الخميس، ديسمبر 31، 2009

الوضع!

(1)

"مطاوع، حدثني عن الألفين وتسعة"..

قلتها وكان على وشك الخروج من الحمام. الباب مفتوح، وهو يقف بملابسه التي أتى بها من الشارع.

خلع فردة شرابه ويهم بخلع الأخرى، وسيلقي بها على ما أظن عندما يصل إلى باب الحمام، صانعاً من الشراب كرة قماشية.. ومصوباً تجاه صندوق بلاستيكي أخضر طلبت منه زوجته أن يضع به الملابس المتسخة التي يرغب في دخولها لدورة غسيل جديدة.

لاحظت أنني بمراقبتي له نسيت أن ألتقط حركة عادية يفعلها "مطاوع" كل مساء، فمع كل مرة يخلع فيها شرابه. يمسك الفردتين باهتمام. ويقربهما من أنفه.. ما الذي يتوقع مطاوع أن يجده في رائحة شراب يرتديه من الصباح إلى المساء؟.

لم يمر وقت طويل بين اللحظة التي ألقيت فيها سؤالي، وبين انتهاء "مطاوع" من تشمم رائحة شرابه الأبيض، هو يفضلها بيضاء أياً كان ما يلبسه..

توقعت أن أتلقى رداً.. لكنه أدار وجهه ناحيتي. وكانت يده وشرابه لا تزالا على مقربة من أنفه. وقال "نفسي أعرف ليه بحب أشم ريحة شرابي قبل ما أرميه في الغسيل"..

تجاوز باب الحمام، وضع يده على كتفي وبدأ يشرح نظريته.. قال أن هناك حركات عادية يفعلها بعض البشر دون مبرر. منها شم رائحة الشرابات، والنظر إلى فتحة المرحاض بعد القيام مباشرة وقبل الضغط على زر صندوق الصرف، والنظر باهتمام إلى طرف الصباع الذي خرج لتوه من فتحة الأنف محملاً ببعض المخاط. وتفحص ما خرج من الفم إلى المنديل بعد سعال قوي مصحوب ببلغم، وتأمل طرف الأنبوب البلاستيكي الأزرق الصغير ذو الأطراف القطنية، والذي يستخدم لتنظيف الأذن، والحملقة في المبولة أثناء التبول.. والتأكد من أن النظرة موجهة إلى المبولة، وليس إلى العضو، لا أحد يهتم بالنظر إلى عضوه أثناء التبول بل أثناء الانتصاب فقط.. لكن النظر للمبولة فعلاً أمر غريب..

"ولا إيه رأيك؟".. قالها مطاوع وقد أهمل الإجابة على سؤالي. وكنت على وشك الإصابة بنزلة برد، فعطست.. ووضعت يدي على أنفي.. وفور أن انتهيت.. فتحت كفي.. ونظرت.

(2)

"مطاوع، حدثني عن الألفين وتسعة"..

"حاجة وسخة".. قالها وهو يلقي بهاتفه المحمول على سطح مكتبه. كان واقفاً بجوار الكرسي، دخل الغرفة منذ دقائق، ويبدو أن إضاءة الشمس كانت جيدة بحيث قرر إجراء المكالمة بجوار الشباك.

وضع الهاتف على أذنه، وتابع بنظره حركة السيارات أسفل البناية. بدا وكأنه سينطلق في السباب فور أن يتلقى إجابة من الطرف الآخر. ويبدو أنه كان يتصل بشخص ما سعيد الحظ. بحيث لم يتلقى "مطاوع" أي رد. فألقى هاتفه. وردد "حاجة وسخة".

كانت الوقت الفاصل بين سؤالي وجملته لا يزال قصيراً بحيث توقعت أن أتلقى منه رداً. لكن يبدو أن عدم تلقيه هو على رد في اتصاله أزعجه بحيث تعكر مزاجه وارتسمت علامات الضيق على وجهه ونظر إلي.. أو بشكل أدق نظر إلى المكان الذي أجلس فيه، كانت نظرته واسعة بحيث اعتقدت أنه لا يراني أصلاً.

ثبت نظره لنصف دقيقة. ثم دس يده في درج جانب مكتبه، وأخرج علبة خشبية مستطيلة وطويلة. بها فتحات صغيرة ورسومات إسلامية على شكل مثلثات متداخلة. ويبدو أن أحد جوانبها يفتح باباً.

خمنت أنها علبة لحفظ المجوهرات أو الأقلام الغالية. لكنها كانت مبخرة، دس "مطاوع" يده الأخرى لأسفل لتعود إلى سطح المكتب وبها علبة ورقية كبيرة، صفراء، وعليها رقم 60 بحجم كبير، وكلمة "Lemon" ومليئة بأعواد البخور.. نظر جيداً لأطراف الأعواد، واختار عوداً بعناية. ثبته داخل المبخرة، وتراجع بكرسيه للخلف، بحيث يتمكن من فتح درج سحري في المكان الذي كانت تلتصق به بطنه. أخرج ولاعة صغيرة، وأشعل طرف العود. حمل المبخرة بيده وقربها من وجهه. شعر بسخونة اللهب. ثم قرر القضاء عليه بنفخة واحدة. أغلق باب المبخرة. وضعها جانباً وجلس يتأمل خيوط الدخان ترتفع لأعلى. نظر لي نفس النظرة الواسعة. ثم قال "حاجة وسخة فعلاً".. لكنها لم تكن إجابة على سؤالي.

(3)

"مطاوع، حدثني عن الألفين وتسعة"..

كنت بجواره في التاكسي الذي استقله من الدقي إلى أكتوبر. جلسنا متلاصقين. اثنين من البدناء أكبر من أن تتسع كنبة سيارة شاهين خلفية لهما. لكنها اتسعت.

في البداية ظن السائق أني أحدثه. لكن نظرة منه في المرآة لسماعات الموبايل في أذن "مطاوع" جعلته يفهم أن ثمة مكالمة تحدث.

وقد كانت هناك مكالمة بالفعل، لكن يبدو أن مطاوع لم يكترث لسؤالي بحيث لم يكلف نفسه عناء إخباري ولو بالإشارة أنه مشغول الآن في محادثة إحداهن. ما أعرفه عن مطاوع أنه يفضل أن تكون مكالماته بعد انتهاء أوقات العمل.. نسائية.

في هدوء القديسين والرهبان، نزع "مطاوع" فردة سماعة من أذنه اليسرى. وناولها لي. في دعوة صريحة للتنصت على ما يدور بينه وبين طرف آخر لا أعلمه.

"تمام تمام".. قالها لمحدثته في محاولة للتغطية على أية جلبة قد أصنعها أثناء تثبيت فردة السماعة في أذني. الآن أسمع أنا وهو.. وتتحدث هي.

"عارف.. ركوبك التاكسي ده دليل على أنانيتك.. أنت أناني قوي.. سايبني لوحدي استحمل كل حاجة.. أنا تعبت.. عارف بقالنا كام شهر على الحال ده. عارف؟ رد عليا، ولا ترد ليه... ما أنا الكلبة اللي بتهوهو.. أنا الجارية اللي أبوك جابهالك.. صح؟، طب عمرك فكرت فيا لحظة؟، عمرك تخيلت أنا تعبانة إزاي؟، عمرك؟ عمرك؟، عمرك؟.. يا أخي أنا ده عمري ما بشتكي.. عمري ما بخليك تاخد بالك من إني تعبانة وجبت آخري.. أنت أناني قوي.. سايبني لوحدي استحمل كل حاجة.. أنا تعبت"..

كان "مطاوع" يدير أصابعه في حركات دائرية رتيبة. فهمت أنه يلاحظ تكرارها لما قالته مرة أخرى.. ويبدو أنها لم تكن المرة الأولى التي تكرر فيها ما قالت.. فبهدوء دنياصوري قال "تمام تمام".. والتقط أنفاسه وأضاف "يلا سلام دلوقتي"..

كانت المدة الفاصلة بين سؤالي ونهاية المكالمة طويلة. بحيث لم أتوقع من "مطاوع" أي رد. والحقيقة أنه لم يخذلني.. سكت تماماً حتى وصلنا إلى ناصية الشارع الذي نسكن فيه. "أيوة هنا".. نزل ودفع.. ولم يكلف نفسه عناء إخباري بالسبب الذي قرر لأجله إنزالنا من التاكسي على مسافة بعيدة جداً عن المنزل.. قرر "مطاوع" أن يجرب المشي.. وأنا معه.. دون حتى أن يجيب على سؤالي.

(4)

"مطاوع، حدثني عن الألفين وتسعة"..

هل كان "مطاوع" يعلم أن اللمبة ستنفجر.

يقول "مطاوع" أن قلبه يحدثه بخصوص الأشياء المزعجة التي من الممكن أن تحدث له في الدقائق القادمة. لكنه لا ينصت عادة لقلبه. فهو صاحب قلب ثرثار، لا يتوقف عن الحديث، ثم أن الإستماع لقلب أمر قد يبدو مملاً، ويفتقد لكثير من الحكمة.. يقول "مطاوع" أنه لا يملك الوقت الممكن تضييعه في الأشياء التافهة.

يقول "مطاوع" أنه يشاهد الحوادث مرتين. مرة حين يتوقع حدوثها، ومرة بعدها بدقيقة حين تحدث بالفعل.

لم يقل "مطاوع" كل هذا حين انفجرت اللمبة. الحقيقة أن المرة الأخيرة التي سمعت فيها صوت "مطاوع" في حديث موجه إلي.. كانت منذ فترة طويلة، وبالتالي فإن ما يقوله "مطاوع" الآن، هو ما سبق أن قاله. وأنا كصديق أحاول أن أبدو مخلصاً، حفظت كلماته.. وصرت أرددها.

حين انفجرت اللمبة كانت الساعة قد جاوزت الثالثة صباحاً. وكنا سوياً على باب المطبخ. وشاهدت الشباك مفتوح بما يعني أن الهواء البارد مع السيراميك قد جعل من المطبخ ثلاجة كبيرة. وقليل من قوانين الفيزياء يؤكد أن لمبة تصلها الكهرباء في هذه الأجواء.. لابد أن تنفجر.

على ضوء شمعة لونها أحمر من تلك المخصصة للاحتفالات العاطفية، وقفت بجوار "مطاوع" أمام طاسة الزيت أراقب قطع البانية المجهزة سابقاً يتحول لونها في ميكانيكية من الأبيض للأصفر. غرز "مطاوع" الشوكة في بطن قطع البانية واحدة تلو الاخرى، وسحبها خارج الطاسة على طبق زجاجي فرش عليه منديل أبيض كبير من النوع الذي لا توجد به رائحة يمكن أن تختلط بالطعام فيفسد. رأيت المناديل تسحب الزيت.. ورأيت "مطاوع" يغرز الشوكة من جديد في بطن قطعة بانية ويقدمها لي قائلاً "بسم الله"..

(5)

حدثني عن الألفين وتسعة يا مطاوع.. حدثني من فضلك.

أعرف أنك لا تريد أن تفعل. أعلم أنك لم تعد تطيق حديثي. صوتي. وجودي.

لكنها الظروف يا مطاوع الظروف. وجودنا سوياً قدر. عقوبة. قرار شخص آخر غيرنا.

تذكر يا مطاوع الأيام الجميلة. حين كنا نشكر الله أننا لسنا شخصاً واحداً.

كنت تباهي الناس أنك لست وحدك. أنا معك. وكنت أفعل الأمر ذاته. كنت أخبرهم عنك... حدثني مطاوع. أخبرني مطاوع. ذهبت مع مطاوع.

لكنك هذه المرة ترغب في الذهاب وحدك يا رفيقي. في الرحيل وحدك. ماذا أفعل دونك يا مطاوع وماذا تفعل دوني.

حالي لا يسرك. ولا يسر أحد. حديثي صار مملاً وأسئلتي كثيرة. كنت تسألني سابقاً فأجيب. الآن أسأل أنا فلا تنطق. أحدثك فلا تكترث لوجودي. خصامنا مستحيل يا مطاوع. لا تفارقني. حاول. جرب. اضغط على نفسك وابقى قليلاً. لا.. ابقى كثيراً فالرحيل واحد. سواء كان الآن.. أو بعد سنة.. حدثني عن السنة يا مطاوع.. عن الألفين وتسعة التي كان حديثنا قبلها مسموحاً. عن الأصدقاء الذين ماتوا. والأحباب الذين انتحروا.

حدثني عن الذين قتلناهم سوياً. حدثني عن الموتى. عن الرسائل الإليكترونية الطويلة (عديمة القيمة). عن مواقع الإنترنت الإباحية. عن المدونات. حدثني عن الفيس بوك. والتويتر الذي لم نفهمه. حدثني عن الكلام. الكلام يا مطاوع.. تذكره؟.

يا مطاوع لا تحزن. الحزن لا يليق بك. والصمت كذلك. مايكل جاكسون مات. لكن ألبوماته تبيع أكثر الآن. أعلم أنك تحزن لرحيله. كنت تحبه. تتمنى أن تصبح في حجمه ووزنه.. لكنها البدانة يا صديقي صفتك وصفتي.. والبدناء في الجنة.. لأن تعذيبهم في النار سيبدو مزعجاً. ولأنهم تعذبوا في الدنيا بما يكفي..

أضحك يا مطاوع على سخافاتي.. كنت تضحك سابقاً. ما الذي حدث. ما الذي فقدته.. وما الذي فقدناه سوياً؟.

...........

أصبح شعر مطاوع طويلاً. خرج لتوه من الحمام. ويرتدي "بورنس" لبني، وبعض البخار يتصاعد من حوله. وقفنا أمام المرآة. وضع الـ"جيل" على شعره وفركه جيداً. تناثرت قطعة جيل أخضر على سطح المرآة وتركت بقعة لزجة.. لم يكترث لها مطاوع إطلاقاً. بل أكمل محاولاته للسيطرة على خصلات شعره الطويلة.

تأكدنا سوياً أن مظهره لم يعد جيداً كما كان في بداية العام. وسجلت وحدي ملاحظة أن "مطاوع" بحاجة إلى "بورنس" جديد. وعلبة جيل. والذهاب إلى الحلاق، وإصلاح نظارته المكسورة. وشراء ملابس شتوية تلاءم زيادة وزنه الأخيرة. والبقاء لفترة أطول في الحمام للاستمتاع بالدش الساخن. والاستيقاظ في وقت يسمح لجسده المترهل بالحصول على حقه من الراحة. والنوم على مرتبة جديدة غير تلك التي اشتراها لأنها طبية، فاكتشف أنها ستجبره على الذهاب إلى الطبيب للعلاج من آلام المفاصل والفقرات.

سجلت بالنيابة عن "مطاوع" أنه سيكون بحاجة للجلوس مع زوجته في بداية العام الجديد. في محاولة أخيرة لللتفاوض حول حق المواطن في ركوب التاكسي. وحول عدد المرات التي سيسمح لها بتكرار كلماتها في المكالمات الليلية التي تسبق وصوله إلى المنزل.

وسيكون من حظي أن يجد مطاوع وقتاً يسمح له بالثرثرة معي.. أو على الأقل للتأكد من فكرة أننا لا زلنا شخصاً واحداً.

كان مطاوع قد تركني أسجل ملاحظاتي. وخرج من الغرفة إلى الشارع مباشرة. تاركاً ورقة صفراء صغيرة ملتصقة على سطح المرآة بجوار بقعة الـ"جيل" الخضراء اللزجة..

"غبي.. أو لم تفهم بعد؟". ويبدو أنها إجابة على سؤالي.

الأحد، ديسمبر 20، 2009

عبادة برجماتية

في حديث مع صديقتي التي لا تعتقد في وجودك. سألتني، لماذا يفضل الذين يؤمنون بالله – مثلك - الاعتقاد بأن إيمانهم ذكاء، وبأن إلحادنا غباء، وأرجوك لا تخبرني أن الكون لابد له من خالق، أريد إجابة منطقية مختلفة.

بصراحة، لم أكن لأجيب إجابة مماثلة، بشكل عام أكره الإجابات التي حصلت عليها في طفولتي. وقد كانت واحدة من إجابات أبي على سؤال مماثل.

فكرت. وكانت الأجواء التي التقيت فيها صديقتي تساعد على التفكير. صالة متسعة في بار قديم بوسط البلد. عجائز هنا وهناك، والكل يتحدث بصوت خفيض.

قلت : لو أن الله موجود فعلاً. فإنه سيغضب بالتأكيد من الذين عاشوا وماتوا وهم لا يصدقون فكرة وجوده. لكن إن كان وجود الله كذبة ابتكرها الآباء لتهذيب أولادهم. فإن أحداً لن يغضب لأن واحد أفنى عمره يعبد إله غير موجود. ثم أن الإلحاد لا ينكر وجود الله فقط. بل هو ينكر وجود كل الآلهة. وبحسب المعلومات المتوفرة، فإن العذاب مهمة تقوم بها الآلهة فقط بعد الموت، ومباحث أمن الدولة أثناء الحياة.

هل يمكن أن ترضيك إجابة كهذه؟. ممممم

"العبادة البرجماتية". سيكتبها أحدهم على مدونتي إن تجرأت ونشرت هذه السطور. بالإضافة إلى أن عدداً من المؤمنين بك وبدينك (مثلي)، سيتطوعون بـ"سب الدين" لي، باعتباري أكتب ما لا تجوز كتابته.

إذن، هل يمكن أن نعبدك، ونحن نملك أسباب منطقية لفعل ذلك؟

وهل يمكن أن تضايقنا بعض الحقائق، التي – حال كنا نعبدك – سنصبح ملتزمين بها. ومنصاعين لها.

يعني، مثلاً. لقد قررت أن زمن الأنبياء قد انتهى، صحيح؟. يعتقد بعض البشر أن في هذا ظلم للذين جاءوا إلى الدنيا وقد فاتهم أن يقابلوا نبياً. ومن ناحية أخرى، فاتهم أن يتم اختيارهم كأنبياء.

يفضل البعض أن تكون علاقتهم بك أقوى، وذات خصوصية. والأنبياء كانوا كذلك. لماذا إذن لا يمكن لمحسن أو سيد أو دعاء أن يكونوا أنبياء أيضاً؟. لماذا كتبت على البشر الذين جاءوا بعد نبيك الأخير أن يظلوا في مكانة معينة. هو حقك بالتأكيد. لكن.. أيمكن أن أعبدك، وفي قلبي نقطة حيرة. وتساؤل، مع العلم أن زمن الأنبياء إن كان ممتداً بالفعل، فإني لم أكن لأفضل أن أكون نبياً. كان سيكفيني أن أكون صحابي طيب، يموت في غزوة مهمة. ويحبه نبيك، ثم يطلق المؤمنون اسمه بعد ذلك على عدد من المساجد والشوارع الواسعة، وتكتب عنه بعض القصص، وتروى لأطفال المؤمنين.

أكان من الأفضل أن يظل الأنبياء متواجدين، على الأقل واحد فقط في العالم، يموت فيأتي غيره، بحيث ترحم عبادك من شيوخ الدين الذين يؤمنون بك لكنهم يعتقدون في الوقت ذاته أنهم يعرفون عنك ما لم تكتبه أنت في كتابك ولا بلغت به واحد من رسلك، فيحكمون باسمك، ويفتون بدينك. أكان وجود نبي واحد يخرسهم أمر صعب؟.

ثم، الغيرة يا رب الغيرة. أنت خلقتها وأنت تعلم كيف تعمل في القلب. أحدثك عن الغيرة وأنت تعلم ما سأقول.

يعني، مثلاً، نقف أمامك في صفوف طويلة متراصة كالبنيان المرصوص، رغم أن أبنيتنا الآن لم تعد مرصوصة، الأبنية تسقط لأن الأسمنت مغشوش، والحديد أغلى من أن يسمح المقاول باستخدام عدد أكبر من الأسياخ..

لكن في النهاية، أنت تحب أن يقف عبادك في الصلاة متجاورين، يسدوا الفرج فيما بينهم. بحيث لا يقف الشيطان فيها، مع أن أحداً لا يعلم لماذ قد يحب الشيطان أن يقف في مساحات فارغة بين أقدام بشر أثناء صلاتهم.

السؤال هو، وقد أطلت عليك فسامحني. لماذا لا أعبدك وحدي؟. لماذا يقتلني القلق في كل صلاة جماعة، أي المصلين أقرب إليك؟، وهل أنا أقرب من الإمام، وهل الإمام يخلص في الصلاة أم أن صلاته فاسدة، وهل فساد صلاته يفسد صلاتي، وكيف أثق في خشوع إمام وأنا لا أثق في خشوعي. ولماذا يسمحون بإضاءة المسجد أثناء الصلاة؟، الصلاة في الظلام أفضل، لماذا أعتقد أنا أن الظلام جزء من الخشوع؟.

أغار منهم. في ساعات القرب منك تؤلمني فكرة أن شخص آخر قريب. أرغب في مكانة مميزة. وحدي، لم يصلها أحد.. يمكن أن أسامح الأنبياء والرسل. لكن البشر العاديين. ما حجتهم. ماذا فعلوا أكثر. وكيف يمكن أن تكون صلاتهم الجماعية أفضل من صلاتي وحدي في غرفة مظلمة..

أكان يمكن للدعوة، أن تظل سرية، بحيث يظن كل بشري أنه يعبدك وحده، دوناً عن الآخريين. فكرة سخيفة ها.. طيب.. دعني أدونها وأفكر..

لماذا أخاف وأنا أكتب إليك؟، لا أخافك في الواقع، أثق في أنك ربي، وبما أنك خلقتني، فإنك بالتأكيد لن تسمح لي بفعل شيء متجاوز أكثر مما ينبغي. يعني، قد أرتكب بعض الذنوب، لكن حتى هذه الذنوب أنت خلقتها، وفي خلقك لها، إشارة إلى أنك ستسمح لها بالحدوث، وأن ارتكابها وإن كان يغضبك، إلا أن التوبة عنه ممكنة، وإلا ما كنت لتخلقه.

وبما أني أكتب، فأنت خلقت عقلي، وسمحت لأفكاري الشريرة بالوجود، وهذا فضل منك بالتأكيد. تعلم أن أصحاب الأفكار الشريرة يفرحون بها قليلاً.

أخاف من الذين يعتقدون أنهم أقرب إليك للدرجة التي تسمح لهم بالحديث نيابة عنك، بإضافة تعاليم جديدة للتعاليم التي وضعتها أنت وحدك. بعض البشر في الأرض يا ربي يرغبون في أن يصبحوا أنبياء، على أن البعض الآخر فيما يبدو، يعتقدون في إمكانية تحويلهم إلى آلهة.

علي أن أشكرك بأي حال. شكراً لأنك موجود. شكراً لأنك أخبرتنا أنك بذاتك ستكون موجوداً ساعة الحساب. فكرة أن أحداً غيرك سيقوم بحساب البشر تبدو غاية في السخافة، ورغم أن هناك بشر عاديون يقومون بإجراءات الحساب الآن في الأرض. إلا أن قليل من الرحمة سيمنع بمشيئتك حدوث ذلك في السماء.

الاثنين، ديسمبر 07، 2009

عن السلاحف والأرانب

في البدء كانت السلاحف.

لكن أحداً لا يهتم لأمر سلحفاة. وحيث أن الأرانب جاءت بعد ذلك. فإن الكوكب يؤرخ للمسألة بشكل خاطئ، ويعتقد أنه في البدء كانت الأرانب.. على كل حال.. كانت هناك بداية. وكانت هناك سلاحف. وكانت هناك أرانب.. وكانت الحكاية.

تعرف القصة القديمة إذن.. دعنا نحكيها للذين درسوا في الخارج، أو للإخوة العرب المهتمين بقراءة المدونات المصرية.

في الصف الثاني أو الثالث. ربما الأول.. في صف من الصفوف الدراسية الأولى. كانت الحكاية تحكى بشكل درامي، عن سلحفاة مجنونة طلبت من أرنب أن يسابقها. وبعد مداولات واتفاقات. تم تحديد الزمان والمكان. وبدأ السباق.

الأرنب. ولأنه يعرف عن نفسه ما يجب أن يعرفه أرنب. دخل السباق دون اهتمام، للتسلية. وركز على جانبي الطريق، حيث توجد بعض زراعات الجزر.. يقف عند الأولى ويأكل. ويذكر نفسه بأن الأمر يحتاج إلى معجزة كي تصل السلحفاة قبله. فما تمشيه سلحفاة نشيطة في ساعة، يقطعه أرنب معاق في دقيقة. فليأكل إذن ويشبع. ثم يعود إلى السباق فيحظى بالحسنيين.. الفوز والجزر.

السلحفاة. ولأسباب ميكانيكية. لا تتمكن أبداً من النظر خلفها. فهي لا تدري لماذا وقف الأرنب أساساً. ولا تبصر الجزر على جانبي الطريق، حتى أنها لا تعرف لماذا يهتم أرنب لأمر "جزراية" ويترك السباق. أمام السلحفاة اختيار وحيد. مواصلة الزحف داخل صندوق ثقيل، ووضع احتمال ضئيل، بأن الأرنب ربما يكون قد تناول جزر مسمم ومات. وبالتالي فإنه يمكن الفوز بالسباق.

القصة تنتهي بأن السلحفاة تفوز، لأن الأرنب ينشغل بمسألة الجزر حتى النهاية، وحين ينتبه للسباق، يجد السلحفاة تضع خطوتها الأخيرة على خط النهاية.

بطريقة ما، أجد القصة تشير لمعنى أعمق. وأجدها ملاءمة للصف الثانوي الثالث، أو تستحق أن توضع في مناهج التنمية البشرية عديمة القيمة.

يمكن أن نفهم، أن السباق هو الحياة. طريق. ليس صعباً ليس سهلاً. بداية ونهاية. وعلى أطرافه جزر، ويسمح بالسير في جماعة. أي أنه يساعك أنت وغيرك. وبشكل أو بآخر فإن هناك تنافس بينكم حول ترتيب الوصول لخط النهاية.

والأرنب. هو أيقونة الموهبة. أبيض. بسيقان طويلة وأسنان جميلة. وجسد طري. هو بالبلدي "مزة" الحيوانات. وصاحب موهبة القفز، ورمز السرعة في انتخابات الغابة. ومدمن الجزر، رغم أنه لا يشاهد روتانا سينما. وفيلمه المفضل يحمل اسمه "أفواه وأرانب" حيث تبقى للأرنب موهبة التكاثر، فالأرانب لا تصاب بالعجز الجنسي.

والسلحفاة، أيقونة الدأب. جسد محشور داخل صندوق، ولدت كل سلحفاة بعيب خلقي غير قابل للعلاج. لم نرى سلحفاة دون صندوق إلا في أفلام الكارتون غير المنطقية. لا توجد مواهب لدى السلحفاة سوى الصبر. وهي موهبة لا تحظى بتقدير في الغابة. وهي لا تدمن شيء. وتأكل أوراق النباتات.

غير مسموح للسلاحف بالإفراط في الأكل. الصندوق يبقى بنفس الحجم. من الميلاد إلى الاستشهاد. ولا تتوافر أي معلومات عن قدرتها على التكاثر. لا يعرف أحد كيف يمكن ممارسة الجنس عبر صندوقين. لكن على ما يبدو فإن السلاحف لا تعاني من مشكلات جنسية.. حيث أن كل شيء لديها يأخذ وقت طويل وممتد.

إذن. ما الذي يمكن أن يحدث في الحياة التي هي السباق. بين موهوب وهو الأرنب. ودؤوب اسمه سلحفاة؟.

لأن "ربنا موجود". ولأن قليل من العدالة مطلوب. فإن الجزر ينمو بشكل "شيطاني" على جانبي الطريق. هنا وهناك. ينمو الجزر وتسقط آشعة الشمس على أوراقه فتنعكس الصورة في عين الأرنب فيتوقف قليلاً للأكل. وينسى أمر السباق. وفي المقابل، فإن السلحفاة تحظى بفرص جيدة للتقدم خطوات.

وهكذا، يمكن أن تستقيم الحياة. مع أن العيش في حياة تحمل صفة "مستقيمة" أمر لا يبدو مهماً للبعض.

إذن يا أولاد. على الأرانب منكم أن يفهموا الفكرة. يتوقفوا لأكل الجزر. ويملأوا بطونهم إلا قليل، وهذه ليست دعوة لعدم الإسراف أو محاولة للتخلص من الكروش. لكنها فقط ملحوظة، أنه طالما هناك مزيد من الجزر على طول الطريق، فلماذ نتوقف لأكل الكثير منه في مكان واحد.. كل حبة جزر واحدة. ثم اقفز قفزة. وهكذا يمكنك بمزيد من التركيز أن تصل للنهاية في توقيت ملاءم.

أما السلاحف، فلها كل تقدير. تسير في منتصف الطريق، تشكر الله عن نعمه. وعلى ما ابتلاها به من عجز وبطئ. وتواصل المسير. وهو مجهود يجب أن يحظى في نهاية السباق بشهادة تقدير أو جائزة شرفية. لكن من الظلم أن يفوز لاعب غير موهوب.

على السلاحف إذن أن تثق (قليلاً) في عدالة السماء، وتنظر على أطراف الطريق، وتتوقف قليلاً للأكل. أن تتمرد على قوانين اللعبة. التمرد يكسب الموهبة. والأرانب مشغولة هي الأخرى ولن تلتفت لأمر سلحفاة، والسلاحف شعورها بالوقت أدق وأقوى من شعور الأرانب. فتأكل كل سلحفاة وتشرب ولا تسرف. وتواصل المسير، ومن الممكن فعلاُ أن تفوز بالسباق، لكنها ستصل وهي موهوبة في أمر ما. فلن يعترض أحد على منح الجائزة للاعب داخل صندوق. بل سيتم منحة شهادة تقدير إضافية باعتباره من متحدي الإعاقة.

الأكل الجانبي، يملأ بطن الأرنب فيصيبه بمرض الموهوبين الأول.. الكسل. لكنه بالنسبة للسلحفاة. فإنه يعطيها بعض القوة. دفعة للأمام. يشحنها بطاقة لحمل الصندوق الثقيل ومواصلة المسير بسرعة أعلى قليلاً. سرعة ربما لا يلحظها أحد. لكنها متراكمة. ومتواصلة. ومستمرة..

إذن. دعنا من الأرانب والسلاحف والجزر. ولنتحدث قليلاً عن البشر. حكمة القصة يا أولاد أن الدؤوب يغلب الموهوب. وأن عليك أن تعرف عن نفسك إن كنت أرنب أو سلحفاة. ثم تضع الخطة الملاءمة. الأرانب يلزمها صندوق بعض الوقت. قليل من القيود لن يضر، والسلاحف تحتاج إلى تمرد، وإلى خيال، وإلى طرح أسئلة افتراضية.. مثلاُ "هل يمكن كسر الصندوق؟" وما الذي حدث لسلحفاة فقدت صندوقها في حادث دعس من فيل شرير، هل ماتت بالفعل، أم أنها أصبحت رشيقة وقادرة على القفز. لكن بالتأكيد دون موهبة الأرنب.

على الأرانب أن يكتسبوا قليل من التواضع. وأن يعلموا أن بعض الناس تكرهها. معظم البيوت المصرية مثلاً تعاني من وجود أب لا يطيق أكل الأرانب ويمنع دخولها للبيت. دون سبب معروف. لكن في المقابل الأرنب من الوجبات المفضلة لدى النساء.. هيت لك.

وعلى الجميع أن يعيشوا في سلام. ويواصلوا المسير. وعلى الحيوانات الأخرى التي لا تشترك في السباقات المماثلة أن يعلموا إنه.. "يا بختهم".

السبت، ديسمبر 05، 2009

فشنك

المشهد التقليدي..

(رجل يخرج من بيته. يتجه إلى سيارته. تظهر سيارة أخرى في عمق الشارع. تسير بجواره. ينزل زجاج خلفي ببطء. تظهر فوهة بندقية حديثة. تنطلق رصاصة بصوت مكتوم. يلتفت الرجل في بطء ليرى. تخترق الرصاصة جسده. فيسقط بهدوء. ويبدو أن الحي غير مسكون. بحيث لا نسمع أصوات أخرى سوى صرير عجلات سيارة مسرعة. وتمر دقيقة كاملة. قبل أن يطل أحدهم من شباك عمارة مجاورة. لمعرفة سبب الجلبة).

للرجل الميت بالطريقة السابقة مكانة في قلبي. ممممم، أو مكانتين في الحقيقة.

(1)

أشفق عليه. فطريقة موته مؤلمة في الواقع. خاصة وأنه ربما ذهب ضحية لسبب مجهول. يبدو وكأنه غير مقصود شخصياً. كان يمكن أن يكون الميت شخص آخر غيره. لكنها المصادفة ولعبة القدر. جعلته يظهر في لحظة مرور الشباب الطائش الذي يحاول أن يفرض سيطرته على الحي الهادئ لأسباب غير معروفة.

(2)


أحسده. أتأمل حاله وأرى. أن الحظ السعيد للإنسان يمكن أن يظهر في صورة يد تحمل بندقية. وتتدخل في أحداث الحياة فجأة لتنهيها.

أحياناً. يكون من المناسب معرفة أن أحد سيناريوهات المستقبل الجيدة، هي أن يتم التخلص فجأة من كل شيء بكبسة زر – أو زناد – واحدة. وتتساوى الاحتمالات.

لن يكون مهماً أن تكون أنت صاحب الكبسة، أو أن يكون جسدك مستودع الرصاصة في النهاية.

الخيوط تشابكت. والأفكار تعقدت. وأصبح بإمكان الواحد أن يتصالح مع مصيره الأسود دون أن يبدو قلقاً. معتبراً أن شيء يمكن أن يحدث لن يكون بحال، أسوأ من الأشياء التي سبق وأن حدثت بالفعل.

أو كما قال زميل الدراسة الثانوية المجهول.. "مش عايز أسقط.. بس مش خايف"..

.......................

ملحوظة :

السطور السابقة، لا تعبر عن الإحباط.

الثلاثاء، ديسمبر 01، 2009

أسرة


بين كل الأفكار المدهشة، وأساليب استحضار المتعة. تبقى فكرة أن لديك "أسرة"، وأنك تملك القدرة على إسعادها.. أهم وأفضل من أي شيء.
............
* في الصورة :
مليكة تتأمل برتقالة بين يديها، تقشرها لنفسها وتأكل، تنظر إلي أبيها وتقول "بابا.. آنة.. تحها".. وهي ترجمة طفولية لجملة عربية تقول "أبي، هل يمكن أن تقشر لي ثمرة البرتقال هذه؟".