4)

الإثنين :

ضاع الأمس بدون مذاكرة، كالعادة، مساء ليلة الإمتحان لا يقبل استغلاله في الإعداد للمادة التالية، على الرغم من أنه لا يبقى إلا غداً, لكن لا يهم.

لا يزال الصداع يمسك في رأسي، الساعة تشير إلى الخامسة، استيقظت متأخراً قليلاً، شغلت التليفزيون، لا أستطيع مغادرة السرير. على شاشة "ART سينما" شاهدت الساعة الأولى من فيلم "عمر وسلمى"، يبدو والله أعلم أنني سأخصص هذا اليوم للشتيمة، مزاجي متعكر بسبب الصداع، ولا زلت لا أعرف أي شيء عن مادة من المفترض أن امتحنها غداً.

شاهدت ساعة من الفيلم، أدركت أن الوقت تأخر كفاية، أخذت دشاً بارداً، هذه المرة جلبت الحنفية ماء فاتر، توقعت أن يكون الجو لطيفاً، وقد كان، نزلت إلى الشارع، أكلت بسرعة، واتجهت إلى بسمة الجنوب للبدء في المادة.

قرأت الجرائد في البسمة، لم اقرأها في المطعم لإنشغالي بمكالمة طويلة، لم يكن في الجرائد ما يستحق، فقط مقالة ليسري فودة عن تحقيقه التليفزيوني في "سري للغاية"، أعود لتذكر ما قاله رضا بخصوص العمل في الإعلام، لو لم أكن صحفياً يوماً، ما كان خبر أول أمس في المصري اليوم لينال اهتمامي.

نشرت المصري اليوم في السبت أو الأحد خبراً طويلاً، عن عودة يسري فودة للإقامة في القاهرة بعد إقامة طويلة بلندن مديراً لمكتب الجزيرة هناك، ومحققاً تليفزيونياً هو الأهم بلا شك على الساحة العربية.

لكن هل يستحق يسري فودة، على أهميته خبراً مفصلاً عن عودته للإقامة في القاهرة، ويتم نشره في "صفحة 3"، المخصصة للأخبار المحلية الهامة.. مهنياً لا أعرف إجابة على السؤال، لكن ما أنا متأكد منه، هو أن وراء الخبر علاقة ما بين فودة وبين المصري اليوم.

اليوم تتضح المسألة، يسري اتفق مع المصري على نشر عشرين حلقة عن كواليس تحقيقه الأفضل، لا عيب في ذلك على الإطلاق..

يرن سؤال صحفية زميلة في رأسي، تستنكر هي سلوك بعض الصحفيين، الذين يجرون أحاديث صحفية مع شخصيات معينة لضمان علاقة قوية مع تلك الشخصيات، أخبرتها وقتها أن هذا السلوك، من وجهة نظري لا يعيبه أي شيء، المهم أن تظل العلاقة في إطار العمل الصحفي، ما المانع مثلاً من أن أجري بعض الحوارات الصحفية مع شخصية أتوقع مستقبل ما لها، وذلك لضمان أن أكسبها كمصدر طويل المدى، المهم أن يظل مكسبي لها كمصدر فقط، والمهم أن تكون هناك أي حاجة تحريرية للحوارات الأولى مع الشخصية..

اللعنة مرة أخرى.. كل هذه الأسئلة لأجل خبر صغير في المصري اليوم، مالي أنا ومال سياسات الجريدة أو صفقاتها أو علاقاتها.. أنا قارئ، مجرد قارئ، اتلقى الرسالة الإعلامية بدون التفكير في خلفياتها.

بدأت التركيز في المادة، بدأت الآن فقط أخاف منها، كالعادة، تجاوزت الفصل الأول، كل الفصول الأولى في مواد دراسة الكلية لا تستحق حتى القراءة، تتحدث عن أهمية العلم الذي يتحدث عنه الكتاب، وتؤكد أن هذا العلم قديم قدم البشرية ذاتها، وأنه قديم "كيك" استخدمه الآباء والأجداد الأولون، بدون طبعاً أن يدركوا أن الذي فعلوه للتو اسمه صحافة، وأن تلك الفعلة القذرة في خلفية الجبل اسمها "علاقات عامة".

ذاكرت الفصلين الثاني والثالث والرابع، بدأت أفقد تركيزي بعد ساعة واحدة، ذهبت لياسر وبسام، واستكملت معهم باقي الفصول، قررنا حذف الفصل الخامس، اعتبرناه اعتراضاً منا على طول المادة، المادة التي بدأنا نذاكرها فقط الآن، قبل الإمتحان بنصف يوم أو أقل.

أخبرتهم أنني كرهت الفندق، سألت بسام عن الحجرة الثالثة، "فيها مكان؟؟"، أخبرني أن هناك شخص واحد يقيم بها، هو الآن مسافر، أضاف بسام "خليني أتصل بيه اسأله.. ينفع تقعد معاه ولا لأ، أكيد مش هيرفض، لأنك هتدفع فلوس".

اتصل به، لم يجب، استكملنا المذاكرة، وشاهدنا فيلم "45 يوم"، لم أحب هذا الفيلم، لكنه لم يزعجني حين شاهدته للمرة الأولى في السينما، الآن، أصبح هذا البطء يقتلني، ثم أن مشهد في نهاية الفيلم، من المفروض أنه مشهد مؤثر، يجبرني على الضحك، عزت أبو عوف، في وجه غادة عبد الرازق، يتحدثان لدقيقة، ثم يقترب منها، يضع يده على كتفها، يقول جملة تبدو كأنها خلاصة لكل شيء، "أنتي مش فاهمة حاجة أبداً".. ويمضي في طريقه بينما تستمر غادة بالبكاء.

انتهى الفيلم، شاهدنا فيلم أجنبي آخر، رجل واحد قرر أن يقتل كل الممثلين والكومبارس، وفريق التصوير والإخراج، وحتى المصور، كل الناس ماتوا إلا هو، عنده سير كالموجود في مصانع البسطرمة واللانشون، يضع واحد تلو الآخر، ثم يلقي جسده في خلاط كبير، ويشرب من دمه في "مج" شكله لطيف.

القنوات المشفرة تختلف عن "شانل تو"، فالأخيرة تخصص يوم واحد لأفلام الرعب، كما أنها تحذف المشاهد الإباحية، لدرجة جعلتني أعتقد أن أفلامنا العربية فيها من الإباحية ما يفوق إنتاج هوليود.

بدأت أدرك حقيقة الأمور الآن، لا يمر فيلم واحد إلا وأجده يحتوي على مضاجعة كاملة بين ممثلة وممثل، الغريب أن كلاهما مشهور بما فيه الكفاية ليصبح غير مضطراً لتصوير مثل هذه المشاهد، لكن ومن الذي قال أن هذه المشاهد تحتاج إلى اضطرار مطلقاً، اللعنة على الثقافة السينمائية التي يحصل عليها الواحد من قاعات السينما في مصر، ومن "شانل تو" طبعاً.

فكرت أنني سأمت من الفندق، كما أن المبلغ الذي أدفعه كل ليلة يبدو كبيراً، دون أن أحقق من وراؤه أي فائدة، مجرد نوم هادئ، وقد حصلت على كفايتي من النوم في الأيام السابقة، كما أن الشقة هنا مكيفة، وبالتالي لن يزعجني الحر كما كنت أخاف.

اقترحت على بسام فكرة، قلت "شوف، إحنا نكلم صاحبك تاني دلوقتي، رد كان بها، مردش، أنا كدة كدة هسيب الفندق بكرة، وأشوف أي مكان تاني".. وافق بسام على الفكرة، وجذب الموبايل من الشاحن لإجراء المكالمة المطلوبة.

فكرت أنا في هذه الأثناء أنني أصبحت سريع الملل، وسريع في إتخاذ القرارات.. لست متأكداً من الأخيرة، أعتقد أن سرعة اتخاذ القرارت صفة من أهم صفاتي.. لكن إن شئنا الدقة، فلنقل، عدم التفكير في القرار إطلاقاً.

أنا لا أفكر في تصرفاتي، لم يحدث هذا لي أبداً، وعندما أخلو إلى نفسي، فإنني أراجع بسرعة أهم عشر تصرفات وقرارات فعلتها في حياتي، وأندم عليها بشدة، أندم عليها لدرجة أن جسدي يقشعر، وأني أغلق عيني جيداً خوفاً من رؤية التصرف أو تذكره.

أعترف أن التصرفات كلها بسيطة، مثلاً مرة كنت أشاهد التليفزيون في بيت أقاربي، كنت في الثانوي وقتها، وكانت هناك مسرحية ما أو برنامج الكاميرا الخفية، جلسنا نتفرج أنا وبعض فتيات العائلة القريبات من سنة، كان المعروض كوميدي يجبرني على الضحك، كنت لا أزال واقفاً بالقرب من الشاشة، حدث شيء ما، جعلني أضحك جداً، حتى أنني استغرقت في الضحك، مطلقاً لجسدي العنان، لأدور دورة كاملة حول نفسي، ممدداً يدي إلى الأمام، كنت أبدو كمعتوه حقيقي.

ضحك كل الموجودين في الغرفة، وأصابني ألم شديد في صدري من الضيق، وقتها كنا في رمضان، وامتنعت أنا عن الأكل حداداً على صورتي التي اهتزت أمام فتيات العائلة.

طبعاً يبقى هذا تصرف بسيط، أمام غيره من عشرات ومئات التصرفات الغبية، وطبعاً تبقى كل هذه تصرفات، أمام "القرارات" التي تنتمي للفئة ذاتها من الغباء.

عادي، لا أفكر، ليس عيباً على الإطلاق، ثم أني أعالج الأمر الآن، عرفت أنني سأفشل دائماً في منع نفسي من التهور، ولذلك، اخترت في حياتي عدد من الأشخاص الذين أثق بهم، هم يفكرون بالنيابة عني، ويخبروني بما يجب علي فعله.

لا زلت أنتظر رد من بسام، أخبرني أن صديقه موافق "مبدئياً"، وسيناقش الأمر عند حضوره من خارج قنا غداً أو بعد غد، أخبرته أنني سأحضر حقيبتي من الفندق غداً قبل الذهاب إلى الإمتحان، ثم أنتظر رده النهائي، أكد بسام أنها فكرة جيدة..

رأيت أن الوقت مناسب للرحيل إلى الفندق لخطف ساعات من النوم، راجعنا المادة مرة أخرى بسرعة، ونزلت.

الثلاثاء :

كطالب يبحث عن النجاح يجب أن أنام على الأقل خمس ساعات قبل الإمتحان، أي عدد من الساعات يفوق رقم 3، لكن هذا لم يحدث.

وصلت إلى الفندق متأخراً، صداع يوم الأحد يضرب من جديد، خاصة ما أن أضع رأسي على المخدة، شغلت التليفزيون، وجدت على "شانل تو" فيلم يبدو أنه في منتصفه، اسمه "In America".. أحب هذا النوع من الأفلام، ذكرني بـ"
American Beauty"، وغيره من الأفلام التي انتشرت في التسعينات، والتي حاولت اختزال قصة أمريكا الكبيرة في قصص صغيرة، قصص عادية تماماً، لكنها قادرة على رسم مشهد أمريكي إجتماعي متكامل.

بذكر القصص العادية، الوقت أصبح ملائماً، لأطرح على نفسي السؤال الذي يتعلق بهذه اليوميات، ما الهدف من الجلوس ساعة كل يوم لكتابة ما يزيد عن ألف كلمة، في وصف أحداث اليوم العادية تماماً، بدون أي إحتمال أو توقع لحدوث أي مفاجآت من أي نوع.

سرحت بخيالي، سأصنع من هذه الأوراق صورة كاملة، كتلك التي تصنعها الأفلام السابقة، لكني لم أكن أنوي ذلك من البداية، ثم أن حكاية زيارتي لقنا، وما يتخللها من أحداث، غير معروفة بالنسبة لي حتى أنا نفسي، تلك الحكاية لا أعتقد أنها ملاءمة لرسم هذا المشهد، فأنا مجرد طالب فاشل، يعمل صحفياً ومخرجاً للأفلام الوثائقية، جاء إلى هذه المدينة البعيدة عن بيته واسرته، لأداء امتحانات العام الأخير في دراسته الجامعية التي تأخرت عامين كاملين.. ما الجديد في هذه القصة، وما الأشياء التي يمكن للقارئ أن يستفيدها.

قررت أنني سانشر هذه الأوراق على المدونة، لكني عدت وترددت، لن يقرأها أحد، لن يستمر أحد في قراءة ألف كلمة من الأحداث العادية، لن يستمر أحد في القراءة، أنا نفسي لن أستمر إن وجدت كلام مماثل على مدونة أحدهم.

فكرت أن التمهل مناسب، وأني بعودتي للقاهرة يمكنني أن أرسل هذه الأوراق إلى أي دار نشر مهتمة بنشر ابداعات الشباب، وستجد لأوراقي أي فائدة.

لكن هذه الأوراق ليست إبداعاً، أنا بالفعل لا أعرف لماذا أكتب؟، ولا أين سأنشر هذه الكتابة، لم يحدث من قبل أن جلست لأكتب كل هذا الكم من الكتابة بدون هدف، لكنه على كل حال نوع من الكبت، لم أكتب منذ شهور، آخر مرة كتبت فيها فعلاً كانت هنا في قنا. جلست وقررت أن أكتب مجموعتي القصصية الأولى، أطلقت عليها اسم "فز قوم – مذكرات خائف"، ونشرت الفصل الأخير منها على المدونة باسم "أشعر بالموت"، وقد استقبلت بعدها عرضين لنشر المجموعة، سرت خلف أحدهما، فانتهى مثلما بدأ، مجرد كلام.

يبدو أن قنا تمنحني بعض القدرة على الكتابة، في القاهرة، أقول لأحمد، ودعاء، وغيرهما ما أود كتابته، وحين أجلس أمام الشاشة وابدأ النقر، أكتشف أنني سأكتب كلاماً قلته من قبل، فأفقد حماسي.

لدي عشرات الأوراق على الديسك توب، في كل واحدة سطر أو سطرين أو حتى صفحة، بداية للكتابة في موضوع ما، ومحاولة لقول شيء آخر، لكن يحدث شيء ما يجبرني على التوقف، يرن الهاتف، أكتشف أن هناك من العمل ما هو أهم من الكتابة.

على كل حال، فإن الأوراق الكثيرة لا الديسك توب، لن تصنع مني أبداً كاتباً مهماً، هذا إن كان "مشروع الكتابة"، هو الملائم بالنسبة لشخص مثلي، لا يزال غير قادراً على إدارك نفسه بشكل جيد، لا يزال يتحسس ملامحه في الظلام، محاولاً الإجابة عن الأسئلة الأولى في التحقيق، الاسم.. السن.. العنوان، بالكاد استطاع أن يكتب في خانة النوع "ذكر"، وفي خانة السن "22"، وتمكن من وضع تاريخ يصلح كتاريخ مولده، بحيث يبدأ العد من عنده، والحساب.

إذن، "ملعون أبو الفلسفة".. ستقودني هذه الأفكار إلى السرحان الطويل، والحرمان من ساعات النوم الضرورية لدخول الإمتحان وأنا فايق، كما أن النوم المتأخر يعني بالضرورة استيقاظ متأخر، وبالتالي لن اتمكن من المراجعة التي منيت نفسي بها وأنا مع بسام وياسر، سأجرب طرقي السرية لجلب النوم.. تصبحون على خير..

رأيت نفسي في النوم، كنت هادئاً، أسير بطريقتي المحببة، لا أتعجل، لا أتمهل، بدون أي هدف، طرحت على نفسي كل الأسئلة التي تقلقني، العمل، المرتب، الحصول على عقد جيد يضمن الإستقرار، الإلتزامات الشهرية، دعاء، مليكة، مشروع شراء سيارة، إلخ.

لاحظت – خلال النوم – أن كل الأشياء التي تجلب على عقلي القلق موجودة في القاهرة، وقررت – في النوم أيضاً – أن حل هذا القلق بسيط وسهل، فقط علي أن أبحث عن تذكرة القطار التي جاءت بي إلى هنا، لأدرك من خلالها أن القاهرة هناك، بعيدة، وأنني الآن أحصل على أجازتي، وأن القلق لا يلاءم الأجازات الطويلة.

استيقظت على رنين المنبه، لم أكن عرفت مكان التذكرة بعد في الحلم، ضايقني ذلك، كان الحلم أكثر متعة من الواقع، جربت النوم لساعة إضافية، نمت بالفعل لكن بدون أحلام، أو ربما بحلم آخر قصير، لا يتصل بالحلم الأول.

أصبحت الساعة تشير إلى الحادية عشر ولا زلت أنا على السرير، تلقيت عشرات الـ"ميسد كول" من بسام وياسر ودعاء وأمي، كلها تلح علي أن أنهض، فعلت ذلك في الحادية عشر والنصف، دخلت الحمام بسرعة، وقفت تحت الدش من باب أداء الواجب، خرجت، لملمت أغراضي بشكل سريع، وأصبحت الآن جاهزاً للمغادرة.

نزلت إلى الاستقبال، دفعت ثمن الليلة الأخيرة، شكرت الموظف، وابتسمت ابتسامة تليق بمسافر عى وشك الرحيل عن المدينة، وهو أمر لم يكن من نصيبي هذا الصباح.

خرجت من الفندق، بحثت عن تاكسي يتجاوز بي الشارع إلى عمارة ياسر وبسام، شاورت لواحد لكن السائق لم يلاحظني، فجأة وجدت بسام وياسر أمامي، أخبراني أنهما تأخرا كثيراً، كبنا جميعاً أول تاكسي مر بالشارع، مررنا على العمارة، صعدت أنا وبسام، تركنا الحقيبة الصغيرة، وشنطة اللاب توب، ونزلنا بسرعة، إلى الجامعة.

إذن، أخبرني أيها الطالب البدين، ماذا تعرف عن الفصل الأول والخامس، لست على علم بأي شيء يا "سي الدكتور"، فقد تطوعت مع زملائي بحذف الفصلين، يا راجل، تريدني أن أحفظ نسب الألوان الملائمة، وأنواع الورق، وماذا يحدث عند وضع أزرق 30 مع أحمر 44؟، لن أحفظ هذا الكلام، الموضوع أكبر من ذلك، دعني أحدثك عن "إخراج المجلة" على طريقتي، أقول لك ما تعلمته في سنوات العمل الماضية، أنا أيضاً مخرج، لكني أخرج الأفلام الوثائقية، لا تقلق، سأخبرك عنها هي الأخرى، سأقول لك أن الإخراج واحد مهما تعددت أشكاله وأنواعه..

سأرسب في هذه المادة، إن كتبت هذا الكلام سأرسب بدون شك, هدوء، أحتاج إلى الهدوء للتركيز في هذه الكارثة، نصف الإمتحان في الفصلين المحذوفين من دماغي، النصف الثاني سهل ومعقول، لكن ماذا سأفعل في النصف الأول؟..

الطريقة المعتادة، سأكتب، سأعتبر أن الإمتحان سؤال واحد فقط، "أكتب كل ما تعرفه عن المنهج".. سأكتب كل شيء، بل أني سأرسم أيضاً، هناك بعض الرسومات في الكتاب، سأرسمها لعلها تحنن قلب الدكتور علي أنا الطالب البدين الذي حذف بغباؤه الفصلين الأول والخامس.

انهيت ملزمة الورق المخصصة للإجابة، أصبح خطي أوضح، ربما أنجح في هذه المادة، أجبت عن نصف الإمتحان بطريقة سليمة تماماً، وأجبت عن أسئلة غير تلك التي يريدها الدكتور، لكنها مرتبطة على كل حال بالمادة والكتاب.

خرجت بعد منتصف الوقت بربع ساعة، الجو ألطف كثيراً من جو الأحد، سأقف قليلاً مع الشباب، وقفنا، جلسنا قليلاً في الكافيتريا، لكن يبدو أننا جميعاً أدركنا أن لا شيء يستحق أن يفعل في تلك الساعات الحارة، خرجنا جميعاً دفعة واحدة، بحثنا عن تاكسي، وجدنا واحداً بعد دقائق، طلبت من السائق التوقف قليلاً في الطريق لشراء الجرائد، فلست متأكداً أنني سأستطيع النزول من الشقة في هذا الجو، اشتريت المصري والدستور، ووجدت القاهرة، فقررت شراؤها دون سبب محدد.

وصلت الشقة، جلست ساعة اقرأ الجرائد، ثم قررت النزول إلى انترنت كافية تحت المنزل مباشرة، قضيت عشر دقائق فقط، صعدت بعدها لأنام حتى الحادية عشر، وأفيق وأنا أتضور جوعاً.

تشاورنا جميعاً بخصوص الأكل، اتصلت بالدليل، سألت عن رقم "كويك دور" أذكر أنني رأيت لديهم رقم خدمة للتوصيل، من حسن حظي أن الدليل أصبح يغطي كل المحافظات، سمعت أغاني قليلة على الهاتف قبل أن يرد علي الموظف، سألته، أعطاني الرقم، اتصلت، سجلت رقمي، أعطيته العنوان والطللبات، وصل بعد ربع ساعة فقط، أكلت، وأمضيت ما بقى من ليلة في مشاهدة أفلام أجنبية، القتل فيها مستمر.

الأحد، مايو 25، 2008

"الخروج عند منتصف الوقت".. (3)

الأحد :

"وأنت مالك بالتاريخ، عموماً هما امتحنوها النهاردة الصبح".. قالها بسام في ثقة تلائم منتصف الليل..

أخبرته بسرعة أني أشك في أن التاريخ هو المادة التي رسبت بها في سنة ثالثة، وأنه من المفروض أن أمتحنها "تخلف" هذا التيرم.. قال أن الوقت متأخراً للإتصال بأي من زميلاته للتأكد، لكنه على ما يبدو متأكداً.. كنت أنا من يحتاج إلى أن يتأكد من أقواله، لا أعرف على وجه التحديد إن كان التاريخ هو مادة رسوبي أم أي مادة أخرى..

زفرت في غيظ، "يعني أكون في قنا وما أمتحنش.. والعمل إيه دلوقتي".. أخبروني أنني مضطر لإمتحانها في دور أكتوبر.. كان هذا أكثر شيء قادر على إزعاجي، لن أحضر إلى قنا في أكتوبر مرة أخرى.. لأذاكر وحدي وأمتحن وحدي وأعود وحدي.. على كل حال أي نوع من الغضب الآن يهدد امتحان الغد.. سأرحل للفندق وأنام، ثم يفعل الله ما يشاء في الغد.

في الطريق اتصلت بدعاء، أخبرتها، قالت أشياء غير مفهومة حيث كانت نائمة، زاد هذا من حزني، دخلت إلى محل صغير كان لا يزال مفتوحاً رغم تأخر الوقت، اشتريت بعض الشيكولاتة، وبيبسي، وصعدت إلى الفندق..

راجعت أوراق المادة، شاهدت التليفزيون، نمت في الرابعة، ضبطت المنبه على التاسعة، ثم عدلته إلى التاسعة والنصف، نمت بعمق، واستيقظت في الحادية عشر والنصف على هاتف الغرفة، موظف الريسبشن يسأل "حضرتك مكمل معانا؟"..

دش سريع وملابس نظيفة لونها كلها أزرق، لا أعرف ما الذي جعلني أختار هذا اللون الغامق، أصبحت كل ملابسي غامقة في الفترة الأخيرة، هل أنا مكتئب دون أن أشعر.. استبعدت الفكرة.

نزلت، رن الموبايل، مكالمة طويلة مع أحمد، سألته عن السيناريو ورأيه، قال أنه لم يقرأه بتعمق، لكن "الله ينور".. انتظرت بسام وياسر في مدخل الفندق، وركبنا تاكسي شاهين إلى الجامعة.

نزلت بسرعة إلى بدروم الكلية، حيث "شئون الطلبة"، طلبت نتيجة سنة ثالثة، وجدول امتحانات السنة ذاتها لهذا التيرم، تأكدت شكوكي، امتحان مادة التاريخ – التي هي مادة رسوبي – تم أمس السبت، لشيء ما وجدتني أردد آية وردت في كتاب الدراسات الإستشراقية، في حادثة الإفك، قوله تعالى، "ولا تحسبوه شرا لكم، بل هو خير لكم".. أرسلت الآية إلى دعاء في SMS، وقررت التركيز في الإمتحان الذي سيبدأ بعد قليل.

لم أفعل بالطبع، ذهب تركيزي كله إلى العمل، اتصالات متتالية، أحمد، رضا، كان علي الإتصال بعبد الله الطحاوي، أولاً لقول "مبروك" على عقد قرانه الذي تم بالأمس، وثانياً لأطلب منه بعض الأوراق المتعلقة بالعمل، رد عبد الله الحاسم أفقدني كل حماسي الذي بدأت به الإتصال، سيسافر مساء اليوم إلى "تانزانيا"، لا أعرف حتى إن كان هذا هو أسمها الصحيح، وسيعود مساء الخميس، وكنت أحتاج منه الأوراق مساء اليوم على أفضل تقدير.. اتصلت بأحمد وأخبرته بأننا مضطرين للبحث عن خطة أخرى، طلب مني التركيز في الإمتحان، وحتى يحصل هو على فرصة للتفكير.

لا أفرح كثيراً عندما أكتشف سهولة إمتحان ما، غالباً أحصل على درجات أسوأ في الامتحانات السهلة، الامتحان الصعب يمثل تحدياً ما لأن أقول للدكتور شيئاً من عندي، شيئاً يمثلني، معالجتي الخاصة لطريقة الإجابة على سؤال صعب لا أعرف إجابته النموذجية.

وجدت امتحان الإستشراق كما توقعته، أجبت كما يتوقع الدكتور الإجابة، سأحصل على درجة سيئة تمنحني النجاح بالكاد، عرفت هذا عندما راجعت الورقة، وأكتشفت مدى سوء خطي، على كل حال فقد انتهيت من الورقة كلها، إجابتي على الأسئلة ملأت عشر ورقات من كلام لا أؤمن به، ولا يناسب طريقة تفكيري، تلك مشكلتي التي سأتكفل بحلها، أما مشكلة الدكتور، فتتعلق بضميره، هل سيعطي هذا الطالب، الذي كتب كلاماً كثيراً، بخط سيء، درجة لائقة، بغض النظر عن محتوى ما كتب؟، أم سيعتبر حسن الخط من حسن الإجابة، وبالتالي فينال هذا الطالب فرصة جيدة لتحسين خطه في دور أكتوبر المجيد، وربما في العام القادم؟.. تلك مشكلة الدكتور، وزملاءه الذين سيقرأون أوراق إجابتي في المواد الستة الباقية.

أحاول تحسين خطي بقدر ما أحاول أن أفقد قدراً من وزني، إن كنت تعرفني عن قرب، فأنت تعلم بالتأكيد أني لم أحاول ولو مرة واحدة أن أفقد جراماً واحداً من وزني، لم يحدث هذا منذ عصر بدانتي الأول في إبتدائي وإعدادي، لست فخوراً ببدانتي، كما أني لست حزيناً لأجلها، لم أشعر بالعار بعد لأني أشغل حيز أكبر في الفراغ مقارنة بالحيز الذي تشغله أنت أو أنتِ، لم يشتكي الفراغ مني، ولن يشتكي.

أعتقد أنني لن أفعلها وأحسن خطي يوماً ما، كل الشواهد تؤكد ذلك، إنها المرة الأولى التي أمسك فيها القلم منذ ثلاث أو أربع أشهر، منذ الإمتحانات السابقة بالتحديد، ما بينها كان كتابة مستمرة بطريقة النقر على الكيبورد، أصبحت سريعاً جداً على الكيبورد، أكتب وأنا مغمض، وأكتب وأنا متعب، وأكتب وأنا فاقد للتركيز.. لا شيء يمنعني من النقر، لا قلق من الأخطاء المطبعية التي تنصلح وحدها بفضل بعض التقنيات، ولا خوف من صياغة ركيكة يمكن معالجتها في ثواني..

مر نصف الوقت، انتظرت عشر دقائق إضافية لأني لم أكن انتهيت بعد من السؤال الأخير.. أعتقد أن سيرتي الذاتية يمكن أن تحمل يوماً هذا الإسم "الخروج قبل منتصف الوقت".. أو بتعديل آخر، "الخروج عند منتصف الوقت"..

لا أعرف الحكمة التربوية التعليمية التي تجبر الطلبة على الجلوس نصف الوقت في اللجنة، وتمنعهم من الخروج قبل هذا الموعد، كل إمتحان مررت به في حياتي كانت تطبق فيه القاعدة السابقة، لماذا، الله وحده، ومن بعده وزير التعليم، يعلمان سر ذلك القانون الغريب.

ولأمر ما في نفسي، فقد ظلت أمنية الخروج قبل منتصف الوقت تلازمني في كل إمتحان، وبالنظر إلى الوقت القصير الذي مر في حياتي، ربما يمكن فلسفة الأمور بحيث تفهم أن فكرة نصف الوقت تسيطر على تفكيري في كل شيء، في العمل، في الزواج، في العلاقات الإجتماعية، خليط من التهور والإستعجال والفهلوة، خليط من الثقة بالنفس، والثقة بأنه لا يوجد المزيد لفعله، خليط من الرغبة في الإنجاز، وبين الزهد فيما بين اليد، والتطلع لما خارجها.. منتصف الوقت، والخروج بعده بقليل، تلك أمنيتي التي تتحقق غالباً في إمتحاناتي الصغيرة في الحياة، وكما تعلم عن الإمتحانات، ليست كلها تتم في لجان وزارتي التعليم والتعليم العالي..

خرجت، وقفت قليلاً أمام اللجنة، أجريت بضعة مكالمات سريعة، دعاء، ثم العمل مرة أخرى، اتجهت إلى الكافيتريا، اشتريت زجاجة مياة صغيرة، وبيبسي، وجدت عند باب الكافيتريا صديقة قديمة، كانت تجلس خلفي تماماً في اللجنة، هي الأخرى اسمها "ش"، أمر غريب، تقريباً أصبحت لا أعرف في قنا إلا "ش" و"ش"..

وقفنا نتحدث قليلاً، كالعادة، الذكريات التي لم أعد أتذكرها، "فاكر زمان"، "كانت أيام"، "فرحانة إني شوفتك"، "مش ناوي تتجوز؟".

تركت الجمل السابقة وأجبت على الأخيرة "أنا اتجوزت، وعندي دلوقتي مليكة، 4 شهور تقريباً"..

تصنعت الدهشة، تفاجأت، وضعت كفها على جبينها، لم تلصق الكف في الوجه، كان مليئاً بالمكياج، بحيث خافت هي – وخفت معها في الحقيقة – أن تفسد اليد ما وقفت ترسمه – بذات اليد - ساعة كاملة في الصباح.

قالت أنها مفاجأة حقيقية، وأنها غير مصدقة بالمرة، تصنعت الإهتمام بإثبات أن اخبر حقيقي، قلبت في الموبايل، وجدت صورة دعاء أثناء الفرح، واجهتها بالحقيقة، ضحكت، قالت كلاماً جميلاً بحق عروسي، "جميلة"، "ملامحها مسمسمة"، "شكلها بتحبك".. سمعت الأوصاف السابقة كلها مرات عديدة، رددت بما يليق بموقف مماثل، وقررت أن أعزمها على بيبسي.

طلبنا 2 فانتا، وقفنا في ركن مظلل، استكمالنا الحديث، ضحكت، قالت، "تصدق، أنا كنت عاملة حسابي عليك، بس أنت عملتها وإتجوزت، عموماً خد رقمي لو فكرت تتجوز تاني".. وافقت – على أخذ الرقم – ووعدتها بالتفكير في الأمر.. رن موبايلي، انشغلت بالرد عليه، استأذنتها في الإبتعاد قليلاً، وفقدتها بعد ذلك في الزحام.

عدت إلى الشباب، بسام وياسر خرجا من اللجنة بعدي بقليل، راجعنا أجوبتنا، تأكدنا أنها متطابقة – بغض النظر عن مدى صوابها من عدمه – ثم انشغلنا بالتدخين، هذه هي المرة الأخيرة التي أدخن فيها داخل الجامعة، أخرجت سيجاراً صغيراً، ودخنت، قلدتهم، تظاهرت بعدم الاكتراث، لا أفعل شيئاً مختلفاً بالمرة، فقط أدخن داخل الجامعة، سألتهم "مش خايفين العميد يكون معدي ويشوفنا فيرفدنا؟"، سألني ياسر "ليه؟"، قلت "عشان بندخن..!"، ضحكوا جميعاً واعتبروها نكتة جيدة.. ضحت أنا الآخر وتظاهرت بأنها نكتة فعلاً.

وقفت ساعة أو أكثر، لم يكن هناك ما يستدعي وقوفي، فقط إجراء بعض المكالمات واستقبال البعض الآخر، ثم تفرغت لمراقبة فتيات الجامعة، شكل البنات هنا – في قنا – مختلف تماماً عن بنات القاهرة، هن بلا شك أكثر حشمة – داخل الجامعة فقط – لكنهن – والأمر يحتاج إلى تجربة شخصية منك – أكثر إثارة، أو فلنقل - لدواعي الحشمة والوقار والإحترام - أنها أكثر جاذبية.

عموماً الوقت ليس ملائماً للحديث عن الفروق بين بنات وهنا وبنات هناك، كلهن بنات، وقد أخذت نصيبي – المؤقت على الأقل – منهن بالزواج من بنت (جميلة، ملامحها مسمسمة، شكلها بتحبني) هي دعاء..

بدأت طريق الخروج من الجامعة، أقول طريق لأن الأمر استغرق ساعة كاملة، مشيت ما يقرب من كيلو ونصف تحت الشمس، والشمس في قنا مختلفة تماماً عن الشمس في القاهرة وما يجاورها من محافظات.. مشيت تحت الشمس، وتأثر رأسي لدرجة أني تخيلت أني إن جربت ووضعت يدي على شعري، فستدخل أصابعي داخل نافوخي، وتترك أثراً دائماً..

بحثت عن تاكسي دون جدوى، وقفت بعد مدة عند ركن مظلل، اتصلت بسام الذي وصل بعد دقيقتين إلى نفس مكاني، وجدنا أخيراً ميكروباص فارغ، ملأناه في دقيقة، واتخذنا طريقنا للعودة.

لأول مرة أمر من الصهاريج منذ أتيت، لاأعرف سبب تسمية المكان بهذا الإسم، شارع واحد، طويل، مفصل بالكامل عن قنا كلها، لا يشبه باقي شوارعها في أي شيء، ربما لأنه مكان السوق، زحام، محلات لبيع أي وكل شيء.. في نصفه تماماً يرقد مقام لشيخ ما، اسمه غير مكتوب، لا يزال هذا المقام يحتل جزءاً كبيراً من ذاكرتي..

المقام بجوار محل لبيع الملابس الداخلية الحريمي، وصاحب المحل يفتش عن أي متر لعرض قمصان نوم ساخنة فعلاً، لا مانع إذن من شد حبل قصير، بين باب المقام، وبين باب المحل، حتى باب المقام نفسه، لم يسلم من قميص أحمر موديل "البيبي دول"، والعديد من الصديريات، وأكثر من "كيلوت" بألوان متعددة.

جاءتني منذ سنوات فكرة كتابة رواية عن المشهد كله، حتى أني أتيت مرة وصورته من زوايا مختلفة، وباليل والنهار، وحتى وقت قريب، كنت لا أزال أملك الصور، إلا أنها ضاعت في مرة من مرات استبدال ويندوز اللاب توب.

كتبت بالفعل عشر صفحات من الرواية، وبالطبع لم تكتمل.

نزلت من الميكروباص، فعلت الأشياء التي يجب أن تحدث، فرشة الجرائد، المصري والدستور، ثم كويك دور للغداء.

أرهق اللاب توب كتفي، تذكرت نصيحة "رضا" بخصوصه، لم أعد أقوى على حمله إطلاقاً، أحلم بالتخلص منه نهائياً بإلقاؤه على الرصيف، بدأت أراهن نفسي، سأعيش ليلة صعبة، سيسيطر علي الصداع إياه، صداع الشمس، "صداع الدوحة"، أحب أن أسمي الأشياء، أحمد يقول أنها عادة لدي، أطلق على الأشياء أسماء خاصة بي، في المرة الأخيرة أخبرته أنني أصبحت أتعرض لما أسميه "مرض اليوم الواحد".. تعب شديد يستمر ليوم واحد، أشخصه باعتباره برد مثلاً، ثم يختفي في صباح اليوم التالي، بل ويكتسب جسدي قدراً من النشاط بعدها.

"صداع الدوحة" أعرفه جيداً، أصابني للمرة الأولى في الدوحة، خلال وجودي هناك للدراسة في مركز الجزيرة للتدريب، وبالتحديد في يوم تصوير مشروع التخرج، وقفت في الشمس ما يزيد عن الساعتين، وهؤلاء الذين زاروا الدوحة في شهر أغسطس يعرفون خطورة فعلتي.

ليلتها أصابني صداع استمر لأيام، صداع في العين، صداع يتنقل في أجزاء نافوخي، ومع الصداع، ترتفع درجة حرارتي بشدة، ليس الإرتفاع العادي، أشعر كأن جسدي جذب الحرارة طوال النهار واحتفظ بها، ثم قرر طردها مرة واحدة.

ليلتها، قرر "هاني بشر" أن يسعفني بأي طريقة، أجرى اتصالاً مطولاً مع طبيب ما، ونفذ تعليماته التي تلخصت في وضع قطع من الثلج أسفل رأسي، وشرب العديد من العصائر المسكرة، في اليوم التالي لهذا أخبرني "هاني" أن الدكتور بيطرياً، وأخبرته أنا أن كل العصائر التي اشتراها هو لي كانت بدون سكر.

سيصيبني هذا الصداع الليلة، سأشعر به بعد ساعة ربما، بعد أن أعود للفندق وأنام.

عدت للفندق، حاولت النوم، كانت فكرة الصداع تسيطر على أفكاري، أصابني الصداع بالفعل بعد ساعتين من محاولة النوم، قمت بعدها وأنا أشعر بالغضب، شعرت أنني السبب في الصداع وليس الشمس، أنا من هيأت نفسي للمرض.

شغلت التليفزيون، شاهدت برامج مختلفة، ثم قررت النزول فجأة، وقفت تحت الدش فترة كافية، ارتديت ملابسي ونزلت.

لماذا أشعر بالجوع الآن رغم مرور وقت قصير على تناولي الغذاء، لم أهتم بالإجابة على السؤال، الساعة الآن العاشرة، والوقت متأخر كفاية لأسرع في خطوتي، المطعم على وشك الإغلاق، أو هكذا أتخيل.

صعدت للصالة العليا بمطعم "الشيف"، أشعر أنني سأسترد عافيتي إن أكلت جيداً، طلبت ساندوتشين، وجلست أكتب تفاصيل الأيام السابقة على اللاب توب، لماذا أحضرت هذا الجهاز معي إلى المطعم رغم أنه سبب الألم لكتفي في الظهيرة، أنا غبي، لابد أن أعترف بذلك.

أكلت، شاهدت بطرف عيني صينية كبيرة من "الكنافة بالقشدة" ترقد داخل ثلاجة العرض، كنافة بالقشدة وليست بالكريمة، الكنافة المحشوة بالكريمة منتشرة في القاهرة، لكن "أم قشدة" لا توجد إلا هنا، على الأقل لم أجد مثلها في القاهرة.

طلبت من العامل أن يحضر لي كيلو كنافة بالقشدة، سألني وكأنه يعلم أني من أهل مصر "بالقشدة ولا بالكريمة؟"، أكدت أني أريدها بالقشدة، ابتسم، وكأنه يتمنى لي مضاجعة ناجحة لعاهرة تولى هو أمر إحضارها حتى عندي.

دفعت الحساب واستلمت لفة الكنافة، فكرت أن هذه اللفافة ستجلب قدر من السعادة على شقة الطلبة التي يقطن بها ياسر وبسام، ذهبت إلى هناك، وجلسنا نأكلها جميعاً.

كعادة الرجال، ظللت خائفاً من ألا يكفي الكيلو لاحتياجات الشباب، ظللت أنظر للطبق بريبة، كأني أسأله، هل ستكفي؟، امتنعت عن النظر بعد قليل، خشيت أن يضبطني أحدهم وأنا أفعل ذلك فيفهم أنني أخشى أن تنتهي الكنافة وأنني أنوي أخذ الباقي معي إلى الفندق.

كعادة الرجال أيضاً، كان الكيلو كافياً جداً، حتى أن أكثر من الثلث كان لا يزال سليماً، تذكرت دعاء، تغضب دائماً عندما أبالغ في تقديري للكميات، عندما نكون في انتظار زيارة من أقارب أو أصدقاء، أقترح عليها شراء بعض قطع الجاتوة من المحل القريب، توافق، ثم تصدمني بشراءها عدد من القطع يساوي عدد الضيوف المنتظرين، حتى بدون ترك هامش للمفاجأة، اسألها : "طب إفرضي الناس جت زيادة واحد أو اتنين؟"، تجيبني بثقة معتادة "متقلقش".. الغريب أنه في كل مرة تصدق توقعاتها.

ما يسري على الجاتوة يسري على البيض، فأنا غير مقتنع على الإطلاق بنظرة بيضة أو بيضتين لكل فرض، الفرض يمكنه أكل كرتونة بيض كاملة، لماذا إذن الإقتصاد الذي قد يعرضنا للحرج أمام الغرباء، وكالعادة، يكفي البيض، وتصدق نظرية دعاء، وفي كل مرة تنفذ فيها رأيي، وتشتري قطع أكثر، أو تكسر بيضاً زيادة، يبقى من البيض والجاتوة ما تقول أنها ستجبرني على أكله، وهو بالطبع قول لم يصدق حتى الآن، فلم يحدث أن أكلت بيضاً من الليلة الماضية، أو أكلت جاتوة غير طازج.. ربما لأني كنت أصعب عليها فتقبل برمي الأشياء السابقة أفضل من أن تجبرني على أكلها.. وهي قادرة.

لا يزال الصداع يسيطر على دماغي، دخنت سيجاراً، لم يفلح في وقف الألم، قررت العودة للفندق، والنوم المبكر، نظرت في ساعة موبايلي وضحكت، من جاء بسيرة البكور، الساعة الآن الرابعة، يا رب أعرف أدخل الفندق في هذه الساعة المتأخرة.. وصلت.. كان لا يزال مفتوحاً، صعدت لغرفتي.. جلست قليلاً أمام التليفزيون، سمعت آذان الفجر، توضيت وصليت، وكنت قد أعلنت "تسليم النمر" مع الركعة الأخيرة.. استلقيت على السرير.. الصداع يدق في نافوخي.. هو بعينه صداع الدوحة.. تصبحي على خير يا مليكة.

الخميس، مايو 22، 2008

"حاجات".. (2)


الجمعة :

هل يوجد أجمل من النوم مدة 12 ساعة متواصلة، أستيقظت في الثالثة أو الرابعة، تسيطر علي حالة غريبة، أشعر كأني أعيش أجواء نهاية فيلم أنا بطله، فيلم طويل قصير، طويل لأنه استغرق سنوات ستة، وقصير لأن أحداثه مرت بسرعة شديدة، وبدون أي ملل.

جئت إلى قنا للمرة الأولى في وقت مثل هذا، في أغسطس، نفس الحر، نفس الروح العالية المرتفعة، نفس القدر من السعادة.

عندما قرر مكتب التنسيق أن كلية الآداب بجامعة جنوب الوادي فرع قنا هي المكان المناسب لي، كنت وقتها في الطائف، في زيارة عمل مع والدي، فرحت وقتها بقدر أجبر أبي على الإندهاش، كانت أمنية الدراسة خارج القاهرة تحتل المرتبة الأولى في لائحة أمنياتي السرية التي لم يتحقق منها شيء.

جئت إلى قنا للمرة الأولى مع موظف في شركة أبي اسمه أيمن، جاء هو في زيارة تسويقية لمنتجات الشركة، وجئت أنا لأحجز مكاني في قسم الصحافة والإعلام، طالباً في الفرقة الأولى.

آسرني هذا البلد منذ البداية، رغم الحر، واختفاء أي مظاهر للترفيه، إلا أن البعد الشديد بينها وبين القاهرة كان كافياً، كنت وقتها أكره القاهرة لدرجة جعلتني أتقبل أي شيء، إلا أن قناعتي تلك لم تستمر إلا شهور قليلة، انتهت بنهاية العام الدراسي الأول، وظهور نتيجتي التي احتوت على خبر تكرر بعدها مرة أخرى، سأعيد العام لأني رسبت في مواد ثلاثة، اللعنة على الدراسة، ولتبدأ الخطة B.

الخطة B تلخصت في العودة للقاهرة، والبحث عن عمل، بعيداً عن شركة أبي، وبالتحديد في مجال دراستي، الإعلام، وقتها عرفت أشياء كثيرة، وفتح أمامي باباً سرياً للمعرفة المقترنة بالسعادة.

لو خيرني أحدهم بين الرسوب في العام الأول والبدء بتنفيذ الخطة البديلة، وبين النجاح بتفوق وتحقيق طموح والديبأن يصبح لديه ابن ناجح يدرس الماجيستير في دولة أوربية على نفقة الدولة، لو خيرني أحدهم لاخترت الخيار الأول، لا أتذكر بالضبط ملابسات رسوبي، لكن ما أعرفه جيداً أنني كنت أحتاج إلى هذا الرسوب، بدونه لم أكن لأذهب إلى رئيس تحرير جريدة "آفاق عربية" أعرض عليه حوار مع رئيس جامعتي، وبدونه ما كان لرئيس التحرير هذا أن يخبرني – بتعالي يناسب رؤساء التحرير – أن المكان المناسب لهذا الحوار هو مجلة حائط مدرستي الثانوية.

بدون هذا الرسوب لم أكن لأفكر في الإعتماد على نفسي مادياً، مدركاً أن قربتي المخرومة ستستمر في "الخر" على نافوخي لفترة طويلة، بحسب توقعات أبي.

بدون هذا الرسوب لم أكن لأفقد الثقة في الأفكار التي اعتنقتها بصدق أيام الثانوي، وبدونه أيضاً فإن لمسة العنف التي تظهر في أفكاري لم تكن لتظهر.

بدون هذا الرسوب لم أكن لأعرف هذا الكم من البشر، لم تكن البوابة لتفتح، بوابة عالم حقيقي، يفصلني عن عالم طفولتي ومراهقتي.

بدون هذا الرسوب، ما كان شيئاً مختلفاً سيحدث، كانت الأمور كلها ستسير في مسارها الطبيعي، ولعلي الآن، كنت سأحظى بفرصة ما، للعمل في دولة عربية شقيقة، في مجال يتعلق بالإعلام، بوظيفة ساعدني في الحصول عليها رئيس تحرير "آفاق عربية"، الذي أقنعني أن مهنة الصحافة لا تلائمني، وأن الإسلام بحاجة إلى أكاديمي إعلامي يدرس الإعلام لأجيال قادمة (باعتبار أن الجيل الحالي لن يحقق النصر أو التمكين، وأن هذه الأشياء من نصيب الأجيال القادمة، وأن دورنا يقتصر في تربية الأشبال، ليحصدوا ما نعجز نحن عن حصاده).

بدون هذا الرسوب، كنت سأظل مكاني، أحلم بمرتب يتكون من عدة مئات من الجنيهات، وبالزواج وأنا على مشارف الثلاثينات، وبزوجة بنت 18، تنتهي لتوها من دراستها في جامعة الأزهر أو معهد إعداد الدعاة، وبسيارة طراز "شاهين"، مستعملة، موديل عام مولدي.. 1985.

.............

انتهت ذكرياتي وأنا لا أزال نائماً على السرير بدون حراك، ما أحلى النوم المتواصل لكل هذه المدة، سأظل كما أنا، أحب هذه الحركة، تعلمتها في قنا، مددت يدي وأغلقت التكييف، وقررت أن أظل نائماً حتى ترتفع درجة حرارة الغرفة ويبدأ جسمي في طرد العرق، أحب رائحة جسمي في تلك الحالة، أشعر كأني لم أستحم منذ أيام، أظل هكذا مدة طويلة، أقرر تشغيل التليفزيون ومشاهدة أي شيء، أقلب بين القنوات بهستيرية، من 1 حتى 22، والعكس، أتخيل أن الباب سيدق بعنف الآن، وسيدخل مدير الفندق ويأمرني بالرحيل، قائلاً أن رائحة جسمي لا تحتمل، وأني على وشك تعطيل التليفزيون، أضحك في سري، أشعل سيجاراً جلبته معي من القاهرة، أقرر أن الوقت قد حان لدخول الحمام والحصول على دش بارد، هو في الحقيقة ساخن، شأنه في ذلك شأن باقي الأشياء المنتشرة في بلد مثل قنا.

نزلت، تركت حقيبة اللاب توب في الغرفة، وقررت أن الوقت مناسب للتسكع قليلاً، مررت على استقبال الفندق، طلبت من الموظف عدم تنظيف الغرفة لأن أشيائي منتشرة بشكل يجعلني قلقاً من ضياع أي شيء، وأكدت أن الجرائد الملقاة في كل مكان ليست زبالة، وأني أريدها مكانها، طمأني الموظف بقوله أن عمال النظافة رحلوا اليوم مبكراً، وأن التنظيف سيتم في الغد.

خرجت من الفندق، الجو أفضل كثيراً، مررت على فرشة الجرائد، أحضرت المصري والدستور الفجر، وروزاليوسف، وكالعادة ندمت على شراء "روزا" بمجرد ابتعادي عن الفرشة وقراءة عناوين مقالات الثنائي العبقري كرم جبر وعبد الله كمال.

الآن أستطيع أن أعرف محتوى المقال من قراءة عناونه، فمضمون مقال الثنائي العبقري لن يخرج عن كونه أمراً من ثلاث، الحديث عن القوى الخارجية التي تستهدف مصر، الحديث عن القوى الداخلية التي تستهدف هي الأخرى مصر بإيعاز من القوى الخارجية، الحديث عن حكمة الحكومة والرئيس ومن سار في ركابهما إلى انتخابات 2011..

اللعنة، "رضا" عنده حق، لابد أن تتعلم أن تخلص نفسك من مهنتك في لحظة وتتحول إلى مجرد مستقبل للرسائل، العمل في الإعلام، بالإضافة إلى ما فيه من مصائب كثيرة، يفقد الواحد منا متعة القراءة العادية، يمنعه من الإندهاش، يجبره على عدم الإشادة بالعناوين الجيدة أو المقالات الرائعة، انسى وأنت تعمل في الإعلام أن تخرج من السينما قبل قراءة التتيرات، أن تشاهد سيناريست يتحدث في توك شو فاشل دون أن تهتم، أن تجد مقالاً عن صناعة الترفيه مكتوب باليابانية العامية دون أن تحاول ترجمته أو تجبر نفسك على تعلم اليابانية.

فجأة يتحول كل "الإعلاميين" إلى منافسين لك، كل صحفي هو مجرد شخص يفعل شيئاً تستطيع أنت أن تفعله بشكل أفضل، كل كاتب عامود هو مجرد شخص آخر يجيد الكتابة، لكن ليس كما تجيدها أنت، كل مفكر، هو مجرد شخص ثالث يجيد التفكير، ويصل إلى أفكار من بنات أفكاره، لكنك تعلم، أنك لو جلست في بلكونة بيتك، وفكرت قليلاً، فستصل بالتأكيد إلى نتائج أفضل كثيراً، سواء من بنات أفكارك، أو من بنات الجيران التي تطل عليهم بلكونتك.

بمناسبة البلكونة، أتذكر الآن أن جارة تسكن في الشقة التي أمامي، سمعتها قبل سفري بأيام تسب زوجها، في وصلة سباب دورية اعتدت عليها أنا ودعاء منذ أن سكنا في هذه الشقة، منذ عام تقريبا، لكني هذه المرة كنت أستطيع السماع بشكل أفضل، كما أن نيتي في التلصص كانت خالصة لوجه سيناريو فيلم أعمل عليه الآن، تلصصت لعلي أجد في الكلام ما يمنحني جملة حوار أو فكرة شخصية، والحقيقة أن جارتي المصون كانت كريمة بحيث أعطتني كل شيء.. سمعت جمل متقطعة كانت كافية لتطلعني على الصورة كلها..

"أنت فاكر نفسك إيه.. أنت مش أكتر من راسبوتين.. راسبوتين قذر، طبعا أنت متعرفش يعني إيه راسبوتين يا جاهل.. هتعرفه منين.. من ذقنك دي.. اللي بتضحك بيها على كل الناس.. اسمع.. أنا فضلت عايشة معاك ومخدوعة فيك ومستحملاك عشرين سنة.. بس عمري ما هسمحلك بعد كل الوقت ده تيجي وتمد إيدك على بنت من بناتي"..

انتهى كلام الجارة المصون، التي لا أعرف شكلها ولا شكل بناتها ولا شكل هذا الراسبوتين الذي أخبرني البواب بأنه لا يعيش معهم ويأتي لهم من وقت لآخر.. سألت نفسي وقتها، هل يستحق بني آدم – أياً كان – أن يجعل بني آدم آخر – أياً كان برضه – يحتمل كل هذه المدة..

سألت دعاء في اليوم التالي السؤال الذي علمني إياه أحمد، "أنتي مضطرة تعيشي معايا.. أرجوكي لو مضطرة قوليلي.. وأنا هعفيكي من أي ألم وهعرف أنسحب من حياتك بمنتهى الهدوء.. دعاء.. هو أنا راسبوتين؟"..

كنت أعلم الإجابة وقتها، فلا أنا راسبوتين ولا نيلة، كما أن دعاء – على خلافتنا المتكررة – غير مضطرة على الإطلاق لفعل أي شيء، دعاء لا تعرف الإضطرار أصلاً، لا في حياتها الزوجية ولا في غيرها، كما أن الحياة معي – كزوج – لطيفة من وجهة نظري يما يتعلق بمسألة الإضطرار.

أخبر دعاء أنني على استعداد للقدوم إلى البيت يوماً بعد منتصف الليل لأجدها ما زالت بالخارج، فقط سأتصل بها أطمئن عليها، وأطلب منها إحضار عيش فينو معها لأني جعان، أو شراء الجرائد من ناصية الشارع إن كان اليوم هو الخميس.

أخبر دعاء بأني لن أسألها إن قررت خلع الحجاب مثلاً عن سر قرارها، وإن طلبت مني يوماً مبلغاً نقدياً كبيراً لإنفاقه في شيء ما لا أعرفه ولا يحق لي ذلك، فسأجتهد – بمنتهى الضمير – لإحضار المبلغ في الوقت المطلوب.

أخبر دعاء أنني أمنحها كل صباح حريتها الكاملة، لا أشغل بالي بأي رقابة على تصرفاتها، وأخبرها أيضاً، بعد هذه المحاضرة الرقيقة، أنني أفعل كل هذا فقط حتى أنال أنا الآخر حريتي، أو على الأقل قدراً منها.

بالطبع تلتزم دعاء بالحضور إلى المنزل في وقت حددته هي لنفسها، كما أنها أيضاً تصر على إخباري بكل كبيرة وصغيرة في حياتها، وأنا طبعاً أتفهم ذلك بكونه احتراماً جميلاً منها تجاهي، وبكونه أيضاً، ذكاء أنثوي حاد، من زوجة تعرف هدف زوجها، فتمنعه إياه بمنتهى الحكة.

.......

هل سأأكل اليوم في "كويك دور"؟، لا.. بالأمس كانت البيتزا سيئة، كما أن الجو هذا العصر جميل، ويسمح لي بالتمشية للأمام قليلاً لأصل إلى "الشيف"، أفضل مطاعم قنا على الإطلاق في نظري المتواضع.

دخلت، صالة الطعام كلها فارغة، سألت عن إذا ما كان المطعم يعمل، أجابوني بإيجاب ودهشة، تذكرت أن اليوم هو الجمعة وأن الجميع على موعد مع غداء عائلي، بالإضافة إلى أن هناك مبارة ما جعلت البعض يفضل مشاهدتها في المنزل بدلاً من الغداء في الخارج، طلبت بيتزا وساندوتش صغير وبيبسي.

من المطعم إلى شقة ياسر وبسام، مروراً بالفندق الذي أحضرت منه حقيبة اللاب توب، قرأت أجزاء كثيرة من كتاب المادة، فتحت اللاب توب، وجلست أكتب ما حدث في الأربعاء والخميس والجمعة.

عدت إلى الفندق في الواحدة من صباح السبت، كلمت دعاء في الطريق بينما كنت أسير والشراع خالي تماماً، كانت نائمة، سألتها عن موعد عودتها للقاهرة من كفر الشيخ، قالت صباح السبت.. وأغلقت في وجهي.. هكذا تفعل عند النوم.

السبت :

أيقظني الموبايل 10 مرات، وأيقظني تليفون الغرفة مرتين، الأولى لم أرد أساساً، والثانية كانت لسؤالي عما إذا كنت مستمر في الإقامة لليلة أخرى أم أني سأرحل.

كررت طقوس الأمس، أجمل ما في هذه الأجازة أنها تسمح لي بتكرار الأشياء بدون أي قلق.. وقفت تحت الدش لوقت أطول، استخدت صابونة الفندق، أفضل الإستحمام دون صابون على الإطلاق، لا أحب ملمس الصابون على جسدي، كذلك لا أحب الليفة، أفضل المياة الفاترة في الصيف، والساخنة فيما عداه.

وقفت عشر دقائق أبحث عن مشط لشعري، لم أجد، قررت تسريح شعري بأصابعي، كان مظهره منكوشاً وكأني قضيت يوم كامل في التصوير، أحب هذه الهيئة، قررت النزول هكذا دون اعتناء بالمظهر، أنا أساساً لا أهتم بمظهري بالقدر المطلوب، اهتم فقط بأن تكون ملابسي سليمة، وأن يكون قميصي مكوياً.

أكلت المعتاد في كويك دور، لم يعجبني الشيف، أو بمعنى أدق لم ألمح فروقاً بينه وبين كويك دور، خرجت من المطعم، وقررت أن الوقت مناسب لمقابلة (ش)، صديقتي من أيام أولى كلية، كيف ستبدو، هل تكفي 6 سنوات لتغييرها؟.

كلمتها، أخبرتني أن أمامها ساعة وتكون في "البسمة"، بحزم إداري تعلمته في الفترة السابقة أخبرتها أنه "مينفعش، تلت ساعة وتكوني قدامي"، ضحكت، ونفذت أوامري.

لم تترك (ش) شيئاً إلا وتحدثت فيه، الناس، الشغل، الحب، الزواج، الكتب والأدب والسينما والفن، الجو الحار، الاختلافات بين القاهرة وقنا، القهوة التي يقدمونها في البسمة وكيف أنها سيئة ولن تعجبني..

بذكرها للقهوة أخبرتها أنني تعلمت شربها مؤخراً، كذلك بدأت أشرب السيجار، قالت أنها لو جاءت مبكراً قليلاً لنصحتني بعدم طلب القهوة من هنا، قلت أنني جئت هذه المرة لاكتشاف الأشياء بنفسي، وأني لست في حاجة إلى مرشد سياحي.. ضحكنا.

يبدو أنها لم تلحظ جملتي السابقة بشأن السيجار، فجأة وجدتني أطلب "طفاية" من فتاة البسمة، أخرجت العلبة المعدنية من الحقيبة، والولاعة من جيبي، أمسكت السيجار بعناية، شممته، ثم أشعلته فجأة، مثيراً حول وجهي الكثير من الدخان، ومثيراً لدى صديقتي الكثير من الأسئلة.

قالت : "عارف، أنا متأكدة إنك مش كويس.. إحكيلي إحنا أصحاب.. مالك.. فيك إيه؟".

ضحكت، أخبرتها أن تأكدها ليس في محله، وأني كويس جداً، كما لم أكن من قبل، وأن الساعات الماضية، منذ ركوبي القطار، منحتني راحة وسكينة كنت في حاجة ماسة إليها، وأني هادئ لدرجة البرود، وأني فقط بحاجة إلى نوم عميق وراحة جسدية وصلاة عشاء في مسجد سيدي عبد الرحيم القناوي، بعدها أكون قد حققت مرادي من هذه الرحلة، وأعود بعدها إلى القاهرة لأبدأ من جديد.

نظرت إلى كتلميذة تحاول اختراع قانون جديد في التفاضل والتكامل بعد أن تمكنت من حل كل مسائل كتاب الوزارة، لكنها اكتشفت في النهاية أن حل المسائل لا يكفي وحده لاختراع القوانين.

جادلتني، قالت أنني أتحول إلى "شيء فارغ"، أخبرتها بأن لي صديق في القاهرة يقول أنني على وشك التحول إلى "شيء"، سألتها : "عارفة يا ش إيه أغبى حاجة ممكن إنسان يعملها في الحياة؟، إنه يمنع نفسه من التغيير، مقصدش إنه يبقى معندوش ثوابت، بس على الأقل، يبقى دايماً حاطط خطة بديلة، يبقى دايماً متوقع إن كل مواقفه ممكن تطلع غلط، وإنه يبقى عنده شجاعة الإعتراف بأخطاؤه، ومحاولة تصليحها"..

يبدو أنها لم تفهم شيئاً من كلامي، انتهزت فرصة حديثي عن الأخطاء، سألتني، "وأنت إيه الأخطاء اللي اكتشفت إنك عملتها؟"..

جذبت نفس أخير من سيجاري الرفيع، ضحكت، شعرت أنني أشبه يحيي الفخراني بهذا الشكل، قلت لها "لا لا، إنتي فهمتيني غلط، أنا متهيألي معملتش لسه أي حاجة مهمة في حياتي بحيث تطلع صح أو غلط، أنا بتكلم في العموم"..

سألتني "فين الأفلام؟".. حاولت التذكر دون جدوي، رددت بدهشة حقيقية "أي أفلام؟"، قالت "بلاش تمثل، من ساعة ما عرفتك وإنت واجع دماغي بأفكار أفلام كتيرة، هشوف فيلمك أمتى يا سي السيناريست؟".

أعجبتني "سي السيناريست" جداً، لدرجة جعلتني أفكر في تحويلها لشخصية في فيلم لن أكتبه، أخبرتها بأني لن أكتب الآن، قال "أمتى إن شاء الله، يدينا ويديك ويدى السبكي طولة العمر"، أصبحت "ش" خفيفة الظل، لم تكن كذلك حين قابلتها للمرة الأولى في قاعة الدرس منذ ست سنوات، لم تكن كذلك حين ارتبطت بها عاطفياً لفترة ثم اكتشفت أنها لا تحبني بالطريقة التي أفضلها.. لم تكن كذلك، لكن خفة ظلها هذه المرة تعطيها طابعاً سحرياً، كأنها خرجت من فانوسي السحري، أو أنها شخصية خيالية أستحضرها في "البسمة" لقتل الفراغ..

أخبرتها أنني الآن مركز في الأفلام الوثائقية، وأنه من الواضح أني سأركز بفترة ليست بقصيرة، "برطمت" قليلاً، اندمجت أنا وقتها في كتاب أحضرته معها وتركته أمامي على الترابيزة بحيث لم أركز في كلامها، قالت أشياء كثيرة، أسماء أكثر، من أول وحيد حامد إلى أحمد عبد الله، ثم أفقت وهي تذكر اسم "محمد دياب" مؤلف فيلم "الجزيرة"، ضحكت، وحكيت لها عن عاموده الأخير في الدستور، الذي يستحق أن يتم تدريسه في معهد السينما قسم سيناريو في مادة "لا ترتكب هذه الحماقات"..

مر الوقت بسرعة، جلست مع "ش" أكثر من ثلاث ساعات، انهيت الجلسة بطريقتي، كأني أجبرتها على الرحيل، قلت "لازم تروحي، الوقت اتأخر".. همت أن تقول أنه لا مشكلة، أضفت أنا بسرعة "أنا كمان لازم أمشي، عندي ميعاد"..

قضيت ما بقى من الليلة جالساً في البسمة أذاكر، سأنجح في هذه المادة إن استطعت منع نفسي من كتابة رأيي الحقيقي في هذا الكتاب، سأنجح إن لم أكتب ما أرغب في قوله بشأن المستشرقين والإستشراق.. النوم الآن فرض عين.. سأسرق بضعة ساعات، حتى لا أنام في الإمتحان.

دخلت نت كافية بسرعة، أرسلت إيميلاً به بعض الأوراق التي طلبها مني أحمد، وبه سيناريو فيلم وثائقي أيضاً، كنت قد كتبت السيناريو بالأمس وأنا أجلس في البسمة، خرجت من الكافية بعد عشر دقائق.. متجهاً إلى الفندق.

قررت المرور أولاً على بسام وياسر، جلسنا نراجع ما جاء في الكتاب، سألتهم، "تعرفوا سنة تالتة هيمتحنوا تاريخ إمتى؟".. كانت الساعة تشير إلى الثانية عشر ودقيقة، قبل أن أسمع إجابة منهم، يستحق الأمر صفحة جديدة باسم جديد.

الأربعاء، مايو 21، 2008

"حاجات".. (1)



الأربعاء :

دعاء مبسوطة، استيقظت هذا الصباح في الواحدة ظهراً، لم يحدث هذا منذ شهور، تواضعت طموحات دعاء بحيث أصبح نومي الكثير قادراً على منحها بعض السعادة، تقول أنني على الأقل أصبحت أحصل على حقي الطبيعي في النوم.

أخذت حمامي السريع، اتفقت مع رضا على مرافقته إلى المكتب، راجعت تذكرتي، سأرحل عن القاهرة مساء اليوم، في تمام الحادية عشر من محطة الجيزة.. تركت التذكرة على الكنبة، ونزلت مسرعاً للحاق برضا على ناصية الشارع.

وصلت المكتب، لممت أوراقي، وسحبت ملفاتي من جهازي إلى الهارد الصغير، تأكدت من أن وصلة اللاب توب في الحقيبة، وانتظرت أحمد للسلام عليه.

قضيت ساعتين في المونتاج، وساعة أخرى في إجتماع، ثم رحلت في تاكسي عائداً إلى المنزل.

وصلت البيت في الخامسة والنصف، شاهدت برنامج على الجزيرة، أخيراً تم بث حلقة قصيرة عن فرقة إسكندريلا أخرجتها منذ شهرين، استقبلت أمي وحمزة وعبادة (أخوتي)، أكلت، ثم اكتشفت أن الساعة تشير إلى العاشرة والربع، نزلت، بعد أن وزعت قبلاتي بالعدل على أمي وأخوتي ودعاء ومليكة طبعاً..

سأفقد القطار، أو سيفقدني هو، محال أن أتجاوز شارع الهرم ونفق نصر الدين في أقل من ساعة إلا ربع، لكن عبادة فعلها بقيادة ماهرة سريعة لسيارة أبي، ووصلت قبل موعد القطار بعشر دقائق كاملة.

دخلت محل لبيع الجرائد والمشروبات داخل المحطة، أشتريت زجاجة مياة كبيرة، وعلبة كولا، وولاعة أعجبني شكلها وأكتشفت أنها رخيصة جداً بالنسبة لمحل سياحي، طلب الرجل جنيه ونصف فقط ثمناً لها، مع أني كنت على استعداد لدفع ثلاثة أضعاف الرقم.

سألت الرجل عن جرائد الخميس، أخبرني أنه لا يوجد منها إلا الجمهورية، شكرته بصدق، مؤكداً أن مزاجي لا يحتاج إلى جرعة ترفيهية فكاهية ثقيلة أحصل عليها من الجمهورية أو غيرها، أريد الجرعة اليومية العادية، المصري اليوم أو الدستور أو حتى البديل على أقل تقدير، ابتسم وأخبرني أنها ستأتي بعد دقائق، صارحته مرة أخرى بأن قطاري لن يهتم برغباتي القراءية، وسيرحل قبل وصول الجرائد المطلوبة، رد هو بسرعة، "ده على افتراض إنه هيوصل في ميعاده".. ضحكت.

الأسبوع الماضي وقفت ساعة كاملة مع رضا في محطة مصر بانتظار وصول قطار سيقله إلى الأسكندرية، تأخر القطار ساعة وأكثر، فيما كنت أنا أؤكد لرضا أن الأمر طبيعي تماماً، وأن مواعيد القطارات تخضع لظروف لا يتحكم فيها بشر.

مازلت داخل محل الجرائد، قلبت في بعض الكتب المرصوصة على أرفف عريضة بطول جدران المحل، سألت الرجل : "أنت ليه مش بتبيع حاجات حقيقية؟"..

سألني عن المقصود الحاجات، سكت دقيقة كاملة، لاحظت أنني في الفترة الأخيرة أصبحت أطلق كلمة "حاجات" على كل الأشياء والتفاصيل، فالشرائط حاجات، والسيناريوهات حاجات، والمونتاج حاجات، والإيميلات حاجات، وحتى الستائر التي طلبت دعاء مني مساعدتها في تعليقها أكثر من عشر مرات في يومين، حاجات أخرى.

تذكرت جملة أحمد دريني التي واجهني بها في مقابلتنا الأخيرة بجوار مطعم القزاز بوسط البلد، حدثته كثيراً عن الحاجات التي تحدث لي مؤخراً، فقال بهدوءه المعتاد "أنت ليه مصر إنك تتحول إلى شيء؟".

لم أتأمل سؤال دريني أكثر من ذلك، لأني بصراحة لم أفهمه، ولأني أعيش في الفترة السابقة وداخلي قدر من السعادة لن يغيرها إن كنت "شيء" أو "حاجة" أو "ستارة حمام".. المهم أنني أخيراً تخلصت من الأسئلة التي طالما نغصت علي لحظات سعادتي القصيرة.

أخبرت دريني يومها أني "مبسوط وبس"، وأني ألعن الفلسفة كل صباح وقبل النوم، وأن مشكلتي الوحيدة هي أن دعاء مش مبسوطة بشغلي الكتير، وإني هسافر خلاص كمان كام يوم وعندي حاجات كتير لازم تخلص قبل السفر.

انتهت دقيقة السرحان الطويلة، عدت للرجل في محل المحطة، قلت له "شايف، كل الكتب اللي بتبيعها هنا مش حقيقية، هادم اللذات، حقيقة المسيخ الدجال، هرمجدون، الطب النبوي، ليه مش بتبيع كتب حقيقية أقدر اشتريها وأقراها وأنا مسافر؟".

خشيت أن يعطيني درس في الأخلاق متحدثاً عن فضل هذه الكتب مؤكداً أن هادم اللذات هو الموت الذي يجب أن نتذكره كل لحظة، جهزت نفسي لرد سريع وهروب، لكنه فاجأني بقوله، عندك حق والله، الكتب دي كئيبة قوي، ومحدش بيشتريها كتير، بس تقصد إيه بالكتب الحقيقية؟".

قلت "أنا مثلاً لو لقيت عندك رواية شيكاغو بتاعة علاء الأسواني هشتريها، أو ديوان بكرة مش مهم الساعة كام بتاع هيثم دبور، أو حتى هدوء القتلة بتاعة طارق إمام، وطبعاً كابتن مصر بتاع عمر طاهر، على فكرة دي أصلاً كتب مش معروفة، ما عدا شيكاغو طبعاً، بس عليها طلب كويس من الشباب، وهتشوف لو جيبتها إنها بتتباع كويس، وإنت مكانك هايل، في قلب المحطة اللي بيعدي عليها آلاف كل يوم".

قاطعني "وأجيب الحاجات دي منين؟".

أعجبني استخدامه لكلمة "حاجات".. أخبرته بأن المطلوب منه الذهاب فقط إلى ميدان طلعت حرب وزيارة دار الشروق، ومنها إلى دار ميريت، ثم المرور على ملامح، ولا مانع من زيارة الحاج مدبولي في زيارة لن تستغرق دقائق، سيملاً بعدها مكتبتك بإصدارات كل دور النشر العربية والأجنبية.

قال "شهر واحد وتلاقي المحل ده حاجة تانية خالص، وابقى تعالى خد نسبة من المبيعات".

ضحكت، أخبرته أني سأشتري منه كل مرة أسافر فيها، رغم أني أتمنى أن تكون تلك رحلتي الأخيرة للصعيد، فلن أرغب في الذهاب إلى قنا مرة أخرى إن أكرمني الله ونجحت هذه المرة، التي يفترض أن تكون الأخيرة.

كان القطار على وشك دخول المحطة، رن موبايلي، مكالمة أنهيتها بسرعة حتى استطيع ركوب القطار.

ركبت، وجدت على مقعدي شاب نائم، أوقظته برفق، جلست بعد وضعي حقيبتي الصغيرة في الرف العالي فوق المقعد، اخترت هذه المرة أن أسافر بحقيبة صغيرة، احتوت أشيائي وأغراضي بصعوبة، وأصبحت ثقيلة بحيث خلعت ذراعي.

على المقاعد المجاورة، كانت هناك أسرة صغيرة، أب وأم وجدة، وطفل صغير، فشلت كل محاولتهم في جعله ينام، جذب من يدي علبة البيبسي عندما فتحتها، وتسبب في إغراقي بزجاجة المياة عندما نويت الشرب منها، تذكرت مليكة، هل ستصبح شقية إلى هذا الحد، دعوت الله أن تصبح كذلك، وأخرجت "شيكاغو" من الحقيبة.

اخترت هذه المرة أن اقرا خلال الرحلة الطويلة "شيكاغو" للأسواني، و"ثلاثية غرناطة" لرضوى عاشور.

تذكرت بائع المحل وأنا أخبره عن نيتي شراء "شيكاغو" إن كان يبيعها، بالطبع كنت أكذب، ليس تماماً، فقد اشتريت نسختي هذه وأنا أقف مع رضا على رصيف محطة مصر قبل أسبوع، أي أني كنت سأشتريها بالفعل من أي محل آخر على رصيف محطة قطار.

قرأت قليلاً، غالبني النوم، كانت هلاوس ما قبل النوم كلها متعلقة بـ"شيكاغو"، اللعنة على النقاد والجمهور ودور النشر وبرامج التوك شو وجود نيوز للإنتاج السينمائي ومهرجان كان وعادل إمام ووحيد حامد وولده مروان ومقهي الندوة الثقافية وقسم الترجمة بالجامعة الأمريكية.

اللعنة على الأشياء التي جعلت الأسواني يكتب بسرعة أكبر لينشر شيكاغو بدون إكتمال، لماذا لم نحفظ المسافة المطلوبة بين المبدع والنقاد والجمهور، لماذا كان الأسواني يكتب وهو يشعر أننا نراقبه، لقد كتب الأسواني شيكاغو وهو يتخيل الأسئلة التي سيطرحها عليه جمهوره الصغير في الندوة الثقافية، وجمهوره الأكبر على موقعه على الإنترنت، وجمهوره الأوسع في برامج التوك شو، والجمهور المعتاد في حفلات التوقيع بدار الشروق، بالإضافة إلى الأسئلة الأجنبية من مراسلي الجرائد والمجلات الأجنبية في القاهرة.

لماذا لا أتذوق شيكاغو بنفس إحساس تذوقي يعقوبيان، لماذا أشعر بأن بلال فضل سيواجه مشكلة ما في صناعة فيلم "عربي" من شيكاغو بجمال "يعقوبيان" المصري الجميل الذي أعجبني كثيراً.

على كل حال هذه مشكلة بلال وحده، الذي أثق في قدرته على حلها، لكن من سيخرج هذا السيناريو؟، من سيقبل أداء الأدوار الموجودة داخل شيكاغو؟، من.. ؟.

هنا انتهت هلاوس ما قبل النوم، وانطلقت في نوم طويل انتهى مع دخول القطار في الثامنة من صباح الخميس إلى محظة نجع حمادي، التي تسبق قنا – محطة وصولي – بأقل من ساعة، إنه يوم جديد، يستحق "صباح الخير" لدعاء، وسؤالها عن ليلتها الأولى في البيت بدوني.

الخميس :


دخلت فندق الياسمين والساعة تدق التاسعة والنصف، الجو ألطف مما تخيلت، موبايلي فصل شحن، لن أتصل ببسام أو ياسر إذن، سأحجز غرفة في الفندق وأنام، ثم أستيقظ في المساء وأخبرهم بوصولي.

أنتهيت من إجراءات الحجز بسرعة، سرعة سببها الوحيد أني أقمت في الفندق من قبل، وبالتالي لا حاجة لتسجيل أسمي وإدخال بياناتي على الكومبيوتر.

اختار لي الموظف غرفة في الطابق الرابع، لكني طلبت غرفة بديلة في دور منخفض، فاختار غرفة أخرى في الثاني، لكنه أخبرني أنها فرغت منذ دقائق، وأضاف، "عشر دقائق فقط وتصعد للغرفة، سينتهون من تنظيفها حالاً".

تركت حاجاتي في مدخل الفندق، وخرجت إلى ميدان الساعة الذي يحتل الفندق جزء كبير منه، تجاوزت الميدان، وصلت إلى الساعة ذاتها، وقفت أمام "فرشة" لبيع الجرائد، سألت عن المصري ودستور الخميس أو البديل، أخبرني الشاب الصغير أن كلها لم تصل، لكن الجمهورية موجودة، ضحكت، أخبرته أني أريد النيوزويك فقط، مد يده وأعطاني إياها في ثقة، تعجبت لأمر مصر، الحصول على النيوز ويك في القاهرة أمر عسير، لكنها متاحة هنا في كل مكان.

أتذكر كم مرة أضطر لتكرار كلمة نيوزويك على أي بائع جرائد في القاهرة، ضحكت مرة أخرى وأنا أدفع ثمن المجلة والدستور الأسبوعي، 6 جنيهات فقط، لا أربع جنيهات إضافية ولا حتى عشر قروش، تعيش قنا حرة مستقلة.

قلبت المجلة خلال عودتي للفندق، أريد فقط أن أتأكد أن قسم "العيش الرغيد" لايزال موجوداً في النصف الثاني منها، تأملت بعض الصور الممتازة كعادة النيوزويك، قرات العناوين التس تسحرني عادة، ثم إلتفت يميناً لأجد طابور عيش حقيقي، ليس كذلك الذي شاهدته في القاهرة، طابور عيش بطول الشارع، طابور عيش يقتل فيه الناس، ويفقدون أصابعهم وأعضائهم، طابور عيش لا يعرف وعود أحمد نظيف ولا تعرفه كاميرا المصري اليوم.

تذكرت أنني لم أحضر معي الكاميرا، اخترت أن تكون رحلتي هادئة، لا عمل فيها على الإطلاق، الكاميرا تفتح باب الشغل والمقالات والتدوينات التي لا تنتهي، ثم أن كل ركن في قنا يستحق ألف صورة، ولست على أستعداد للتحول إلى سائح في أجازتي القصيرة التي تتخللها امتحانات كثيرة.

ثم أن دعاء سترفض إعطائي الكاميرا، ستذكرني بأننا أشتريناها أصلاً لتصوير مليكة، وأنها "كاميرا مليكة"، فجأة أصبحت كل الأشياء ملك لمليكة، الكاميرا، الكومبيوتر، الشقة الجديدة، التكييف، أمر جيد أن تتزوج وتنجب لتكتشف أنك غير قادر على استخدام حقوق ملكيتك، فقد سلبتها منك مليكتك.. حلوة هذه الجملة.

عدت إلى الفندق، صعدت إلى غرفتي، لا يزال هناك عامل ينظف الحمام الداخلي، اخترت غرفة بتكييف وحمام داخلي ودش. خرج العامل دون أن يطلب أي بقشيش، أغلقت خلفه، تأكدت من أن التكييف سليم، وأن قناة الجزيرة موجودة في الدش، وأن السرير بملاية نظيفة.

خلعت القميص والبنطلون، وبقيت بملابسي الداخلية، استلقيت على السرير، وقررت قراءة المزيد من شيكاغو، تذكرت هلاوس ما قبل النوم في القطار، وابتسمت، كم كانت هلاوسي قاسية على الأسواني.. استمتعت بقراءة ما تبقى منها، واكتشفت أني وصلت فجأة إلى نهايتها، كنت أتمنى أن تكون أطول قليلاً، لم تبقى لدي سوى "ثلاثية غرناطة".. ولن تكفي بالتأكيد الأيام التي سأقضيها في قنا..

قرأت النيوزويك، لم أفتح الدستور، وألقيت باللوم على نفسي، فلا أعلم السبب الحقيقي الذي اشتريته لأجله.

ذهبت في نوم عميق، لم أستيقظ إلا في الرابعة، استيقظت أكثر من خمس مرات، كلها للرد على مكالمات تخص العمل، سينخفض عدد المكالمات تدريجياً، حتى تختفي تماماً قبل عودتي بأيام، هذه عادة موبايلي في السفر، البعيد عن الشغل بعيد عن التليفونات.. يحيا العدل.

أخذت حماماً بارداً لكني أكتشفت أنه لا فرق بين البارد والساخن في حمام الفندق، كل الحنفيات تؤدي إلى المياة الساخنة، الحنفية اليسرى تجلب الماء من السخان الساخن، واليمنى من المواسير التي تحولت إلى سخانات بفعل الشمس الحارقة.

شعرت أن التكييف بحاجة إلى صيانة، فهو لا يشعرني بأي برد، لازلت أشعر بنفس حر القاهرة، أرتديت ملابس نظيفة، وفتحت باب الغرفة للخروج، عدت للداخل مرة أخرى، تأكدت من وجود أموالي في مكانها، راجعت عدها مرة أخرى، قسمتها حسب المطلوب منها، جزء للفندق، آخر لمصاريف الجامعة، ثالث للكتب والمذكرات، وقسم أخير للمصاريف اليومية.

خبأت الجزء الأكبر في جيب شنطة اللاب توب، وحملت معي ما أحتاجه فقط، ونزلت.

ذهبت إلى مطعم "كويك دور"، أشتريت في الطريق المصري والدستور، وشاهدت طابور العيش ذاته في مكانه رغم مرور أكثر من 8 ساعات، طلبت من موظف المطعم بيتزا وساندويش ومياة صغيرة وعلبة كولا، طلب 18 جنيه، دفعتها مقارناً بين ما طلب وبين ما كنت سأدفعه في مكتبي بالمعادي في حال طلبت نفس الكمية.

أكلت، تأكدت أنه لا فرق بين هنا وهناك، شربت الكولا وأنا اقرأ الجرائد، لاحظت أن العامل الذي أحضر الطعام إلى منضدتي شديد الشبه بي، ابتسمت في وجهه، وكدت اسأله إن كان هو الآخر يشبهني، لكنه صدني بتكشيرة منعتني من الاستمرار في تفكيري بسؤاله.

خرجت، اتجه الآن إلى شقة بسام وياسر، أنتظر أن يخبراني بالجديد في عالم الكلية، وأن يعطوني الكتب لتصويرها.

جلسنا ساعة، نزلت بعدها مع ياسر في إتجاه المكتبة، أعطيته كل الكتب مرة واحدة، طلبت منه أن يصور كتاب واحد بسرعة هو "الدراسات الإستشراقية" والتي يقول الجدول أنني سأمتحنها بعد يومين.

ذهبت إلى أكثر من مكتبة لشراء كشكول سلك مناسب للمذاكرة، لم أجد واحد ملائم، أبحث عن كشكول بورق سميك، اشتريت في النهاية واحداً عليه صور لميكي ماوس، وثلاثة أقلام حبر، واحد يونيبول أسود بسبعة جنيهات، واثنين ماركة تقليد لليونيبول، سعر كل واحد جنيه ونصف، جربت الأقلام الثلاثة، لم ألاحظ أي فرق بين الأصلي والتقليد، لكني قررت الإحتفاظ بالأصلي للإمتحانات، والتقليد للمذاكرة.

عدت إلى مكتبة التصوير، حصلت على الكتاب المطلوب، ثم اتجهت إلى بسمة الجنوب، الكافية المفضل لي في قنا، ذاكرت صفحتين أو ثلاثة.. تحيا مصر مرة أخرى.. أدرس مادة تتحدث عن المستشرقين وهجومهم على الإسلام، المطلوب مني أن أدافع عن القرآن بالقرآن.

بمعنى أن المستشرق الفلاني يقول أن الوحي الإلهي للنبي محمد ليس أكثر من مرض نفسي، فأرد وأقول "ما بصاحبكم جنة"، و"إنه لقرآن كريم في لوح محفوظ"، و"كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون"، وبالطبع فإن المستشرق الكافر الملحد ابن الكلب، عندما يقرأ كلامي، سيخر سجداً قائلاً لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولأن إيمانه صادق فسيضيف من عنده أن الإسلام هو الحل، وربما يهتف بالعربية الفصحى، لا للمحاكمات العسكرية.


ضحكت مع بسام وياسر حتى أنهينا كل الإفيهات المتعلقة بالموضوع، وبشكل ما تحول الحديث من دراسات الإستشراق، إلى دراسات الإستنشاق، في حديث ممتد عن الحشيش والبانجو وغيرها من المواد الإستنشاقية الجميلة، ومنها إلى موضوع أكثر أهمية وهو بالطبع ما له علاقة بالنكاح والزواج واللقاءات الحميمة، وبالطبع فإن لكل ما سبق أسماء أخرى "بلدي"، تحدثنا دون حرج منها، ووجدتها فرصة مناسبة لتسجيل الحوار على الموبايل دون أن يلحظ أحد، وهو تسجيل نادر يستحق أن يجد له مكاناً في متحف اللوفر للقباحة.

عدت إلى الفندق في الواحدة صباحاً، شاهدت برامج مختلفة على التليفزيون، وجزء من فيلم أجنبي لا أعرف اسمه، وسرعان ما داهمني النوم، كلمت دعاء، خلدت إلى النوم.

الاثنين، مايو 05، 2008

يلا بينا!

حين يأتي، يخبرني أن أمامي خمس دقائق فقط للرحيل، سأبتسم في وجهه، مدركاً أنه لا شيء يستحق أن يفعل في الدقائق الخمس الأخيرة، سائلاً إياه أن نرحل حالاً، موفراً وقته ووقتي، فلا داعي للإنتظار.

............
حين تنتهي الحكايات مثلك، سأقول أي شيء، سأعيد حكي الحكايات القديمة بلغة أخرى، سأكذب، أحكي أشيائاً لم تحدث، ولن تحدث، أختلق مواقف طريفة، وأخرى غاية في الكآبة، حين تنتهي الحكايات، سأكذب على نفسي، فإن أدركت نهايتها، أدركت نهايتنا.

الجمعة، مايو 02، 2008

المدونون.. الصحفيون الجدد!




فيلمي الجديد "المدونون.. الصحفيون الجدد"، والذي بثته قناة الجزيرة يوم الأربعاء الماضي، وأعادت بثه يوم الخميس.

تيترات الفيلم بها أخطاء، فإخراج الفيلم لـ"عمر خالد" و"البراء أشرف" وليس لـ"أحمد خالد" كما هو مكتوب، وقد تم تصحيح الخطأ في إعادة الخميس والجمعة.

اترككم مع الفيلم، وفي انتظار آرائكم.