السبت، ديسمبر 25، 2010

نسيان

منذ شهرين، حصلت على هدية من صديقة.

بروازين للصور، كلاهما زجاجي، الإطار مرآة عاكسة، وأحدهما توضع فيه ثلاث صور متوسطة الحجم، والثاني توضع فيه صورة واحدة كبيرة مستطيلة.

تعرف صديقتي مدى حبي للأشياء الصغيرة، انبهاري الدائم بالتفاصيل. يجب هنا أن أؤكد أني عرفت عن نفسي بمرور الوقت أن التفاصيل تبهرني فقط، وأن لا قدرة لدي على التركيز بها.. أقصى ما يمكنني فعله هو تدوين الملاحظات حول تفاصيل بعينها..

كانت لدي رغبة في استخدام البروازين، بمراجعتي لأدراج المكتب، لاحظت أني لا أملك صوراً شخصية في مكتبي، فكرت أنه من المناسب أن أجلب من البيت صورتين أو ثلاثة لوضعها داخل البروازين.. في البيت، لاحظت أني لا أملك أية صور، لا صورة لي، لا صورة لزوجتي، ولا صورة لطفلتي الصغيرة.. فكرت.. هل يعني هذا أي شيء؟.

بمرور الوقت تولدت لدي رغبة حقيقية في تغيير شكل الغرفة التي أعمل بها، نقلت أباجورة من مكتب مجاور، وضعتها بجوار الباب، فتحت الشباك الذي ظل مغلقاً طوال شهور سابقة، وخصصت ركناً وضعت به جهازاً إليكترونياً تخرج من الموسيقى باستمرار، وبصوت خفيض.

نظفت مكتبي جيداً، وأخرجت المبخرة القديمة من الدرج، وأشعلت عودين، وجلست أمام البروازين أحدق، من أين يمكن أن أحصل على صور مناسبة؟.

كعادة الأسئلة الصعبة، أهرب بأفكاري إلى بعيد. هل اختفاء الصور يعني أن الذكريات في خطر؟، الشخص المتهكم الذي يجلس داخلي سخر من السؤال.. ما علاقة الذكريات بالصور؟، الصور، وإن لم تكن مطبوعة، فإنها محفوظة على قرص جهازك المحمول.. مئات الصور لك وللأصدقاء، لزوجتك وأصدقاء المقهى.. ما العلاقة؟ لعلك أصبحت رومانتيكياً بغيضاً.

لعلي فعلاً أصبحت كذلك، فقد اخترت في النهاية أن أترك البرواز فارغاً، كدلالة على عجزي عن إيجاد صور مناسبة تعني شيء ما لوضعها داخله.

اخترت مكانين متباعدين في الغرفة لوضع البروازين، ثم سألت نفسي عن اسم الصديقة التي أهدتني هذه الهدية المتعبة.. لاحظت أني صرت رومانتيكياً بغيضاً، ليس فقط لأني عاجز عن توفير الصور، ولا أني اخترت وضع البرواز دون صورة، بل لأني نسيت اسم صديقتي.

الخميس، ديسمبر 09، 2010

حافظوا على نظافة المبولة..

"الترتيب مش مهم"..


في فيلم مستقل جميل، يقول البطل الجملة السابقة، خلال حديثه عن الأفلام والموسيقى والفن بشكل عام..


(؟)


المقهى الذي اعتدت الجلوس عليه، يتوسط خمسة مقاهي أخرى، كلها تحتل ممر واسع في وسط البلد.


كل الجالسين، يذهبون للتبول في مكان واحد، محل صغير ضيق، توجد به بعض الأدوات التي تخص إدارة المقهى، ومبولة وحيدة صغيرة، مكشوفة، تم تثبيت لوح خشبي طويل بجوارها، حتى يصنع نوع من السترة، بين الواقف للتبول، وبين المارين في الممر، والجالسين على المقاهي الأكثر قرباً من بوابة المحل.


مع بداية الشتاء، وزيادة عدد الزيارات إلى المبولة بحكم برودة الجو، رأت إدارة المقهى أن تلصق ورقة مستطيلة فوق المبولة، مكتوب عليها "حافظوا على نظافة المكان".


والمقصود بالمكان، هو ذات المكان المخصص لاستقبال السوائل الساخنة نسبياً، والتي خرجت لتوها من أجساد الجالسين على المقاهي الخمسة، والذين اختاروا – دون اختيار حقيقي – أن يتشاركوا جميعاً المبولة ذاتها، لسبب وحيد، وهي أنها مبولة وحيدة، لا توجد غيرها.


في المرة الأولى، قرأت الورقة ومررت دون اهتمام، واليوم، وبعد خروجي من فيلم مستقل جميل، درات في ذهني عدة أفكار.

(!)


من أين يأتي الإبداع؟


السؤال أوسع من أن يطرح، دعنا نكون أكثر تحديداً فنقول : "هل ينتمي الإبداع إلى الإيمان، أم إلى الكفر؟".


أصبح السؤال ضيقاً، لكن.. ما المناسبة؟، وما علاقة الإبداع بالإيمان والكفر..


ليستمر النقاش، يمكن أن نحدد المقصود بالإيمان والكفر مبدئياً. الأمر لا علاقة له بالدين، أو الله، أو العبادة، الأمر متعلق بالمفهوم الأكثر شمولاً لمعنى الإيمان ومعنى الكفر.


الإيمان، بطريقة أو بأخرى، هو التسليم بما اتفقت الجماعة عليه. والكفر، بطريقة أو بأخرى، هو طرح التساؤلات حول ما اتفقت الجماعة على التسليم به.. نعود للتأكيد.. أن المعنى أكثر شمولاً من الدين، هنا، أتحدث عن معتقدات الجماعة بشكل عام، جزء منها الدين، وجزء منها الأخلاق، وجزء منها طريقة المجتمع في الإبداع.


حتى أصل إلى الفكرة في أقل عدد ممكن من الكلمات، أقول أن اعتقادي الشخصي يقف عند الاقتناع بأن الإبداع مصدره الكفر وليس الإيمان.


الإيمان بالجماعة ومعتقداتها، ينتج معتقدات جماعية أخرى.. لكن الكفر بها، ينتج أفكاراً مختلفة.. تتجاوز ما يؤمن المجتمع به، وتكتفي بالوقوف عند ما يعتقده المبدع وحده، بغض النظر عن مدى اتفاقه أو اختلافه مع معتقدات الجماعة.


وبالتالي، فإن المبدع الحقيقي، هو في البداية كافر حقيقي.. وكما أن هناك مستويات للإبداع، هناك أيضاً مستويات للكفر.


هناك كافر يكفر بالجماعة ككل، يعتقد أنها غير موجودة أساساً، وهناك كافر يكفر بأفكار الجماعة، وهناك كافر يكفر بطريقة معينة للجماعة في قضية محددة. وهناك كافر يكفر بكل شيء، بالجماعة، بالدين، بالله، يعتقد أنه وحده الموجود، وأن كافة الأشياء الأخرى غير حقيقية.. كله في النهاية كفر، والكفار سيذهبون يوماً ما جميعاً إلى النار، وهم يعلمون عن أنفسهم الكفر، وجرب بعضهم ناره في الدنيا، ويعتقد أن مصيره في الحياة الأخرى – إن كان يعتقد في مسألة أن هناك حياة أخرى – إلى النار دون شك.


ما لفت نظري إذن في الفيلم المستقل الجميل، أن صاحبه كفر بطريقة الجماعة في فن السينما، فاختار طريقة أخرى، تلاءمه هو وحده، وقدم فيلمه خلالها.. وللمصادفة، فإن الفيلم يتحدث عن مجموعة من الفنانين، يرسمون الجرافيتي ويغنون الراب، ويصنعون أفلاماً وثائقية مستقلة، دون أدنى التزام – أو إيمان – بما يعتقده أو يؤمن به المجتمع والمشاهدين.


(*)


ولأن الإبداع مسألة فردية. تخرج من داخل المبدع وحده، وتعبر عن أفكاره وحده. كان طبيعياً أن يأتي من الكفر، من الاعتراض على الجماعة وأفكارها وما تؤمن به. هذه مسألة طبيعية ومنطقية.. لماذا إذن اعتقدت في البداية أن السؤال محير وعميق.. تبدو الحقيقة واضحة، لكننا نفضل استخدام ألفاظ أقل قوة من الكفر والإيمان وما إلى ذلك.


الأسئلة المنطقية الأخرى هي.. هل يجب أن يتم محاكمة الإبداع الكافر بقوانين الجماعة المؤمنة؟ وكيف يمكن وضع حدود للكفر طالما أن الجماعة تتحدث بلغة غير تلك التي يفهمها المبدع؟.


هل إبداع الفرد الكافر خطر على الجماعة المؤمنة؟، وما ذنب المؤمنين المسالمين الطيبين الرائعين في التعرض لموجات كافرة شريرة تحت اسم الإبداع؟.


وهل الأمر فوضوي إلى هذه الدرجة؟, ألا توجد أية أفكار "تنظيمية" للعلاقة بين الكافر وجماعة المؤمنين؟. وأليس من حق المؤمنين أن يدافعوا عما يؤمنوا به، وهل لهم الحق في عقاب الكفار ورجمهم وقتلهم ومحو إبداعهم الذي يثير الأسئلة ويجلب الصداع؟.


وهل كل مبدع كافر يهدف إلى إيذاء الجماعة المؤمنة؟، ألا يوجد كافر طيب، كافر في حاله، يكتفي بالكفر ويترك من يؤمن يؤمن، متمنياً له التوفيق في الحياة الدنيا والآخرة، إن وجدت.


في رأي كاتب السطور السابقة، يمكن أن نقول أن هناك نوعين من الكفار..


كافر كافر، وكافر مؤمن، ونبدأ بالثاني لأنه أخطر..


الكافر المؤمن، هو ذلك المبدع الذي يرى أن الجماعة تؤمن بترهات، وأن عليه أن يخبرها بذلك، ويؤكد لها أنها غبية وسخيفة وساذجة، وأنه وحده صحيح سليم يعرف ويفهم كل شيء.


الكافر الكافر، كفر بالجماعة كلها، لا تعنيه، ولا يهتم بما تؤمن به، تذهب هي وما تعتقد به إلى الجحيم – إن كان هناك جحيم فعلاً – ودوره يقف عند ذاته، يطرح أسئلته الشخصية، ويبحث عن إجاباته الخاصة، ولا يعنيه – إطلاقاً – كيف يمكن أن ترى الجماعة ما جاء به من أفكار كافرة وإبداع لا إيماني.


الكافر المؤمن يؤمن بالجماعة، لكنه يريد أن يؤذيها، فتبقى الجماعة أمام عينه، ينتقدها، يسبها، يستعرض عضلاته الكافرة، يريها كيف يمكن أن يزعجها بكفره.


الكافر الكافر لا يرى الجماعة أساساً، وللمفارقة، يمكن أن تجد لديه قدر من الإيمان ببعض ما تؤمن الجماعة به، لأنه حين كفر، فقد كفر بأشياء محددة، ولم يكن يكفر كرد فعل على إيمان الجماعة بشيء.


الكافر المؤمن، يكفر بكل ما تؤمن الجماعة به، وهو يرفض بينه وبين نفسه أن يضبط قلبه مؤمناً بأمر آمنت الجماعة به سابقاً.


الكافر المؤمن يسب الدين، ويسبب الإزعاج، الكافر الكافر في حاله، يكفر وحده، ويحترم الجماعة المؤمنة، لا شان له بها.. هو يكفر بأشياءه المحددة، فيما يكفر الكافر المؤمن بكل شيء.


يمكن لتبسيط المسألة مراجعة نوع معين من البشر المبدعين، الذين يصل إبداعهم لدرجة الوقوف عراة في الميادين العامة لإخبار الجماعة بكفره بها. هؤلاء كفار مؤمنين بالجماعة، ويقف كفرهم عند إخبار الجماعة أنهم كفروا بها وأن عليها أن تذهب إلى الجحيم..


النوع الثاني، يجعل الجماعة تذهب إلى الجحيم دون أن يخبرها، يمنع نفسه من رؤية الجماعة أساساً، ويركز على أفكاره وكفره، حتى إن وصل في نهاية رحلة الكفر إلى الإيمان بما آمنت به الجماعة ذاتها.


الفرق واضح، الكافر المؤمن يركز على استفزاز الجماعة باللعب في معتقداتها، ويبرز أسوأ ما داخله، وهو عورته، فيخرج إبداع مليء بالعورات الجنسية والدينية والأخلاقية.


الكافر الكافر، تستفزه الجماعة وتناقضاتها، فيجد نفسه مجبراً على إخراج أفضل ما فيه.. وهو الإبداع.


بمرور الوقت، ولأن الكافر الكافر طيب ولطيف ومؤدب مع الجماعة، تراجع الجماعة معتقداتها ذات مرة، فتسمح لنفسها بالإيمان ببعض أفكار الكافر الكافر، وتتحول أفكاره التي كانت يوماً كافرة إلى معتقدات إيمانية في عقيدة الجماعة.


لكن الكافر المؤمن، ولأنه ركز طاقته فقط على استفزاز الجماعة، ونسى أن يقدم أفكاراً حقيقية، فإن القصة تنتهي دون إبداع حقيقي، وينتهي الأمر عند كونه محاولات استفزازية للجماعة، لم تترك أي أثر.


إبداع الكافر الكافر ينفع الناس بمرور الوقت، والقاعدة الإيمانية القرآنية تؤكد أن ما ينفع الناس يبقى في الأرض، وأما الزبد، فيذهب جفاء..

(؟؟)


في النهاية، يبقى المؤمن مؤمن، والكافر كافر، وتبقى المبولة الوحيدة باقية مكانها، وفوقها ورقة مستطيلة عليها عبارة "حافظوا على نظافة المكان"..


المؤمن يقف أمام المبولة، ويحاول أن يسمع الكلام.. يتبول بهدوء، ويركز على هدفه..


الكافر يكتفي بالتبول، ويطرح سؤالاً منطقياً : هل من المعقول أن يحافظ أحدهم على نظافة المبولة بينما يتبول فيها؟