الأحد، أكتوبر 17، 2010

عن الكتابة، والعطف على الكلاب.

الكتابة إخلاص. وعلي أن أعترف أني لست مخلصاً لكتابتي بأي حال.

قد أكون مخلصاً لما أقرأ، لكن أبداً لم تنل الكتابة مني اهتمام قد أعطيه لغيرها من الأمور، العمل، الحب، تربية الطفلة الصغيرة، الرغبة الدائمة في الراحة أو المرح، والتعلق بالتسكع المستمر في الشوارع والمقاهي والطرقات.

من أين يأتي الإخلاص حتى؟، يعني، من غير المتوقع أن يكون الإخلاص حاضراً في علاقة كاتب بما يكتب، لو علمنا أن هذا الكاتب عرف كتابته صدفة، وأنه يلاقيها على صفحات مدونته، وفي المساحة المخصصة للـ"ملاحظات" على موقع "فيس بوك".

الطريقة الكلاسيكية القديمة للكتابة، تلك التي تتكون عادة من ورقة وقلم وأجواء ملاءمة، وساعة حظ... ورق أبيض وقلم بالحبر السائل، أو قلم الرصاص بالسن الحاد، إلى ما قاله الكتاب الأكبر سناً والأعمق تجربة.. تلك طريقة لم أعرفها.. لم أسمع صوت قلمي يجرح بياض الورقة، سمعت صوت أصابعي تدق على لوحة المفاتيح، تكتب بخط جيد، للأسف، لا توجد في الكومبيوتر خطوطاً سيئة.

في مرات أسأل نفسي، أنا أكتب؟، أم برنامج تحويل النقرات إلى حروف وجمل؟، أنا أكتب أم الكومبيوتر، أنا أكتب أم مخترع الشاشة والفأرة والطابعة والأجهزة المحمولة، أنا أكتب عن طريق الأجهزة، أم أنها تكتب خلالي؟.

الكتابة إخلاص، وأنا بشكل عام لا أعرف الإخلاص لشيء. أخلص للأشياء التي يبدو الإخلاص لها هو ذروة اللاإخلاص، على إطلاقه. أخلص للملل، أخلص للسرعة، أخلص للحركة، أخلص للضوضاء، أخلص للخوف من الوحدة..

والكتابة، في تقديري الصغير البسيط الفقير الضعيف، هي مجرد وسيلة لأن أبقى مخلصاً أكثر للأشياء التي أجيد الإخلاص لها، أكتب لأكسر الملل، وأزيد السرعة، وأضيف ضوضاءاً جديدة لضوضاء العالم من حولي، أكتب لأطمئن نفسي، لست وحدي، لست وحدي.

لماذا أكتب إذن؟، ربما لأني أحب أن أأسى على حالي، هذه حقيقة، أريد أن أحكي للأصدقاء على المقهى حكايات مؤسفة، حول حلمي الذي لا تسمح لي الظروف بفرصة تحقيقه، لأبدو رومانسياً في نظر فتيات يعرفوني للمرة الأولى، ولأن شكلي من بعيد، ومن قريب أيضاً، يبدو منفراً، بسبب البدانة وسوء تناسق الكتل، وطريقتي في تسريح شعري وترك ذقني دون حلاقة، فإن فكرة أنني كاتب مغمور تجعلهن يتناسين مظهري، ويقلن "يا له من حظ عاثر أودى بهذا الشاب إلى غير مكانه، لعله كان الآن كاتباً، يكتب في مكان ما، أشياء – قد – تستحق القراءة".

وأكتب لأني أكتب، الكتابة للذين عرفوها – دون أن يخلصوا لها – عبارة عن مرض مزمن لا شفاء منه إلا بالكتابة ذاتها، تأتي الفكرة، تزيد من حرارة جسدك، تتعرق بسببها، ثم تجمع ما تجده بين جنبات نفسك من شجاعة، تواجه شاشة جهازك، وتشعر أنك في مواجهة مباشرة مع العالم، وتراها مهمة مقدسة، أن تكتب، وأن تطلب من الآخرين أن يقرأوا، إذا ما سمحت لهم الظروف.

أكتب لأحافظ على ذاكرتي، أخاف من النسيان على نفسي، أخشى أن تطير التفاصيل من رأسي، فأذهب للأصدقاء، طالباً منهم أن يقصوا علي من أمري ما نسيت، ولأن فكرة الإخلاص سخيفة، وقد منعت نفسي منها لأطول وقت ممكن، فسيكون من الغباء تخيل أن الأصدقاء سيستجيبون لرجائي، ويرون علي ما نسيت، وإن كنت نسيت، فقد اتنسيت، كما تقول أغنية شهيرة، وأنا أكره فكرة أن أعيش عالة على ما يتذكره الأصدقاء عني، أكرم من ذلك أن أعيش أنا على ما أتذكره من أمر نفسي.. الكتابة إذن، في جانب من جوانبها مسألة كرامة، محاولة للعيش بكرامة، وعادة ذميمة، أن تفقد كرامتك باستمرار أمام الورق الأبيض الذي تجد نفسك – مكرهاً – مأموراً بكسر بياضه، والكتابة عليه.

أكتب لأجل الكتابة، مجرد محاولة للإجابة على سؤال واحد متكرر، واجه معظم من كتبوا، حول ماهية الفعل الذي يمارسونه دون إرادة حرة..

في مقدمة كتابها "مفاوضات مع الموتى.. تأملات كاتب حول الكتابة"، تقول "مارجريت أتوود" وهي تصف موضوع كتابها : "عن الكتابة، مع أنه ليس عن كيفية الكتابة.. وهو أيضاً ليس عن كتابة شخص بعينه أو عصر محدد أو بلد دون آخر.. إنه عن الموقف الذي يجد الكاتب نفسه فيه، أو الموقف الذي تجد الكاتبة نفسها فيه، والذي قلما يختلف من كاتب إلى آخر، وما هي هذه الكتابة، بحال من الأحوال، هل هي نشاط إنساني، أم أنها تكليف إلهي، أم هي مهنة، أم عمل مضجر نؤديه من أجل المال، أو لعلها فن، ولماذا يشعر كثير من الناس أنهم مجبرون على آدائها؟".

وفي مكان آخر داخل الكتاب، فإنها تضع قاعدة هامة، تقول "عطفك على الكلاب لن يجعل منك كاتباً جيداً، الكتابة تصنعها الكتابة، لا شيء آخر". وفي الواقع، فإني لا أجيد العطف على الكلاب، بل أني لا أحبها أساساً، لكني قد أفعل ما هو أعقد من العطف فقط لأهرب من ساعة مواجهة الفراغ الأبيض ببرنامج الكتابة على الكومبيوتر، حين تزداد حرارتي، وأتعرق، مستعداً لساعة سحب الحروف والكلمات من داخل روحي، والبدء في النقر المستمر.

وأصارحك، تبدو لحظة بداية الكتابة هي أسهل ما في الأمر، لك أن تتخيل المرات العديدة التي أتوقفها أثناء كتابة فقرة واحدة، أو لتكوين جملة معقدة، أو وصف مشهد معين، هذا أيضاً قد يبدو سهلاً، مقارنة باللحظة الأكثر صعوبة، لحظة التوقف عن الكتابة، أو الوصول لقرار أنه من الأفضل أن يتوقف الأمر عند هذه النقطة، وأن هذه كتابة تبدو جيدة، ولا داعي لمزيد من الأسطر والفقرات وجمل الوصف، أو أنها سيئة لدرجة، أنه من الأفضل ألا أستمر بها.

في مرات، بعد أن أنتهي، أفكر في "مارجريت أتوود"، وأود أن أقابلها شخصياً، لأخبرها أن العطف على الكلاب أصعب – ألف مرة – من الكتابة الجيدة.


لن تغضب الكلاب إن عطفت عليها دون إخلاص حقيقي، على أن الكتابة تفعل.
يمكنني العطف على الكلاب في أي وقت، لكن هذا غير ممكن مع الكتابة.
يمكنني نسيان أمر الكلاب، لكن الكتابة لا تسمح بنسيانها.
الكلاب يمكنها أن تعض، وقد تؤدي بعض العضات إلى الموت، لكن عضة الكتابة لا تقتل، تصيبك فقط بجرح غائر في روحك، ويا له من ألم.
لا يمكن العطف على الكلاب عبر الكومبيوتر، لكن يمكن الكتابة عليه.
الكلاب تنبح، والكتابة تجعلك بحاجة لمن يعطف عليك.
إن عطفت على الكلاب بطريقة رديئة، لن يلومك أحدهم، إن كتبت بطريقة رديئة، فإن أحداً لن يهتم بالعطف عليك.