السبت، ديسمبر 25، 2010

نسيان

منذ شهرين، حصلت على هدية من صديقة.

بروازين للصور، كلاهما زجاجي، الإطار مرآة عاكسة، وأحدهما توضع فيه ثلاث صور متوسطة الحجم، والثاني توضع فيه صورة واحدة كبيرة مستطيلة.

تعرف صديقتي مدى حبي للأشياء الصغيرة، انبهاري الدائم بالتفاصيل. يجب هنا أن أؤكد أني عرفت عن نفسي بمرور الوقت أن التفاصيل تبهرني فقط، وأن لا قدرة لدي على التركيز بها.. أقصى ما يمكنني فعله هو تدوين الملاحظات حول تفاصيل بعينها..

كانت لدي رغبة في استخدام البروازين، بمراجعتي لأدراج المكتب، لاحظت أني لا أملك صوراً شخصية في مكتبي، فكرت أنه من المناسب أن أجلب من البيت صورتين أو ثلاثة لوضعها داخل البروازين.. في البيت، لاحظت أني لا أملك أية صور، لا صورة لي، لا صورة لزوجتي، ولا صورة لطفلتي الصغيرة.. فكرت.. هل يعني هذا أي شيء؟.

بمرور الوقت تولدت لدي رغبة حقيقية في تغيير شكل الغرفة التي أعمل بها، نقلت أباجورة من مكتب مجاور، وضعتها بجوار الباب، فتحت الشباك الذي ظل مغلقاً طوال شهور سابقة، وخصصت ركناً وضعت به جهازاً إليكترونياً تخرج من الموسيقى باستمرار، وبصوت خفيض.

نظفت مكتبي جيداً، وأخرجت المبخرة القديمة من الدرج، وأشعلت عودين، وجلست أمام البروازين أحدق، من أين يمكن أن أحصل على صور مناسبة؟.

كعادة الأسئلة الصعبة، أهرب بأفكاري إلى بعيد. هل اختفاء الصور يعني أن الذكريات في خطر؟، الشخص المتهكم الذي يجلس داخلي سخر من السؤال.. ما علاقة الذكريات بالصور؟، الصور، وإن لم تكن مطبوعة، فإنها محفوظة على قرص جهازك المحمول.. مئات الصور لك وللأصدقاء، لزوجتك وأصدقاء المقهى.. ما العلاقة؟ لعلك أصبحت رومانتيكياً بغيضاً.

لعلي فعلاً أصبحت كذلك، فقد اخترت في النهاية أن أترك البرواز فارغاً، كدلالة على عجزي عن إيجاد صور مناسبة تعني شيء ما لوضعها داخله.

اخترت مكانين متباعدين في الغرفة لوضع البروازين، ثم سألت نفسي عن اسم الصديقة التي أهدتني هذه الهدية المتعبة.. لاحظت أني صرت رومانتيكياً بغيضاً، ليس فقط لأني عاجز عن توفير الصور، ولا أني اخترت وضع البرواز دون صورة، بل لأني نسيت اسم صديقتي.

الخميس، ديسمبر 09، 2010

حافظوا على نظافة المبولة..

"الترتيب مش مهم"..


في فيلم مستقل جميل، يقول البطل الجملة السابقة، خلال حديثه عن الأفلام والموسيقى والفن بشكل عام..


(؟)


المقهى الذي اعتدت الجلوس عليه، يتوسط خمسة مقاهي أخرى، كلها تحتل ممر واسع في وسط البلد.


كل الجالسين، يذهبون للتبول في مكان واحد، محل صغير ضيق، توجد به بعض الأدوات التي تخص إدارة المقهى، ومبولة وحيدة صغيرة، مكشوفة، تم تثبيت لوح خشبي طويل بجوارها، حتى يصنع نوع من السترة، بين الواقف للتبول، وبين المارين في الممر، والجالسين على المقاهي الأكثر قرباً من بوابة المحل.


مع بداية الشتاء، وزيادة عدد الزيارات إلى المبولة بحكم برودة الجو، رأت إدارة المقهى أن تلصق ورقة مستطيلة فوق المبولة، مكتوب عليها "حافظوا على نظافة المكان".


والمقصود بالمكان، هو ذات المكان المخصص لاستقبال السوائل الساخنة نسبياً، والتي خرجت لتوها من أجساد الجالسين على المقاهي الخمسة، والذين اختاروا – دون اختيار حقيقي – أن يتشاركوا جميعاً المبولة ذاتها، لسبب وحيد، وهي أنها مبولة وحيدة، لا توجد غيرها.


في المرة الأولى، قرأت الورقة ومررت دون اهتمام، واليوم، وبعد خروجي من فيلم مستقل جميل، درات في ذهني عدة أفكار.

(!)


من أين يأتي الإبداع؟


السؤال أوسع من أن يطرح، دعنا نكون أكثر تحديداً فنقول : "هل ينتمي الإبداع إلى الإيمان، أم إلى الكفر؟".


أصبح السؤال ضيقاً، لكن.. ما المناسبة؟، وما علاقة الإبداع بالإيمان والكفر..


ليستمر النقاش، يمكن أن نحدد المقصود بالإيمان والكفر مبدئياً. الأمر لا علاقة له بالدين، أو الله، أو العبادة، الأمر متعلق بالمفهوم الأكثر شمولاً لمعنى الإيمان ومعنى الكفر.


الإيمان، بطريقة أو بأخرى، هو التسليم بما اتفقت الجماعة عليه. والكفر، بطريقة أو بأخرى، هو طرح التساؤلات حول ما اتفقت الجماعة على التسليم به.. نعود للتأكيد.. أن المعنى أكثر شمولاً من الدين، هنا، أتحدث عن معتقدات الجماعة بشكل عام، جزء منها الدين، وجزء منها الأخلاق، وجزء منها طريقة المجتمع في الإبداع.


حتى أصل إلى الفكرة في أقل عدد ممكن من الكلمات، أقول أن اعتقادي الشخصي يقف عند الاقتناع بأن الإبداع مصدره الكفر وليس الإيمان.


الإيمان بالجماعة ومعتقداتها، ينتج معتقدات جماعية أخرى.. لكن الكفر بها، ينتج أفكاراً مختلفة.. تتجاوز ما يؤمن المجتمع به، وتكتفي بالوقوف عند ما يعتقده المبدع وحده، بغض النظر عن مدى اتفاقه أو اختلافه مع معتقدات الجماعة.


وبالتالي، فإن المبدع الحقيقي، هو في البداية كافر حقيقي.. وكما أن هناك مستويات للإبداع، هناك أيضاً مستويات للكفر.


هناك كافر يكفر بالجماعة ككل، يعتقد أنها غير موجودة أساساً، وهناك كافر يكفر بأفكار الجماعة، وهناك كافر يكفر بطريقة معينة للجماعة في قضية محددة. وهناك كافر يكفر بكل شيء، بالجماعة، بالدين، بالله، يعتقد أنه وحده الموجود، وأن كافة الأشياء الأخرى غير حقيقية.. كله في النهاية كفر، والكفار سيذهبون يوماً ما جميعاً إلى النار، وهم يعلمون عن أنفسهم الكفر، وجرب بعضهم ناره في الدنيا، ويعتقد أن مصيره في الحياة الأخرى – إن كان يعتقد في مسألة أن هناك حياة أخرى – إلى النار دون شك.


ما لفت نظري إذن في الفيلم المستقل الجميل، أن صاحبه كفر بطريقة الجماعة في فن السينما، فاختار طريقة أخرى، تلاءمه هو وحده، وقدم فيلمه خلالها.. وللمصادفة، فإن الفيلم يتحدث عن مجموعة من الفنانين، يرسمون الجرافيتي ويغنون الراب، ويصنعون أفلاماً وثائقية مستقلة، دون أدنى التزام – أو إيمان – بما يعتقده أو يؤمن به المجتمع والمشاهدين.


(*)


ولأن الإبداع مسألة فردية. تخرج من داخل المبدع وحده، وتعبر عن أفكاره وحده. كان طبيعياً أن يأتي من الكفر، من الاعتراض على الجماعة وأفكارها وما تؤمن به. هذه مسألة طبيعية ومنطقية.. لماذا إذن اعتقدت في البداية أن السؤال محير وعميق.. تبدو الحقيقة واضحة، لكننا نفضل استخدام ألفاظ أقل قوة من الكفر والإيمان وما إلى ذلك.


الأسئلة المنطقية الأخرى هي.. هل يجب أن يتم محاكمة الإبداع الكافر بقوانين الجماعة المؤمنة؟ وكيف يمكن وضع حدود للكفر طالما أن الجماعة تتحدث بلغة غير تلك التي يفهمها المبدع؟.


هل إبداع الفرد الكافر خطر على الجماعة المؤمنة؟، وما ذنب المؤمنين المسالمين الطيبين الرائعين في التعرض لموجات كافرة شريرة تحت اسم الإبداع؟.


وهل الأمر فوضوي إلى هذه الدرجة؟, ألا توجد أية أفكار "تنظيمية" للعلاقة بين الكافر وجماعة المؤمنين؟. وأليس من حق المؤمنين أن يدافعوا عما يؤمنوا به، وهل لهم الحق في عقاب الكفار ورجمهم وقتلهم ومحو إبداعهم الذي يثير الأسئلة ويجلب الصداع؟.


وهل كل مبدع كافر يهدف إلى إيذاء الجماعة المؤمنة؟، ألا يوجد كافر طيب، كافر في حاله، يكتفي بالكفر ويترك من يؤمن يؤمن، متمنياً له التوفيق في الحياة الدنيا والآخرة، إن وجدت.


في رأي كاتب السطور السابقة، يمكن أن نقول أن هناك نوعين من الكفار..


كافر كافر، وكافر مؤمن، ونبدأ بالثاني لأنه أخطر..


الكافر المؤمن، هو ذلك المبدع الذي يرى أن الجماعة تؤمن بترهات، وأن عليه أن يخبرها بذلك، ويؤكد لها أنها غبية وسخيفة وساذجة، وأنه وحده صحيح سليم يعرف ويفهم كل شيء.


الكافر الكافر، كفر بالجماعة كلها، لا تعنيه، ولا يهتم بما تؤمن به، تذهب هي وما تعتقد به إلى الجحيم – إن كان هناك جحيم فعلاً – ودوره يقف عند ذاته، يطرح أسئلته الشخصية، ويبحث عن إجاباته الخاصة، ولا يعنيه – إطلاقاً – كيف يمكن أن ترى الجماعة ما جاء به من أفكار كافرة وإبداع لا إيماني.


الكافر المؤمن يؤمن بالجماعة، لكنه يريد أن يؤذيها، فتبقى الجماعة أمام عينه، ينتقدها، يسبها، يستعرض عضلاته الكافرة، يريها كيف يمكن أن يزعجها بكفره.


الكافر الكافر لا يرى الجماعة أساساً، وللمفارقة، يمكن أن تجد لديه قدر من الإيمان ببعض ما تؤمن الجماعة به، لأنه حين كفر، فقد كفر بأشياء محددة، ولم يكن يكفر كرد فعل على إيمان الجماعة بشيء.


الكافر المؤمن، يكفر بكل ما تؤمن الجماعة به، وهو يرفض بينه وبين نفسه أن يضبط قلبه مؤمناً بأمر آمنت الجماعة به سابقاً.


الكافر المؤمن يسب الدين، ويسبب الإزعاج، الكافر الكافر في حاله، يكفر وحده، ويحترم الجماعة المؤمنة، لا شان له بها.. هو يكفر بأشياءه المحددة، فيما يكفر الكافر المؤمن بكل شيء.


يمكن لتبسيط المسألة مراجعة نوع معين من البشر المبدعين، الذين يصل إبداعهم لدرجة الوقوف عراة في الميادين العامة لإخبار الجماعة بكفره بها. هؤلاء كفار مؤمنين بالجماعة، ويقف كفرهم عند إخبار الجماعة أنهم كفروا بها وأن عليها أن تذهب إلى الجحيم..


النوع الثاني، يجعل الجماعة تذهب إلى الجحيم دون أن يخبرها، يمنع نفسه من رؤية الجماعة أساساً، ويركز على أفكاره وكفره، حتى إن وصل في نهاية رحلة الكفر إلى الإيمان بما آمنت به الجماعة ذاتها.


الفرق واضح، الكافر المؤمن يركز على استفزاز الجماعة باللعب في معتقداتها، ويبرز أسوأ ما داخله، وهو عورته، فيخرج إبداع مليء بالعورات الجنسية والدينية والأخلاقية.


الكافر الكافر، تستفزه الجماعة وتناقضاتها، فيجد نفسه مجبراً على إخراج أفضل ما فيه.. وهو الإبداع.


بمرور الوقت، ولأن الكافر الكافر طيب ولطيف ومؤدب مع الجماعة، تراجع الجماعة معتقداتها ذات مرة، فتسمح لنفسها بالإيمان ببعض أفكار الكافر الكافر، وتتحول أفكاره التي كانت يوماً كافرة إلى معتقدات إيمانية في عقيدة الجماعة.


لكن الكافر المؤمن، ولأنه ركز طاقته فقط على استفزاز الجماعة، ونسى أن يقدم أفكاراً حقيقية، فإن القصة تنتهي دون إبداع حقيقي، وينتهي الأمر عند كونه محاولات استفزازية للجماعة، لم تترك أي أثر.


إبداع الكافر الكافر ينفع الناس بمرور الوقت، والقاعدة الإيمانية القرآنية تؤكد أن ما ينفع الناس يبقى في الأرض، وأما الزبد، فيذهب جفاء..

(؟؟)


في النهاية، يبقى المؤمن مؤمن، والكافر كافر، وتبقى المبولة الوحيدة باقية مكانها، وفوقها ورقة مستطيلة عليها عبارة "حافظوا على نظافة المكان"..


المؤمن يقف أمام المبولة، ويحاول أن يسمع الكلام.. يتبول بهدوء، ويركز على هدفه..


الكافر يكتفي بالتبول، ويطرح سؤالاً منطقياً : هل من المعقول أن يحافظ أحدهم على نظافة المبولة بينما يتبول فيها؟

الأحد، أكتوبر 17، 2010

عن الكتابة، والعطف على الكلاب.

الكتابة إخلاص. وعلي أن أعترف أني لست مخلصاً لكتابتي بأي حال.

قد أكون مخلصاً لما أقرأ، لكن أبداً لم تنل الكتابة مني اهتمام قد أعطيه لغيرها من الأمور، العمل، الحب، تربية الطفلة الصغيرة، الرغبة الدائمة في الراحة أو المرح، والتعلق بالتسكع المستمر في الشوارع والمقاهي والطرقات.

من أين يأتي الإخلاص حتى؟، يعني، من غير المتوقع أن يكون الإخلاص حاضراً في علاقة كاتب بما يكتب، لو علمنا أن هذا الكاتب عرف كتابته صدفة، وأنه يلاقيها على صفحات مدونته، وفي المساحة المخصصة للـ"ملاحظات" على موقع "فيس بوك".

الطريقة الكلاسيكية القديمة للكتابة، تلك التي تتكون عادة من ورقة وقلم وأجواء ملاءمة، وساعة حظ... ورق أبيض وقلم بالحبر السائل، أو قلم الرصاص بالسن الحاد، إلى ما قاله الكتاب الأكبر سناً والأعمق تجربة.. تلك طريقة لم أعرفها.. لم أسمع صوت قلمي يجرح بياض الورقة، سمعت صوت أصابعي تدق على لوحة المفاتيح، تكتب بخط جيد، للأسف، لا توجد في الكومبيوتر خطوطاً سيئة.

في مرات أسأل نفسي، أنا أكتب؟، أم برنامج تحويل النقرات إلى حروف وجمل؟، أنا أكتب أم الكومبيوتر، أنا أكتب أم مخترع الشاشة والفأرة والطابعة والأجهزة المحمولة، أنا أكتب عن طريق الأجهزة، أم أنها تكتب خلالي؟.

الكتابة إخلاص، وأنا بشكل عام لا أعرف الإخلاص لشيء. أخلص للأشياء التي يبدو الإخلاص لها هو ذروة اللاإخلاص، على إطلاقه. أخلص للملل، أخلص للسرعة، أخلص للحركة، أخلص للضوضاء، أخلص للخوف من الوحدة..

والكتابة، في تقديري الصغير البسيط الفقير الضعيف، هي مجرد وسيلة لأن أبقى مخلصاً أكثر للأشياء التي أجيد الإخلاص لها، أكتب لأكسر الملل، وأزيد السرعة، وأضيف ضوضاءاً جديدة لضوضاء العالم من حولي، أكتب لأطمئن نفسي، لست وحدي، لست وحدي.

لماذا أكتب إذن؟، ربما لأني أحب أن أأسى على حالي، هذه حقيقة، أريد أن أحكي للأصدقاء على المقهى حكايات مؤسفة، حول حلمي الذي لا تسمح لي الظروف بفرصة تحقيقه، لأبدو رومانسياً في نظر فتيات يعرفوني للمرة الأولى، ولأن شكلي من بعيد، ومن قريب أيضاً، يبدو منفراً، بسبب البدانة وسوء تناسق الكتل، وطريقتي في تسريح شعري وترك ذقني دون حلاقة، فإن فكرة أنني كاتب مغمور تجعلهن يتناسين مظهري، ويقلن "يا له من حظ عاثر أودى بهذا الشاب إلى غير مكانه، لعله كان الآن كاتباً، يكتب في مكان ما، أشياء – قد – تستحق القراءة".

وأكتب لأني أكتب، الكتابة للذين عرفوها – دون أن يخلصوا لها – عبارة عن مرض مزمن لا شفاء منه إلا بالكتابة ذاتها، تأتي الفكرة، تزيد من حرارة جسدك، تتعرق بسببها، ثم تجمع ما تجده بين جنبات نفسك من شجاعة، تواجه شاشة جهازك، وتشعر أنك في مواجهة مباشرة مع العالم، وتراها مهمة مقدسة، أن تكتب، وأن تطلب من الآخرين أن يقرأوا، إذا ما سمحت لهم الظروف.

أكتب لأحافظ على ذاكرتي، أخاف من النسيان على نفسي، أخشى أن تطير التفاصيل من رأسي، فأذهب للأصدقاء، طالباً منهم أن يقصوا علي من أمري ما نسيت، ولأن فكرة الإخلاص سخيفة، وقد منعت نفسي منها لأطول وقت ممكن، فسيكون من الغباء تخيل أن الأصدقاء سيستجيبون لرجائي، ويرون علي ما نسيت، وإن كنت نسيت، فقد اتنسيت، كما تقول أغنية شهيرة، وأنا أكره فكرة أن أعيش عالة على ما يتذكره الأصدقاء عني، أكرم من ذلك أن أعيش أنا على ما أتذكره من أمر نفسي.. الكتابة إذن، في جانب من جوانبها مسألة كرامة، محاولة للعيش بكرامة، وعادة ذميمة، أن تفقد كرامتك باستمرار أمام الورق الأبيض الذي تجد نفسك – مكرهاً – مأموراً بكسر بياضه، والكتابة عليه.

أكتب لأجل الكتابة، مجرد محاولة للإجابة على سؤال واحد متكرر، واجه معظم من كتبوا، حول ماهية الفعل الذي يمارسونه دون إرادة حرة..

في مقدمة كتابها "مفاوضات مع الموتى.. تأملات كاتب حول الكتابة"، تقول "مارجريت أتوود" وهي تصف موضوع كتابها : "عن الكتابة، مع أنه ليس عن كيفية الكتابة.. وهو أيضاً ليس عن كتابة شخص بعينه أو عصر محدد أو بلد دون آخر.. إنه عن الموقف الذي يجد الكاتب نفسه فيه، أو الموقف الذي تجد الكاتبة نفسها فيه، والذي قلما يختلف من كاتب إلى آخر، وما هي هذه الكتابة، بحال من الأحوال، هل هي نشاط إنساني، أم أنها تكليف إلهي، أم هي مهنة، أم عمل مضجر نؤديه من أجل المال، أو لعلها فن، ولماذا يشعر كثير من الناس أنهم مجبرون على آدائها؟".

وفي مكان آخر داخل الكتاب، فإنها تضع قاعدة هامة، تقول "عطفك على الكلاب لن يجعل منك كاتباً جيداً، الكتابة تصنعها الكتابة، لا شيء آخر". وفي الواقع، فإني لا أجيد العطف على الكلاب، بل أني لا أحبها أساساً، لكني قد أفعل ما هو أعقد من العطف فقط لأهرب من ساعة مواجهة الفراغ الأبيض ببرنامج الكتابة على الكومبيوتر، حين تزداد حرارتي، وأتعرق، مستعداً لساعة سحب الحروف والكلمات من داخل روحي، والبدء في النقر المستمر.

وأصارحك، تبدو لحظة بداية الكتابة هي أسهل ما في الأمر، لك أن تتخيل المرات العديدة التي أتوقفها أثناء كتابة فقرة واحدة، أو لتكوين جملة معقدة، أو وصف مشهد معين، هذا أيضاً قد يبدو سهلاً، مقارنة باللحظة الأكثر صعوبة، لحظة التوقف عن الكتابة، أو الوصول لقرار أنه من الأفضل أن يتوقف الأمر عند هذه النقطة، وأن هذه كتابة تبدو جيدة، ولا داعي لمزيد من الأسطر والفقرات وجمل الوصف، أو أنها سيئة لدرجة، أنه من الأفضل ألا أستمر بها.

في مرات، بعد أن أنتهي، أفكر في "مارجريت أتوود"، وأود أن أقابلها شخصياً، لأخبرها أن العطف على الكلاب أصعب – ألف مرة – من الكتابة الجيدة.


لن تغضب الكلاب إن عطفت عليها دون إخلاص حقيقي، على أن الكتابة تفعل.
يمكنني العطف على الكلاب في أي وقت، لكن هذا غير ممكن مع الكتابة.
يمكنني نسيان أمر الكلاب، لكن الكتابة لا تسمح بنسيانها.
الكلاب يمكنها أن تعض، وقد تؤدي بعض العضات إلى الموت، لكن عضة الكتابة لا تقتل، تصيبك فقط بجرح غائر في روحك، ويا له من ألم.
لا يمكن العطف على الكلاب عبر الكومبيوتر، لكن يمكن الكتابة عليه.
الكلاب تنبح، والكتابة تجعلك بحاجة لمن يعطف عليك.
إن عطفت على الكلاب بطريقة رديئة، لن يلومك أحدهم، إن كتبت بطريقة رديئة، فإن أحداً لن يهتم بالعطف عليك.

الثلاثاء، يوليو 06، 2010

حرف الواو.

إضافة حرب الواو قبل بعض الأسئلة، قد يغير معناها بحيث تختلط الأمور، فلا تدري، لأي سبب يا ترى طرح السائل سؤاله، لأي غرض، وبأية مناسبة؟.

مثلاً، مرة كنت في ندوة عن كتاب اسمه "ماذا علمتني الحياة؟"، وهي سيرة ذاتية لـ"جلال أمين"، الدكتور المتخصص في الإقتصاد. الرجل أعرفه من كتبه السابقة، مختلف، ودائم التطرق للمساحات التي قد تبدو مهجورة غير مطروقة.

كنت قد قرأت الكتاب قبل الندوة، وخيل لي أن السؤال الذي يحمله الكتاب يحمل دلالة غير تلك المقصودة، كأن الرجل يسأل، ما الذي تعلمته من الحياة؟، وهل الأشياء التي تعلمتها مهمة، وهل الحياة تعلمنا فعلاً؟، سألته في الندوة، ألم يكن أفضل في سياق ما حكيته عن حياتك أن تسمي الكتاب : وماذا علمتني الحياة؟.

سؤال آخر مشهور ومعروف، ويكتب عادة على غلاف شريط كاسيت انتشر في أواخر التسعينات، للنجم الشيخ "محمد حسين يعقوب"، والسؤال هو : لماذا لا تصلي؟.

هنا بالطبع سيظهر الفارق في المعنى، لو أن السؤال سبقه حرف الـ"واو"، تخيل شريط يطرح في الأسواق يسأل عن الأسباب التي تجعلك تمتنع عن الصلاة، ويتحدث بمنطقية شديدة عن أن الحياة بلا صلاة ممتعة، وهي في الواقع حياة بلا مسئوليات، وأن الذين عاشوا سنوات دون صلاة لم تصبهم أمراض خبيثة، أو أن الصلاة منذ الصغر هي في الواقع تسليم مبكر لحقيقة الدين، وغلق لباب الشك مثلاً.

لكن، هل إضافة حرف الـ"واو"، مقبولة بشكل عام قبل الأسئلة بشكل عام، يعني.. إذا كان من حق أحدهم أن يطرح السؤال مستخدماً صيغ الإستفهام المتفق عليها : ماذا، لماذا، أين، متى، كيف.. أليس من حق أحد آخر، أن يضيف حرف الـ"واو" على السؤال ذاته؟.

هل هذا مسموح؟.. وهل هذا مسموح؟.

الجمعة، يونيو 11، 2010

لماذا أنتم على الفيس بوك؟


على الفيس بوك يوجد شخص اسمه "فايز"، لا أعرفه، ولا يعرفني، عندما مررت على المكتب هذا المساء لالتقاط حاسوبي والعودة إلى المنزل والبدء في أجازة نهاية الأسبوع، قادني الشيطان الرجيم، إلى الجلوس قليلاً وتصفح الفيس بوك.

الحق أن الجو كان حاراً، والدنيا زحمة، وأسباب الملل كثيرة، لعل هذا ما قاد "فايز" إلى النقر على اسمي، وإرسال رسالة قصيرة تقول التالي :

أيها الإخوة.. تذكرو النية بالله عليكم فى كل عمل تعملوه..

لماذا أنتم على الفيس بوك؟؟ مثلا، أخوة فى الله، تعارف بناء، صلة رحم، الاهتمام بشئون المسلمين، قضاء حاجة مسلم، إدخال سرور على قلب مسلم، تفقد الإخوان، الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ونشر الفضيلة، دعوة إلى الله، محاولة النهضة بالشباب وترقية لغة الحوار، مشاركة المسلمين ووضع بصمة فى كل حالات الحراك الاجتماعى والسياسى والدينى والاخلاقى..

.........

بعد قرأت سطور فايز، قرأتها مرة أخرى، حددتها، سحبتها إلى صفحة داخل جهازي، كبرت الخط، وقرأتها مرة ثالثة، عدت إلى "فايز" الذي يقضي ليلته مطمئناً بين جوانب الفيس بوك بعد أن توضأ وصلى وحمد الله وأثنى عليه وفتح جهازه وجدد نيته، سألته : "الكلام ده بجد؟"، قال : "نعم"، كررت سؤالي مرتين، وكرر هو إجابته، سألته : "تعرفني؟"، قال : "لا"، سألته عن دوافعه التي وقفت وراء إرساله لهذه الرسالة، قال : "ربنا يبارك فيك".

فكرت، فكرت، فكرت، نقرت هنا وهناك، دخلت على صفحة "فايز"، فوجدت صورة كبيرة لغلاف كتاب ديني اسمه "استمتع بحياتك". هنا فقط أدركت الفكرة. ضحكت، وتفهمت أن "فايز" كان يحاول أن يستمتع.

الخميس، يونيو 10، 2010

تدين


عندما أخبرني صديق، أن قصة حبه ستنتهي، لأن خطيبته تعتقد في مسألة أن الموسيقى حرام. قدت سيارتي بسرعة على طريق الواحات، وفكرت، ثم صعدت إلى المنزل وقميصي نصف مفتوح، رأيتني مخموراً بالكامل، ضائع، أرغب في قتل نفسي، أو إمساك الكرة الأرضية براحة يدي، وتقليبها يميناً ويساراً بهدوء، كأني أتأملها، أو كأني أبحث على قشرتها الخارجية عن شيء جديد يوحي بالأمل.

نمت، ورأيت في أحلامي عدة رموز، طفل صغير يلعب في مروحة حديدية، يدخل إصبعه داخل الشبكة، ويقترب قليلاً، بمرور الوقت سيقترب أكثر، وستقطع المروحة إصبعه، فيدرك أن اللعب ليس مفيداً مع كل الأجهزة.

في اليوم التالي، بدأت أضع نهاية للأمر، فكرت في نظرية، قلت أن الدين يأخذ من وقتنا أكثر مما ينبغي، فعلاً. في كل مكان، في كل وقت، في كل شيء. ثم قررت أن أتخيل الحياة دون أي شيء حرام. فاكتشفت ببساطة، أن الله بنفسه رضى أن يأمرنا بالصلاة عدة مرات في اليوم، في زمن لا يتجاوز النصف ساعة. وهو بالحساب، يعني واحد على ثمانية وأربعين. حوالي نصف في المائة. ما يعني، أن النسبة العادلة لوجود الدين بشكل عام، في الحياة بشكل عام، يمكن أن تصبح اثنين أو ثلاثة أو أربعة. عدة صلوات، بعض الفروض الأخرى، وكفى الله المؤمنين.

هنا فقط، أواجه نفسي بالفزورة، من اخترع التدين إذن؟ وما معنى الكلمة أساساً.

بالنظر إلى تكوينها، تجدها على وزن، تفعل، ولا حاجة لأن ندرك أن الوزن يشير إلى أن هناك مبالغة ما، هناك شيء مفتعل. هناك أمر غير طبيعي يحدث.

شعرت، وبصدق بالغ، أني أكتشفت شيئاً جديداً. وأشفقت، على الذين يضيعون وقتهم في محاولة الإفتعال. ثم قررت البدء بنفسي، والإخلاص لفكرة أن الدين بيني وبين الله، وأن مسألة دخول آخرون على الخط تشبه إصلاح سيارة حديثة خارج التوكيل.

قمت إلى الصلاة، وقررت أن أكف في المستقبل عن اللعب في المروحة.

الأحد، يونيو 06، 2010

محبتي صعبة.

فما الذي يدفعك لحب بدين، اسمه براء، يرتدي نضارة، ويسرح شعره للخلف؟. لا شيء. لاشيء على الإطلاق.

على أن هذه في الواقع، أسباب تافهة. فمحبتي صعبة، لما هو أعقد من البدانة، وأسوأ من الاسم الصعب، وأقبح من الشعر المسرح في خصلات للخلف.

محبتي صعبة، ربما، لأنها غير مطلوبة الآن. لا أنكر أني عشت فترة طويلة أبحث عن الحب، حب الآخرين لي، وشعورهم بأني إنسان جيد صالح سيدخل الجنة ذات يوم.

لكن، وبمرور الوقت، اكتشفت سذاجة الفكرة، كما تغيرت نظرتي لمفهوم الجودة والصلاح، وبت معتقداً، أن الذين سيدخلون الجنة، تلزمهم شروط أخرى، غير حب الناس لهم.

ثم جاءني صديق، فأخبرني أن البكاء على الحب سلوك نسائي جداً. وتصادف قوله مع فترة، كانت تؤرقني فيها التصرفات والسلوكيات التي توصف بأنها نسائية. فامتنعت عن تمني حب الناس، وتفرغت لحب نفسي.

ثم اكتشفت أني لا أحتاج لحبي، وأن الأفضل أن أوفر طاقتي، وأحاول فقط أن أفهمني. وبصراحة، فإن التجربة كانت تستحق العناء، فحين فهمت، وتفهمت، وجدت أني آخر شخص من الممكن أن يحبني. وأني بالفعل، محبتي صعبة.

الأحد، مايو 30، 2010

حدث في شارع زغلول

عند شارع زغلول سيحدث المشهد التالي.

الفتاة، ولنطلق عليها "سها" تنزل إلى الشارع في انتظار وسيلة مواصلاتها المعتادة، "سها" يمكن أن تركب الميكروباص، الأتوبيس الأخضر غير المكيف، الأتوبيس الأبيض المكيف، الأتوبيس الأحمر الجديد غير المكيف، أتوبيس الجمعية، التوك توك. سها يمكن أن تركب أي شيء في أي وقت إلا التاكسي بألوانه المتعددة، التقليدي : الأبيض في أسود، السوبر : الأصفر ومكتوب عليه رقم تليفون، الأبيض المتوسط : أو ما يطلق عليه "روتيتو" نظراً للشبه الكبير بينه وبين أكياس بطاطس تحمل ذات الإسم والشكل، وهو تاكسي تقليدي لكن بموديل حديث وعداد وتكييف يعمل عند الطلب.

و"سها" لا تركب التاكسي لأنها مسألة مبدأ، ومبدأ "سها" كفتاة عاملة أنها يجب أن تستمر في الذهاب للعمل كل يوم طوال الشهر، وركوب التاكسي مرة واحدة يجعل فرصة الذهاب للشغل معدومة في أيام خمسة تالية.

لماذا ركبت "سها" التاكسي؟، للإجابة على هذا التساؤل المنطقي، علينا أن نتعرف على شخص آخر، شاب في منتصف الثلاثين، ولنطلق عليه اسم "سيد".

لا أحد يعرف "سيد"، كما أن لا أحد يعرف "سها". ولا أحد يعرف ما السبب الذي جعل "سيد" متواجداً في شارع زغلول في ساعة كهذه، وهي إحدى ساعات الصباح ما بعد المبكر. العاشرة، الثانية عشر، شيء كهذا.

حين ظهرت "سها" في الشارع، لم يكن الحدث عادياً. والسبب : ملابسها.

تعتقد "سها" في مسائل غريبة، كالـ"حرية"، الـ"ليبرالية"، الـ"خصوصية"، الـ"استقلالية"، وهي بالطبع معتقدات – سواء كانت صحيحة أو خاطئة – تعاني بطئاً في الانتشار في شارع زغلول. أما "سيد" فمعتقداته تقف عند مسألة الـ"لية"، وللأجانب نشرح ونوضح، الكلمة المذكورة هي قطعة الدهن غير المتوقفة عن الإهتزاز الموجودة في مؤخرة الخروف. وسيد يحب الخرفان. هي كائناته المفضلة.

عندما شاهد "سيد" ملابس "سها"، تذكر بيانات بطاقته الشخصية، ذكر، مصري، مسلم، 33 سنة، كلية التجارة جامعة القاهرة، 9 شارع البطاريق متفرع من شارع زغلول. ثم فكر قليلاً، هل هناك ما يمنع أن يعبر "سيد" عن إعجابه بملابس "سها"؟. مزيد من التفكير، ومزيد من التأمل في بيانات البطاقة. ثم الإجابة الصحيحة : "لا مانع"، والإنتقال للمرحلة التالية من المسابقة لكن بعد الفاصل.

كيف يقول؟، كيف يعبر؟، ما ردود الفعل المتوقعة؟، وما الذي يريده أساساً منها؟. الحب، الجنس، الصداقة، الإبتسامة، العلاقة العابرة، التحرش، الإعجاب، الإخوة، المال، الشهرة، الأكل، الشرب، الكلام، الفضفضة.. كلها أسباب منطقية تدفع "سيد" لفعل أي شيء لإثارة انتباه "سها". كلها "حاجات" طبيعية ومفهومة، كما أن أساليب التعبير عنها مقبولة نوعاً. حتى المعاكسة قد لا تجد من يعترض عليها.

لكن، كانت لدى "سيد" حاجة أعقد. حاجة تلزم مزيد من الجهد في التعبير، مزيد من القوة والشجاعة. حاجة تشبه "سيد"، تطابق بياناته في البطاقة، وتلاءم اسم شارع "زغلول".

بهدوء، اختار "سيد" مكانه، منتصف الشارع، على الجزيرة، الرصيف الفاصل بين الاتجاهين، وقف أمامها تماماً، ثم أخذ لجسدها لقطة متأنية، من أسفل إلى أعلى، والعكس، قارن بين ملابسه وملابسه، أخرج قمصيه خارج بنطلونه، ثم جلس القرفصاء.

بهدوء لم تلحظه "سها"، التي كانت تسمع وقتها أغنية على الـ"MP3"، ولنقل أنها كانت "مفيش حاجة تيجي كدة"،... فتح "سيد" سوستة بنطلونه، ثم غطى بطرف قميصه الفتحة، دس يده للداخل، بحث قليلاً، ثم أمسك به، أخرجه، تأكد من أن نظره مركز على "سها"، لم يشغل باله للحظة إن كانت تراه أو يراه أحدهم. بدأ يحرك يديه. مرة. اثنين. ثلاثة. أربعة.. أصبح التحريك منتظماً. "سيد" يمارس العادة السرية أمام جسد "سها" في شارع "زغلول".

بعد مرور أقل من دقيقة، كان "سيد" في حاجة لدقيقة أخرى، الوضع صعب، وهو غير معتاد على ممارسة عادته في منتصف الطريق. ستأخذ العملية وقتها، وفي التأني السلامة.. الحركة تزداد انتظاماً. و"سها" تلمح بطرف عينها ما يحدث. دون أن تفهمه. لكن بمرور اللحظات. تفهم، وتفكر في رد فعل مناسب، فتقرر ترك مكانها والتمشية للأمام عدة خطوات.

في البدء كانت التمشية مثيرة أكثر لـ"سيد"، وتساعده على إنجاز مهمته بنجاح. لكن ابتعادها جعل العملية تفقد معناها. وقف، دون أن يدخل عضوه داخل بنطلونه، ثم تحرك بمحاذاتها على ذات الرصيف. حتى وصل لمكان وقوفها الجديد. وجلس جلسته السابقة، وأكمل ما كان يفعل.

أدركت "سها" قوة خصمها. الدماء تصعد بقوة إلى رأسها، ويده تصعد بسرعة وتهبط، هي أيضاً شبكت كفيها، وبدأت في فركهما، تفرك، تفرك، تفرك.

أما "سيد"، فشعر أنه يقبض على الدنيا براحة يديه، أحكم قبضته، وراقب يديها تفرك، وتخيل شيئه بين يديها، دون أن يغمض عيونه، تفرك "سها". يعض على شفتيه، تفرك، يعض، تفرك، يعض، تفرك يعض.

كانت في الواقع تبحث عن تاكسي، دقيقة أخرى تمر، تزداد سخونة الفرك، وتهرب بعيونها في اتجاه آخر. الهروب يزيد من جمال تجربة "سيد"، الذي اعتبره حياء فتاة عذراء اختار عريسها أن تقام ليلة الدخلة في الشارع، في ساعة صباحية مبكرة.

بهدوء يليق به، ظهر تاكسي أصفر سوبر، بأرقام مطبوعة على جانبيه، سلمت "سها" أمرها لله، أشارت، وقف، ركبت، وكان "سيد" قد أتم مهمته بنجاح، وقف، أدار ظهره لظهر التاكسي ومضى.

ملاحظات :
- تقنياً، كانت "سها" محجبة.
- القصة حقيقية وحدثت بالفعل أمام شارع زغلول المتفرع من شارع الهرم بمحافظة الجيزة جمهورية مصر العربية. وعند صاحب هذه المدونة شهود على الواقعة.
- أنا آسف.

مطاوع يتحدث عن نفسه.

عندما بدأ الحفل، كان كل شيء جاهز، العصائر، الأطعمة الخفيفة، الموسيقى الهادئة. الفرصة سانحة لأصدقاء مطاوع للاحتفال به. لكن التكييف معطل، تم اكتشاف الأمر في اللحظات الأخيرة، فقرر الجميع أن استخدام المروحة لن يكون مزعجاً، ولسوء الحظ، فإن المروحة الموجودة كانت ماركة "توشيبا" موديل التسعينات، ريشتها حديدية، وصوتها عال لكن غير مزعج.

بعد شرب الكازوزة، شعر مطاوع أن اللحظة مناسبة لقول ما يريد الآخرون أن يسمعوه، وقف أمام المروحة، وجرب أن يتحدث ووجهه ملاصق لها، اختبر صوته.. "أنا أنا أنا".. خرج الصوت من الناحية الأخرى مموجاً.. "أنــــااااا، أنــــااااا، أنــــااااا". ضحكنا جميعاً، وأخذ كل منا مكانه، وأعتدل من كان نائماً، لحظة وساد الصمت، وبدأ مطاوع وحده الحديث عن نفسه..

"أنا,,

السمكة التي تتخبط على السجادة، تنتفض، تموت بعد قليل، كل هذا لأن أحدهم أرسلها هدية لزوج جديد، فوضعها في الحوض المخصص لسمك الزينة، ورأى أن يجعلها تشعر بالسعادة، فملأ الحوض إلى آخره بالماء، ولأنه يؤمن بالحرية، فقد ترك الحوض دون تغطية، ولأنه يعتقد أن الخصوصية حق لكل كائن، أطفأ نور الغرفة، وأغلق الباب وخرج، وأنا، كسمكة زينة صغيرة وحيدة، أصابتني الهلاوس، أكلت كل الحبيبات الملونة التي تباع كأكل للأسماك، شعرت بالإمتلاء، هاجمتني الكوابيس، جريت هنا وهناك، قفزت لأعلى، فوجدت نفسي على السجادة، أنتفض، أتخبط، أموت بعد قليل.

سيأكلني النمل بالتأكيد، وسيأتي صاحب الغرفة، يراني، يغضب، ويبدأ التفكير في قناعاته بخصوص الحرية والخصوصية وحوض أسماك الزينة التي تقرر الإنتحار بالقفز إلى السجادة وتجلب النمل إلى الأرضية.

أنا الفيل، فيل في جيش أبرهة مأمور بهدم الكعبة دون أن يخبره أحدهم بسبب الخناقة، أنا الكاتب الذي يراود الكتابة عن نفسها، فتراوده الكتابة عن أنفاسه.

أنا ديوان الشعر الذي لن يطبع، والفيلم الذي لن يحصل على منحة وزارة الثقافة، نوت الفيس بوك التي لا تأتي بتعليقات، أنا ستاتيس على الموقع ذاته لا تستفز أحدهم للضغط على "LIKE".

أنا متعب، أنا بايظ، أنا خرتيت كسول أصابع قدميه تبعث رائحة نتنة وهو يحبها. أنا سقف غرفة واسعة على وشك التعبير عن حبه للأرض والذوبان بها بالسقوط، أنا حجر شيشة تفاح يرغب في تغيير الولعة لكن صبي القهوة لا يستجيب، أنا أجلس تحت الشجرة، وعصافير الشجرة تقضي حاجتها على قميصي الأبيض، ولا يروقني قول الأصدقاء أني "هتكسي".

أنا البيت القديم، محل الخردوات، الكراكيب التي ترى صاحبة المنزل أن الاحتفاظ بها ضروري، أنا الشيش أتحدى الألموتال، أنا باب الأوكرديون الذي يفصل الصالة عن غرف النوم، ركبوني منذ سنين، ولم يستخدمني أحدهم ولو مرة. أنا الأنسر ماشين، بالشرائط الصغيرة والرسائل المملة بعد سماع الصفارة، أنا عدة الموبايل القديمة الملقاة في الدرج، ويظن كبار السن أن سعرها بالتأكيد أغلى من الأجهزة الأحدث الملونة ومزعجة بالرنات المجسمة.

أنا نهايات الأفلام العاطفية الغبية، أنا صاحب فرعون، بل أني أنا فرعون، شرائط الـ(VHS)، عصر ما قبل الـ(DVD)، أنا القرص المرن، أنا القرص الصلب، أنا الفأرة، أنا علبة أحبار الطابعة التي نفذت منذ زمن. أنا كورس الكومبيوتر الذي لا يأخذه أحد.

أنا الرخص، أنا الصين، البضاعة المضروبة التي تجد من يقدرها، أنا الزبادو، ومصنع الزبادو احترق، مصر تعاني دون زبادو، وأنا علبة الزبادو الأخيرة، نجوت من الحريق، لكن الحرارة أفسدتني، من يرغب فيكم في شرب زبادو أفسدته الحرارة؟.. من؟..

هنا انتهى مطاوع من الحديث عن نفسه، رفع الزجاجة بما تبقى من كولا في الكازوزة، ثم سحب نفساً هادئاً. ضحكنا جميعاً، وعادت الضجة واختفى صوت المروحة، هذه المرة أجاد مطاوع التمثيل، وجعلنا جميعاً نتأثر. مطاوع مدهش فعلاً، هذا رأيي فيه منذ رأيته للمرة الأولى يلعب البلياردو في صالة بجوار المدرسة الثانوية.

بعد دقائق، بحثت عن مطاوع في المكان، لم يكن في الصالة الضيقة، أو في المطبخ المزدحم بعلب الجاتوة الكرتونية. أزحت الستار ونظرت إلى البلكونة، وجدته ينفث دخان سيجاره في الهواء، وفي عيونه نظرة ضيق، لوهلة شعرت أن مطاوع كان يقصد ما قاله عن نفسه.

الثلاثاء، مايو 11، 2010

فن!


عرف الفن. اشرح الفن. تحدث عن الفن، قارن بين الفن والفن، علل الفن، ضعه بين قوسين، اضربه في نفسه، واقسمه على ثلاث أرباعه، واعطي كل فنان قطعة من الفن، وخذ منه قطعة أخرى، تأملها، وأشعر بالفن داخلها وخارجها، ثم اسأل نفسك. ما هو الفن؟، كيف يمكن شرحه؟، وكيف يمكن الحديث عنه دون وضع تعريف له، وما نتيجة المقارنة بين فن وآخر.

ما علاقة الفن بالفنان؟. وما الذي يجب أن يقوله الفن للفنان، وأن يقوله الفنان للفن؟، هل هناك علاقة أصلاً؟. وكيف يمكن فصل الفن عن الفنان، دون أن نفصل الفنان عن الفن؟، وإذا فصلنا كل جزء في جهة، ففي أي جهة يجلس الجمهور، وما علاقة الفن بالجمهور، من يقيم الفن، من يشاهده، ولماذا أصبح من المهم أن يشاهد الجمهور الفن، ولماذا يرغب الفنان في عزل فنه بعيداً عن الجمهور، هل هذه رغبة صادقة؟، وهل يلوث الجمهور الفن والفنان، أم يتلوث من الفنون وفنانيها؟.

ما علاقة الفن بالدين، الأخلاق، السياسة، الإقتصاد، التاريخ، اللغات، الجغرافيا، درجات الحرارة المتوقعة، وسعر صرف الدولار مقارنة بعملة بلد الفنان يوم بيع لوحة جديدة في صالة عرض.

من أين يأتي الفن؟، وأين يذهب؟، ولماذا يأتي ثم يذهب؟. ولماذا يشعر معظم الفنانين بالأسى على حالهم، والشفقة على أنفسهم، والخوف من الفن.

ما الفن؟ ومن الفنان؟.

الخميس، مارس 25، 2010

موسيقى حزينة جداً..


كان هناك مطعم في شارع فيصل، اسمه "الزعيم"، وكنت أمر عليه مرتان أو ثلاثة في اليوم، ففي الشارع المجاور له، يوجد مركز للطباعة وفصل الألوان، ولدى أبي هواية يمارسها باستمرار، الاستغناء عن الهاتف وإرسال ابنه الأكبر للإطمئنان على سير العمل في مركز الطباعة، وبالتالي كلما وجدني أمامه في العمل يثبت نظره علي للحظة ثم يقول : "اذهب إلى مركز الطباعة".

ولأني لم أكن متأكداً من جدوى ذهابي وإيابي، ولأن استغراق الرحلة لوقت أطول يعني إهدار فرصة للقيام بذات الرحلة مرة جديدة، فإن عدت مبكراً، يراني أبي، ويركز نظره للحظة ثم يأمرني بالذهاب إلى مركز الطباعة، الذي جئت منه لتوي.. ولأني طفل فضولي أفضل الاستكشاف، كان لابد أن أدخل يوماً إلى مطعم "الزعيم".

تأكدت أن جيبي به ربع جنيه يكفي أجرة الرجوع للعمل، ثم أحصيت ما معي، وطلبت عدة ساندوتشات، فول، طعمية، بطاطس، شاورما، لا أذكر بالضبط، لكن الأكل كان سيئاً للغاية، أو أنها كانت الموسيقى.

مرت فترة طويلة بعد خروجي من المطعم وأنا أقول أني حزين، لأني سمعت موسيقى حزينة في مطعم "الزعيم" الموجود في شارع فيصل.

والموسيقى الحزينة في الواقع لم تكن إلا موسيقى تصويرية لمسلسل رأفت الهجان، وكانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها الموسيقى وحدها بعيداً عن المسلسل، كان ذلك منذ فترة بعيدة، كنت طفلاً. كانت مهاراتي في الحياة لا تتجاوز الذهاب إلى العمل مع أبي والإنتقال طوال النهار بين المكتب ومركز الطباعة.

لكنها – الموسيقى – لمست قلبي، وأخبرتني بأشياء كثيرة. منها أن الحياة لا تستحق أن نضيعها في أكل الساندوشات السيئة في مطعم "الزعيم". وأن الموسيقى حلال بشكل عام، وأن الحزن لطيف، وأن مراقبة الشارع من داخل ميكروباص في الطريق بين المكتب ومركز الطباعة أمر جميل، وأني سأكبر ذات يوم، وسأشتري سيارة، بها كاسيت جيد، يسمح لي بالاستماع لموسيقى رأفت الهجان، والشعور بالحزن.

في الشهور التي جاءت بعد دخولي وخروجي من مطعم "الزعيم"، عرفت المترو. ركبته في المرة الأولى وحدي، ويالها من تجربة. من "كرداسة" إلى "شبرا". رحلة لها في قلبي مكانة كتلك التي في قلب راهب تجاه رحلة العائلة المقدسة.

ركوب السلم الكهربائي، انتظار القطار، النظر لهؤلاء الذين أجبرتهم ظروفهم – مثلما أجبرني أبي – على ركوب المترو في السابعة صباح يوم جمعة شتوي بارد. كنت أتحسس غطاء رأسي الصوفي كل دقيقة، وأشعر أني غريب عن المكان والزمان، أو أني لا زلت نائماً.

النزول في محطة غير التي تريدها، فقط لأنك لاحظت أنها خالية من الناس، وأن بإمكانك الجلوس على الكرسي البلاستيكي الثابت، والإستماع للموسيقى الناعمة الحزينة القادمة من السماعات المثبتة في السقف.

لازلت أذكر اللحظة، جلست، شعرت ببرودة الكرسي، أرحت رأسي على الحائط، ودندنت بأغنية حديثة وقتها لمطرب مغمور ظهر في برنامجي المفضل "أسهر معانا" ووصف أغنيته بأنها "لمست مع الناس".. وكانت تقول في بدايتها "دايما دموع.. دموع.. دموع".. ولا أذكر شيء آخر منها.

في المترو، علمت أن داخلي "روح". وأن علي أن أعتني بها، وأتوقف عن سماع الموسيقى الحزينة لأنها تجعلني حزيناً. لكني تراجعت عن وجهة نظري في المرة التالية لركوبي المترو، كانت أغنية "اخترناك" تصدح في كل مكان.

أنا أحب الموسيقى الحزينة.

الأربعاء، مارس 17، 2010

ريحة البلد



الاثنين، مارس 01، 2010

ماذا حدث للبراء أشرف؟..


لا يمكن اعتبار "براء" أحد الذين يسافرون باستمرار. يمكن القول أنه سافر عدة مرات. وفي الغالب، كان وحيداً في أسفاره، ولغرض ما منظم ومرتب، دورة، معرض، ورشة، دراسة قصيرة.. وكلها أسفار في نطاق العالم العربي الصغير. الذي سيكتشف "براء" مرة بعد أخرى، أنه أكبر مما كان يتخيل.

طيب، في اللحظة التي استلم فيها جواز سفره الجديد، فعل ما يمكن أن يفعله مواطن مع جواز سفر جديد تطلق عليه "مصلحة السفر والهجرة" اسم "جواز سفر مميكن".. دس أنفه بين صفحاته، شم رائحته، تأكد من كون أوراقه سليمة ونظيفة، وبدأ يعبث في الملصق الورقي على خلفيته وقرر من اللحظة الأولى أن جوازه لن يحمل في خلفية غلافه ملصق أبيض كريه.

ثم ركز النظر على بياناته الشخصية في الصفحة الأولى، وتأكد أن موقفه من التجنيد "غير مطلوب"، وأعتبر لحظة استلامه للجواز المميكن الأخضر بالملصق الأبيض الكريه لحظة تستحق أن توصف بأنها تلك التي يستحيل نسيانها.

ثم أنه استقل الطائرة فهبطت في "بنغازي"، وطائرة أخرى بعد يوم واحد لـ"طرابلس" وهو يكتب هذه السطور بعد يوم عمل صعب، ومن غرفة فندق مفردة، وعلى سرير عليه مفرش بلون أبيض كريه، وتوجد علبة صودا بجواره وهو مستغرق في الإنصات لأصوات تطاير الصودا خارج المياة وداخل العلبة، ويتذكر نصيحة أمه بأن يشرب الصودا فور أن يفتح العلبة، حتى لا تتحول إلى مجرد مياة بطعم السكر.

لماذا يشعر "براء" بأن ثمة ما حدث له، ويستحق أن يطرح سؤالاً تقليدياً كالذي تم وضعه في عنوان هذه السطور؟، ثم، لو افترضنا أن ثمة ما حدث فعلاً لبراء، فهل يعني هذا أن حدوث أمر كالذي حدث، له أهمية ما بحيث يتم طرح السؤال بشكل علني على صفحات الإنترنت.

أيضاً، ما توقعات "براء" حين يطرح سؤال كهذا، هل سيحصل على إجابة من أحدهم؟، يعني هل يعرف أحد "براء" أكثر مما يعرف "براء" بحيث يخبره عما حدث له بحيث لزم أن يطرح سؤالاً كهذا؟.

هل "براء" يعبث؟، ممكن، هل يمكن أخذ السؤال على محمل الجدية؟، ممكن أيضاً، هل يمكن تجاهل كل هذا والتمتمة بقدر بسيط من اللعنات على ديانة اليوم الذي أصبح فيه مسموحاً لكل مسافر يشعر بالفراغ في "طرابلس" أن يفتح صفحة جديدة ويكتب ما الذي حدث لي؟، هل أنا أعبث؟، وكيف كانت مشاعري حين استلمت جواز سفري المميكن الأخضر بملصق أبيض كريه على ظهر غلافه.

هل يرغب براء في الكتابة؟، فقط، هكذا، يريد أن يكتب، أن يمرر يده على الكيبورد، ويرى هل تأثرت سرعة يده في النقر بهجره الكتابة منذ فترة.. كل شيء ممكن هذه الأيام، وكل شيء مقبول في "طرابلس"، والفراغ، والسفر، وغرف الفنادق، والأسرة ذات المفارش البيضاء. كلها عوامل مساعدة ومحفزة..

أوك أوك.. يعني لحظة، سأخبرك.. سأقول ما الذي حدث.. نعم.. لدي ما يمكن قوله، إني أتذكر. أو أدعي التذكر.. لا فارق، إني على كل حال أشعر بأن ثمة ما يمكن أن أقوله، وما يمكن اعتباره إجابة على سؤال وضعته عنواناً لهذه السطور، أعرف ككاتب شعورك كقارئ تجاه سؤال بلا إجابة، خاصة إن كان من النوعية الرومانتيكية القديمة.. ما الذي حدث لكاتب هذه السطور؟.

لا يمكن اعتبار "براء" أحد الذين يسافرون باستمرار. يمكن القول أنه سافر عدة مرات. وفي الغالب، كان وحيداً في أسفاره، ولغرض ما منظم ومرتب.. كيف كان "براء" يقضي وقت فراغه في أسفاره التي لا يمكن اعتبارها كثيرة، لكنها على كل حال تكررت عدة مرات.

في "الطائف" مثلاُ. قضى "براء" الوقت في التجول بشارع طويل جداً لإحضار بعض الطلبات، وقضى الوقت يفكر في فتاة طويلة بيضاء جميلة، زميلته في المدرسة الثانوية، ويجهد عقله في ابتكار طريقة لإخبار والده – رفيق رحلة الطائف – بقصة الفتاة ورغبته المستقبلية البعيدة في الزواج منها.. كان التفكير في الفتاة يفتح لعقله عالم كامل من الألوان والأصوات والروائح. كان التفكير فعل يستحق أن يأخذ مكانته، وأن يكافئ الفتى نفسه بقدر كبير من التفكير في حبيبته. الذين تصادف سفرهم الأول، مع حبهم الأول، يعلمون جيداً كم كان الأمر جميلاً. ولا وصف له. (وهذا ليس مجرد كليشية، فهو بالفعل لا وصف له).

في الرياض، كانت الفرصة جيدة لقضاء الوقت وحيداً. وكتابة عدة خطابات للفتاة ذاتها، لم يكن هناك ما يمكن قوله في تلك الخطابات، فقط كان يريد أن يكتب في نهاية كل خطاب، "الأحد، 8 أغسطس، الرياض".

في اليمن لم يتمكن من فعل أي شيء مختلف، فقد قضى يوماً وحيداً، أصابته فيه حمى شديدة، فقرر العودة من حيث أتى، وكانت فرصة جيدة لأن يقابل فتاته ذاتها بعد عودته مباشرة في حديقة اسمها "أم كلثوم" في مواجهة مشرحة مستشفى القصر العيني. وكانت المقابلة الأولى.

في الدوحة تمشى كثيراً على الكورنيش، واكتشف لذة النوم منفرداً في غرفة فندق يحمل سبع نجوم ويخبرك أحدهم أن القناة التي تستضيفك ستدفع كل شيء عند رحيلك. ينام عارياً لأول مرة في حياته، ويقضي الصباح في الحديث الإليكتروني المتواصل مع زميلة العمل، يخبرها بأن داخلها شيء مميز عليها أن تكتشفه.. ويعود إلى القاهرة وقد اكتشف لتوه الطريقة التي يمكن أن يخبر بها والده عن زميلته التي يرغب في الزواج منها، إن أمكن.

في القاهرة ستخبره جدته أنها عثرت على حقيبة بلاستيكية بيضاء مليئة بالخطابات بينه وبين فتاة اسمها على اسم خطيبته الحالية، وتعود تواريخها إلى سنوات ماضية، حين كان يسافر للرياض، وأنها قامت باحراقها بحيث لا تفسد الود الجديد بين حفيدها وابنها، فالأوراق تثبت أن الحفيد لم يتعرف على خطيبته منذ شهرين أو ثلاثة كما قال، بل منذ سنوات ثلاثة أو أكثر، كان من الصعب إخبار الجدة أن الأمر مجرد تشابه أسماء، وحرمانها من متعة اكتشافها الخاص وسرها الكبير مع حفيدها، فقد قتلت الحسرة على ما كان يمكن فعله بالحقيبة المليئة بالخطابات، ثم حمدت الله عندما أدركت مع الأيام أن صفحات الإنترنت كانت ستكون مصيرها الوحيد، وفهمت كون الله رأى أن الستر أفضل للجميع.

في "المغرب" يستنشق هواءاً مختلفاً، ويتأمل النجوم، ويكتب لطفلة صغيرة بدأت تتكون داخل رحم زوجته، ويفكر أن الله كريم، ويتخذ بعض القرارات المتهورة. ويدرك طول المسافة بين بيته في الهرم، وصحراء "ورزازات" حيث كان يجلس وحيداً يراقب السماء ويخبرها بأسراره الخاصة.

في "طرابلس" لا يحدث أي شيء. لا يفكر، لا يكتب خطابات لأي أحد، لا يتحدث على الإنترنت، لا يراقب النجوم، ولا يشغل باله أي شيء يمكن أن يقوله والده.

فقدت الأسفار قيمتها، هكذا مبكراً. وفقدت لحظة استلامه لجوازه المميكن الأخضر بالملصق الأبيض الكريه ما كان يميزها. فما الذي يمكن أن يفعله "براء" في "طرابلس" أو أي مكان آخر، ولا يملك القدرة على فعله في القاهرة. وما الأفعال الجديدة التي تستحق أن تفعل يعني.. ما المشاعر الجديدة. ما الذي يمكن أن يحدث لبراء ويكون مختلفاً بحق عما حدث له بالفعل؟.

قد يفتقد صغيرته. قد يشعر ببعض الهدوء. قد يجد في الأجواء بعض التحدي والحركة. لكنه لا يرى في السفر أي فرصة لفعل أي شيء مختلف. مجرد انتقال بين جغرافيتين. بلا أي قيمة، ولا أية إضافة.

ما حدث للبراء أشرف. أنه أصبح البراء أشرف، ففقد القدرة على الدهشة، وعلى استغلال الفرص وخلقها، يشعر بثقله، وأن خفته السابقة صارت مفتعلة، وأن عليه أن يحيى حياة الشيوخ، يتحرك ببطء، يفكر ببطء، يزهد في السفر والمفاجآت. لا شيء جديد ليكتشفه، ويصير اللون الأبيض بالنسبة له، لون فراش السرير الذي يرقد عليه الآن، والملصق الصغير في خلفية غلاف جواز سفره المميكن، مجرد لون أبيض كريه.

هذا ما حدث، دون أدنى فكرة، عما يمكن أن يحدث.

الجمعة، يناير 08، 2010

ستة أسباب للحنين إلى "روبي"..

إرشادات القراءة :

"إذ تنام الراقصة‏ /‏ المغنية على الأرض‏ (وهي نصف أو ربع عارية ثم تحرك ما يمكن تحريكه في جسدها بصورة غير موضوعية أو محايدة‏)‏ لأسباب لا تغيب عن بال أي مشاهد‏.‏ هذا الرقص أكثر وقعا وتأثيرا‏،‏ وهو يدهشنا تماما‏،‏ مما يجعلنا نستسلم لإغواء الصورة ونرفع الرايات البيضاء والخضراء والحمراء وكل الألوان الأخرى‏،‏ إذ كيف يمكن للمشاهد أن يتفكر أمام هذه الصور الملونة بالألوان الطبيعية وغير الطبيعية لهذه الحسناء المتحركة الأفقية‏".‏.

الفيديو كليب والجسد والعولمة - عبد الوهاب المسيري
.................

الصورة المعتادة عن "الحنين". أنه مؤلم. حزين. غامق.. على أن حنيني لها. تغلفه السعادة. وتملأه الألوان.

الحنين لها منطقي. ما الذي يمنع الإنسان من حب المتعة. يقولون أن الله لا يحسابنا على حب الخطيئة بعد التوبة عنها. من يكره الشهوة؟، من يرفض الجمال؟، تبقى الشهوة شهوة، والجمال جمال، والرغبة سحر، والرقص جموح، والجسد جسد.. عنده تبدأ الحكاية، وعنده تنتهي.

لـ"روبي" في قلبي حنين. وفي بصري شوق، وفي عقلي انتظار. إليها. الفتاة العادية غير المعتادة. أحن. وأصوغ أسبابي. علها ترضى فتعود..

1- محلية الصنع..

المرة الأخيرة التي انتجت فيها مصر "مزة" بالمعنى الحرفي للكلمة - يمكن بشكل سريع وضع تعريف لكلمة مزة عند كاتب هذه السطور بالقول أنها الأنثى التي تظهر على الشاشة وتلعب عدة أدوار. منها الغناء والرقص والتمثيل. مع بعض الملابس الضيقة والألوان المزركشة. وتكون عادة ذات عيون مميزة، وقوام غير منتشر. وشفايف يصعب الحصول على واحدة مماثلة.

المرة الأخيرة، كانت في الثمانينات، واسمها
"لوسي" وهي آخر منتج مصري معروف في هذا المجال. وبالطبع فإن مقارنة سريعة بين "روبي" المنتج المززي الحديث، و"لوسي" سيظهر الفارق، وسيجل للحنين أسباباً منطقية.

على أن مشهد سينمائي حديث تظهر فيه المقارنة بشكل أوضح وأعمق. خاصة وأن صانعه أحد محترفي فن صناعة المقارنات.. "وحيد حامد".

في فيلم "الوعد" (2009)، تعمل "روبي" في مركز تجميل صغير صباحاً. و"أعمال حرة" بالليل، تحضر "لوسي" سيدة المجتمع لتخبرها أن الرجل الكبير يطلبها في مهمة جديدة. فتسألها "روبي" : "عجوز برضة؟"، فترد "لوسي" في استنكار : "ومالهم يا بت العواجيز.. ولا أنتي عايزة اللي يقسمك نصين؟"..

لنتحدث عن تكوين المشهد قبل أن نحاول تحليل ما قيل داخله. "لوسي" تجلس على كرسي مرتفع. و"روبي" على كرسي أقل درجة. أو على الأرض ربما. وتمسك بأقدام "لوسي" لإجراء عملية تجميلية ما بها. ويدور الكلام.

رداً على سؤال "لوسي" ترد "روبي" في ثقة وصراحة "بصراحة آه.. نفسي في حاجة كدة".. تضيف "لوسي" : "يا بت العواجيز دول هما اللي ماسكين البلد من وسطها".. ثم تمنحها شهادة حق في وجه جسد فائر.. "إنتي فرسة كسبانة.. لا محتاجة حقن ولا ماسك.. كل اللي محتاجاه.. دش".

في كل معاجم اللغة، عامية وفصحى، لن نجد كلمة أفضل من "فرسة" لنطلقها على "روبي" رمز الإنطلاق والتمرد والثورة، وحين تنطقها "لوسي" فهذا يعني أن ثمة راية يتم تسليمها، من "مزة" العصر الذي مضى، لـ"مزة" هذا الزمان. تلك التي تراهن على الشباب. ولا يشغلها عجائز يمسكون البلد من وسطها.. لا يهمها وسط البلد.. المهم وسطها هي شخصياً.

لاحظ أخيراً الموسيقى المتشابهة بين "روبي" و"لوسي". خاصة وأن الأسمين "أسامي دلع"، فـ"روبي" هي في الحقيقية "رانيا حسين محمد توفيق" مواليد 1981بالقاهرة، خريجة كلية الحقوق (بني سويف) في 2004. شاهدها الجمهور للمرة الأولى بأدوار صغيرة هنا وهناك. ثم بدأت الإحتراف على يد "شريف صبري" ومعه بدأت رحلة طويلة من الكليبات والأغاني.

إذن، "روبي" صناعة محلية. مصرية مائة بالمائة. لا أب لبناني، ولا أم إيطالية. بل أن أمها كانت مدرسة ألعاب بمدرسة "فتحية بهيج الإعدادية بعابدين". ويبدو أن صاحب المعلومة رأى أنها من الأهمية بحيث يضعها في
صفحتها على "الويكيبديا". ربما لصلة ما بين "روبي" و"بهيج".

لأجل الصناعة الوطنية الحرة التي تحاول أن تصمد.. لأجل مصر.. أحن إلى روبي.

2 – سمراء :

روبي سمراء. فقط لا غير.

الذين يقدرون الجمال سيعلمون معنى أن هناك أيقونة سمراء ترقص وتغني وتمثل. خاصة وأن الأيقونات المنافسة تبدأ عند "هيفاء" و"إليسا". وتنتهي عند "مروى" و"بوسي سمير". كلهن بيضاء. ملونين. ببروز متفرقة هنا وهناك، وقدر من النفخ والهواء وضبط الزوايا.

يمكن أن تتخيل "روبي" صغيرة تبحث عن فتى يحبها في دراستها الإعدادية، ويمكن أن تشعر بدموع غيرتها في الطفولة من فتاة جميلة تجذب فتيان شوارع "المنيرة" حيث نشأت وترعرعت.

"روبي" لا تصدق جمالها. تعامله بشك، وتعبر عنه بشك أيضاً. والمدهش أن هذا النوع من التعبير يجذب عدد لا نهائي من المعجبين. وتوجد تجربة شبيهة، تحمل اسم "شيرين عبد الوهاب" التي تنتمي لنفس اللون مع اختلاف في الدرجة، ومع قيود في التعبير عن الجسد. "روبي" تعبر عن نفسها بطريقة مصرية خالصة. لكن "شيرين" تصر على استخدام الأدوات ذاتها التي فرغت من استخدامها "مزة" ملونة كـ"إليسا" أو "هيفا".

يمكن بسهولة الحصول على
أخبار "شيرين" عن زيارتها المتكررة لمصفف شعر شهير في لبنان أو مركز تجميل معروف في وسط بيروت، لكن لا أحد يعلم أين تحافظ "روبي" على مظهرها، وأين تنال حظها من العناية ببشرتها. لها طريقتها الخاصة، غير اللبنانية على الأرجح.

أتخيل "روبي" تغني في خلوتها، "صحيح أنا أسمر وكل البيض يحبوني..". ويمكن تخيل هذا بسهولة بعد أن تسمع وتشاهد بعض أغنيات لها تعزز صورة السمراء المتمكنة من التعبير عن نفسها. شاهد مثلاً "أنا عمري ما استنيت حد"، أو "غاوي"، أو رائعتها الأولى "كل ما أقوله آه".

لأجل "محمد منير"، وتعاطفاً مع قضية أبناء النوبة، أحن إلى "روبي" السمراء.

3 – تغني وحدها :

هل شاهدتها بصحبة أحدهم من قبل؟.

هل أهانتك روبي كمشاهد، ورقصت لموديل أجنبي، هل فكرت في استغلال نجومية "مهند" ونامت في أحضانه خلال أحد الكليبات. هل غنت "روبي" لأحد سواك؟، هل قارنتك بأحد؟، هل سمحت لأحدهم أن يلمس جسدها أمامك؟.. لماذا إذن لا تحن إليها مثلي.

"روبي" تحترمني، وتحترمك، وتحترم نفسها. تعرف أنها "أيقونة"، فريدة، وتدرك أن ما يؤكد فرادتها، أن تبقى منفردة. تغني وحدها، ترقص وحدها، وحولها، يمكن أن يظهر بعض المارة، أو الأشخاص العابرين.

لم يحدث أن استخدمت "روبي" أي شخص من أي نوع ليظهر بجوارها في أي كليب، طوال رحلتها تحاول أن تؤكد أنها تغني لنفسها، وأنها تسمح لك شخصياً بالفرجة عليها، مستغلة كل أحلامك القديمة في التلصص على إحداهن تعبر عن جسدها بحرية وتراقبها أنت دون أن تشعر.

تعرف أن محاولة تمثيل قصة أمامك ستبدو سخيفة وغير حقيقية. وبالتالي، فإن ما يمكن ملاحظته أيضاً على منتجاتها الغنائية، غياب أي نوع من أنواع الدراما. لا توجد قصة، ولا مشاهد تمثيلية. لا يوجد أكثر من "روبي"، دون أية إضافات قد تفسد الصورة، وتقلل من قيمتها.

بالطبع فإن هذا التحدي ترفض أن تؤديه واحدة من الملونات اللبنانيات مع كامل احترامنا لهن. شاهد "إليسا" مثلا في "أجمل إحساس" مع شخص لم يترك مكان في رقبتها دون أن يلمسه. و"هيفاء" في "ابن الحلال" تسير في شارع طويل ممسكة بيد طفل صغير ساحبة إياه إلى المجهول.

لكن "روبي" تكتفي بالرقص تحت سفح الهرم مع بعض الحكم التي يكتبها "شريف صبري" على الشاشة في "مشيت ورا إحساسي". أو الإلتواء داخل حوض بخار بصحبة ثعبان وتدندن "ابقى قابلني".

هذه الوحدة، يمكن أن تكون في ذاتها رسالة. مثلاً في كليبها الأخير "يا الرموش"، تتوقع أن تجد فتاة ما بجوار "روبي"، فالكلمات كلها تتحدث عن بنت جميلة برموش قوية وخدود وردية. بالإضافة إلى أنه الكليب الأول لـ"روبي" الذي لا يحمل توقيع "شريف صبري" بل "أحمد المهدي" هذه المرة. لكن غياب الفتاة، يجعل عقلك يستجيب لفكرة أن "روبي" تصف نفسها، مستخدمة صيغة مختلفة في التعبير. وهو - إن سمحت لي - أسلوب في التعبير ذكي لأبعد الحدود، بل أنه يذكرنا برائعة وصف الذات "عبد الهادي" للمطرب الأسمر "شاندو".

لأن "روبي" ليست "شاندو".. أحن إلى روبي.

4 – صامتة.

هل قالت "روبي" قبل ذلك أنها عاشت طفولة مشردة؟، أو أنها تصنع كليبات "للكبار فقط"؟. هل دافعت عن نفسها ضد إشاعات زواجها من مكتشفها وصانعها ومخرج فيلمها وكليبتها وموزع أغانيها ومنتجها "شريف صبري"؟. لم يحدث ذلك ولن يحدث.

لأن "روبي" تعرف فضيلة الصمت وتلزمه. تدرك أن الثرثرة مفيدة داخل الأغاني فقط. وعليه، فلا تتوقع أن تجدها في برامج المقالب والاعترافات الساخنة، أو ضيفة حلقة آخر الأسبوع التي لم يجد لها المعد ضيف مناسب فأحضرها في آخر لحظة.

لا يعرف أحد المبلغ الذي يمكن أن تتقاضاه "روبي" مقابل الظهور في حلقة من برنامج معروف، والسبب أنها لا تظهر أبداً. لا تحب الصحافة، على الرغم من أن الصحافة تحبها. وهذا درس تعلمته الجميلة من مخرجها "شريف"، وتعلمه شريف من مكتشفه الأول "عمرو دياب" الذي قرر منذ البداية أن يخاصم البرامج. لولا أنه جاء في النهاية وعوض صبره ببرنامج طويل يحكي قصة حياته. من بدايته لنهايتها!.

صمت "روبي"، يجعل الجمهور يفكر في احتمالين، الأول أنها مشغولة للغاية بالفن والإبداع وتسجيل أغنيات جديدة والتحضير لألبوم جبار. وهو أمر جيد بالتأكيد. أو أنها تفعل شيء ما لا يستحق أن تتحدث عنه. شيء يستحب أن يتم في صمت، وأيا ما كانت درجة خصوبة خيال الجمهور، فإنه سيتخيل في كل الأحوال أشياء مثيرة، وهو أمر جيد أيضاً ويحسب لصالح النجمة الصامتة.

لأجل الخيال المريض.. أحن إلى روبي.

5 – تحاول أن تصبح فنانة..

رغم أنها فعلاً "فنانة شاملة". بمعنى أنها تؤدي بالفعل عدد غير قليل من الفنون، تغني، تمثل، ترقص، (وتؤلف حالياً فيلم عن قصة حياتها) إلا أنها لا تزال تحاول طوال الوقت أن تصبح فنانة.

فكر مثلاً، ما الذي يجبرها على القيام ببطولة ثانية أو ثالثة في فيلم غريب الأطوار مثل "الوعد"؟، لا أعتبره فيلماً سيئاً على الإطلاق، لكنه بحسابات النجوم قد لا يكون الأفضل الذي يمكن أن تطل منه فنانة بحجم "روبي" وإمكانيتها الجسدية.

ما الذي يمكن أن يضيفه "وحيد حامد" وثلاثي "ياسين" (محمود ومحمد وآسر) إلى "روبي" إلا الفن؟. لا توجد أغاني راقصة، ولا مشاهد ساخنة بالمعنى الشعبي للكلمة، ولا حوار يمكن اعتباره مثيراً من وجهة نظر رواد سينمات وسط البلد.

بنفس المنطق الذي دفع بـ"روبي" إلى "الوعد"، يمكن أن تبرر اشتراكها بالغناء في نهاية فيلم لن يتكرر (!!) في تاريخ السينما "ليلة البيبي دول". ورغم أن عدد من الجمهور دخل الفيلم وهو يتوقع أن تكون "روبي" هي من سيرتدي البيبي دول، إلا أنه وجدها في النهاية تغني من ألحان "ياسر عبد الرحمن"، وتستعرض بعض الطبقات في صوتها وترتدي ما لا يلفت النظر، وما لا توجد علاقة بينه وبين البيبي دول.

لا ننسى اشتراكها مع "يوسف شاهين" في "سكوت هنصوت". ولا يفوتنا الإشارة إلى أن الفيلم الذي حمل في أفيشه صورة كبيرة لـ"لطيفة"، حمل في نسخة الفيديو منه صورة أكبر لـ"روبي" التي لم يكن الجمهور قد شاهد كليباتها حين عرض الفيلم للمرة الأولى، لكن بعد أن عرفها الجمهور، صار من الممكن مشاهدة أحد أغرب أفلام "شاهين" لأن صورة "روبي" تتصدر غلاف شريط الفيديو.

ثم مشاركتها في "فيلم ثقافي"، في دور يهمل كل إمكانيتها الجسدية. زميلة أخو البطل، التي تشاركه من مصروفها في شراء كومبيوتر للعمل عليه. أحد الأصدقاء تخيل أن أخو البطل سيكون في الجزء الثاني من الفيلم اسمه "شريف صبري" وأنه سيستغل الكومبيوتر ليصنع من زميلته فنانة مصر الشاملة ومزتها الأولى.. "روبي".

إنها
مجتهدة. يجب أن نعترف. ومنتشرة في مستويات عدة من الفنون. أفلام معقدة لـ"شاهين"، ومغامرات إنتاجية ناجحة للعدل جروب، ثم تجربة متهورة من "شريف صبري" في أحد الأفلام الأنجلو مصرية.. "سبع ورقات كوتشينة"، وهو فيلم صنعه مخرجه وهو يتخيل إمكانية صناعة فيلم له سبع نهايات مختلفة، تعرض كل نهاية في دار عرض، فكانت النهاية الوحيدة لمشروعه هو قدر من "سب الدين" حصل عليه من شباب وسط البلد الذين توقعوا مشاهدة أجزاء أخرى من جسد "روبي".

على مستوى الغناء، سيذكر التاريخ اسم "روبي"، فقط يمكن القول أن مشروعها الغنائي له ملامح، وهذا يكفي جداً في المرحلة الحالية. بالإضافة إلى ذلك، فإنها – وبشكل مستمر – تحاول أن تكتشف في صوتها مساحات جديدة. وبالتوازي تحاول أن تكتشف في الكلمات معان جديدة. كل هذا يمكن أن نتركه لمحبي الموسيقى، لكن تبقى حقيقة أن معظم أغنيات "روبي" يمكن أن تسمع باقية. وهذا مهم.

لأجل شرف المحاولة.. أحن إلى "روبي"

6- يمكن أن تصبح طائشة.

ستحلق "روبي" شعرها كله يوماً. وستدمن الكحول، وسترافق صحفي مغمور وسيراها البعض تسير فجراً في شوارع شرم الشيخ بملابس نصف عارية.

هذا ما يمكن أن تتوقعه لـ"روبي"، إن كنت مثلي تؤمن أنها تملك الإمكانيات اللازمة لتصبح فنانة طائشة. وهو أمر لم يحدث بعد في التاريخ الفني المعاصر.

لا نملك في مصر فنانة مثل "بريتني سبيرز" أو "باريس هيلتون". لا نعرف مطربة يصعب السيطرة عليها، أو تقود بسرعة جنونية، أو ترافق عشرات الرجال في عام واحد.

كلهن ملتزمات، يتحدثن عن الفضيلة، ينكرن الإشاعات، ويخترن الزواج والإستقرار وتربية الأولاد حين يوجه إليهن سؤال يتعلق بالمستقبل.

لكن "روبي" لن تخذل محبي الطيش والجموح، وستظل كما عودتنا، مدهشة تملك القدرة على الجموح، وستصرح يوماً بما تؤمن به حقاً، تترك الصمت، وتبدأ في توزيع اللعنات بألفاظ تتلاءم مع فتاة تربت في "المنيرة" ودرست الحقوق بحيث تعرف الفارق بين السب والقذف، وبين الوصف والتعبير.

أتوقع من "روبي" بعد سنوات مستوى ناضج من الفضائح وأخبار فقدان السيطرة. وسيتمكن جمهورها من معرفة أسباب اختفاؤها هذه الأيام، سيعرف الجميع الحكايات، وستكون "روبي" هي المصدر، فالفنانة التي تغني "أنت عارف ليه". تعرف جيداً ما يمكن أن يحققه الطيش لها بين الجمهور المتعطش لمستوى آخر من الفضائح.

لأجل روبي.. أحن إلى روبي.

الثلاثاء، يناير 05، 2010

أعتذر عن عدم ذكر اسمي

* الدستور - عدد 5 يناير 2009