الأحد، يناير 16، 2011

عن الـدعوة..



هذه الصورة توجد في مكان ما بالإسكندرية، ويبدو أن كاتبها رجل صالح، يمارس الدعوة بين البشر الفاسدين، ويقول لهم حكمة تاريخية نصها أن "الحب مش عيب، الحب الحرام هو اللي عيب"، في كسر واضح للمسافة الفاصلة بين العيب والحرام.. والحب.

السؤال في أبسط أشكاله وأعقدها هو : إذا كان المجتمع ينقسم إلى نوعين من البشر، "صالح" و"فاسد"، لماذا نلاحظ اهتمام الصالحين بنشر صلاحهم والدعوة له، فيما نكاد لا نلحظ أي اهتمام بنشر فساد الفاسدين؟.

الأمر أكثر صعوبة من بساطة تكوين السؤل، لكنه – وكالعادة – يحتاج إلى شرح بسيط للمصطلحات التي وردت في السؤال أعلاه.

الصالح هو الصالح، مقيم الصلاة، ملتزم الأخلاق الحميدة، يمتنع عن الاقتراب من المحرمات، ويحفظ للمجتمع الجميل حقه في ألا يخدش حياءه، أو يثير داخله فتنة أو ثورة أو ضجيج. الصالح بشكل عام هو الشخص الهادئ المسالم، الذي يتمنى الخير للجميع، ويثق في "صلاحية" أفكاره حتى أنه قرر أن يهب عمره للناس / يدعوهم للإلتزام بالصلاح الجميل.

والفاسد هو الفاسد، لا يصلي لا يصوم، يشرب الخمر مثلاً، يصاحب البنات الفاسدات، ويتحرر من قيد الدين والأخلاق والعرف الاجتماعي، يرى نفسه حراً في فعل أي شيء، حتى وإن كان يعلم في قراره نفسه أن بعض أفعاله لن ترضي البعض عنه.

يجب هنا، وقبل الدخول في تفاصيل أعمق، أن نؤكد أن هناك صالح، وهناك مصلح، وأن هناك فاسد وهناك مفسد، وبالطبع فإن الفرق واضح بين الفعل وتفعله. على كل حال، نحن في هذه المساحة نتحدث عن الصالحين والفاسدين، فقط لا غير.

وبالملاحظات البسيطة التي جمعها صاحب السطور، يمكن القول أن الصالحين يهتمون لأمر كل الناس، كل البشر، أنا أنت والآخرين، ويشعرون بالتزام ما غير مبرر تجاهنا، عليهم أن يجعلونا مثلهم، نصلي صلاتهم، نقول كلامهم، ونفعل أفعالهم، وننادي جميعاً بصلاح المجتمع، وبانتشار الأخلاق في كل مكان، والله أكبر ولله الحمد.

الأمر الأكثر غرابة، أنه عادة لا توجد روابط وثقية بين الصالح وبين الأشخاص الذين يدعوهم للصلاح. الأمثلة كثيرة، ما الذي يفسر مثلاً رسائل تملأ صناديق البريد الإليكترونية كلها تنادي بالتسبيح والإستغفار وإقامة الصلاة وتنهي عن الخمر والزنا والاستماع للموسيقى. المصادر مجهولة، لكنها بالطبع يقف وراءها صالح ما يرى أن هناك واجب عليه أن ينشر الصلاح هنا وهناك، حتى بين الذين لا يعرفهم أصلاً.

من جهة أخرى، وبمزيد من الملاحظة، نرى أنه لم ترد أيه رسائل تتحدث عن متعة العلاقات الجنسية مثلاً، أو تدعو إلى تجربة طعم الـ"تكيلا" المر، أو اللذة اللانهائية التي قد يحصل عليها الواحد عند خلط الـ"فودكا" بعصير البرتقال الطبيعي.

يمكنك أن ترى على الجدران في الشوارع "قم إلى الصلاة"، لكن من الصعب أن تقرأ "الحشيش مزاجه عال".

صاحب تجربة الفساد (التي عادة ما تكون فردية) لا يرى أن هناك حاجة لنشر دعوة تحث الآخرين على تكرار التجربة، ليس لأنها سيئة، بل لأن الفاسدين لا يهتمون.

أما أصحاب التجارب الصالحة، فهناك دائماً هذا الاهتمام غير المبرر، بأن على المجتمع كله أن يصلي، وعلى الجماعة أن تصبح أكبر وأكبر، وأن الأخلاق والصلاح الجماعي هو الحل الناجع الوحيد لكافة مشاكل الأمة والمجتمع.

الغريب، أنه بمزيد من الملاحظة والتطبيق، سنجد مثلاً أن أقرب الأقربين للصالحين هم فاسدين بشكل واضح، تابع مثلاً في دائرة علاقاتك أبناء أقرب منتمي لجماعة الإخوان المسلمين أو السلف (وهذا مجرد مثال)، أو لاحظ تدني أخلاق شقيق صديقك الملتزم الذي يكافح كل يوم لجذبك إلى الصلاة، هذه طبعاً مجرد أمثلة عامة واسعة.. لكنها تدل في جانب من جوانبها، أن أحدهم جعل الصالحين يفهمون أن الدعوة تصبح أفضل مع الغرباء، وأن الذين يجلسون في البيت ليسوا على ذات الدرجة من الأهمية.

ما الذي يحدث بمرور الوقت؟، وما الذي حدث بالفعل؟..

ما حدث أن كل صالح تحول إلى مصلح بشكل تلقائي، وخرج ينادي في الناس بالأخلاق الحميدة، وكله ثقة أنه على حق، وأنه يفعل الصواب، وترك وراءه أقرب أقرباءه، يفسدون في هدوء، وملأ العالم ضجيجاً حول أهمية أن نكون أناس محترمين.. وبالطبع، فإن المجتمع غير مجبر على سمع كلامه، لأنه لا يعرفه أصلاً، وإن كان ترك له الفرصة للكتابة على صخور الشواطئ والجدران، أن الصلاة خير من النوم، وأن الله أكبر ولله الحمد، وكأن الأمر في حاجة إلى تأكيد.

ما الذي حول الصلاح "الفردي"، إلى "إصلاح جماعي"، وما الحد الفاصل بين الـ"صالح"، والـ"مصلح"، وهل كل صالح مصلح، وهل هناك درجة ما من الصلاح يجب أن يتحلى بها الصالح قبل تحوله إلى مصلح، أعتقد أنه من غير اللائق أن يبدأ أحدهم "الدعوة" وقد ركع بالكاد ركعتين وصام يومين في رمضان الماضي.

ثم، إن كان الصلاح الديني هو أمر بين "العبد وربه"، ألا تشكل "الجماعة الإصلاحية" نوعاً من انخفاض في درجة الصلاح الفردي داخل كل صالح، بحيث أنه يتكل على الصلاح العام، وينسى صلاحه الشخصي ومسؤليته الشخصية تجاه مجتمعه الأكثر صغراً.

ثم، قبل خمسين عاماً، كان هناك مجتمع جميل، فيه الصالحون عاديون تماماً، يصلون الفروض، ويكتفون بتربية أبناءهم لأن التربية مسؤليتهم الوحيدة، كان لدينا في النهاية مجتمع أكثر نجاحاً، وأكثر صلاحاً، الآن، لم يعد لدى الصالح وقت لقضاؤه في المنزل، الدعوة بانتظاره، والإسلام هو الحل.

ثم، الهيئات والمؤسسات الإصلاحية، الأزهر مثلاً، الجامعة، أي مكان آخر، هل يستفيد من انتشار المصلحين، فبعد أن كان الأزهر يحتكر الدور الإصلاحي، أصبح الآن من حق أي صاحب لحية خفيفة أن يقول أي شيء طالما أنه يدعو المجتمع للصلاح، ألا يمكن أن نقول ببساطة، أن انتشار الإصلاح غير المنظم ينتقص من مكانة المكان الذي كان بحقه وحده أن ينادي بالإصلاح كونه الأكثر علماً وخبرة وتاريخاً وقداسة؟.

الفاسد، ولأنه غير واثق في أهمية ما يفعل في هذه الدنيا، فقد آثر أن يمضي في فساده صامتاً، وألا يدعو أحد، وأن يترك الصالح في حاله، عسى أن يتركه أيضاً، وكفى الله الجميع شر القتال.

أخيراً، وهذا سؤال هامشي جداً، ما الذي جعل الصالح متأكداً من صلاحية صلاحه، وما الذي جعل الفاسد متردداً في أن فساده غير صالح؟.

ثم، ألا يجوز أن يكون صالح الصالح فاسد لمجتمع ما، وأن يصبح فاسد الفاسد صالح لمجتمع آخر؟.

إنها قصة طويلة، نكتفي لختامها بحكمة قالها والد أحد الأصدقاء، وهو مربي فاضل من هؤلاء الصالحين الذين اكتفوا بإصلاح بيوتهم والعناية بأخلاق ابناءهم – فقط لا غير.

قال، تعقيباً على موضوع مشابه.. "الزيادات.. بيتعملها حاجات", والله أعلم.

الثلاثاء، يناير 11، 2011

2011

(1)

اختارت إدارة الكافيه طريقة غريبة لتسلية الزبائن.

شاشات البلازما الكبيرة تغطي الحوائط في كل اتجاه، الكافيه صغير، يستوعب عشرين شخصاً بالكاد، لكن الحوائط تحمل خمسة شاشات كبيرة، كلها مضبوطة على قناة واحدة للأغاني، القناة لا تتغير، والأغاني تتكرر. لكن دون صوت.

كل الشاشات مضبوطة على وضعية الصمت، إلا أن الموسيقى تملأ المكان. مصدرها سماعات بيضاء مستطيلة توجد على الحوائط كلها أيضاً، بجوار كل كنبة مخصصة للزبائن، توجد سماعة مثبتة بالأعلى، وهي مصدر الموسيقى.

النظام الصوتي جميل، وقائمة الأغاني لطيفة، يختارون الأغاني الحديثة، ويخلطوها بأغنيات صدرت منذ عامين أو ثلاثة، يغيرون اتجاه الأغاني كل ساعة، ساعة للحزن، ساعة للفرح، ساعة للحب، ساعة للأغاني التي لا تهتم بالحب، محمد منير ومحمد محي ومحمد رشدي أحياناً.

الكافيه على بعد مائة خطوة من البناية التي أعمل بها، أنزل إليه هرباً من زحام المكتب بالتفاصيل والناس والضيوف والأصوات.
اليوم، أتيت إلى هنا، والتفاصيل معي، تملأ رأسي، ورأيت أنه قد يكون مناسباً أن أجلس مع تفاصيلي لوقت مناسب، اسألها، تسألني، أحاورها، أقول لها ما أفشل في قوله في المكتب، المقهى، السيارة في رحلتها اليومية بين البيت والعمل.

الموسيقى هنا موحية، الصور الصامتة على الشاشات أيضاً. أنظر أحياناً إلى الشاشة، وأجد الموسيقى ملائمة تماماً لما يحدث داخل الأغنية المصورة الصامتة، أجدها طريقة لطيفة.. الاستماع لأغنية، مع مشاهدة كليب لأغنية أخرى، أقول لنفسي أنها تصلح كفكرة جيدة في مونتاج الأفلام الوثائقية التي أعمل عليها.. وأدون في ورقة صغيرة أن علي تمرير الفكرة للأصدقاء المخرجين..

أذكر نفسي بأنني هنا للجلوس بهدوء بعيداً عن العمل، والتفكير العميق.. لكن، لماذا اعتدنا على وصف التفكير بالعميق.. ما عيب التفكير السطحي.. التفكير البسيط.. التفكير السهل.

ثم، هل التفكير بعمق الآن، ينفي صفة العمق على الأفكار التي أتداولها مع نفسي في الأماكن العادية..

(2)

بالقرب من باب الكافيه، توجد لوحة ضوئية مربعة، مكتوب داخلها باستخدام الأضواء "الحد الأدنى للفرد 25 جنية"..
يتغير لون الكتابة بسرعة، بين الأحمر والأزرق والأخضر والأصفر.. إيقاع تغير الألوان، يلاءم إيقاع الأغنية في السماعات، وتقطيع الصور في الكليبات على الشاشات.

أشعر، وكأني أنا وحدي الخارج عن الإيقاع. بحاجة إلى هدوء أكثر، إلى موسيقى انسيابية، تلاءم حركة الكاميرا الهادئة في فيلم كنت أصوره منذ يومين.

أذكر نفسي بالغرض الذي جئت بسببه إلى هذا المكان، البحث عن الهدوء، والكف عن التأمل في التفاصيل الصغيرة.

عاقبت نفسي وكافأتها، فطلبت قهوة مخفوقة مع اللبن، مرت دقائق عشرة، قضيتها في مراقبة الشاشة الصامتة والاستماع إلى الموسيقى، جاء عامل الكافيه، وضع الكوب الأبيض، ابتسم لي ثم انصرف..

نظرت إلى الكوب، وجدت أن أحدهم داخل المطبخ يحاول أن يجتهد، حتى أنه واحتفالاً بالعام الجديد، رأي أن يكتب على سطح الكريمة وبواسطة الشيكولاتة المبشورة، تاريخ العام الجديد.. 2011.

بالتدريج كان صوت الموسيقى يختفي، والصور تتلاشي، فيما اقتربت بوجهي من الكوب، وراقبت تاريخ العام الجديد يتلاشي نقطة نقطة، حيث كانت الكريمة المخفوقة تختفي بالتدريج، ويختفي معها اسم عام كامل، ينتمي إلى المستقبل.
غادرت بعد قليل، وقبل أن أشرب..