الأحد، أغسطس 30، 2009

عما جرى فـ "وسط البلد".


(1)

في الأيام المنطقية. تلك التي انقرضت، فلم نعد نحيا بها ولا تحيا بنا. كانوا الذين هداهم الرب يسكنون بيوته، يصلون، يؤلفون أدعية جديدة، من بينها أن ينزل الله الهداية على القوم المفسدين، الذين حرموا أنفسهم من متعة الإلتزام.

خارج بيوت الله. كانوا الآخرين. الفاسدين الذين يعلمون بينهم وبين أنفسهم أن الله موجود بالفعل، وأن الإلتزام جميل "أوي"، وأن الصياعة مكروهة في معظم الأحوال. يمارسون فسادهم دون توقف، وإن كانوا على علم أيضاً، أن إخوة لهم في الإنسانية. يسكنون بيوت الله، يدعون لهم بالهداية..

لكن فاسد ابن فاسد وقف ذات ليلة في مقهى البورصة، وقال : "إنهم يدعون للمفسدين.. ونحن لسنا كذلك.. نحن فاسدين فقط، فسادنا يسكن داخلنا، فلا ندعو له، ولا نبشر به.. لماذا نكرههم إذن؟".

في الوقت ذاته، وقف واحد من أبناء الرب، في مسجد بجوار ساقية الصاوي، وأمسك المنبر بيمينه، وفي يساره الجدول الشهري للساقية (يونيو 2004). وقال : "يا إخواني.. إن الله أمرنا أن نشيع الحب بين الناس كافة، الفاسدين ليسوا مفسدين.. يلا نلعب سوا".

(2)

على غير المعتاد، وفي ليلة صيفية اشتبك فيها الحر مع المطر والبرق، خرجت الدعوة الجديدة، وتعالت في وسط البلد أصوات أجراس الكنائس تتشابك مع صوت إمام يصلي العشاء بمسجد قريب من البورصة، يتلو بصوت ناعم.. "قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا".. فيما شدت فرقة الورشة في حفل لها بالـ"تاون هاوس" تزامن مع الصلاة والأجراس "البحر زعلان مبيضحكش.. أصل الحكاية متضحكش"..


ويقال. أن الساوند سيستم في الـ"تاون هاوس" كان جيداً في تلك الليلة، بحيث تجاوز صوت الغناء مقهى التكعيبة وشارع شامبليون مروراً بميدان طلعت حرب وتمثاله، فمكتبة الشروق ومطعم "القزاز"، فممر البورصة، والمسجد في آخره.. بحيث قرر بعض الإخوة الخروج بعد الصلاة، والتوجه إلى "التاون"، لقضاء السهرة.

بحسب الشهود، فإن ما جرى ليلتها يعتبر المرة الأولى التي يحدث فيها اختراق بين الجانبين، ودارت إشاعات، أن السهرة امتدت للفجر، حتى أن بعض الإخوة فاتتهم الصلاة، في حين شوهد راقص من فرقة الورشة يصلي في خلفية المسرح.

صار بعضهم أصدقاء لبعض. الكل يسهر في وسط البلد. لأسباب أو لأخرى. العمل السياسي لا يزال مسموحاً، والليل يطوي من الأسرار ما يطوي، أسرار شباب الدعوة القديمة الجديدة، وأسرار عشاق "أفتر إيت".. والفجر في القاهرة، وسط مدينتها بالتحديد، لا يزال ساحراً، بحيث يلتقي الصديقان، فينسى كلاهما أن يسأل الآخر.. "جاي منين كدة؟".

تستمر العلاقات، يتحول بعضها إلى صداقة حقيقية، صلبة، تسمح لكل طرف أن يسحب الآخر في جولة سريعة داخل عالمه، لكن.. العمل السياسي سيصير ممنوعاً، فينغلق عالم أحدهم السري، ويتسع عالم الآخر، ومع سخونة 2005، قرر الطرفان أن.. "مصر يا رأفت". حيث كان أحدهما اسمه رأفت.

و"العمل المشترك سبيل الجميع إلى الخلاص".. كانت هذه الجملة ملخص مقال نشر وقتها في مجلة "البوصلة" التي تعبر عن اليسار الديموقراطي فيما يقرأها شباب الإسلاميين، المقال نقلته جريدة "الدستور" والتي لم يكن أحد يعلم، لأي تيار تنتمي. العدد الأول من الإصدار الثاني ملأت صفحته الأخيرة صورة "جيفارا"، فيما كتب في الصفحة الأولى تحت اسم الجريدة "استعنا ع الشقا بالله".

ويذكر التاريخ أن إخوة جامعة القاهرة اختاروا لعامهم الدراسي شعار "قوم يا مصري". في إشارة إلى أن "خيبر خيبر" لم تعد شعاراً مناسباً، وفي يقين تكون عند البعض منهم، أن القضية تخص "مصر" الآن، وداخل مصر، يوجد كل السهرانين في وسط البلد.. حتى مطلع الفجر.

ويذكر التاريخ، في هامشه، أن افتتاح سلسلة مواقع "يوتيوب" و"فيس بوك" و"بلوجر"، سمح لأبناء وسط البلد غير الأشقاء، بتبادل الأفكار والكتب والموسيقى والأفلام والمقالات والصور. مع العلم، أنه مع مطلع الألفية، كان بعض الإخوة قد تراجعوا عن "تحريم" الأشياء السابقة، وظهرت فتاوى تجيز الفرجة والسمع. وتؤكد أن يوتيوب ليس موقعاً إباحياً. رغم أنه سيصبح كذلك بعد قليل.

(3)

علماء الجغرافيا الإجتماعية، وهو علم يمكن حال اكتشاف القارئ أنه غير موجود، أن يعتبره صار موجوداً منذ اللحظة، هؤلاء، أعلنوا حيرتهم في تصنيف بضعة أماكن.

"سيلانترو" مثلاً، "كوستا" و"بينوس"، "باكري" و"كلومبوس"، "سينابون". ساقية الصاوي ومسرح روابط، التكعيبة والبورصة والـ"خن" و"منه فيه" والندوة الثقافية. مسرح الجنينة، "مكان"، "كونست"، المركز الثقافي الفرنسي، "سيداج". الهناجر، الأوبرا ومركز الإدباع، الأماكن التي نعرف أنها من الممكن أن توضع في ذات القائمة..

هل يمكن وصف "سيلانترو" باعتباره مقهى متحرر يجمع الشباب الحر الليبرالي، الذي يقرأ الإنجليزية، ويعرف "ميلان كونديرا" ويحمل اللاب توب، ويرتدي بناطيلاً ساقطة، ويصاحب فتيات غير محجبة؟.

وهل يمكن اعتبار ساقية الصاوي مسرح للفنون الحرة، التي لا تقومها رقابة، أو تمنعها إدارة؟. وما علاقة مسرح للفنون بـ"طارق سويدان" الداعية الإسلامي الذي يقيم فيه لقاءاً سنوياً مع الشباب. وعلى خطاه يسير مصطفى حسني ومعز مسعود وغيرهم من الدعاة الجدد.

وهل مقاهي وسط البلد مكان يخص الشيوعيين وحدهم؟، على الأقل تلك هي الصورة التي يعرفها البعض، منذ افتتاح قهوة "ريش"، حتى إذاعة فيلم "الكرنك" على روتانا سينما في 2005 أيضاً.

بالطبع حين نذكر "الشيوعيين"، فإننا نقصد الأبناء الشرعيين لوسط البلد إجمالاً. نعلم جميعاً أن "شيوعي" هو الوصف الذي يستحقه كل يساري مصري، بغض النظر عن التيار الذي قرر الإنتماء إليه. فالشعب المصري خلقه أضيق من أن يعرف الفرق بين الناصري والتجمعي. ولنا في "فوزية البرجوازية" عبرة، لمن لم يعتبر حتى الآن.

يمكن أيضاً في 2005، وما حولها من أعوام، التأريخ لميلاد بعض الحركات السياسية غريبة الأطوار. مثلاً بدأ البعض يدعو لمناهضة "العولمة". وتم تدشين "مؤتمر القاهرة" وهو تكتل لمناهضي "الإمبريالية العالمية" و"العنصرية". وسوف يستخدم لاحقاً، للتعبير عن رفض ممارسات النظام ضد الإخوان، وبالتحديد المحاكمات العسكرية 2007.

سيمارس المدونون هواياتهم في مسح كل خط فاصل، وسيصبح وسط البلد بمرور الوقت يشبه علامة مد. تمتد يميناً ويساراً دون أن يعترض أحدهم. وسيمر أحد الأجانب. وكان قد سافر للخارج عشر سنوات ماضية. سيمر صدفة أمام التكعيبة. وسيرى الأخ بجوار الرفيق. والمحجبة تدخن السجائر. وسيفهم وحده أن "مسرح الشارع" صار متسعاً للجميع. وأنها مسرحية جديدة تنتمي لنوعية "الخيال العلمي". وسيبوح لصديقه بأنها "بايخة قوي". صديقه هذا ينتمي لتنظيم "30 فبراير" وسيكون اسمه موجوداً بالطبع في دعوة الإضراب على الفيس بوك إبريل 2007.

بعض الأجانب صاروا يقابلون شباب الملتزمين في المركز الثقافي البريطاني. وسيسافر بعضهم لتركيا وفرنسا والدنمارك وألمانيا. وسيظهر "ملتقى الشباب العربي" وستطبع الدستور صورة حسن نصر الله في بوستر منفصل لدعم المقاومة اللبنانية. في حرب تموز 2006.

يلتقي المدونون في إفطار جماعي كل رمضان. ويعتبر البعض الإفطار دليل على أن الكل صائم، ويسجد أبناء الرب شكراً. على استجابة الدعاء القديم.

وستكون هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها علماء "جغرافيا المكان" عن "العولمة".
(4)

أمر في وسط البلد. فأجهل المكان. أتوه. وأنا العالم بمواطن جغرافيتها القديمة.
أتجاوز التكعيبة. وأخشى مقابلة أحدهم.
أجلس في ركن ضيق بمقهى مهجور. وأطلب من صديقة مخلصة أن تروي لي حكايات وسط البلد. وأكتفي بمراقبة الموقف من الخارج.
فلم أعد أعرف. إلى أين يجب أن ننتمي؟
"العيال الأخلاقية" في كل مكان.

الثلاثاء، أغسطس 18، 2009

هموم الحياة

لا شيء يكتب على الفيس بوك. لا جديد. فقدت كل الجمل قدرتها على الإبهار. ومعظم الإفيهات باتت قديمة مملة. كإفيهات "صعيدي في الجامعة الأمريكية" أو اسوأ قليلاً.

سيكون من المفيد إنشاء موقع أو خدمة. ترسل لزبائن الفيس بوك كل يوم جملة جديدة تصلح لوضعها مكان السؤال الذي يطرح نفسه عليك مع كل "ريفرش"... "What is on your mind?".

ثم أن الإنترنت بطيء. يومين ثلاثة لتنزيل فيلم جديد. وساعة لضرب ألبوم موسيقى لفرقة تونسية. كيف تستقيم الحياة مع الإنترنت البطيء. وأي "ADSL" هذا الذي لا يـ"AD" ولا يـ"SL" من جوع أو داونلود.

ربما سرعة خطك بطيئة عن باقي خطوط البشر. تذهب إلى سيلانترو.. جنة الله في كافيهات الأرض. تجلس. تفتح اللاب توب. تحاول أن "تدلف" إلى الإنترنت بسهولة وليونة. فتكتشف أن تحالف موبينيل وإتصالات وسيلانترو يقف أمامك. اطلب كارت. ادخل على الموقع. سجل. انتظر تفعيل الخدمة. ثم تصل للإنترنت بعد نصف ساعة لتكتشف أنك قد نسيت ما كنت تريده أساساً من الإنترنت وصفحاته.. فتغمغم في آداء كوميدي "يقطع النت ع اللي بينتتتوا عليه".. فتتذكر "طير أنت".. وتذكر نفسك بمأساة أخرى.. الأفلام الجيدة في تناقص.. ودخول أفلام مثل "العالمي" مغامرة غير مأمونة.

وعلى ذكر سيلانترو. هل ذهبت إلى هناك مؤخراً. هل لاحظت ضياع كل المميزات. هل اكتشفت أن الأسعار أصبحت مستفزة. وأن ابتسامة العاملين انطفأت. وأن ورقة الحساب أصبحت تأتي دون أن تطلبها. وأن الإسبرسو التي طلبتها منذ ربع ساعة جاءتك باردة. وأن تي شيرت مقدمها لم تغسل منذ أسبوع. أين راح سيلانترو الجميل. كيف يمكن أن تستمر الحياة بدونه؟. أين أشرب الـ"شيري كولا" بعد اليوم؟.

الكولا.. وما أدراك ما الكولا. على المحور يوجد إعلان عن الـ"سمارت كومبو". وهو عرض جديد من "كوك دور" عبارة عن ساندوتش وسط. وبطاطس وسط. وزجاجة كوكاكولا متوسطة الحجم، رشيقة تكاد تشربها دون أن تفتحها. فإن فتحتها. تكاد تدلقها حتى وأنت تمسكها بشكل مستقيم.

زجاجة الكوكا الجديدة مصممة بخطأ ما. يجعلها تفور بسرعة فور أن تفتحها. تاركة آثار جريمتك الـ"كوك دورية" في كل مكان. فإن نظفت آثارها. تركت قدر من "التلزيق" هنا وهناك. الحل أن تفتحها برفق. وبعناية فائقة. كأن بها "مية نار" أو "لبن عصفور". وهي طريقة نسبة نجاحها كبيرة. لكن توقع قدر من الفشل في بعض المرات.

وبذكر الكوكا. دعنا نتحدث عن علب الكولا المتسخة عند الحواف. تغسلها. تنظفها. تجلب منديلاً وتصنع منه طرفاً مدبباً. تدخله بين الحواف وتديره للوصول لأية شوائب متراكمة في الداخل. وتشرب. لكن ستظل أفكارك السوداء تلعب في عقلك.. هل أشرب كولا نقية.. هل نظفت العلبة جيداً.. أم أن أنفلونزا الـ"كانز" ستصيبني.. وسأتحول بمرور الوقت إلى فتاحة بيبسي تالفة.

الكانز يجعلني أفكر في إعلان كبير على المحور. به ثلاثة علب كانز كبيرة مجسمة تدور طوال الوقت. أحفظ شكل اللوحة. حين أقف تحتها كل يوم نصف ساعة على الأقل. في سيارة بدون تكييف.. في المرة التي قررت فيها الكشف على تكييف السيارة.. أدخل الفني مفك كبير في أحشاء الموتور.. سمعت صوت هواء يندفع للخارج.. انتظر قليلاً حتى هدأ الصوت تماماً.. وقال "باشا.. العربية كدة مفيهاش فريون.. لازم تتشحن.. هنعوز 130 جنيه"..

وبذكر المحور والكولا معاً. تجدر الإشارة إلى برنامج "عيش صباحك مع كوكا كولا".. وهو فقرة إعلانية تبدأ في الثامنة.. وتنتهي في العاشرة. وهو برنامج مميز.. حيث تذاع تنويهات عنه طول اليوم على نجوم إف أم.. وفي التنويه تسمع المذيع يستيقظ في الخامسة صباحاً مكرهاً كي يصل للإذاعة في الموعد.. تسأل نفسك كل صباح.. ولماذا كل هذا العناء.. مذيع ومذيعة يستيقظان في الخامسة فقط لقول خمس أو ست جمل بين 250 إعلان متتتاليين. أي ظلم هذا.

تسأل نفسك. ما الذي يمكن تقديمه لدولة مثل مصر لتجيز عدد أكبر من إذاعات الترفيه على الراديو؟. ولأي مدة سيستمر أسرنا في نجوم إف أم. الجميلة الرائعة المتنوعة.. بالإعلانات وبرامج الرعاية.

أنزل من المحور. ميدان لبنان. أمرق سريعاً من الإشارة الأولى في شارع لبنان. هي أغبى إشارة في مصر بشهادة كل من وقفوا يوماً بها. أربعة عساكر وضابط.. دون أي سيطرة. انتهز فرصة فتح الإشارة للجري. لو قرر الضابط سؤالي عن رخصي. فسيقع على الأرض من الضحك.. رخصتي انتهت من عام.. وسحبت منذ تسعة أشهر.. ولم أجددها.. سيصنعون لي تمثالاُ في إدارة مرور شبرا.

في المسافة من شارع لبنان للمكتب. أقلب في شرائطي وأبحث عن شيء جدير بالإستماع.. وسط البلد.. الليلة الكبيرة.. أنغام.. فضل شاكر.. شيرين.. عبد الفتاح الجريني.. حفظت كل الأغاني والألحان.. اليوم أرسلت لعمرو عزت.. وهو شخص تدور حوله بعض الإشاعات والأقاويل.. مفادها أنه على إطلاع بجديد الموسيقى وحديثها.. أرسلت أرجوه.. "والنبي يا عمرو باشا.. أبوس إيد كل مواطن أمبابي.. تراكين مزيكا محترمين اسمعهم لحسن أنا وداني هتتسد من التكرار".. جاء رد عمرو الكريم بقائمة طويلة من الروابط التي حال تنزيل ما بها من ملفات، يمكن الوصول لموسيقى جيدة.. أجرب الضغط. وأعود لأكتشف أن سرعة الإنترنت ستجعلني أسمع أول أغنية بعد أسبوع.

وبذكر إمبابة.. لنتحدث عن البرنس. أجمل مطاعم الكبدة في العالم. وواحد من أفضل الأماكن التي يمكن أن تأكل منها وفيها. لكنك تذكر وأنت تأكل هناك.. أن أفضل المطاعم في مصر عشرة أو عشرين.. تكتشفها في عام. وتستمتع بها عام ثاني.. وتنتهي الحكاية. لتكتشف أن الطعم المدهش اختفى. وأنك عرفت الأماكن المميزة وحفظتها وأنه لا جديد فوق ترابيزة الأكل. فيتساوى كوك دور مع سبكترا وسمسمة مع أبو شعراوي والبرنس مع بلبع وإلخ.

تكتشف، بمرور الوقت، وبانتهاءك من كتابة الصفحتين السابقتين. أنك تافه أكثر مما ينبغي. فهموم حياتك أبسط من أن تكتب. لكنك في الوقت نفسه، تؤمن بها، وتتألم لها. وتنظر لهؤلاء الذين يتحدثون عن همومهم المعتادة. الفقر والمرض والفساد، باعتبارها "هموم حقيقية"، بأنهم أشخاص مدعين في مجملهم. وأن الهم الحقيقي. هو الذي يمنع صاحبه من "عيش اللحظة". ما الذي يمكن أن أستفيده بديموقراطية حقيقية في مصر، وأنا لا زلت أبحث عن جملة جديدة أضعها على الفيس بوك؟.

الأربعاء، أغسطس 12، 2009

سرياؤوسي يكتب كما يشاء

أين ذهبت الكتابة؟. ومن أين كانت تأتي أصلاً؟.

جرب أن تكون كاتباً. وتتوقف فجأة. أن تفتح صفحة بيضاء جديدة. وتحاول أن تكسر بياضها بسطورك وكلماتك. تفشل. تشعر أنك عاجز. وترى بياض الصفحة يسخر منك. كأنه زوجة شبقة. تطرح سؤالها المنطقي على زوجها في ليلة خميس صيفية.. "مالك يا راجل".

أفتح صفحة أخرى. أكتب. أكاد أنتهي. أتذكر رسالة على الموبايل جائتني منذ شهور. "مثلما يمنعون اللاعب من اللعب بقدم مكسورة خوفاً على صحته، عليهم أن يمنعوا الكاتب من الكتابة بنفس مكسورة خوفاُ على موهبته.. بلال فضل". أمسح ما كتبت. واسأل نفسي عما كسرها. فلا أحصل على إجابة.

أحاول من جديد. يحفزني تعليق على المدونة، أو إتصال تليفوني من صديق يطمئن. عتاب لطيف من زميل عمل. أو إيميل قارئ محترم، ورسالة على الفيس بوك من شخص مجهول. أحاول تحت الضغط. فأكتب من جديد. وأمسح. وأعيد قراءة رسالة بلال فضل. ولا نتيجة.

في الأسبوع الماضي. دخلت مكتبي فتاة ترغب في العمل معدة. سألتها الأسئلة المعتادة. وأجابت كما يقول الكتاب. وأضافت – ضمن حديثها المتصل عن مواهبها المتعددة – أن لها مجموعة قصصية مطبوعة. ورواية وديوان تحت الطبع. وأنها كتبت في عدة مجلات ومجالات. وجدتني أشجعها. وفي محاولة للظهور بشكل أفضل أضفت "أنا كمان كنت بكتب".

الفتاة في الحقيقة أعطتني أكثر مما أستحق. فسألتني. "فين؟". أجبت "عندي مدونة اسمها وأنا مالي". فابتسمت نصف ابتسامة. وقالت "سمعت مرة عنها". كدت أنفجر من الضحك. أعرف هذه الإجابة. حتى إن كنت اخبرتها أن مدونتي تحمل اسم "سرياؤوسي يكتب كما يشاء" لكانت ابتسمت ذات الإبتسامة، وعلقت نفس التعليق.

لم يشغلني ما فعلته الفتاة. بقدر ما توقفت أمام جملتي "أنا كمان كنت بكتب". للمرة الأولى أضبط نفسي متلبساً بالإعتراف. داخلي شيء ما يمنعني إذن. داخلي جزء ينظر للكتابة باعتبارها فعل ماضي انتهى ولا يملك القدرة على الإستمرار.

ثم أن داخلي شيء آخر يمنعني من التحول إلى "سيرياؤسي" قادر على كتابة ما يشاء وقتما شاء. في معتقداتي الداخلية. توجد صورة لشخص يحمل اسم "سيرياؤسي" وهو كائن بشري يملك صفات اسطورية. تتلخص في "القدرة". القدرة على فعل أي شيء في أي وقت بأي شكل والتغلب على أية عواقب أو موانع.

حتى المرة الوحيدة التي ظهر فيها شخص اسمه "سيرياؤسي" في السينما جسد شخصيته الفنان لطفي لبيب. وكان في أحد المشاهد يمشي في الشارع في زي سوبر مان، وهو ما يعني أن لديه بالفعل قدرة "سيرياؤسية" على فعل أشياء ما كان لشخص في سن وجسم وظروف لطفي لبيب أن يفعلها لو لم يكن اسمه "سيرياؤوسي".

ما يمنعني على التحول إلى هذا الـ"سيرياؤس" هو الإقتناع بأن أحدهم سيأتي ويقرأ بعد سنوات. وأن الوسوسة كنز لا يفنى. وأن الكتابة الجيدة. هي تلك التي جاءت بعد "شوقة". وأن الجملة الجميلة. هي التي مسح قبلها عشر جمل ليست على المستوى ذاته من الجمال.

إذن. أين ذهبت الكتابة؟, ومن أين كانت تأتي أصلاً؟.

أفتش الآن عن إجابة. فلا أجد. نسيت كل ما يتعلق بقدرتي السابقة. أقرأ لنفسي الآن فأشعر أن غيري كتب. أستحسن بعض السطور وأكره بعضها. واسأل. كيف كان هذا البني آدم قادر على الكتابة. من أين تأتي كتابته. ماذا الذي كان يفعله ليكتب بغزارة وينشر بثقة. وما هي مشاعره وهو يرى في نفسه قدرة على الإنتاج. إنتاج الأفكار والسطور والكلمات والتدوينات. إنتاج الكلام بشكل عام.

الكلام.. فالكتابة لم تذهب وحدها. الكلام المنطوق أيضاً. هل يمكن تصديق أن هذا البدين الذي إن أمسك طرف الحديث ابتلعه حتى نهايته أصبح كثير التلعثم غير قادر على إكمال جملة أو توصيل معنى. هل يمكن تخيل هذا الشخص عاجز عن الفهم من أول مرة. ومتعثر في قراءة صفحتين ثلاثة لرضوى عاشور أو إبراهيم أصلان. هل يمكن تخيل هذا البدين منحني أمام لاب توب يقرأ باهتمام في مدونة فتاة مصرية عادية تماماً ليس فيها ما يدهش أو يجذب. وهو الذي كان يعتقد – بل ويعلن إعتقاده على الملأ – أن التدوين في مصر ظاهرة ذكورية وأن نصيب البنات في التدوين بسيط لا تدعمه إلا دار الشروق التي اختارت مدونات بناتية فقط لنشرها في سلسلتها المعروفة. هل يمكن تخيل هذا البدين وقد بدأ يعيد النظر في أمر البدانة وكان قد قرر منذ سنوات أن يأخذ البدانة طريقة ومذهب ونظام. حين كان يرى في البدانة جمال وخفة وأيقونة إبداعية جديرة بالإحترام.

هل يمكن تخيل هذا البدين وقد أصبح خيال قابل للتخيل. هل يمكن؟

هل يمكن تخيل كاتب يسأل عن كتابته. ومتكلم يسأل عن كلامه. وقارئ يسأل عما يقرأه.

هل يمكن أن يتجسد العجز في صورة أعجز من ذلك؟.

أنا أعرف الإجابة. لكن شيء ما يقف بين وبين كتابتها. سحابة كثيفة. مياة بيضاء. ارتعاش في الأصابع وعجز عن حفظ أماكن الحروف على لوحة المفاتيح. حالة كاملة من ضياع كل مفاتيح الأبواب المهمة، والأدراج التي تحوي أشياء قد تفسد إن ظلت مخزنة.

إذن. وللمرة الأخيرة. أين ذهبت الكتابة ومن أين كانت تأتي أساساً؟.

لا يشغلني الأمر للدرجة. لست مهتماً بقضية الكتابة للنشر والطبع والتأليف وحفلات التوقيع وتعليقات المدونة والزملاء "السيرياؤسيين". تعلمت في السنوات السابقة الكتابة بالصورة وللصورة ولعلها تطفئ قدراً من نار حيرتي.

لكن ما يشغلني أمر آخر. فحين كانت الكتابة سهلة. متاحة وموجودة. يسيرة متيسرة. كنت أخطط لحياتي بطريقة سهلة. العمل حتى الثلاثين. تحقيق قدر من النجاح والتحقق. ثم الكتابة والكتابة والكتابة. التفرغ لها وفيها وبها.

يبدو الجزء الأول من الخطة قابل للتحقق. العمل على ما يرام. ولازلت في الرابعة والعشرين. تبقى سنوات ستة إذن – إن عشنا وكان لينا عمر – ويبدأ الجزء الثاني. إن ضاعت الكتابة. فما الذي يمكن أن أفعله بعد الثلاثين؟.

السؤال صعب ومر. لا أحتمل عناء التفكير في إجابة له. الأفضل أن أعيد طرح الأسئلة الأسهل. أين ذهبت الكتابة. ومن أين كانت تأتي؟. وأين يمكن الحصول على إجابة؟
..