الأحد، نوفمبر 30، 2008

بقاء..


في الحلم رأيت نفسي أجري مكالمة هاتفية قصيرة مع رجل عجوز، تربطني به صلة قرابة، وكنا قد اتفقنا – في وقت سابق من الحلم نفسه – على أن نموت سوياً، فهناك مرض بدأ ينتشر، ويقتل كل الناس، والإيمان بالله جعلنا نقتل أنفسنا قبل أن يقتلنا المرض باعتبار أننا أموات في كل الحالات.

في لحظة فارقة – في الحلم – قررت أنني لن أستسلم للموت، وأني أفضل البقاء ورؤية العالم بعدد أقل من البشر، والموت بشكل طبيعي والذهاب للذين ماتوا مبكراً وإخبارهم بما حدث بعد أن رحلوا.

اتصلت بالرجل العجوز الذي تربطني به صلة قرابة. قلت له أنني أعتذر عن موعد الموت المشترك لنا في الغد، امتعض، قال "إزاي يعني.. إحنا مش متفقين نموت سوا.. هو كلام عيال ولا إيه؟".. قلت له "معلش يا خالي.. موت إنت لوحدك.. وأنا هبقى أخلص شوية حاجات في إيدي وأحصلك على طول".. كنت صادقاً.. لم أكن أسخر منه بأي حال. هو أيضاً سألني باهتمام.. "حاجات إيه؟"..

فكرت، وقررت الإجابة على السؤال بصدق.. قلت له "يا خالي أنا عندي بنت لسه مكملتش سنة.. وكمان عندي شوية حاجات عايز أكتبها.. ومحتاج شوية وقت عشان أركز وأقعد اخلصها.. نفسي يا خالي أشوف بنتي وهي عندها سنة ونص وبتقولي يا بابا وبتمشي لوحدها.. ونفسي أكتب الكلام اللي أنا عارف إنه أهم من أي شيء كتبته قبل كدة"..

بكيت وأنا أكلمه، هو أيضاً لم يجادلني، أغلق الهاتف في هدوء، وساد صمت طويل.. في الحلم.

رأيت نفسي بعدها أشارك في طقس رحيل الرجل العجوز.. نائم هو على الأرض وسط دائرة كبيرة من الأقرباء والمعارف. ويتولي قريب آخر عملية الإعدام، يضرب حقنة صغيرة في وريده، بها سائل يبدو أنه الطريق السريع إلى الموت الهادئ. تقلب الرجل يميناً ويساراً، بدا أنه كان يتألم، أو أنه يرسل إلى الحضور رسالة بأن الموت يصاحبه ألم ما.. وهو ما جعل المسؤلين عن تنظيم عملية الإعدام ممتعضين من تصرفات العجوز، فقد كانوا يروجون للأمر باعتباره سهلاً بسيطاً، يخلص الفرد من الألم، وينقله إلى الراحة.. حتى أني كنت أسمع صوت أصالة بأغنية "أكتر من اللي أنا بحلم بيه" في خلفية المشهد.. هنا لاحظت أن الأمور تتجه نحو العبث، وأدركت أنني أحلم، وأني أملك القدرة على الإستيقاظ والخروج من كل هذا..

......

تحت الماء الساخن أثناء الاستحمام اليومي الصباحي فكرت.. أكانت هذه أسباب كافية للبقاء على قيد الحياة.. رؤية الطفلة تكبر وكتابة بعض الأشياء؟..

الأحد، نوفمبر 23، 2008

وضع مختلف جداً

هل يمكن اعتبار ما جرى نهار الجمعة ومساؤها مجرد غلطة؟..

لا أعتقد، وإن كنت بدأت أفهم أن "الوضع" الحالي "غلط"، أو على أسوأ الأحوال "وضع مختلف جدا" كما اختار صديقي محمد الدسوقي رشدي أن يسمي نفسه على الماسينجر وهو العريس الجديد، بما في ذلك من إساءة لسمعة الزواج والأوضاع في آن واحد.

إذن، ما جرى نهار الجمعة ومساؤها أمر طبيعي تماماً، وقابل للحدوث والتكرار طالما نعيش في مصر، وطالما الوضع غلط أو مختلف أو حتى مكروه وإن لم يكن حرام تماماً.

...

مخرج أفلام وثائقية مستقل، يصور فيلمه الجديد في ريف قرى جنوب الجيزة، عن الطقوس الشعبية للحج، ومظاهر الفرحة الشعبية الجميلة بالحجاج في قرى مصر، وبعد تصويره ليوم كامل، وفي منتصف اليوم الثاني تداهم قوة من الشرطة المنزل الذي يصور داخله بقرية برنشت بالعياط، وتحتجزه مع فريق التصوير، وتتحفظ على معدات التصوير ويحضر إلى القرية عدد من القيادات الأمنية المهمة، مأمور مركز العياط ورئيس مكتب أمن دولة الحوامدية، ورئيس المباحث وعدد من الضباط والعساكر وأمناء الشرطة بما ينذر بقرب تحقق مقولة أبونا اللمبي الذي قال "فاضلهم إتنين عساكر ويعلنوا الحرب".

لكن الحرب كانت قائمة بالفعل، بين من ظن نفسه مخرج يتحرك باسم الفن والإعلام والبحث والتوثيق وما إلى ذلك من كلام فارغ لا يودي ولا يجيب.

وبين عدداً من القيادات الأمنية التي تطبق قانوناً خاصاً، قانون تقول نصوصه أن على كل مخرج إستخراج تصريح بالتصوير داخل أي منزل، ومع أن قانون جمهورية مصر العربية يجبر المخرجين على استخراج تصريح للتصوير في الشوارع، والشوارع فقط، إلا أن دولة العياط الشقيقة بدت أكثر حزماً مع القلة المندسة من الإعلاميين، وقررت أن التصريح مطلوب في كل الأوقات والأحوال والظروف، حتى وإن قررت التصوير في حمام بيتكم كما ذكر أحد المسؤليين في نهار الجمعة.

3 ساعات يقضيها المخرج وفريق التصوير في قسم شرطة برنشت، منها إلى مركز العياط، ومنها إلى مقر النيابة العامة التي يتم احتجاز الفريق في الحجز بصحبة تاجر مخدرات ناشئ دعت عليه أمه بحيث يرتبط مصيره بمصير عتاولة الإجرام من مخرجي ومصوري الأفلام الوثائقية الممنوعة.

في النيابة يستمر الإنتظار 3 ساعات أخرى أو أكثر، ثم يبدأ التحقيق، وفيه تطرح أسئلة ذكية ومهمة، مثل "متى انضممت للجماعات الإسلامية؟"، و"هل لك علاقة بأعضاء حاليين أو سابقين في جماعة الإخوان المسلمين المحظورة؟". ثم يصارح وكيل النيابة المخرج الشاب بأن عليه فعل أي شيء لإثبات أن الشرائط التي تمت مصادرتها فارغة، حيث أن أمن الدولة تعرض تبديل الشرائط فوراص بحيث تصبح هناك قضية ساخنة تضفي على مساء الجمعة أهمية ملاءمة.

ينتهي التحقيق في الحادية عشر مساءاً، تماماً بعد 11 ساعة من الإحتجاز والترحيل، ويقرر وكيل النيابة إخلاء سبيل المتهمين من سراي النيابة، لماذا سراي النيابة، لأنه يخشى إن قرر إطلاق سراحنا من المركز أن يحتجزنا أمن الدولة لأجل غير مسمى.

ينزل وكيل النيابة بنفسه، يتأكد من ركوبنا السيارة، ونبدأ في التحرك، هنا يصل أحد ضباط المركز ويطلب من الجميع ملازمة أماكنهم إلا المخرج، ويصطحبه إلى المركز قائلاً أن ضباط المركز وعلى رأسهم "البيه المأمور" و"الباشا رئيس المباحث" يرغبون في التعرف عليه.

داخل المركز يفتح التحقيق من جديد، أمام ضابط أمن دولة جديد، يسأل الأسئلة من البداية، "من أنت؟"، "هل تؤدي الصلوات بانتظام؟"، "زوجتك منقبة؟"، "علاقتك بالإخوان؟"، وما إلى ذلك من أسئلة كوميدية جميلة، تصلح كنهاية ليوم جمعة قضاه المخرج في الأرياف.

يصارحه المخرج بأن أعضاؤه التناسلية بدأت في الغضب، وأوشكت على الإنتحار، فالأسئلة المطروحة تلاءم طالب ثانوي شارك في مظاهرة غاضبة لأجل محمد الدرة، ولا علاقة لها بمخرج أفلام وثائقية مستقل.

ثم يعلن المخرج أن الوقت قد حان لبدء الاتصال بجمعيات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان والمدونين والمدونات والصحفيين وكل من يملك القدرة على الصراخ في وجه الغباء المزمن في دولة العياط الشقيقة.

مع دقات الثانية صباحاً، يقرر الضابط أن هناك شيء غير سليم، وأن "الوضع غلط"، ويطلق سراح المخرج، بعد أن يلاحظ أن المصور المرافق له مسيحي الديانة، مصري الجنسية.

المخرج الذي هو أنا يطرح السؤال في البداية..

هل يمكن اعتبار ما جرى نهار الجمعة ومساؤها مجرد غلطة؟..

الخميس، نوفمبر 06، 2008

على سبيل التعارف.

لما كانت الآنسة Bent Elleel "بنت الليل" من مواليد 1 يناير 1981، أي أنها تبلغ من العمر حالياً 29 سنة، بما يعني – بمعدلات الحساب المصرية والعربية – أنها مجرد "عانس جميلة"، فقد اختارت أن تنشئ لنفسها صفحة على الفيس بوك باسم "بنت الليل" بما في ذلك من دلالات يفهمها الجميع.

الجملة الأساسية التي تواجهك عند دخول الصفحة هي " قف يا قلب هاهنا لا تترك مكانك فلا أحد يستحق أن تهجرنى من اجله".. وهي جملة اعتبرها بعض الزوار تحمل إهانة شخصية، وقرر في المقابل عرض نفسه على هذا القلب الذي أمرته صاحبته بالوقوف، مع أن الوقوف فعل لا يفعله القلب عادة، بل غيره من أعضاء الجسد.

تطرح بنت الليل في صفحتها أسئلة هامة، ويقابلها جمهورها الذي يزيد عدده عن الـ 540 صديق، بأسئلة أخرى. قالت في سؤالها الأخير "في بنت أجمل مني؟"، فأخبرها Medo El Basha بأن " ممكن نتعرف اسمى ميدو من مصر ودا رقم موبايلى 0104146870لو انتى بتحبى المتعه والجنس انا ممكن امتعك اوى اوى ممكن ترنى عليا وانا اطلبك ونتفق"..


أما الأستاذ Sherif Samir فطرح سؤالاً مغايراً.. " ممكن نمارس الجنس ع الموبايل على سبيل التعارف".. ولا يزال الجمهور في انتظار الرد.

الأسبوع الماضي تلقيت طلب بإضافة "بنت الليل"، وقد وافقت.

صورة بعد الثلاثين


إذن، يمكن أن تعبر هذه الصورة عما أتخيله لنفسي بعد الثلاثين.

مفرط في البدانة، أسير بمساعدة عكاز رفيع، يكاد يفقد القدرة على صلب طوله نتيجة الضغط عليه..

أعيش في مدينة أوربية باردة، وحيداً، متعتي الأساسية تتلخص في شراء الوجبات السريعة وقضاء نصف النهار بين طرقات الهايبر ماركت.

أشعر بالبرد، أفقد القدرة على الإهتمام بملابسي، وألجأ لترزي متخصص في ملابس البدناء.. أفقد الاهتمام بالآخرين، الذين سيفقدون هم – بمرور الوقت – اهتمامهم بي.

لا أملك تليفون، ولا لاب توب، تنعدم علاقتي بالأشياء التي شكلت – لفترة طويلة – علاقاتي الأساسية بالعالم.

أبحث عن أصدقاء جدد، في الكنائس المهجورة، ومساجد الجالية الإسلامية، والمراكز الثقافية، والمسارح، والسينمات المتخصصة في عرض الأفلام الكلاسكية.

أبحث عن أشخاص مثلي، قضوا العقود الأولى من حياتهم يفعلون أشياء مميزة – أو هكذا قيل لهم – حتى إذا ما انتهى التميز، جلسوا قليلاً، ونظروا إلى ما فعلوا، فأدركوا أنه لم يكن ما تمنوه تماماً، فقرروا الرحيل.

نقرر الجلوس لسماع الموسيقى، سأصبح وقتها قادراً على امتلاك حس موسيقى خاص، سأصبح متذوقاً للفنون، للجمال، سأضيع ساعة كاملة من نهار السبت أمام لوحة فنان تشكيلي لا يزال يضع فيها اللمسات الأخيرة فيما يجلس وحيداً على الرصيف بانتظار حسنة.. لن أعطيه شيئاً، فقد أصبحت قادراً على فهم أن الفن لا يصنع لأجل مقابل من الآخرين، وأن المجتمع يساعد الفنان حين يحتقر أعماله بقوة، فيصنع هذا الفنان أعمالاً خالدة، يعرفها الناس فور رحيله.

سأتحدث مع أصدقائي بعدة لغات، سأتحدث عن القضايا الكبرى، سأقول وجهة نظر عميقة في نتائج انتخابات الدول الأخرى، وسأتحدث عن الأحوال في مصر وأقول أنه ربما لا يزال الوقت مبكراً للتغيير.

سأعرف أصدقاء آخريين عن طريق البريد، أرسل لهم أخباري، ويرسلون لي بطاقات بريدية ملونة، سنتحدث عن الحب، والجنس، والسياسة والدين، والأيام القديمة التي عشناها ولم نستمتع بها.

سأستمتع بكوني غير مزعج لأي أحد، مجرد بدين عربي في مدينة أوربية صغيرة.. لا يشرب الخمر، لا يقود السيارة بسرعة – فهو لا يملك واحدة، لا يملك وجهة نظر تجاه حكومة البلد التي يعيش فيها، ولا حكومة البلد التي أتى منها يوماً.

........

سأتصل بزوجتي السابقة من كابينة الهاتف بجوار المنزل، سأسمع صوت أبنائي مرة كل أسبوع، في ميعاد ثابت، ولمدة محددة، سأعرف أنهم لا زالوا قادرين عن العيش بدوني لعام آخر، أشكرهم على ذلك، ونتبادل جميعاً الأمنيات الطيبة.

ستخبرني زوجتي – السابقة التي اختارت ألا تتزوج بعدي – أن الأولاد يرغبون في زيارتي الصيف القادم، أقول أنها فكرة غير جيدة، فالأجواء متقلبة، كما أن المدينة هنا خالية من أي أشياء قادرة على صنع البهجة لأطفال لم يتجاوز أكبرهم العاشرة.

سأجعل عنواني معروفاً لعدد قليل من أصدقاء العشرينات، سيزورني بعضهم حين يمرون على المدينة الأوربية التي أسكنها، ستظهر شفقتهم حيال الوضع الذي اخترته لنفسي، سأضحك، وأدخن السجائر معهم، ثم أودعهم عند الباب بأمنيات طيبة، سيسألون عما إذا كنت أحتاج لأي شيء، سأجيب بأني سمعت عن بضعة كتب جديدة في القاهرة، وأحتاج إلى نسخ منها، سيخرج أحدهم ورقة، يكتب أسماء الكتب، ويعدني بارسالها.. وسأندهش بشدة بعد ذلك لأن الكتب ستصلني فعلاً.

سأخبر الجميع أنني قررت كتابة رواية، سيساعدني أحدهم ويجعل مدير أحد المكتبات يحدثني بخصوص نشرها، أقول له أنني لا زلت أحتاج إلى الكثير من الوقت حتى أنتهي من الكتابة، يقول أنه سيعاود الإتصال بي بعد شهر، لكنه لا يفعل.

....

إذن، يمكن أن تعبر هذه الصورة عن حالي بعد سبع سنوات، إذن.. يمكن أن أصبح سعيداً الآن، فلا زلت أملك بعض الوقت، كما أن النهاية غير مزعجة على الإطلاق.

الأحد، نوفمبر 02، 2008

أن أكون باولو كويلو..


على الماسينجر تبدأ الحكاية وتنتهي، لعل هذا يجعلك تطمئن، لا تجاوزات أخلاقية حقيقية، لا أدري من المغفل الذي اعتبر تجاوزتنا الأخلاقية الإفتراضية على الإنترنت غير حقيقية ومأمونة العواقب ولا داعي للقلق منها.. على كل.. أسمع..

الأيقونات المضيئة باللون الأخضر في ماسينجري ازدادت أيقونة جديدة، فتاة في مثل سني وسنك، هي أكبر مني أو أصغر، وأكبر منك أو أصغر، هي تماثلنا، تستخدم الإنترنت، ولا زالت ترى في الماسينجر أداة تستحق الاهتمام والاستخدام.

تسألني : "اسمك باولو كويلهو.. صحيح؟".. أضحك في سري، وأرسل ابتسامة رقيقة :) .. أسألها أنا عن الطريقة التي حصلت بها على عنواني الإليكتروني.. أعتقد أن باولو سيسأل السؤال ذاته إذا أضافته فتاة في مثل سنه على الماسينجر.

قالت أنها حصلت على البريد من مدونتي، بعد أن قرأت روايتي المشهورة الأخيرة، سألتها، أي واحدة، أجابت "11 دقيقة طبعاااااا"، أعترف أنني شخرت في سري، سيسامحني الله بالتأكيد، هناك عذاب أخف بالطبع للمشخر المضطر، وقد كنت مسلوب الإرادة تماماً أمام جملة الفتاة الأخيرة، فجأة أصبحت أنا مؤلف "11 دقيقة" رواية باولو كويلهو الروائي العالمي المعروف، لنرى ما ستفصح عنه نافذة الماسينجر.

السكوت على الماسينجر علامة لأمر من اثنين، الموافقة، أو التجاهل، وقد سكت أنا، وفهمت هي أنني مؤلف الرواية، وهو ما جعل الحديث ينتقل من التمهيد، إلى الفصل الأول والوحيد في الحكاية الإلكترونية المثيرة، مثيرة لأنها مثيرة، ليست مشوقة أو متعددة الأحداث، أحداثها قليلة، وكلها تتعلق بالـ"11 دقيقة" التي لم أكتبها.

قرأت الرواية المذكورة بعد أن اشتريتها نتيجة منع بيعها في معرض لبيع كتب باولو كويلهو في جامعة القاهرة التي زارها الروائي منذ سنوات، فهمت أن الرواية مهمة، أو أنها تستحق القراءة، وقد قرأتها مرة واحدة، وكتبت عنها تدوينة في مدونتي، التي زينت يمينها بعنواني الإليكتروني.

بشكل ما يمكن أن يجعلني جوجل مؤلف الرواية، تماما كما يجعل كلمة "روايات جنسية" هي الكلمة الأكثر استخداماً لزوار مدونتي، فزوار الصفحة للمرة الأولى يأتون عادة عبر كتابة تلك الكلمة في مستطيل البحث في صفحة جوجل الرئيسية البيضاء.

إذن. من الممكن أن يستمر هذا الحوار للأبد، فتاة، تعتقد أنني باولو كويلهو، ومعجبة بروايتي الجنسية الشهيرة، وتريدني أن أرسل لها نسخة (لو تكرمت)، وتستأذني في أن تناقش معي بعض أفكار الرواية (إذا سمحت وكان عندك وقت).. وقد أجبت على كل الطلبات السابقة بالإيجاب، ولاحظت أنها تعطيني صندوقاً بريدياً في السعودية، وهو ما أعطى للحكاية سخونة ملاءمة.

كل ما سبق يجعلني متحمساً لاستكمال "الحوار"، قلت، كيف تكوني سعودية وتقرأي رواية فاضحة مثل روايتي الأخيرة، قالت "ومن أخبرك بأن السعوديات لا يقرأن الروايات الجنسية؟"، أخبرتها أن معلوماتي السطحية تجعلني أفهم أن السعوديات لا يمارسن الجنس أصلاً، أو هكذا يروج الإعلام لهن..

أخبرتها أنني مرة كنت في الرياض، من سنوات خمسة، وكنت أعمل وقتها بائعاً للكتب في المعارض، وخصصت إدارة المعرض يوم للنساء فقط، حيث كانت الأيام كلها للرجال دونهن، وفرحت بهذا الخبر، معنى هذا أن مبيعات كتب الأطفال التي أبيعها ستزيد، فالنساء أكثر اهتماماً بكتب الأطفال والتربية، كما أن "شهوة" الشراء عندهن أكبر، أو هكذا كان أبي يقول.. أخبرت أحد العاملين في دار نشر سعودية بهذا الكلام في اليوم السابق ليوم النساء، قال في حزم "أسمع.. في المرة القادمة استخدم كلمة أفضل من شهوة.. نساءنا بلا شهوة يا صديق"..

ضحكت، أرسلت أيقونة حديثة في الماسينجر لأمرأة ناضجة تضحك وتحرك قدميها في الهواء، أثارني رد الفعل، واستمر الحوار، بدا أنها على استعداد للحكي.. قالت أنها لازالت طالبة، وغير متزوجة بالطبع، لكن هذا لا يمنع أنها مارست الجنس مرات من قبل.

كان لابد هنا أن أخمن أن زميلي في صالة التحرير هو الذي يحدثني، الفتاة تدخل مداخل جنسية مألوفة، كأنها تراودني عن نفسي إليكترونياً، فكرت في طريقة للتأكد من هويتها، سحبت إيميلها، وضعته في مستطيل البحث على جوجل، لم أجد شيئاً، أكد هذا شكوكي، كررت البحث في مستطيل الفيس بوك، وجاءت النتيجة، سعودية هي، وجميلة، ولها اسم وأخوة وأب وأم وأبناء عمومة، وفي مثل سني وسنك..

استمر الحديث حتى حانت لحظة مناسبة، فألقيت إليها باسمها الحقيقي، نسيت أن أخبرك أن الحوار أمتد منذ البداية وهي تخبرني أن اسمها "هيفاء"، وهو ما جعلني أتورط أكثر، لم تسألني عن الطريقة التي حصلت بها على الإسم، ضحكت، وقالت أن روائي مشهور مثلي هو شخص مأمون العواقب، لن يلجأ لاي تصرفات صبيانية..

بالفعل لم ألجأ، بل استخدمت رجولتي الإليكترونية كلها، لاسألها بفضول شديد اعتذرت عنه مقدماً عن تفاصيل علاقتها الجنسية السابقة، حيث أني أدرس حالياً كتابة رواية جديدة وأفتقد لبعض الخيال.

أخبرتني بأن لها صديق ما، زارته في شقته مرات، ومارسا سوياً الجنس في حدود بقاؤها عذراء، سألت "هل هذا متاح عندكم؟".. حاولت الإجابة عن السؤال الذي بدا فلسفياً، لكنها اختارت في النهاية أن تخبرني ببعض التفاصيل بخصوص العلاقة بينها وبين صديقها.

لا حياء مع كتاب الروايات الجنسية، أخبرتي بالتفاصيل كما حدثت أو أكثر قليلاً، مستخدمة في ذلك الألفاظ المناسبة، وهي للمصادفة ذاتها الألفاظ التي يمكن أن تسمع مشتقاتها في حديث منفعل بين سائقي ميكروباصات بولاق الدكرور وناهيا والكوبري الخشب.

سألت هيفاء، وكنت لازلت أفضل تسميتها بهذا الاسم، عن مصدر معرفتها بهذه الألفاظ، قالت أن الوطن العربي وإن تعددت لهجاته تبقى أسماء وألفاظ العملية الجنسية واحدة، وهو أمر توحد فيه العرب منذ القرون الأولى.. أضفت هذه المعلومة عندي وقررت استخدامها يوماً في بحث حقيقي في المسألة.

فيما كانت هيفاء تحكي، استلمت منها بعض الروابط، لأفلام جنسية نصف إباحية، حاولت أن تشرح لي التفاصيل بأكبر قدر من الدقة، قالت أنها مهمة بالنسبة لكاتب روايات جنسية متخصص مثلي، وقد تلقيت الروابط باهتمام، حيث كنت مسافراً وقتها، وكان الحديث يتم عبر جهازي المحمول الذي يسمح بتصفح الانترنت دون قيود رقابية من شركاء الشبكة.

كل الروابط من "YOUTUBE"، عناوين خادعة، عن الانتخابات الأمريكية مرة، أو اسماء أغاني أجنبية، أو حتى كلمات غير مفهومة، أخبرتني أن أي عناوين جنسية مباشرة يتم حجبها في السعودية، تأكدت من قدرة البني آدم الفرض على تجاوز أي قمع من أي نوع، حتى إن كان من جهة هيئة المعروف.

عرضت هيفاء بشكل صريح الإنتقال مباشرة من الماسينجر إلى الهاتف، متجاوزين بذلك مرحلة الكاميرا المنزلية المهمة، وعارضت أنا فكرة الانتقال لما في ذلك من تكلفة لا أعتقد أنني مستعد لتحملها نظير متعة لا أرغب بها في الوقت الحالي على الأقل.

غابت أيام، وعادت قبل رمضان، في ليلة من الليالي التي كنت أجلس فيها وحيداً في غرفة المونتاج بجوار مهام عديدة في انتظار من ينجزها، إلا أن الملل والتعب يكونان قد أنهكاني بحيث ألجأ للماسينجر علي أجد عليه ونيس غير زملاء العمل.

وجدتها، ألقيت تحية المساء، أخبرتني أن "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، فهمت أن الأمور قد دنت من نهايتها، وأن القصة على وشك العثور على نهاية ملاءمة، وأخبرتني هي بأنها ذهبت للعمرة، وتابت إلى الله توبة نصوح، وسألتني عن معنى كلمة نصوح، فلم أخبرها لأني كنت غير متأكد من المعنى الذي أعرفه، وقالت أنها قامت قامت بعمل بلوك لكل الأشخاص الذين كلمتهم يوماً على الماسينجر، ولا تدري كيف بقيت أنا دون بلوك، أخبرتها أنني أحدثها من بريد آخر غير بريدي، وأنني أنشأت هذا العنوان لأحدثها وحدها، حيث أصبحت خائفاً من أن تعثر زوجتي على محادثة معها تنهي قصة زواج بدأ منذ شهور ولا أرغب في أن ينتهي الآن.

أخبرتها بأنني كنت أرغب في سماع المزيد من الحكايات عنها وعن صديقها لأني سأكتب يوماً رواية عن لقاءتهما السرية، قالت أن الحكي في مثل هذه الموضوعات حرام، وأنها أخيراً عرفت الطريق إلى الله وإن كانت تشكرني على اهتمامي بتفاصيل حكايتها، فقد كانت تتوقع أن يتجاهلها أديب ومؤلف مشهور مثلي يردد أسمه الملايين ويقرأ له العالم كله.

أيقنت أن الوقت مناسب للاعتراف بأني لست باولو كويلو، لكن المحادثة انتهت بشكل أسرع، وفكرت أنني لست في حاجة للاعتراف بأمر لم أرتكبه، فلست أنا من قال أنني باولو، هي اعتقدت ذلك واقتنعت به، ولازالت. كما أنها لن تصبح فخورة بالتأكيد بأن أسرارها الجنسية الكبيرة كانت تفشى لبريد مدون بدين من القاهرة اسمه البراء أشرف.

لا تزال هيفاء تسكن ماسينجري، لم تعد تظهر عليه ولا على بريدي السري الذي لا يعرفه غيرها، ربما عرفت الطريق إلى الله فعلاً، ونسيت ما كانت تبوح به هنا، لا زالت صورتها موجودة على الفيس بوك دون حجاب، لعلها نسيت..

تلقيت صباح اليوم رسالة جديدة منها على بريدي، تلومني على عدم إرسال نسخة من روايتي الشهيرة "11 دقيقة"، وقالت أنها لا زالت تتمنى أن تضع نسخة موقعة مني في مكتبتها الخاصة، أرسلت أقول أن الطبعة الخامسة عشر لا تزال في المطبعة، وأني أنتظر خروجها لأرسلها لها نسختين أو ثلاثة وليس فقط واحدة، وأني غاضب جداً من ناشري لأنه تأخر في نشر طبعة جديدة..

وضعت توقيعي الجديد : باولو كويلو، روائي، وشعرت أنه من الجيد أن أصبح شخصاً مشهوراً.

الأربعاء، أكتوبر 29، 2008

قريطم

"فين عائله قريطم بالبحيرة منها جلال قريطم من الضباط الاحرار ووزير الشباب والرياضه فى عهد عبد الناصر والاستاذ الدكتور ممدوح قريطم استاذ المساللك بطب اسكندريه ويوسف قريطم استاذ بطب اسكندريه وغيرهم كثر فى كافه الفروع والمجالات ولايفوتنى ان عائله الحريرى تسكن فى حى قريطم فى لبنان حيث ان عائله قريطم تمتد فى مصر البحيره ومنها اصجاب وملاك شاى الجوهرة وشيسى مصراوى وعضو مجلس الشعب السابقين ممدوح قريطم وحمدى قريطم وفى اسكندريه والقاهرة والشرقيه والصعيد سوهاج وفى لبنان وسوريا والمغرب الخ"...




*تعليق على صفحة "عائلات البلد" بموقع جريدة "اليوم السابع"..

الأربعاء، أكتوبر 22، 2008

أشياء تستحق الاهتمام..

حدثت صباح اليوم بضعة أشياء تستحق الإهتمام..

صحوت وأنا* أشعر براحة كبيرة، رغم أني مارست الجنس مسائاً بشراهة لم أعتادها.. تلك أيضاً ملحوظة التفت لها وأنا أغتسل.. فكرت أني لم أمارس الجنس بهذه الطريقة من قبل، وتأكدت من أني لم أتناول بالأمس شيئاً قادر على منحي مزيد من القوة.

اغتسلت هذا الصباح، وقفت تحت الماء مدة أطول، شعرت أني أتطهر.. لكن ما شغلني أكثر، هو أني أصبحت متأكداً من أن الأشياء السيئة التي فعلتها في حياتي لا تلزم التطهر، ذنوبي عادية ومتوقعة، سهلة وبسيطة، ومركزة في النهاية على شخصي فقط، لم أظلم أحد سوى نفسي، ولم يغضب مني أحد إلا الله، وهو وحده القادر على الرحمة.

نزلت وأنا أشعر بأني أقرب إلى الله، رغم أني نسيت صلاة الصبح، ألقيت التحية على الرجل الجالس بجوار البوابة، لا أعرفه، ولا أهتم معرفته، فكرت أنني أملك الشجاعة، بحيث أجلس إلى جواره، وأحكي له عن نفسي حكايات طويلة، ثم أتركه وأذهب، على وعد منه أني عندما أعود في المساء، سيكون قد اختفى تماماً.

أصبحت الأشياء تحدث دون أن أعرف لها سبباً، أصبحت الأمور كلها غريبة بالنسبة لي، مشاعري، أفكاري، تصرفاتي، حتى عاطفتي تجاه أصدقاء الثانوي التي تجددت وحدها، لا أعرف لها سبباً.

أسير بالسيارة الأن، أشعر بشفقة كبيرة تجاه الأشخاص الواقفون بانتظار المواصلات، أتمنى الآن أن يصبح الناس كلهم سواسية فيما يملكون، أن نملك جميعاً نفس ماركة السيارة، أن نسكن في منازل متشابهة، أن نتزوج سيدات على قدر واحد من الجمال.. أفكر أنني وإن كنت أريد ذلك فعلاً، فسأختار أن تكون السيارة الموحدة هي سيارتي، والزوجة هي زوجتي، يبدو أنني أصبحت فجأة راضي تماماً عن حياتي، بحيث أعتقد أنها مثالية، وصالحة للجميع.

في العمل قررت أنه من المناسب أن يبدأ اليوم بمصالحة الجميع، هؤلاء الذين يغضبونني دون داعي، موظف الحسابات، ومسئول التقنية، والسكرتيرة المتكلفة، أكثر ما يغضبني من هؤلاء الذين يخاصمونني، أن مصالحتهم سهلة، يشعرني ذلك بأني دائماً على صواب، لم أخاصم يوماً خصماً عنيداً، لم يواجهني أحدهم بأنه لن يمنحني المغفرة، لم يعاندني مرة واحد واجهني بعيوبي حتى بكيت.. لا أحد.

صحوت اليوم.. أشعر بالراحة، وبالقرب من الله، وبالرغبة في مصالحة الآخرين، وبالشفقة على هؤلاء الذين يقفون تحت الشمس في انتظار المايكروباص.. أفكر أنني بدأت أفهم الحياة.. وأفكر أنني قد مت بالأمس.. فالحياة الملساء تلك.. توجد في الجنة.. وفي القبر.

أفكر أنني أصبحت الآن متأكداً أن وعكة ما أصابتني، وأنه من المفيد أن أصحو في الغد، وداخلي مشاعر عادية تماماً، كالتعب، والاستعجال، والرغبة في دهس هؤلاء الذين يمرون الشارع بمؤخراتهم دون أن يكلفوا أنفسهم عناء النظر إلى القادم من الخلف، والقناعة التامة بأن الحياة ستصبح أفضل دون سكرتيرة مبهرجة أو موظف تقنية..

------------------------------------
* ليس للأحداث علاقة بصاحب المدونة

السبت، سبتمبر 13، 2008

I AVEO

الأربعاء، سبتمبر 10، 2008

وكأني تامر حسني.


أفشل كل صباح في الإنسحاب من فراشي دون ازعاج مليكة، فوراً تكتشف أنني أخطط للخروج من المنزل، تفتح عيونها الصغيرة، وتكشف عن "لثة" دون أسنان، وتنطلق في الضحك مرسلة إشارات غير مفهومة بكفيها، وأصوات طفولية لذيذة.

تتباعني عيون مليكة، من السرير إلى خارج الغرفة، ومن باب الحمام إلى ضلفة الدولاب، تراقبني عارياً تماماً بالفوطة، وتدقق النظر حين أبدأ بفرك الجيل في شعري، أو ارتداء الشراب الأبيض الذي أحبه.

مليكة، حين تصحو وتنظر إلي، تشعرني وكأني تامر حسني، وكأنها معجبة مهووسة على استعداد لفعل أي شيء للمس نجمها وتقبيله واحتضانه.

ما يخيفني حقاً، أنه بمرور الوقت، فإن قواي كلها ستخور فجأة، وسأمتنع عن مفارقة الفراش، أو النزول من البيت أصلاً، فالبقاء مع هذه الأميرة الصغيرة، أمر يستحق.

الاثنين، أغسطس 25، 2008

شانل تو©

مررت اليوم أمام مكتبة "الجهاد الإسلامي"..

أنت لا تعرفها، هي هناك في قنا، أو لمراعاة القواعد النحوية واللغوية، هي "هنا" في قنا.. فأنا "هناك" الآن..

تعال أنت، واسأل أي طفل صغير عنها، وسيدلك على مكانها بمنتهى البساطة، فهي – للمفارقة – بجوار مبنى مديرية الأمن، وبابها يسبق باب مكتب أمن الدولة..

مررت اليوم هناك.. وتذكرت سعاد.. رغم أني لم أكن بحاجة إلى ذلك.

وسعاد، إن كنت لا تعرفها، هي زميلتي في سنة أولى كلية، والتي قضيتها كلها في قنا متوهماً أنني طالب مواظب على دروسه وتعليمه، وقد كنت كذلك بالفعل، حتى أني قبل نهاية العام بقليل حصلت على جائزة الطالب المثالي من مجلس الكلية، وفي نهاية العام نفسه، رسبت في ثلاث مواد تسببن في بقائي طالباً بالصف الأول، إلا أن سعاد نجحت وقتها بامتياز وصعدت للصف الثاني.. وانتهت صداقتنا!

ما العلاقة إذن بين مكتبة الجهاد وسعاد؟؟

لا علاقة على الإطلاق، فقط كانت المكتبة هي المكان الوحيد الذي تباع فيه المصاحف بـ"قنا"، وقد اشتريت من هناك واحداً بعد أن طلبت مني سعاد شراء مصحف والبدء في حفظ القرآن معها.

ففي نهاية العام، كان اضحاً أن ثمة تغييرات طرأت على صديقتي، فهي للمرة الأولى مسكت موبايلاً غير موبايلي، حيث استلمت أخيراً مكافأة التفوق من إدارة الكلية، وأكملت عليها مائة جنيه لتشتري جهاز مستعمل إلا أن حالته كانت لا تزال جيدة.. بحيث يمكنها من إرسال الرسائل واستقبال المكالمات والاستفسار عن الرصيد كل قليل متظاهرة بأنها تجري مكالمة مهمة مع صديقة لها قصدتها في خدمة.

كما أنها أخبرتني على الهاتف الأرضي، فقد كان طبيعي أن يكون هناك هاتفاً أرضياً بمنزلها، ما لم يكن طبيعياً هو أن يكون هناك هاتف في شقة الطلبة التي سكنت بها في قنا طوال عامي الأول، والحقيقة أنه لم يكن هناك هاتف، فقد استعنت بأحد أصدقائي الموهوبين، بحيث استطاع سرقة خط الشقة المجاورة، والتي كان سكانها مسافرين في زيارة دائمة للقاهرة..

أخبرتني سعاد على ذلك الهاتف، أن أبوها تمكن أخيراً من قبض الجمعية التي دخلها مع زملاءه في شركة المهندس للتأمين، وستذهب معه مساء الجمعة لشراء "دش" كامل، بطبق صغير نسبياً، كما أنه – أبوها - أحضر مساء الخميس كهربائي متخصص، أعاد تشغيل التليفزيون القديم مع تركيب ريموت كونترول جديد له، وقد توقف الريموت عن العمل مساء الأحد التالي، وذهب والد سعاد للخناق مع الكهربائي، الذي أكتفى برد 10 جنيهات من ثمن الريموت، ولعن اليوم الذي دخل فيه بيت أبو سعاد، رغم أنها أخبرتني في مكالمة تالية، أنه كان ينظر لها نظرات لها معنى واضح، مبدياً إعجابه بأناقتها، حيث ارتدت في ذلك اليوم "جيبة" أختها المتزوجة، والتي كانت تكشف عن ساقيها حتى منظقة ما بعد "السمانة".

شهر كامل أتى بعد ذلك، وأنا أسمع من سعاد حكايات لا تنتهي عن القناة الثانية، والتي تصر على تسميتها "شانل تو" رغم انجليزيتها المكسرة (شأن إنجليزيتنا جميعاً)..

كانت معلوماتي عن القناة الثانية تقتصر على الفيلم الأمريكي الذي تتم إذاعته مساء كل جمعة، وبعض برامج المنوعات التي شاهدت عليها للمرة الأولى أغنية فيلم تيتانيك، التي سحرتني كلياً رغم عجزي عن فهم كلمة واحدة، حيث أني لم أحاول أصلاً.

أخبرتني سعاد بقصص أفلام "شانل تو" كلها، "الآخرون"، و"السرعة"، و"اقتل الجرس" و"المهمة المستحيلة".. وهي أفلام عرفت بعد ذلك أنها نفسها "The Others" و"Speed" و"Kill Bill".. وللأسف ضاعت مني نمرة سعاد لفترة، بحيث لم أستطع أن أخبرها أن "Bill" ليس بجرس، بل هو بني آدم طبيعي مثلي ومثلها، لكنه شرير بعض الشيء.. بحيث يريد الآخرون قتله.. لكن بالتأكيد أن أحدهم أخبرها، فمن الصعب على فتاة مثل سعاد أن تعيش حياتها وهي مقتنعة بأن "Bill" مجرد جرس.

كانت سعاد مصرة على أن صديقي "علي" يشبه الممثلة الأمريكية المعروفة "نيكولاس كيدج"، ولأني لا اعرف من ممثلات أمريكا غير جوليا روبرتس وراشيل كوري ومادلين أولبرايت، فقد أخبرني "علي" في لحظة صراحة أن نيكولاس راجل ملو هدومه، وبالطبع لم أصدقه، فكيف تكذب سعاد ولديها في البيت "شانل تو"..

ذات مرة، عشت مع سعاد تجربة فريدة، كان ذلك مساء الثلاثاء، وهو ذاته اليوم الذي يسهر فيه والدها في العمل لساعة متأخرة، وهو أيضاً موعد مكالمتنا الليلية الوحيدة في الأسبوع، لكن سعاد كانت مرتبطة وقتها بمشاهدة فيلم مهم على "شانل تو"، لم أعرف اسمه حتى الآن، أعرف فقط أنه "مهم".. وهي عادة علمتها لي سعاد، فلا يوجد فيلم "حلو" وفيلم "وحش".. الفيلم إما "مهم".. أو أن يكون غير ذلك.

وقد اقترحت على سعاد أن تجمع بين الحسنيين، تشاهد الفيلم، وتحكيه لي في الوقت نفسه، وسأبقى أنا على السماعة أسمع صوت الفيلم من ناحية، وصوت سعاد من ناحية أخرى.. وبذلك تكون هي شاهدت فيلمها، وأكون أنا استمتعت بالمكالمة.

كان عندي أمل بسيط في أن تمر قبلة سريعة أو مشهد رومانسي خلال الفيلم المهم، بحيث استغل الفرصة واقترب أكثر من سعاد وأصارحها بحبي لها، الذي هو في الحقيقة لم يكن أكثر من مجرد رغبة في ممارسة الجنس عبر الهاتف بأي شكل ومع أي شخص، بعد أن قرأت عنه في مجلة "الشبكة"، خلال خبر قصير عن اكتشاف شبكة دعارة تقدم خدمة الجنس عبر الهاتف.. وكانت الشبكة تباع وقتها في مدخل محظة القطار، كما أنها كانت أول شيء أشتريه عند وصولي قنا قادماً من بيت أبي في القاهرة، وهو بيت لا تدخله سوى مجلة "الوعي الإسلامي" و"العربي" و"الأزهر الشريف".

لكن الفيلم كان من نوع الأكشن السياسي، وهو نوع اخترعته بنفسي، فالمشاهد التي يتضمنها الفيلم إما قتال عنيف، أو نقاش عنيف، وبالطبع فإن العنف لم يكن بأي حال من الأحوال يصلح كمدخل للجنس الهاتفي، فلا أنا ولا سعاد كنا نفضل الطرق السادية وقتها، (أخبرتني بهذا بعد ذلك، بعد أن اشترت جهاز كومبيوتر ودخلت على النت وشاهدت مواقع إباحية عديدة، وكان أبوها قد فكر في مشروع الكومبيوتر بعد أن شاهد إعلاناً على شانل تو يفيد بأن جدول الأفلام متاح على موقع القناة على الإنترنت)..

مر الشهر الأول لشانل تو، وبدأت أسمع كلمات أخرى باعتبارها أسماء قنوات، منها mbc التي هي في الحقيقة "شانل وان".. أيضاً طلبت منها مرة أن تسمعني صوت "الجزيرة" فقد كان هذا هو اسم المحطة الوحيد الذي أعرفه، وقد طلبت منها ذلك باهتمام، مؤكداً أن أبي محافظ لدرجة أنه عندما ركب الدش في بيتنا بمصر (القاهرة) حذف كل القنوات وترك الجزيرة لأنها مهمة ومفيدة وبتتكلم في السياسة وبتشتم حسني مبارك وعمرو موسى وشعبان عبد الرحيم.

والحقيقة أن أبي كان يرفض مسألة الدش بالكامل، حتى رضخ أخيراً لرغبة أمي بشراءه، وكانت رغبة أمي تلك هي الشيء المشترك الوحيد الذي يجمعها بسعاد..رغم أن أمي لا تعرف شيئاً عن شانل تو.. كما أنها تعرف أن "Bill" ليس بجرس.

كانت أمي تريد الدش لمشاهدة "عمرو خالد" على شانل إقرأ.. وكذلك فعلت سعاد، فبعد شهر ونصف، اكتشفنا سوياً اقرأ، وقد كنت معها على الهاتف، وسمعت صوت الشيخ عمرو خالد للمرة الأولى، وبمرور الوقت، بدأنا نسمعه سوياً، أو بمعنى أدق، تسمعه سعاد، وأسرح أنا على الهاتف، مركزاً كل فترة، لعله يتحدث عن "أداب ليلة الزفاف" أو "النكاح في الإسلام" فهي مداخل مناسبة لفكرة الجنس الهاتفي التي كانت لا تزال مسيطرة على عقلي.

كما أن خطب الجمعة التي كنت أحضرها في المسجد كانت عادة تتناول مثل هذه الموضوعات، وقد كانت وقتها وسيلة جميلة بالنسبة لشاب مثلي يطلق لخياله العنان، مفكراً فيما يقوله الشيخ، ومستغرباً أنهم وجودوا مرة بعد الصلاة شاب يكبرني قليلاً يتأوه وهو يمارس العادة السرية في حمام المسجد.

أنا نفسي فكرت في فعل ما فعله ذلك المراهق، خاصة بعد خطبة حضرتها حكى فيها الشيخ قصة، عن زوج كتب لوحة وعلقها في صالة بيته، مكتوب عليها إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه، محاولاً لفت نظر زوجته إلى أنها غير مهتمة بنظافة البيت، فما كان من الزوجة إلا أن خلعت اللوحة، وعلقتها على سريرهما، في إشارة إلى أن الزوج لا يرضي زوجته على السرير.. وكم كانت فكرة الزوجة المحرومة مثيرة بالنسبة لشاب مثلي..

أما الشيخ عمرو، فهو لا يفعل مثل شيوخ المسجد، ويخذلني في كل حلقة، حتى أني بدأت اسأل سعاد عن إن كانت اقرأ تعرض برامج للشيخ علي الطويل، أو سعيد المستكاوي، وهم من أشهر شيوخ منطقتنا، إلا أنها أجابت بالنفي.

بدأت ألاحظ أن سعاد لا تسميه "الشيخ"، فقد قال هو في إحدى حلقاته أنه لا شيخ ولا مفتي، بل هو داعية، وقالت لي أنهم يكتبون اسمه على الشاشة مسبوقاً بكلمة "الأستاذ".. وبدلاً من أن تناديه بكلمة "أستاذ" أو "داعية" أو "شيخ".. أكتفت باسمه الأول "عمرو" لتصبح جملتها على الهاتف معتادة "شششش ششش عمرو بدأ".

الإيشارب القصير الذي كان يغطي نصف شعر سعاد، والتي كانت تقضي نصف يومها في جذبه على شعرها من الوراء إلى الأمام، حيث اعتاد الإيشارب الانسدال وحده للخلف، كاشفاً عن صبغتها الكستنائية التي كانت تثيرني، ذلك الإيشارب اختفي فجأة، وعرفت سعاد طريقها إلى الخمار الطويل، وقابلتني في الجامعة قبل الامتحانات.. وسألتني أن اشتري مصحفين من مكتبة الجهاد، واقترحت أن نحفظ القرآن في الأجازة.

وفي مساء اليوم ذاته، وكان يوم الأربعاء، أول مايو، أجازة عيد العمال، اتصلت سعاد بي، طالبة تخفيض عدد المصاحف من اثنين إلى واحد، حيث وجدت هي مصحفاً جيداً في المنزل، بحجم مناسب بحيث تستوعبه حقيبة يدها، كما أن به رسوماً عثمانية كثيرة، لذا "اشتري أنت مصحف عشانك، وهبقى آخد منك الخمسة جنيه بتاعتي اللي كنت هتجيب بيها مصحفي أول يوم امتحانات.. ششش ششش عمر بدأ"..

بشكل ما انقطعت علاقتي بسعاد..

لكن.. كيف وصل الحال بنا إلى الوضع الحالي، وكيف أخبرتني أنها لا تفضل السادية في الجنس وإن كانت لا تمانع في تجربتها مرتين ثلاثة.. أنا أخبرك.. إن لم تكن علمت من سعاد..

لمشاهدة كأس العالم، طلب أخوها من أبوها تركيب طبق أكبر يسمح بالتقاط اشارات الـ"هوت بيرد"، أو الطائر الساخن، وقد حدث، وتزامن مع أجازة طويلة لـ"عمرو" من شانل اقرأ..

وعلى الطائر الساخن شاهدت سعاد قناة "الجنس في المنزل" وحلقات "الجنس والمدينة" واتصلت بي في القاهرة، لنبدأ رحلة طويلة من الكلام على التليفون باستخدام كروت "مفتاح الزيرو"، والتي تكفي بالكاد لنا بممارسة مرتين تلاتة من الجنس الهاتفي الممتع، أحدها على الأقل تنتمي للنوع السادي المؤلم، وهو نوع أصبحت أفضله أنا وسعاد، بعد أن طلبت من أبي مشاهدة كأس العالم على التليفزيون، رغم أني.. "مليش في الكورة"..

ورغم أني امتنعت وقتها عن شراء "الشبكة" فقد عرفت الطريق إلى موقعها "المجاني" على الإنترنت ومواقع أخرى عديدة، ورغم أني زرت قنا بعدها مرات عديدة، وفي كل مرة كانت الفرصة متاحة لتحويل ما يجري على الهاتف بيني وبين سعاد إلى واقع ملموس ومحسوس، رغم ذلك، بقيت علاقتي مع سعاد مقتصرة على الهاتف، سواء على الخط الأرضي و"مفتاح الزيرو" أو حتى دقيقتين ثلاثة على الموبايل، فقد كنا نفهم الغرض من المكالمة من توقيتها ومن اللحظة الأولى لفتح الخط..

اليوم، وأثناء مروري أمام "مكتبة الجهاد الإسلامي"، تذكرت سعاد.. رغم أني لم أكن في حاجة إلى فعل ذلك، فقد غادرت منزلها منذ لحظات، حيث رقصت ومرحت وضحكت.. فالليلة فرح سعاد، على جارها، والذي يعمل والده كهربائي، كان قد صلح لأبوها التليفزيون منذ سنوات، مبدياً إعجابه بشياكة بنته.. التي هي سعاد.

قنا
11-1-2008

الأحد، أغسطس 10، 2008

الأربعاء، يوليو 16، 2008

للذين يفضلونه افتراضياً..

عن مواقع القاعدة على الإنترنت واستخدام تنظيم القاعدة الإعلامي والتنظيمي لشبكة المعلومات، تشاهدون الليلة ( الخميس) على شاشة قناة الجزيرة فيلم تحقيقي جديد يحمل اسم "مجاهدون افتراضيون".

الفيلم مدته 52 دقيقة، وتم تصويره في مصر والأردن وعاصمة عربية أخرى دون ذكر اسمها، وهو إخراج مشترك لـ"أحمد زين" و"البراء أشرف".

يظهر في الفيلم عدد من الضيوف، منهم الباحث ضياء رشوان، والباحث عبد الله الطحاوي، والصحفي إيهاب الزلاقي والمحلل عبد الرحيم علي.

أما من خارج مصر فنجد "مشعان الجبوري" مالك قناة الزوراء الفضائية التي تم إغلاقها بتهمة بثها لأفلام من انتاج شركة السحاب التابعة للقاعدة.. كذلك الأستاذ أيمن جاب الله نائب رئيس تحرير قناة الجزيرة، بالإضافة إلى عدد من الضيوف الأوربيين، وكذلك نائب وزير الداخلية المصري لشئون الإنترنت والمعلومات.

الفيلم على كل حال وجبة تحقيقية خفيفة وساخنة، والدعوة مفتوحة للجميع للمشاهدة على شاشة الجزيرة مساء اليوم الخميس، في الثامنة مسائا بتوقيت القاهرة ومكة المكرمة، وكذلك باب الآراء والتعليقات مفتوووووح هنا في المدونة لاستقبالها..

الاثنين، يوليو 14، 2008

صرت كبيراً.



سأصير كبيراً فجأة، سأفيق يوماً، لأكتشف أنني أصبحت في عمر الناس العادية.

لدي نظريتي الخاصة، أشعر، أنني أصغر من الجميع، جئت مبكراً عن كل الناس، فطنت للبديهيات بسرعة، فكنت الصغر سناً والأكبر حجماً، وكان سؤال "تديني كام سنة؟" يعطيني لذة مدهشة، أمام النظرات الحائرة، والإجابات الخاطئة من نوع.. "أواخر العشرينات"، "أكيد 30"، "25"، أو أسئلة استيضاحية – كوسائل مساعدة – من نوع "أنت أكبر أخواتك طيب؟"، "لو قلتلي برجك إيه أقولك على طول كام سنة"، "أنت أكيد شكلك مش بيدي نفس سنك، قولي، الناس عادة بتفتكرك أكبر ولا أصغر؟"..

أشعر أيضاً، كأن الكبار كلهم من مواليد عام واحد، كلهم متماثلين في السن والعمر وساعة الولادة وربما اسم الأب والأم، لدي عنصرية تجاه الكبار جميعاً، وأحاول حالياً – بصدق غريب – أن أعالج نفسي بنفسي، ولا أظنني سأنجح.

كذلك، أشعر أن الصغار كلهم أخوتي، كلنا ولدنا في شهر 8 من عام 1985 في ساعة متأخرة من الليل.. أما الصغار الذين أكرههم، فإن عنصريتي تساعدني على الاعتقاد بأنهم ولدوا في وقت مبكر، قبل العام المقدس 85، وأنهم ينتمون إلى الكبار أكثر من انتمائهم إلى جيلي أنا.. جيل الصغار، الذين سيظلون صغاراً إلى الأبد، دون تأثر من عوامل التعرية والتغطية الزمنية.

لكني هذه الأيام، ومع اقتراب احتفالي بعيد ميلادي رقم 23، بدأت أفقد بعض الاعتزاز بعام مولدي، وبدأت، أشعر بنفسي اقترب رويداً من جيل أكبر، أفعل أفعالهم، وأفكر بأفكارهم، وأقول كلماتهم، وأجلس في أماكنهم.

فقد كان الإعتقاد الثابت عندي، أنني مجرد لص صغير، نصاب هاو غير محترف، يجيد تمثيل دور الأكبر منه سناً، ويحقق بذلك بعض المكاسب الصغيرة التي لن تضر أحداً كان، كان ليناردوا دي كابريو في "Catch Me If You Can" يمثل لي قدوة ما، سرقات عديدة، ومكاسب ضخمة، ثم ينتهي كل شيء فجأة، بالقبض عليه، وهو لا يزال تحت السن القانوني الذي يسمح بمعاقبته كراشد على جرائمه غير المؤذية.

الشيء الوحيد السيء في قصة بطل الفيلم، هو أنه – وبعد فترة طويلة من المرح – يصبح رجلاً كبيراً فجأة، ويتحول إلى مستشار للشرطة في مسائل التزوير التي طالما برع فيها.. وهو أمر مزعج للصغار، إن كان الكبار لا يعلمون.

كنت أشعر، أنني كسارق صغير علي أن أتوخى الحذر، فسيتم طردي في لحظة، وسيأتي أحد الكبار، ويخبرني بغطرسة لا متناهية، أن المكان الذي أشغله يخصه، وأنني تطاولت بما يكفي، وشغلت حيز من الفراغ لا يخصني.

كان هذا القلق، يمنحني قدراً ما من التميز ربما، كان الخوف، يدفعني للإسراف في التركيز، والإفراط في الدأب، والتعمق في الأمور العادية التي لا تحتاج.

سأفقد كل هذا، فسأكبر فجأة، سأصحو ذات يوم لأكتشف أن عمري أصبح 30، وأن هناك سنوات سبع من عمري، سيتم سرقتها، بحق السرقات التي قمت بها صغيراً، ولم يعاقبني عليها أحد.

بدأ القلق يختفي الآن، بدأت أدرك أن المكان الذي أشغله هو مكاني بالفعل، أن الحيز هذا حيزي، وأن الأفعال أفعالي، والأقوال لا تخص أحد غيري، والأماكن بدأت تنتمي إلي، وأنتمي إليها، أصبحت فجأة أملك الأماكن، وأوقع الأوراق، وأستقبل أسئلة الصغار، التي كنت أطرحها يوماً على الكبار، بحثاً عن نصيحة، أو فرصة، أو رغبة في صناعة علاقة مع كبير ما، استحسنته، بحيث ظننت أنه من مواليد 85، فيما كان هو ليس كذلك.

الجمعة، يوليو 11، 2008

ليل - خارجي




الأشقياء فقط، والأتقياء أيضاً، يعرفون معنى قضاء ليلة خميس في وحدة خلف شاشة كومبيوتر في محاولة لكتابة أي شيء بدون هدف.

الأشقياء فقط، والأتقياء أيضاً، يترقبون ليلة الخميس من الأسبوع إلى الأسبوع، ويعلنون صباح كل جمعة، أن لديهم خططاً جديدة لقضاء مساء خميس مقبل، بشكل مختلف عن شكل الليلة السابقة..

الأشقياء، وأنا لست منهم، والأتقياء، وأنا أكتفي بمعرفتهم من بعيد.. سيستمرون في قضاء ليالي الخميس خلف الشاشات، ينقرون بشكل منتظم، في محاولة للكتابة، دون هدف.. لكني لن أفعل.

الطريق من المكتب إلى كورنيش المعادي ليس طويلاً كما كنت أتخيل، حتى وإن كان طويلاً، فهذا لا يعني أنك ستصاب بالتعب إن قررت اتخاذه على قدميك وتجاهل التاكسيات على اليمين والشمال في سرعة بطيئة ومحاولة لإغراءك بالإشارة والركوب.

الطريق من المكتب إلى الكورنيش يشعرني بأنه منحدر لأسفل بشكل سحري، أكاد لا أشعر بالمسافة، أخرج من الباب، لأكد نفسي – فجأة - أتنفس هواء الكورنيش بصدر مفتوح.. بعض الطرق تنحدر لاسفل، بحيث تجبرك على السير فيها.. قليل من الفلسفة سيجعلني أشبه الطريق من المكتب إلى الكورنيش، ببعض الطرق التي مشيت بها في حياتي فقط لأنها تنحدر لأسفل ولا تحتاج مجهوداً – أو هكذا ظننت – للسير فيها كل مساء.

أخرج من المكتب، أحرص على ترك حقيبتي بأعلى، أريد أن أستمتع لدقائق بمرجحة يداي بجوار جسمي، أشعر أنني رشيق، وأنني فقير، فقير جداً، العرق، والسير في الشوارع المظلمة، والتي تمرق فيها السيارات الحديثة بسرعة، كلها أشياء تشعرني بالفقر، أنا الآن فقير، ورشيق أيضاً، مرجحة يداي تمنحني شعوراً بالسعادة، كأني سأنطلق الآن، وأملك القدرة – فجأة – على الطيران.

.........

أريد أن اتحدث مع أحدهم..

لا أعرف على وجه التحديد اسم الشخص الذي أحتاج للحديث معه الآن، ولا أعلم حتى موضوع الحديث، لكني أعرف أنني حين أشعر بالسعادة – أو الحزن – تمتلكني رغبة لا نهائية في الكلام، أي كلام، على أن أجد من يشاركني فيه..

أصارحك القول، في مساءات ماضية كثيرة، وحين شعرت في بعضها بالفرح الشديد، وفي بعضها الآخر بالحزن الشديد، جربت، أكثر من مرة، أن أفتش في لائحة أرقام الأصدقاء على تليفوني، لأكتشف، أن معظمها لا يرد، وأن عدداً منهم قرر قضاء ليلة الخميس في "ربما يكون مغلقاً"، وأن البعض، مثلي، يحتاج إلى الحديث مع أحدهم، وقد تمكن من تحقيق أمنيته، ولهذا فإن صفارة خاصة تخترق أذني من سماعة التليفون لتأكد أن الطرف الآخر مشغول.

أتحدى الظروف، وأقرر أن الوقت يحتاج إلى "أحدهم" لأتحدث معه، أقرر أن أكلم أي شخص، أمي، أبي، أي أحد.. أسأل الأسئلة العادية الغبية، "عاملين إيه.. نتيجة رحمة طلعت.. هتروحي عند تيتة بكرة.. هتروحي الساعة كام؟"، الحقيقة أن لا أحد يصدني، يخبروني بأن نتيجة رحمة ظهرت منذ شهر، وأنهم أخبروني بها أربع مرات على الأقل.. وتخبرني أمي بأنها ستذهب لـ"تيتة" لأنها تفعل ذلك كل جمعة، وأنها ستكون هناك – كما أعرف – في الواحدة ظهراً.

أستمر في إجراء المكالمات الغبية، أكتشف أن الوقت أصبح متأخراً فجأة، وأن بعض المكالمات أصبحت غير مسموحة، خاصة تلك التي استهدف فيها صديقات وزميلات من أزمنة وأمكنة مختلفة، في المرة الأخيرة أخبرتني زميلة بشكل مهذب.. "أنا م بستقبل مكالمات بعد الساعة 11"، وقد كنت – لفرط غبائي – أتصل بها في الثانية إلا عشرة صباحاً.

سأصل إلى الكورنيش إذن بسرعة، ستضيع جرعة الحزن – أو الفرح – دون فائدة، هل أصبح هذا العالم بخيلاً جداً لدرجة أنني لا أستطيع إجباره على منحي شخص واحد جدير بان أتحدث إليه قليلاً في أمور غاية في الأهمية كالفرح أو الحزن.

أستطيع أن أجزم الآن بأني – مثل أي شخص آخر – لا أستطيع إجبار العالم على فعل أي شيء، كما أني لم أنجح في إجباره في المرات الكثيرة السابقة، كما لم ينجح أحد.

أقرر أن الخطة البديلة تحتم علي أن أسلك طريقاً بديلاً، بأن أسير داخل المعادي قليلاً، بموازاة الكورنيش، قبل أن أقرر الإنحراف يساراً في أي شارع جانبي يصلني إلى طريق الكورنيش، في هذا إطالة للطريق والمدة، ومحاولة لإبقاء نفسي داخل الحالة الجميلة، الحزن، أو الفرح.

لا أزال أحرك يداي بشكل منتظم، أستمتع بمراقبة نفسي أتنفس، أتدخل بإرادتي لتنظيم أنفاسي، أسحب الهواء الساخن داخل صدري حتى يمتلئ، وأفرج عنه زفرة واحدة، أكتشف أني صحتي ليست على ما يرام، فلم أعد أستطيع تكرار الحركة مرات عديدة.. أكتشف أن موبايلي يدق.. أحدهم يبحث عني.. أحدهم قرر أنه يحتاجني.. أدقق النظر إلى الرقم.. أفهم أن الحاجة المطلوبة مني شيء من إثنين.. "هات برتقان معاك عشان مليكة"، أو "بعت الميل ولا لسه؟"..

الخميس، يوليو 03، 2008

مسيرة المسيري..
فكيف كان يمكن للنتيجة ألا تكون رائعة؟


كان هناك فنان، يعيش في مدينة كوورو، دائب المحاولة للوصول إلى الكمال.

وذات مرة تراءى له أن يصنع عصا. وقد توصل هذا الفنان إلى أن الزمان عنصر مكون للعمل الفني الذي لم يصل بعد إلى الكمال، أما العمل الكامل فلا يدخله الزمان أبداً. فقال لنفسه : سيكون عملي كاملاً من جميع النواحي، حتى لو استلزم الأمر ألا أفعل شيئاً آخر في حياتي.

فذهب في التو إلى غابة، باحثاً عن قطعة من الخشب، لأن عمله الفني لا يمكن أن يصنع من مادة غير ملائمة. وبينما كان يبحث عن قطعة الخشب، ويستبعد العصاة تلو الأخرى، بدأ أصدقاؤه تدريجياً في التخلي عنه، إذ نال منهم الهرم وقضوا.

أما هو، فل يتقدم به العمر لحظة واحدة، فوفاؤه لغايته وإصراره وتقواه السامية أضفت عليه، دون أن علمه، شباباً أزلياً.

ولأنه لم يهادن الزمن، ابتعد الزمن عن طريقه، ولم يسعه إلا أن يطلق الزفرات عن بعد، لأنه لم يمكنه التغلب عليه.

وقبل أن يجد الفنان العصا المناسبة من جميع النواحي، أضحت مدينة كوورو أطلالاً عتيقة فجلس هو على أحد أكوامها لينزع لحاء العصا، وقبل أن يعطيها الشك لالمناسب، كانت أسرة كاندهار الحاكمة قد بلغت نهايتها، فكتب اسم آخر أعضائها على الرمل بطرف العصا، ثم استأنف عمله بعد ذلك.

ومع انتهائه من تنعيم العصا وصقلها لم يعد النجم كالباً في الدب القطبي. وقبل أن يضع الحلقة المعدنية (في طرف العصا لوقايتها) وقبل أن يزين رأسها بالأحجار الثمينة، كانت آلاف السنين قد مرت. وكان براهما قد استيقظ وخلد إلى النوم عدة مرات.

وحينما وضع الفنان اللمسة الأخيرة على العصا، اعترته الدهشة حين تمددت العصا بغتة امام ناظريه لتصبح أجمل المخلوقات طراً، لقد صنع نسقاً جديداً بصنعه هذه العصا، عالماً نسبه كاملة وجميلة، وقد زالت في أثناء صنعه مدن وأسر قديمة، ولكن حلت محلها مدن وأسر أكثر جلالاً.

وقد رأى الفنان الآن وقد تكومت عند قدميه أكوام النجارة التي سقطت لتوها، رأى أن مرور الوقت في السابق بالنسبة له ولعمله كان مجرد وهم، وأن لم يمر من الوقت إلا القليل.

"كانت مادة عمله نقية صافية، وكان فنه نقياً صافياً، فكيف كان يمكن للنتيجة ألا تكون رائعة؟"

* السطور الأخيرة من كتاب "رحلتي الفكرية.. في البذور والجذور والثمار – سيرة غير ذاتية غير موضوعية". من تأليف الدكتور عبد الوهاب المسيري، الذي غادر الدنيا – بجسده – مساء أمس الأربعاء 2-7-2008، ويبقى مشروعه الثقافي والحضاري والسياسي والأدبي باقياً رغم عوامل الزمن.

الأربعاء، يوليو 02، 2008

بلاد تركب الميكروباصات!

تكتشف، أنك نازل نازل، ستبارح مكانك بين لحظة وأخرى، تأهب.. لا أمان على الإطلاق.

نزولك لا علاقة له برغبتك في فعل ذلك، تخضع عملية النزول من الميكروباص لعوامل طبيعية وبشرية، تخضع لقانون الصدفة، والفوضى.. الخلاق منها.. وما هو غير ذلك.

ستنزل مرة، لأن قلبك الطيب لم يحتمل أن تمر الفتاة الجميلة الجالسة في الكنبة خلفك، بجوارك، وهو ما سيسبب احتكاك قوي بينكما، ترفضه أنت بكرم أخلاقك، فتقرر النزول وإفساح الطريق.

وستنزل مرة أخرى، لأن البدين الجالس بجوارك يريد المرور، وأنت، بجسدك المتعب من يوم عمل كامل، تحاول الإختفاء والإنزواء في مقعدك، دون فائدة، فالبدين، يبحث عن كل "ملي"، ليملأه بدهونه وأعضاءه.

وستكتشف، أن بقدرتك الإنتقام، حين تقرر إنزال الشخص الجالس بجوارك، بحجة أن المسافة لا تكفيك، وفي الحقيقة، فإنك تبحث بالكاد عن فرصة لملامسة كتف الفتاة في المقعد الأمامي، وتخشى أن يكشفك جارك، فتقرر إنزاله للحصول على لحظات من المتعة المسروقة.

وستنزل مرة أخرى، دون إرادتك، لأن المركبة – التي هي الميكروباص – تسير بسرعة أكبر من أن يحتملها قلبك الضعيف، وستنزل مرات، لأنها – المركبة – تسير بمعدل بطيء.. أبطأ من أن يطلق عليه "سرعة".. ستقرر النزول، وإكمال الشارع على قدميك، لتصل في وقت أقل.

وستنزل مرة، لأن أحدهم قرر الإفراج عن هواء بطنه فجأة، مستغلاً الزحام، والسرعة العالية، والشبابيك المفتوحة، والقدرة المعدومة لدى الركاب على اكتشاف الفاعل، فالكل مدان، والجميع بريء.

وستنزل مرة، لأنك تبت إلى الله تعالى، وفي المقعد الأمامي، فتاة مسيحية، أنت تخمن دينها فقط، دون تأكد، تفوح منها رائحة عطرة، تغلب رائحة البنزين، وقد أخذت لتوها دشاً بارداً في بيتها، ونزلت على الفور دون التأكد من حسن تنشيف قطرات الماء على شعرها، فبدت كأنها تتأهب للقاء جنسي ساخن مع رجل غيرك، أو كأنها فرغت للتو من ذات اللقاء، ستنزل لأنك غير قادر على إحتمال كل هذا، كما أنك – دون أن تدري – وجدت نفسك تعبث في شعيرات لها، تدلت أمام يديك، دون أن يلمحها أحد، ودون أن تشعر صاحبة الشعر المبلول، بيديك العابثتين.

وستنزل، لأنك تركب ميكروباص يمر بخط خطير، من الهرم إلى المعادي على سبيل المثال، وهناك كمين دائم فوق الكوبري ينتظر أمثالك، أنت تنتمي – دن قصد منك أو عمد – إلى نوع من المواطنين يشعر رجل الكمين تجاههم بأمر ما، يجعله يقرر إنزالهم فجأة، وإعطاء الأوامر للسائق بالرحيل دونهم، ويستمتع بجعلهم يقفون على الرصيف، حتى يتأكد – بطريقة لا يعلمها إلا الله وحبيب العادلي – من كونهم مواطنين صالحين لا يهددون النظام العام والخاص.

وستنزل مرات، لأن السائق قرر ذلك، قرر أنك راكب غير صالح، لا يستحق نعمة الركوب، يعرف ذلك حين يلمحك تناقش زملاءك – الركاب – عن أمر الربع جنيه الزائد عن الأجرة المعتادة الرسمية، هنا يقرر القضاء على المعارضة بالإقصاء، أو النفي.. تكتشف، وأنت تغادر وسيلة مواصلاتك الوحيدة، أن السائق يشبه شخصاً آخر، الشبه بينهما يكاد يكون تطابق، تقرر أن تخبره بذلك – فالأمر خطير – لكنك تخشى أن تتسبب بملاحظتك تلك بشيء من الإهانة للشخص الذي تقصده، أو حتى للسائق نفسه.

ستنزل لأنك وصلت أخيراً للمكان الذي كنت تقصده حين ركبت أصلاً، ستذهب إلى مقصدك، وستعرف، أن الغاية لم تكن لتستحق وسيلة المواصلات، لا شيء في بلادك يستحق مشقة ركوب الميكروباص مرتين أو أكثر كل نهار، لا شيء يستحق الركوب بنية النزول، لا شيء يستحق الإفتراضات اللا نهائية، والإختيارات الإجبارية، حول طريقة مغادرة المركبة، بقرارك مرة، وبقرار غيرك مرات..

الثلاثاء، يوليو 01، 2008

صياعة في الجنة!

عندما قرر الأستاذ محمد أن يجري اتصالاً هاتفياً بأبي في المنزل، بخصوص سلوك ابنه الأكبر، الذي هو أنا، وعلاقاته المشبوهة مع ثلاث فتيات يدرسن في الفصل ذاته بالمدرسة الثانوية التي أدرس بها، والتي كان الأستاذ محمد مدرس اللغة العربية الوحيد بها.. عندما قرر.. لم يكن يعلم!

لم يكن يعلم وقتها أن أبي سيغضب بشدة ويلطمني على وجهي عدة مرات قائلاً أني أصبحت بـ"وش مكشوف"، وقد كنت وقتها عاجزاً بالفعل عن فهم معنى الكلمة..

أيضاً، لم يكن الأستاذ محمد يعلم، أن علاقتي بالثلاثي، والتي طالما أثارت ضيقه، ستتحول بين يوم وليلة، من مجرد علاقة صداقة جميلة بين شلة ولاد وبنات، إلى "قضية"، و"مبدأ"، و"اختيار"، وهي أشياء لم يكن الأستاذ محمد ليدرك أنها قابلة للتواجد في حياة طالب ثانوي مثلي.

فالأستاذ محمد، كان يعتقد، ولازال ربما، أن الإنسان نزل إلى الأرض للصلاة، فهو، كغيره من مدرسين العربي، يعطينا حصص الدين الإسلامي بجوار حصص العربي، قد أخبرنا بوجهة نظره الشخصية في مسألة "لماذا خلق الله الإنسان وأنزله إلى الأرض؟"، فبعد أن شرح وجهة نظر العلماء والفقهاء بسرعة مبالغ فيها، استغل باقي وقت الحصة، بل وحصص أخرى تالية، لشرح نظريته.

قال الأستاذ محمد، أن الصلاة لا تنقطع عن الأرض، بينما تنقطع باقي الأمور، بمعنى أن الإنسان يعمر الأرض في الصباح فقط، أما الصلاة، فهي مستمرة صباح مساء، كما أن فروق التوقيت تجعل هناك ميقات للصلاة دائم في مكان ما في العالم، صلاة الفجر في مصر تقابلها صلاة المغرب في أمريكا، وعصر الأردن عشاء ماليزيا.. وهكذا!

أخبرت أصدقائي وقتها، بأن الأستاذ محمد ليس مسلماً على الإطلاق، بل هو على أغلب الظن مسيحي متزمت، بالطبع كان السؤال على لسان أصدقائي "مسيحي إزاي يا فالح واسمه محمد؟"، أخبرتهم وقتها بأن الممثل محمد صبحي مسيحي هو الآخر رغم أن اسمه محمد، حكيت لهم القصة التي انتشرت وقتها، عن أن صبحي كان الابن رقم عشرة لأب وأم من أبناء الكنيسة، وقد مات قبله تسعة من الذكور، فقررت الأم تسمية ابنها القادم محمد عله لا يموت، وهو ما حدث.

لم يقتنع أحد من أصدقائي، لكني أخبرتهم، من باب التأكيد، أن المسيحيين هم فقط من يعتقدون أن الله خلقنا لنصلي، وقد قال لي شادي – زميل الفصل – وقتها أنني أقول هذا الكلام لأني لا أصلي، ولأني أحمل في رأسي أفكاراً فاسدة بسبب الإفراط في قراءة كتب "أنيس منصور"..

أخبرته أنني ذهبت خلال الأجازة الصيفية إلى دورة في التنمية البشرية، وأن المدربة كانت اسمها فاطمة، وقد أخبرتنا في الحصة الأخيرة، أن اسمها الأصلي "سحر"، وأنها دخلت الإسلام منذ عام واحد، بعد أن تركت دينها الأول، المسيحية.

أخبرتنا فاطمة، أن رجال من الدين المسيحي جلسوا معها لمراجعتها في قرارها، ليتأكدوا من عدم تعرضها لأي ضغط عاطفي أو مادي أو سياسي، وأنها سألتهم "هي الجنة بتاع ربنا المسيحي فيها إيه؟"..

أخبروها بأنها مليئة بالمؤمنين الذين يقضون الوقت في الصلوات والترانيم والدعاء لله، قالت لنا أنها ضحكت ضحكة غير مهذبة قائلة لهم "يعني أنا مفروض أعيش في الدنيا أصلي وأتلو الترانيم وأدعي أدعية كتير، عشان أدخل الجنة بعد ما أموت عشان أدعي وترانيم وصلوات وكلام من ده؟؟.. لا لا دي جنة مؤدبة قوي".. اقتربت أكثر منهم، هامسة، "عارفين جنة المسلمين فيها إيه؟"..

بفضول رجال الدين، وبحكمة من هم فوق الخمسين، سايروها فيما تقول، سألين.. "ها.. فيها إيه جنة المسلمين؟".. ضحكت سحر، أو فاطمة كما أصبح اسمها قائلة "منتهى الصياعة.. حريم للرجالة ورجالة للحريم، وأكل ومرعة وقلة صنعة، والمؤمنين بيقابلوا ربنا كل خميس وجمعة، والأصحاب بيتقابلوا يلفوا شوية في الجنة، وممكن أقابل كل الأنبياء من أول آدم لحد محمد، وكمان فيها شجر عليه كل أشكال الفاكهة اللي مفيش زيها في الأرض.. بذمتكم.. أسيب كل الحاجات دي وأروح جنة تانية كلها صلاة من غير أي حركات"..

تقول فاطمة، أنهم أدركوا وقتها إن مفيش فايدة، وتركوها تفعل ما تريد، قال راعي الكنيسة التي كانت تصلي فيها سحر لأمها أن بنتها تحسبها حسبة مختلفة، وإنها لا هتدخل جنة المسلمين ولا جنة المسيحين، وعندما وصل الكلام لفاطمة – عن طريق صديقة لها والدتها تعرف أمها - ضحكت وهي تلبس الحجاب للمرة الأولى قائلة، "يروح يتشطر في الجنة بتاعته، ملوش دعوة بجنة المسلمين".

كانت القصة مسلية بالنسبة لشادي، وبالنسبة إلى كل مراهق مثلنا، يفرح عندما يقرأ الإمام سورة "يوسف" في الصلاة، ويترقب الجزء الخاص بـ"هيت لك"، ويبحث عن تفسير لتلك السورة بالذات في كتب الدين بمكتبة المدرسة.

قصة مسلية، لأطفال غادروا لتوهم مرحلة الإبتدائية القريبة، والتي كان بلطجي الفصل يفتخر بأنه يقف على صدر طالب مسيحي، ويسأله.. "هتسلم ولا لأ يا مرقص.. رد يا مرقص.. عندكم أسلحة في الكنيسة ولا لأ يا مرقص؟"..

القصة مسلية بالفعل لشادي، وإن كان لا يعرف أي علاقة بين كل ما أقوله، وبين الأستاذ محمد الذي يرى أننا خلقنا للصلاة، فيما أرى أنا أنه كلام مسيحيين، كنت وقتها لا أعرف شيء عن فكرة "عمارة الأرض"، التي هي الهدف الحقيقي من وجودنا، لكن على كل حال، فإن هذا لم يجعلني أتراجع ولو لحظة واحدة، كانت علاقتي بالأستاذ محمد لا تسمح لي بأي تراجع من أي نوع.

دخلت إلى المدرسة الثانوية وكلي آمال تتعلق بأنها فرصة حقيقية لتغيير حياتي، كان أدائي بشعاً في المدرسة التي قضيت فيها مرحلتي الإبتدائي والإعدادي، كنت أحتاج إلى تغيير حقيقي يلاءم أهدافي وأحلامي.. وكم كان جيداً أن ألاحظ، منذ اليوم الأول للدراسة، أن مدرستي الثانوية مدرسة مشتركة للبنين والبنات، وهو ما يعطي للتحدي بعداً جديداً، يتعلق بالمراهقة والجنس اللطيف..

ثم ظهر الأستاذ محمد، نموذج للدرعمي الريفي الذي لا يرى أبعد من السبورة، ولا يحلم بأكثر من مجموعتين من الطلاب في الدروس الخصوصية تمكنه من الإنفاق على زوجته وطفله الصغير.

لم يكن الأستاذ محمد يفهم أن الجالسين أمامه يحملون داخلهم أحلام تمثل كوابيس حقيقية بالنسبة إليه، كنت أنا، وزملائي جميعاً، ندخل في رهان مفتوح يتعلق بعدد البنات الذي يستطيع كل واحد منا أن "يعلقه"، كانت نظريتي الشخصية مبنية على أن المدرسة بها 3000 طالب وطلبة، ألف واحد من الذكور، وألفان من الإناث، إذن فمن حق كل طالب أن "يعلق" بنتين على الأقل، وقد أخبرت أصدقائي أن هذا حق مشروع للجميع، وأن البنات يعرفن بالتأكيد تلك المعلومة التي تنظم العلاقة بين الجنسين في المدرسة المشتركة.

على كل طالب إذن أن يستخدم كل الأساليب الممكنة لتعليق البنتين، بل عليه أيضاً، أن يطور أدائه مزيداً من هذا الرقم، خاصة وأن بجوار مدرستنا مدرسة فنية ثانوية مشتركة، فيها النسبة ذاتها بين أعداد الولاد والبنات.

كان قراري أن طالب بدين مثلي، تكمن كل مناطق سحره في عقله، وليس في إجادته للخناق، أو شرب السجائر، أو لعب الكرة، أو المعاكسة الصريحة، أو حتى الشياكة منقطعة النظير، كل تلك الفنون لم أكن أجيد أي منها، مكتفياً بمحاولاتي الأولى لكتابة الشعر والقصة، والجوابات العاطفية بالتأكيد.

كان قراري، بعد أن قمت بدراسة متأنية لنفسي، أنني أحتاج لغزو العالم الجميل للفتيات، أن أصنع لنفسي سفراء داخل هذا العالم، وأني – وإن كنت لن أتمكن من لعب دور الحبيب – سأجيد لعب دور الصديق المخلص، كاتم الأسرار، المستمع الجيد، حلال المشاكل، العاطفية بالتحديد.

والصدفة وحدها قادتني، لأصبح بين يوم وليلة الصديق الصدوق لـ"رحاب"، "عزة"، و"داليا"، اللاتي يسكن الديسك الأول من الفصل الذي أدرس به، واللاتي تمكن خلال أسابيع الدراسة الأولى من أن يصبحن صداعاً حقيقياً لكل مدرس يدخل الفصل ويعاملنا معاملة غير لائقة.

كل هذا كان يجعلني في نظر الأستاذ محمد فتى شرير، أرعن، تلزمه علقة بالفلكة تعيده إلى صوابه، خاصة وأنه كان زميل أبي في الكلية، وكانا شريكان في سرير واحد بأحد معسكرات الجوالة، وهو ما جعله يشعر تجاهي بشيء من المسؤلية، لا أعرف سببها.

في العام الدراسي الثالث، كانت علاقتي به قد وصلت بالفعل إلى طريق مسدود، لا أعتقد أنني كرهت شخصاً بقدر كرهي له، لم أكن أحب أياً من تفاصيله، وقد كانت النتيجة أنني طلبت نقلي لفصل أبلة "راندا"، التي يطلق عليها أصدقائي "لمبة" نظراً لطريقتها الغريبة في نطق الحروف، وقد كان.. ومع أن راندا كانت بشعة بكل تفاصيل الكلمة، إلا أنها رحمتني من فكرة مقابلة الأستاذ محمد مرة كل يوم.

كما العادة، مضى الوقت، وأصبحت أنظر الآن لكل هذا باستخفاف غير ملائم.. وبسخرية كبيرة.. لكن الأمنية الباقية من كل هذا.. هي أن أقابل الأستاذ محمد مرة أخرى الآن، أخبره عن أمر نفسي، عن السنوات التي تفصل بيننا الآن، وبين لقائنا الأخير، في مدرستي الثانوية..

لا أنظر إلى هذه الأمنية بأي استغراب، هي فقط رغبة طالب ثانوي وحنين منه، في مقابلة هؤلاء الذين ساهموا في تكوينه.. بشكل.. أو بآخر.

الأحد، يونيو 29، 2008

Fly On The Wall

تقول كتب تعليم الإخراج، أن عليك – كمخرج – التركيز طوال يوم التصوير، في أن تتحول كاميرتك، بقدرة قادر إلى "Fly On The Wall"، ذبابة على الحائط، فهي – الكاميرا أو الذبابة – لديها القدرة على رؤية كل شيء من موقعها الصغير على الحائط، لكن هؤلاء البشر، الذين يملأون الغرفة صراخاً وحديثاً وانفعالاً، هؤلاء جميعاً، يكادون لا يشعرون بها، ولا يهتمون لأمر وجودها، وبالتالي، فإن تصرفاتهم تصبح أكثر واقعية، وكلامهم يصبح أكثر صدقاً، وانفعالاتهم تصبح أقوى وأهم!.

لهذه الأسباب يستغرق تصوير الأفلام الوثائقية المعتمدة على المعايشة شهور وسنوات، فيلم "Aljazeera Exclusive" ينتمي إلى هذه النوعية من الأفلام، طاقم من قناة الـ"BBC" عايش تغطية الجزيرة للحرب على العراق من داخل غرفة الأخبار في الدوحة، استغرق الأمر وقتاً طويلاً، بحسب ما يقول مخرج الفيلم، حتى يستطيع التجول بالكاميرا بحرية بين الصحفيين في غرفة الأخبار، دون أن يعترضه أحد، ودون أن يتوقف أحد عن أداء عمله لأن هناك من يصوره.. أصبح طاقم الـ"BBC" ذبابة على حائط غرفة الأخبار، لا يلاحظها أحد، لكنها تراقب الجميع.

فجأة، أصبحت شديد الحساسية تجاه الذباب، بدأت أشعر بنيتها المبيتة في مراقبتي، أصبحت شديد الحرص على التأكد من خلو الأماكن التي أقصدها من كاميرات التصوير، أصبحت أتعمد رفض طلبات التصوير في أي برامج للتيفزيون، يبدو، كأن السحر انقلب على الساحر.. وكأن فتاة يوم اليتيم ستطاردني طويلاً.

الحكاية وما فيها، أني كنت أصور حلقة من برنامج تليفزيوني عن "يوم اليتيم"، وهناك، وعلى البوابة، وحيث كان صوت "سعد الصغير" يصدح عند بوابة دريم بارك، وجدت شلة شباب فرحين بما آتاهم الله من نعمة دخول دريم بارك بالمجان، وعلى مقربة منهم، شلة فتيات، فرحانات أيضاً، بالنعمة المزدوجة، حيث الدخول المجاني، والعدد الكبير من الشباب القادم بنية صريحة في المعاكسة والمواعدة والبحث عن "مزة" صيف 2008.

عند البوابة، طلبت من المصور إدارة الكاميرا طوال الوقت، وإلتقاط ما تيسر من صور، وسرقة الإبتسامات والنظرات بين الشباب، طلبت منه باختصار يعرفه أبناء الكار، أن نتحول كلنا إلى "Fly On The Wall"، وقد فعل المصور ما كنت أتمناه – كمخرج – وأكثر، وفعلت إحدى الفتيات ما كنت أرغب فيه – كإنسان – وأكثر.

فجأة، تحركت الأشياء كلها، انطلق صوت سعد الصغير بدرجة أعلى، واختار المصور الاقتراب أكثر من فتاة بعينها، وقررت الفتاة أن اللحظة أصبحت مناسبة للرقص.. ورقصت!
كانت محجبة، والرجال فقط، يعرفون ما الذي يعنيه الرقص بالحجاب، رقص كامل، عشرة بلدي إن صح التعبير، كل ما فيها يرقص، من الرقبة حتى الأقدام، مروراً بخط الوسط الإنسيابي المتمكن، كلها أشياء راقصة.. بالإضافة إلى وجه مستدير أبيض، تعلوه ابتسامة لا تلاءم المشهد المزدحم.

على شريط الصوت، أسمع صوتي، أستغرب ما تفعله الفتاة، وأشيد بقدرتها على الرقص المستمر، إشادة تشي بما داخلي من إعجاب تجاهها، كأني على وشك التقدم منها والتعرف عليها، فقط الحرج من فريق التصوير، ومن كوني كنت ذاهباً إلى دريم بارك – أصلاً – لتصوير برنامج ديني.

على شريط الصوت، أخبرت المصور فوراً، والفتاة مستمرة في الرقص، أن اللقطة تلك تصلح لأن أدخل بها مسابقة أفضل لقطة في فيلم قصير جداً اسمه "الحجاب الراقص"، وأن ساقية الصاوي سترفض عرضه وأننا سنحظى بشهرة كبيرة.

بينما أكمل كلامي، استدارت الفتاة دورة كاملة، عقبت أنا بصوت عالي "جامدة جداً".. شعرت أن الدوران الكامل، أعطى لصاحبته فرصة لأن تلمح الكاميرا من بعيد، لم نصبح مجرد ذبابة، تحولنا إلى صياد ضخم يطارد فريسة أكبر منه، توقعت أن ينتهي يوم التصوير قبل أن يبدأ بخناقة حريمي عنيفة، خاصة وأن مظهر الفتيات يشي بأصول بولاقية دكرورية، اهتزت الكاميرا في يد المصور، ارتبك فجأة، ارتبكت الكاميرا كذبابة تشعر بقدوم الصياد وفي يده عبوة كاملة من "البيروسول" بالعرض المجاني "30 % زيادة".

توقعت كل السيناريوهات السيئة، وحتى على أفضل الأحوال، توقعت أن تكف هي عن الرقص، ونكف نحن عن التصوير، وندخل إلى "دريم بارك" آمنين مطمئنين، يظلنا صوت سعد الصغير " أنا خلاص هتجوز وهبطل أبص ع البنات"..

لكنها، كأي فتاة عشرينية محجبة اختارت الرقص صباح يوم اليتيم، كان لديها سيناريو آخر، امتدت يدها بخفة، أزاحت فتاة صديقة كانت تقف بينها وبين الكاميرا، وأرسلت إلي نظرة ذات مغزى، وانطلقت ترقص هذه المرة، بخفة أكثر، ورغبة في الإعلان عن موهبة كبيرة تحتل هذا الجسد "المتحجب".

رقصت، نزلت بجسدها كلها بانثناءة خفيفة للركب، ثم صعدت بسرعة، أصرت على إعطاء الكاميرا حقها في الزووم قليلاً تجاه مؤخرتها، معلنة أنها منطقتها المميزة في الرقص، غيرت من تعبير وجهها، أعطتنا ابتسامة بديلة، تلاءم الموقف كله.

كان وجهي يشي بانفعالاتي، أصبح الخجل يسيطر علي بالكامل، لماذا أخجل إن كنت لا أرقص ولا أرتدي الحجاب، الله وحده يعلم، لكني متأكد، أنها تعرف أن هذا البدين هو المخرج، وأنه صاحب الخطة الكاملة في التصوير، وأنه يبدو الآن كذبابة تقف في الهواء، يفتش في التفاصيل، باستمتاع كامل.

اكتمل المشهد لدقيقة أخرى، حتى بدأ صوت سعد الصغير في الإنسحاب التدريجي، معطياً فرصة لزميله في المهنة "عمرو دياب" للدخول بأغنية أخرى من اختيار رجل الـ"DJ".

الآن، أحتفظ بالجزء الذي صورته بالكامل في مكتبتي، شاهدته عشرات المرات، دون أن أملك شجاعة استخدامه، ربما أفعل ذلك في فيلم عن الحجاب مثلاً، أو عن دريم بارك، أو عن يوم اليتيم أو حتى عن سعد الصغير.
لكن الفتاة تطاردني، في خيالي فقط، تسألني، إن كان من حقي أن أصورها دون أن تدري، أخبرها بأنها استمرت في الرقص رغم علمها، وهو ما يعني موافقتها، تقول أن الموافقة جاءت دون استئذان أضيف أن هذا عملي كمخرج تقول أن ليس منحقي اختراق الخصوصية، أصرخ أن الرقص في الشارع ليس خصوصية، تقول لكني محجبة، أضحك وأضيف أن هذا يزيد الطين بلة.. نستمر في العراك.. ولا نصل إلى بر.

لكن نظرتها الأخيرة لي، أترجمها أنا بمعنى واحد، كأن هناك ذبابة تراقبني، تصورني، مثلما كنت أفعل، وأنني سأصبح قريباً مادة للعرض والتعليق، وأن أحدهم سيختار لقصتي ولقطتي عنواناً كهذا الذي أعلنت أني اخترته لفتاة الدريم بارك..

أفكر الآن، في اللحظات التي سرقتها من الناس، الرجل العجوز في صالة انتظار مستشفى الكلى بالمنصورة، رجل مهيب في الخمسين من عمره، يدخل أصبعه بالكامل داخل أنفه، ويخرج بالقاذورات..

أفكر الآن، في الذباب. والحوائط.. والعنوان الصالح لقصتي.. وكلها أمور مرعبة.. بالنسبة لبدين مثلي.

الاثنين، يونيو 16، 2008

مليكة!

السبت، يونيو 07، 2008

قتب!


هل سيصبح عندي "قتب"؟؟..

هل سينمو داخل ظهري ظهر آخر، يشكل قوس مشدوداً بالعكس، بطنه إلى قفاي.. ووجهه إلى الواقف خلفي.. هل ستفقد ملامحي لون الطفولة، وأتحول، بحكم العمر.. إلى رجل ناضج، مظهره يوحي بأكثر من سنه بعشر سنوات.. يهده التعب، ويعلن عدم القدرة على حمل المزيد من الكراتين..

إن أصبحت يوماً بـ"قتب"، فستكون الكراتين هي السبب بالتأكيد، سنوات عملي الأولى مع أبي، في مجال بيع الكتاب، حمل الكراتين من المخزن إلى بطن السيارة نصف النقل، والعودة بها، بعد المعرض، إلى المخزن مرة أخرى.

زمان، زمان جداً، بعيد هذا الوقت لدرجة أني غير متأكد من أنني ذات البني آدم الذي حدثت له هذه الأحداث، أيام كان عمري عشر سنوات ربما، كنت، وأخي، نحمل صباح كل جمعة، عشرة كراتين، من مدخل بيتنا، إلى ظهر سيارة أبي نصف النقل، كانت لدي أبي سيارة من هذا النوع، قديمة، ضيقة، وكان مكان الكاسيت فيها فارغاً، ومظلماً، وكنت أتصور أنه مكان ملاءم لسكن العفاريت، وأن هناك شبح يسكن في هذا الفراغ المستطيل، سيخرج في أي لحظة، ويقتل الجالسين في صالون السيارة.

لهذا السبب ربما كنت أفضل الجلوس في الصندوق الخلفي للسيارة، أجلس مرة، وأقف مرات، ممسكاً بسقف الكابينة، خلف أبي مباشرة، لأستقبل الهواء البارد – أو الساخن – بوجهي، بابتسامة ملائمة.

صباح كل جمعة، كنا ننزل، أنا، أخي، وأبي، إلى الشارع مبكراً، قبل الصلاة بساعة على الأقل، نحمل الكراتين، ونذهب بالسيارة إلى مسجد بعيد جداً عن منزلنا، يطل على ترعة المنصورية، كنت – ولا أعرف لهذا سبب – أتخيل أن هذا هو المسجد الذي يخطب فيه الشيخ الشعرواي، وبالطبع لم يكن الزحام يسمح لي بالدخول، لأعرف من هو الخطيب، كما أن عمري – وقتها – لم يكن ليسمح لي بمقارنة ما يقوله الخطيب – الذي لم يكن الشعراوي بأي حال – بما يقوله الشعرواي نفسه في خطبه المتلفزة.

نصل إلى المسجد، ونتولى جميعاً، أنا وأبي وأخي الأصغر، تنزيل الكراتين من صندوق السيارة إلى رصيف مجاور للمنزل، وسرعان ما تعمل أيدينا بقدر من الاحتراف، لتفريغ الكراتين من الكتب، وفرشها، بنظام معروف ومألوف، على الرصيف، في انتظار المصلين.

كنا أحياناً، نجلب معنا بعض الترابيزات الصغيرة، لفرش الكتب عليها، وكانت مسألة الترابيزات تخضع لمزاج أبي، فهو إن كان متحمساً اليوم، يصر على رفع الترابيزات من مدخل البيت إلى صندوق السيارة، وإن لم يكن كذلك، يكتفي بالكراتين، بدون ترابيزات، وقد أثبتت التجربة، أن وجود الترابيزة، لم يكن مؤثراً بأي حال على مبيعات الكتب.

كانت الكتب جميلة، أحجامها ثابتة، قطع صغير يشبه قطع روايات الجيب، معظمها لمؤلف واحد وبغلاف مميز، مؤلفها اسمه أحمد ديدات، عرفت بعدها أنها كان مسيحياً وأسلم بعد فترة طويلة. كانت تباع بسرعة، وإن كان سعرها لا يحتوي على مكسب كبير.

كتب أخرى أكبر، للشيخ الغزالي مرة، ولشيوخ آخرين، كان لدينا كتاب من القطع المتوسط عن الموت، وآخر عن المخدرات، وثالث عن النار، وكلها كانت تباع بسرعة مدهشة، كما أن أبي كان يملك أعداداً كبيرة من كتاب لمؤلف اسمه "عبد الصبور شاهين" يتحدث فيه عن رواية اسمها "أولاد حارتنا"، من تأليف رجل اسمه "نجيب محفوظ" يقال وقتها أنه قد حصل على جائزة اسمها نوبل، وهي جائزة غالية، يعطيها اليهود لهؤلاء الذين يسبون الدين، كما يقول شاهين في ظهر غلاف كتابه.

كنت أستمتع بالجلوس طوال وقت الصلاة بجوار الكتب، وما أن يخرج الناس من الجامع، حتى يلتف الناس حول رصة الكتب، وحول باعة آخرين يبيعون الفاكهة أو العصائر أو الجرائد.. كنت أعرف بعض الأسعار، واسأل أبي عما يغيب عني من أسعار.

كنت أحب أبي جداً، أتعلق به لأقصى حد، كنت أتعلق بجلبابه الأبيض الطويل، لم يكن أبي يحب الجلاليب البيضاء القصيرة التي يرتديها المصلين في ذلك المسجد، أكره الجلاليب القصيرة، أشعر أنها "مش حلوة"، بمقاييس الأطفال، كانت اللحية، والسواك، والجلباب القصير، كلها أشياء مش حلوة، جادة ورصينة وتدخل على القلب الخوف والرهبة.

ربع ساعة ويختفي الناس من حول الفرشة، ونتولى، أنا وأبي وأخي الأصغر، حمل ما تبقى من كتب، ورصها في الكراتين، وحملها داخل صندوق السيارة، والعودة إلى المنزل، وإنزالها مرة أخيرة إلى مدخل المنزل.

بقدر ما كنت أحب أبي، بقدر ما كنت أحب حمل الكراتين، لم تكن تلك العملية تسبب لي أي قدر من الإزعاج على الإطلاق.. كنت سعيداً بها، فخوراً بأني أفعلها صباح كل جمعة..

كنت أشعر بأني رجل صغير، أحمل هم هذه الأسرة، وأننا – أبي وأخي وأنا – شركاء في شركة صغيرة، ستكبر يوماً ما، وسنجلس نذكر هذه الأيام، التي كان رأس مالنا الوحيد فيها أكتافنا الضعيفة، القادرة على حمل الكراتين من وإلى السيارة.

كنت معتاداً، حين أقف بجوار الكتب، أن أرقب أبي من بعيد، يقف مع بعض الرجال، يتحدث عن أشياء عدة، كان أبي يبدو لي وكأنه شخص أسطوري، يعرف شيء عن كل شيء، كان يتحدث في السياسة، والأدب، والدين، وأحياناً كان يلقى – مع هؤلاء الذين انتهوا من صلاتهم منذ دقائق – بعض النكات والقفشات.

انتهت هذه الأيام فجأة، لا أعلم على وجه التحديد سبب امتناعنا عن الذهاب إلى المسجد البعيد بالسيارة والكراتين، بالتأكيد حدث شيء ما لا تستطيع ذاكرتي إلتقاطه، لكن السنوات التالية شهدت بعض الرخاء، أسس أبي شركته الخاصة، وأصبح لديه عشرات العمال القادرين على حمل الكراتين، وقد كان يحرص – ولا يزال – بين فترة وأخرى، على حمل كرتونة من هنا لهناك، أو على ربط كرتونة بنفسه، والتأكد من إغلاقها بإحكام، كما أنني شاهدته مرات كثيرة، يعطي نصائح ذهبية لبعض الموظفين الجدد، عن كيفية ربط الكرتونة، أو رص الكتب بطريقة سليمة تمنعها من السقوط ولو بعد مائة عام.. هكذا قال.

اختفت السيارة نصف النقل ذات الصندوق في ظروف غامضة أيضاً، باعها أبي ليشتري بعدها سيارة مستعملة من نوع "داتسون 1800".. وكانت بصندوق خلفي من نوع الـ"ستيشن"، وهو صندوق يسمح له برص مجموعة من الكراتين ونقلها لعملاء شركته الجديدة.

بمرور الوقت اختفت الداتسون، وحلت البيجو – الـ"ستيشن" أيضاً – محلها، وهو تغير قد يلفت النظر إلى أن الأسرة المتوسطة الحال قد شهدت بعض التحسن المادي.. وهو ما سيؤكده حلول الـ"شاهين" بعد ذلك بسنوات، ثم سيارة جديدة من موديل حديث يشتريها أبي هذه الأيام.

لا يزال أبي شغوفاً بإمتلاك سيارة بصندوق واسع، وعندما اصطحبني – الأسبوع الماضي – لصالة بيع السيارات التي سيشتري منها سيارته الجديدة، تقدم بسرعة من السيارة، وفتح الصندوق، وأشار لي بابتسامة ذات مغزي، "شايف كبير إزاي".. لا يعرف أبي أنه بنظرته أعاد لي ذكريات قديمة، بطعم الكراتين وصلاة الجمعة.

لم يكن أبي مقتنعاً بمسألة ركوب سيارة موديل 2008، يقول أنه غير مهتم بالمظاهر، وأنه يحتاج سيارة تحتمل الكراتين التي يأخذها معه إلى العملاء أو المطابع، كان ينوي أن يشتري سيارة نصف نقل بصنودق خلفي وبـ"2 كابينة" بحيث تسمح بحمل الكراتين، وباصطحاب أخوتي الصغار في المشاوير العائلية.. لكن شيئاً ما أقنع أبي بأنه يستحق بعض الرفاهية أخيراً بعد رحلة شاقة في الحياة، توقف فيها أحياناً أمام مسجد على ترعة المنصورية لبيع الكتب مع ولديه الصغار.

أما أنا، فقد عملت مع أبي لفترة طويلة، انتهت مع نهاية عامي الدراسي الأول في الجامعة، بعدها قررت الرحيل وشق طريقي وبدء رحلتي الخاصة، دون أن أنسى أنني قد حصلت على بعض الخبرة من قبل، خاصة فيما يتعلق بحمل الكراتين وبيع الكتب، كما أني وجدت نفسي أخيراً، قادراً على الوقوف مع الرجال بعد صلاة الجمعة، للحديث في أمور عدة، السياسة والدين، وربما إلقاء النكات والقفشات.. لعل مظهري يبدو، لهذا الطفل الصغير، الذي رأيته يبيع الكتب بجوار المسجد، كرجل أسطوري، قادر على الحديث في أي شيء، وإن كان يرتدي بنطلون وقميص، رافضاً بأي حال، الخروج بالجلباب من باب البيت.

لا يعلم هذا الطفل، أن بيننا ذكريات مشتركة، فقد بدأت من حيث يقف، كما أن مسألة هامة تشغلني هذه الأيام تتعلق بالـ"قتب" الذي بدأ يظهر لي، وقناعتي التامة بأن الكراتين – التي يحمل الطفل مثلها كل جمعة - هي السبب..


الخميس، مايو 29، 2008

"حاجات".. (4)

الإثنين :

ضاع الأمس بدون مذاكرة، كالعادة، مساء ليلة الإمتحان لا يقبل استغلاله في الإعداد للمادة التالية، على الرغم من أنه لا يبقى إلا غداً, لكن لا يهم.

لا يزال الصداع يمسك في رأسي، الساعة تشير إلى الخامسة، استيقظت متأخراً قليلاً، شغلت التليفزيون، لا أستطيع مغادرة السرير. على شاشة "ART سينما" شاهدت الساعة الأولى من فيلم "عمر وسلمى"، يبدو والله أعلم أنني سأخصص هذا اليوم للشتيمة، مزاجي متعكر بسبب الصداع، ولا زلت لا أعرف أي شيء عن مادة من المفترض أن امتحنها غداً.

شاهدت ساعة من الفيلم، أدركت أن الوقت تأخر كفاية، أخذت دشاً بارداً، هذه المرة جلبت الحنفية ماء فاتر، توقعت أن يكون الجو لطيفاً، وقد كان، نزلت إلى الشارع، أكلت بسرعة، واتجهت إلى بسمة الجنوب للبدء في المادة.

قرأت الجرائد في البسمة، لم اقرأها في المطعم لإنشغالي بمكالمة طويلة، لم يكن في الجرائد ما يستحق، فقط مقالة ليسري فودة عن تحقيقه التليفزيوني في "سري للغاية"، أعود لتذكر ما قاله رضا بخصوص العمل في الإعلام، لو لم أكن صحفياً يوماً، ما كان خبر أول أمس في المصري اليوم لينال اهتمامي.

نشرت المصري اليوم في السبت أو الأحد خبراً طويلاً، عن عودة يسري فودة للإقامة في القاهرة بعد إقامة طويلة بلندن مديراً لمكتب الجزيرة هناك، ومحققاً تليفزيونياً هو الأهم بلا شك على الساحة العربية.

لكن هل يستحق يسري فودة، على أهميته خبراً مفصلاً عن عودته للإقامة في القاهرة، ويتم نشره في "صفحة 3"، المخصصة للأخبار المحلية الهامة.. مهنياً لا أعرف إجابة على السؤال، لكن ما أنا متأكد منه، هو أن وراء الخبر علاقة ما بين فودة وبين المصري اليوم.

اليوم تتضح المسألة، يسري اتفق مع المصري على نشر عشرين حلقة عن كواليس تحقيقه الأفضل، لا عيب في ذلك على الإطلاق..

يرن سؤال صحفية زميلة في رأسي، تستنكر هي سلوك بعض الصحفيين، الذين يجرون أحاديث صحفية مع شخصيات معينة لضمان علاقة قوية مع تلك الشخصيات، أخبرتها وقتها أن هذا السلوك، من وجهة نظري لا يعيبه أي شيء، المهم أن تظل العلاقة في إطار العمل الصحفي، ما المانع مثلاً من أن أجري بعض الحوارات الصحفية مع شخصية أتوقع مستقبل ما لها، وذلك لضمان أن أكسبها كمصدر طويل المدى، المهم أن يظل مكسبي لها كمصدر فقط، والمهم أن تكون هناك أي حاجة تحريرية للحوارات الأولى مع الشخصية..

اللعنة مرة أخرى.. كل هذه الأسئلة لأجل خبر صغير في المصري اليوم، مالي أنا ومال سياسات الجريدة أو صفقاتها أو علاقاتها.. أنا قارئ، مجرد قارئ، اتلقى الرسالة الإعلامية بدون التفكير في خلفياتها.

بدأت التركيز في المادة، بدأت الآن فقط أخاف منها، كالعادة، تجاوزت الفصل الأول، كل الفصول الأولى في مواد دراسة الكلية لا تستحق حتى القراءة، تتحدث عن أهمية العلم الذي يتحدث عنه الكتاب، وتؤكد أن هذا العلم قديم قدم البشرية ذاتها، وأنه قديم "كيك" استخدمه الآباء والأجداد الأولون، بدون طبعاً أن يدركوا أن الذي فعلوه للتو اسمه صحافة، وأن تلك الفعلة القذرة في خلفية الجبل اسمها "علاقات عامة".

ذاكرت الفصلين الثاني والثالث والرابع، بدأت أفقد تركيزي بعد ساعة واحدة، ذهبت لياسر وبسام، واستكملت معهم باقي الفصول، قررنا حذف الفصل الخامس، اعتبرناه اعتراضاً منا على طول المادة، المادة التي بدأنا نذاكرها فقط الآن، قبل الإمتحان بنصف يوم أو أقل.

أخبرتهم أنني كرهت الفندق، سألت بسام عن الحجرة الثالثة، "فيها مكان؟؟"، أخبرني أن هناك شخص واحد يقيم بها، هو الآن مسافر، أضاف بسام "خليني أتصل بيه اسأله.. ينفع تقعد معاه ولا لأ، أكيد مش هيرفض، لأنك هتدفع فلوس".

اتصل به، لم يجب، استكملنا المذاكرة، وشاهدنا فيلم "45 يوم"، لم أحب هذا الفيلم، لكنه لم يزعجني حين شاهدته للمرة الأولى في السينما، الآن، أصبح هذا البطء يقتلني، ثم أن مشهد في نهاية الفيلم، من المفروض أنه مشهد مؤثر، يجبرني على الضحك، عزت أبو عوف، في وجه غادة عبد الرازق، يتحدثان لدقيقة، ثم يقترب منها، يضع يده على كتفها، يقول جملة تبدو كأنها خلاصة لكل شيء، "أنتي مش فاهمة حاجة أبداً".. ويمضي في طريقه بينما تستمر غادة بالبكاء.

انتهى الفيلم، شاهدنا فيلم أجنبي آخر، رجل واحد قرر أن يقتل كل الممثلين والكومبارس، وفريق التصوير والإخراج، وحتى المصور، كل الناس ماتوا إلا هو، عنده سير كالموجود في مصانع البسطرمة واللانشون، يضع واحد تلو الآخر، ثم يلقي جسده في خلاط كبير، ويشرب من دمه في "مج" شكله لطيف.

القنوات المشفرة تختلف عن "شانل تو"، فالأخيرة تخصص يوم واحد لأفلام الرعب، كما أنها تحذف المشاهد الإباحية، لدرجة جعلتني أعتقد أن أفلامنا العربية فيها من الإباحية ما يفوق إنتاج هوليود.

بدأت أدرك حقيقة الأمور الآن، لا يمر فيلم واحد إلا وأجده يحتوي على مضاجعة كاملة بين ممثلة وممثل، الغريب أن كلاهما مشهور بما فيه الكفاية ليصبح غير مضطراً لتصوير مثل هذه المشاهد، لكن ومن الذي قال أن هذه المشاهد تحتاج إلى اضطرار مطلقاً، اللعنة على الثقافة السينمائية التي يحصل عليها الواحد من قاعات السينما في مصر، ومن "شانل تو" طبعاً.

فكرت أنني سأمت من الفندق، كما أن المبلغ الذي أدفعه كل ليلة يبدو كبيراً، دون أن أحقق من وراؤه أي فائدة، مجرد نوم هادئ، وقد حصلت على كفايتي من النوم في الأيام السابقة، كما أن الشقة هنا مكيفة، وبالتالي لن يزعجني الحر كما كنت أخاف.

اقترحت على بسام فكرة، قلت "شوف، إحنا نكلم صاحبك تاني دلوقتي، رد كان بها، مردش، أنا كدة كدة هسيب الفندق بكرة، وأشوف أي مكان تاني".. وافق بسام على الفكرة، وجذب الموبايل من الشاحن لإجراء المكالمة المطلوبة.

فكرت أنا في هذه الأثناء أنني أصبحت سريع الملل، وسريع في إتخاذ القرارات.. لست متأكداً من الأخيرة، أعتقد أن سرعة اتخاذ القرارت صفة من أهم صفاتي.. لكن إن شئنا الدقة، فلنقل، عدم التفكير في القرار إطلاقاً.

أنا لا أفكر في تصرفاتي، لم يحدث هذا لي أبداً، وعندما أخلو إلى نفسي، فإنني أراجع بسرعة أهم عشر تصرفات وقرارات فعلتها في حياتي، وأندم عليها بشدة، أندم عليها لدرجة أن جسدي يقشعر، وأني أغلق عيني جيداً خوفاً من رؤية التصرف أو تذكره.

أعترف أن التصرفات كلها بسيطة، مثلاً مرة كنت أشاهد التليفزيون في بيت أقاربي، كنت في الثانوي وقتها، وكانت هناك مسرحية ما أو برنامج الكاميرا الخفية، جلسنا نتفرج أنا وبعض فتيات العائلة القريبات من سنة، كان المعروض كوميدي يجبرني على الضحك، كنت لا أزال واقفاً بالقرب من الشاشة، حدث شيء ما، جعلني أضحك جداً، حتى أنني استغرقت في الضحك، مطلقاً لجسدي العنان، لأدور دورة كاملة حول نفسي، ممدداً يدي إلى الأمام، كنت أبدو كمعتوه حقيقي.

ضحك كل الموجودين في الغرفة، وأصابني ألم شديد في صدري من الضيق، وقتها كنا في رمضان، وامتنعت أنا عن الأكل حداداً على صورتي التي اهتزت أمام فتيات العائلة.

طبعاً يبقى هذا تصرف بسيط، أمام غيره من عشرات ومئات التصرفات الغبية، وطبعاً تبقى كل هذه تصرفات، أمام "القرارات" التي تنتمي للفئة ذاتها من الغباء.

عادي، لا أفكر، ليس عيباً على الإطلاق، ثم أني أعالج الأمر الآن، عرفت أنني سأفشل دائماً في منع نفسي من التهور، ولذلك، اخترت في حياتي عدد من الأشخاص الذين أثق بهم، هم يفكرون بالنيابة عني، ويخبروني بما يجب علي فعله.

لا زلت أنتظر رد من بسام، أخبرني أن صديقه موافق "مبدئياً"، وسيناقش الأمر عند حضوره من خارج قنا غداً أو بعد غد، أخبرته أنني سأحضر حقيبتي من الفندق غداً قبل الذهاب إلى الإمتحان، ثم أنتظر رده النهائي، أكد بسام أنها فكرة جيدة..

رأيت أن الوقت مناسب للرحيل إلى الفندق لخطف ساعات من النوم، راجعنا المادة مرة أخرى بسرعة، ونزلت.

الثلاثاء :

كطالب يبحث عن النجاح يجب أن أنام على الأقل خمس ساعات قبل الإمتحان، أي عدد من الساعات يفوق رقم 3، لكن هذا لم يحدث.

وصلت إلى الفندق متأخراً، صداع يوم الأحد يضرب من جديد، خاصة ما أن أضع رأسي على المخدة، شغلت التليفزيون، وجدت على "شانل تو" فيلم يبدو أنه في منتصفه، اسمه "In America".. أحب هذا النوع من الأفلام، ذكرني بـ"
American Beauty"، وغيره من الأفلام التي انتشرت في التسعينات، والتي حاولت اختزال قصة أمريكا الكبيرة في قصص صغيرة، قصص عادية تماماً، لكنها قادرة على رسم مشهد أمريكي إجتماعي متكامل.

بذكر القصص العادية، الوقت أصبح ملائماً، لأطرح على نفسي السؤال الذي يتعلق بهذه اليوميات، ما الهدف من الجلوس ساعة كل يوم لكتابة ما يزيد عن ألف كلمة، في وصف أحداث اليوم العادية تماماً، بدون أي إحتمال أو توقع لحدوث أي مفاجآت من أي نوع.

سرحت بخيالي، سأصنع من هذه الأوراق صورة كاملة، كتلك التي تصنعها الأفلام السابقة، لكني لم أكن أنوي ذلك من البداية، ثم أن حكاية زيارتي لقنا، وما يتخللها من أحداث، غير معروفة بالنسبة لي حتى أنا نفسي، تلك الحكاية لا أعتقد أنها ملاءمة لرسم هذا المشهد، فأنا مجرد طالب فاشل، يعمل صحفياً ومخرجاً للأفلام الوثائقية، جاء إلى هذه المدينة البعيدة عن بيته واسرته، لأداء امتحانات العام الأخير في دراسته الجامعية التي تأخرت عامين كاملين.. ما الجديد في هذه القصة، وما الأشياء التي يمكن للقارئ أن يستفيدها.

قررت أنني سانشر هذه الأوراق على المدونة، لكني عدت وترددت، لن يقرأها أحد، لن يستمر أحد في قراءة ألف كلمة من الأحداث العادية، لن يستمر أحد في القراءة، أنا نفسي لن أستمر إن وجدت كلام مماثل على مدونة أحدهم.

فكرت أن التمهل مناسب، وأني بعودتي للقاهرة يمكنني أن أرسل هذه الأوراق إلى أي دار نشر مهتمة بنشر ابداعات الشباب، وستجد لأوراقي أي فائدة.

لكن هذه الأوراق ليست إبداعاً، أنا بالفعل لا أعرف لماذا أكتب؟، ولا أين سأنشر هذه الكتابة، لم يحدث من قبل أن جلست لأكتب كل هذا الكم من الكتابة بدون هدف، لكنه على كل حال نوع من الكبت، لم أكتب منذ شهور، آخر مرة كتبت فيها فعلاً كانت هنا في قنا. جلست وقررت أن أكتب مجموعتي القصصية الأولى، أطلقت عليها اسم "فز قوم – مذكرات خائف"، ونشرت الفصل الأخير منها على المدونة باسم "أشعر بالموت"، وقد استقبلت بعدها عرضين لنشر المجموعة، سرت خلف أحدهما، فانتهى مثلما بدأ، مجرد كلام.

يبدو أن قنا تمنحني بعض القدرة على الكتابة، في القاهرة، أقول لأحمد، ودعاء، وغيرهما ما أود كتابته، وحين أجلس أمام الشاشة وابدأ النقر، أكتشف أنني سأكتب كلاماً قلته من قبل، فأفقد حماسي.

لدي عشرات الأوراق على الديسك توب، في كل واحدة سطر أو سطرين أو حتى صفحة، بداية للكتابة في موضوع ما، ومحاولة لقول شيء آخر، لكن يحدث شيء ما يجبرني على التوقف، يرن الهاتف، أكتشف أن هناك من العمل ما هو أهم من الكتابة.

على كل حال، فإن الأوراق الكثيرة لا الديسك توب، لن تصنع مني أبداً كاتباً مهماً، هذا إن كان "مشروع الكتابة"، هو الملائم بالنسبة لشخص مثلي، لا يزال غير قادراً على إدارك نفسه بشكل جيد، لا يزال يتحسس ملامحه في الظلام، محاولاً الإجابة عن الأسئلة الأولى في التحقيق، الاسم.. السن.. العنوان، بالكاد استطاع أن يكتب في خانة النوع "ذكر"، وفي خانة السن "22"، وتمكن من وضع تاريخ يصلح كتاريخ مولده، بحيث يبدأ العد من عنده، والحساب.

إذن، "ملعون أبو الفلسفة".. ستقودني هذه الأفكار إلى السرحان الطويل، والحرمان من ساعات النوم الضرورية لدخول الإمتحان وأنا فايق، كما أن النوم المتأخر يعني بالضرورة استيقاظ متأخر، وبالتالي لن اتمكن من المراجعة التي منيت نفسي بها وأنا مع بسام وياسر، سأجرب طرقي السرية لجلب النوم.. تصبحون على خير..

رأيت نفسي في النوم، كنت هادئاً، أسير بطريقتي المحببة، لا أتعجل، لا أتمهل، بدون أي هدف، طرحت على نفسي كل الأسئلة التي تقلقني، العمل، المرتب، الحصول على عقد جيد يضمن الإستقرار، الإلتزامات الشهرية، دعاء، مليكة، مشروع شراء سيارة، إلخ.

لاحظت – خلال النوم – أن كل الأشياء التي تجلب على عقلي القلق موجودة في القاهرة، وقررت – في النوم أيضاً – أن حل هذا القلق بسيط وسهل، فقط علي أن أبحث عن تذكرة القطار التي جاءت بي إلى هنا، لأدرك من خلالها أن القاهرة هناك، بعيدة، وأنني الآن أحصل على أجازتي، وأن القلق لا يلاءم الأجازات الطويلة.

استيقظت على رنين المنبه، لم أكن عرفت مكان التذكرة بعد في الحلم، ضايقني ذلك، كان الحلم أكثر متعة من الواقع، جربت النوم لساعة إضافية، نمت بالفعل لكن بدون أحلام، أو ربما بحلم آخر قصير، لا يتصل بالحلم الأول.

أصبحت الساعة تشير إلى الحادية عشر ولا زلت أنا على السرير، تلقيت عشرات الـ"ميسد كول" من بسام وياسر ودعاء وأمي، كلها تلح علي أن أنهض، فعلت ذلك في الحادية عشر والنصف، دخلت الحمام بسرعة، وقفت تحت الدش من باب أداء الواجب، خرجت، لملمت أغراضي بشكل سريع، وأصبحت الآن جاهزاً للمغادرة.

نزلت إلى الاستقبال، دفعت ثمن الليلة الأخيرة، شكرت الموظف، وابتسمت ابتسامة تليق بمسافر عى وشك الرحيل عن المدينة، وهو أمر لم يكن من نصيبي هذا الصباح.

خرجت من الفندق، بحثت عن تاكسي يتجاوز بي الشارع إلى عمارة ياسر وبسام، شاورت لواحد لكن السائق لم يلاحظني، فجأة وجدت بسام وياسر أمامي، أخبراني أنهما تأخرا كثيراً، كبنا جميعاً أول تاكسي مر بالشارع، مررنا على العمارة، صعدت أنا وبسام، تركنا الحقيبة الصغيرة، وشنطة اللاب توب، ونزلنا بسرعة، إلى الجامعة.

إذن، أخبرني أيها الطالب البدين، ماذا تعرف عن الفصل الأول والخامس، لست على علم بأي شيء يا "سي الدكتور"، فقد تطوعت مع زملائي بحذف الفصلين، يا راجل، تريدني أن أحفظ نسب الألوان الملائمة، وأنواع الورق، وماذا يحدث عند وضع أزرق 30 مع أحمر 44؟، لن أحفظ هذا الكلام، الموضوع أكبر من ذلك، دعني أحدثك عن "إخراج المجلة" على طريقتي، أقول لك ما تعلمته في سنوات العمل الماضية، أنا أيضاً مخرج، لكني أخرج الأفلام الوثائقية، لا تقلق، سأخبرك عنها هي الأخرى، سأقول لك أن الإخراج واحد مهما تعددت أشكاله وأنواعه..

سأرسب في هذه المادة، إن كتبت هذا الكلام سأرسب بدون شك, هدوء، أحتاج إلى الهدوء للتركيز في هذه الكارثة، نصف الإمتحان في الفصلين المحذوفين من دماغي، النصف الثاني سهل ومعقول، لكن ماذا سأفعل في النصف الأول؟..

الطريقة المعتادة، سأكتب، سأعتبر أن الإمتحان سؤال واحد فقط، "أكتب كل ما تعرفه عن المنهج".. سأكتب كل شيء، بل أني سأرسم أيضاً، هناك بعض الرسومات في الكتاب، سأرسمها لعلها تحنن قلب الدكتور علي أنا الطالب البدين الذي حذف بغباؤه الفصلين الأول والخامس.

انهيت ملزمة الورق المخصصة للإجابة، أصبح خطي أوضح، ربما أنجح في هذه المادة، أجبت عن نصف الإمتحان بطريقة سليمة تماماً، وأجبت عن أسئلة غير تلك التي يريدها الدكتور، لكنها مرتبطة على كل حال بالمادة والكتاب.

خرجت بعد منتصف الوقت بربع ساعة، الجو ألطف كثيراً من جو الأحد، سأقف قليلاً مع الشباب، وقفنا، جلسنا قليلاً في الكافيتريا، لكن يبدو أننا جميعاً أدركنا أن لا شيء يستحق أن يفعل في تلك الساعات الحارة، خرجنا جميعاً دفعة واحدة، بحثنا عن تاكسي، وجدنا واحداً بعد دقائق، طلبت من السائق التوقف قليلاً في الطريق لشراء الجرائد، فلست متأكداً أنني سأستطيع النزول من الشقة في هذا الجو، اشتريت المصري والدستور، ووجدت القاهرة، فقررت شراؤها دون سبب محدد.

وصلت الشقة، جلست ساعة اقرأ الجرائد، ثم قررت النزول إلى انترنت كافية تحت المنزل مباشرة، قضيت عشر دقائق فقط، صعدت بعدها لأنام حتى الحادية عشر، وأفيق وأنا أتضور جوعاً.

تشاورنا جميعاً بخصوص الأكل، اتصلت بالدليل، سألت عن رقم "كويك دور" أذكر أنني رأيت لديهم رقم خدمة للتوصيل، من حسن حظي أن الدليل أصبح يغطي كل المحافظات، سمعت أغاني قليلة على الهاتف قبل أن يرد علي الموظف، سألته، أعطاني الرقم، اتصلت، سجلت رقمي، أعطيته العنوان والطللبات، وصل بعد ربع ساعة فقط، أكلت، وأمضيت ما بقى من ليلة في مشاهدة أفلام أجنبية، القتل فيها مستمر.

الأحد، مايو 25، 2008

"الخروج عند منتصف الوقت".. (3)

الأحد :

"وأنت مالك بالتاريخ، عموماً هما امتحنوها النهاردة الصبح".. قالها بسام في ثقة تلائم منتصف الليل..

أخبرته بسرعة أني أشك في أن التاريخ هو المادة التي رسبت بها في سنة ثالثة، وأنه من المفروض أن أمتحنها "تخلف" هذا التيرم.. قال أن الوقت متأخراً للإتصال بأي من زميلاته للتأكد، لكنه على ما يبدو متأكداً.. كنت أنا من يحتاج إلى أن يتأكد من أقواله، لا أعرف على وجه التحديد إن كان التاريخ هو مادة رسوبي أم أي مادة أخرى..

زفرت في غيظ، "يعني أكون في قنا وما أمتحنش.. والعمل إيه دلوقتي".. أخبروني أنني مضطر لإمتحانها في دور أكتوبر.. كان هذا أكثر شيء قادر على إزعاجي، لن أحضر إلى قنا في أكتوبر مرة أخرى.. لأذاكر وحدي وأمتحن وحدي وأعود وحدي.. على كل حال أي نوع من الغضب الآن يهدد امتحان الغد.. سأرحل للفندق وأنام، ثم يفعل الله ما يشاء في الغد.

في الطريق اتصلت بدعاء، أخبرتها، قالت أشياء غير مفهومة حيث كانت نائمة، زاد هذا من حزني، دخلت إلى محل صغير كان لا يزال مفتوحاً رغم تأخر الوقت، اشتريت بعض الشيكولاتة، وبيبسي، وصعدت إلى الفندق..

راجعت أوراق المادة، شاهدت التليفزيون، نمت في الرابعة، ضبطت المنبه على التاسعة، ثم عدلته إلى التاسعة والنصف، نمت بعمق، واستيقظت في الحادية عشر والنصف على هاتف الغرفة، موظف الريسبشن يسأل "حضرتك مكمل معانا؟"..

دش سريع وملابس نظيفة لونها كلها أزرق، لا أعرف ما الذي جعلني أختار هذا اللون الغامق، أصبحت كل ملابسي غامقة في الفترة الأخيرة، هل أنا مكتئب دون أن أشعر.. استبعدت الفكرة.

نزلت، رن الموبايل، مكالمة طويلة مع أحمد، سألته عن السيناريو ورأيه، قال أنه لم يقرأه بتعمق، لكن "الله ينور".. انتظرت بسام وياسر في مدخل الفندق، وركبنا تاكسي شاهين إلى الجامعة.

نزلت بسرعة إلى بدروم الكلية، حيث "شئون الطلبة"، طلبت نتيجة سنة ثالثة، وجدول امتحانات السنة ذاتها لهذا التيرم، تأكدت شكوكي، امتحان مادة التاريخ – التي هي مادة رسوبي – تم أمس السبت، لشيء ما وجدتني أردد آية وردت في كتاب الدراسات الإستشراقية، في حادثة الإفك، قوله تعالى، "ولا تحسبوه شرا لكم، بل هو خير لكم".. أرسلت الآية إلى دعاء في SMS، وقررت التركيز في الإمتحان الذي سيبدأ بعد قليل.

لم أفعل بالطبع، ذهب تركيزي كله إلى العمل، اتصالات متتالية، أحمد، رضا، كان علي الإتصال بعبد الله الطحاوي، أولاً لقول "مبروك" على عقد قرانه الذي تم بالأمس، وثانياً لأطلب منه بعض الأوراق المتعلقة بالعمل، رد عبد الله الحاسم أفقدني كل حماسي الذي بدأت به الإتصال، سيسافر مساء اليوم إلى "تانزانيا"، لا أعرف حتى إن كان هذا هو أسمها الصحيح، وسيعود مساء الخميس، وكنت أحتاج منه الأوراق مساء اليوم على أفضل تقدير.. اتصلت بأحمد وأخبرته بأننا مضطرين للبحث عن خطة أخرى، طلب مني التركيز في الإمتحان، وحتى يحصل هو على فرصة للتفكير.

لا أفرح كثيراً عندما أكتشف سهولة إمتحان ما، غالباً أحصل على درجات أسوأ في الامتحانات السهلة، الامتحان الصعب يمثل تحدياً ما لأن أقول للدكتور شيئاً من عندي، شيئاً يمثلني، معالجتي الخاصة لطريقة الإجابة على سؤال صعب لا أعرف إجابته النموذجية.

وجدت امتحان الإستشراق كما توقعته، أجبت كما يتوقع الدكتور الإجابة، سأحصل على درجة سيئة تمنحني النجاح بالكاد، عرفت هذا عندما راجعت الورقة، وأكتشفت مدى سوء خطي، على كل حال فقد انتهيت من الورقة كلها، إجابتي على الأسئلة ملأت عشر ورقات من كلام لا أؤمن به، ولا يناسب طريقة تفكيري، تلك مشكلتي التي سأتكفل بحلها، أما مشكلة الدكتور، فتتعلق بضميره، هل سيعطي هذا الطالب، الذي كتب كلاماً كثيراً، بخط سيء، درجة لائقة، بغض النظر عن محتوى ما كتب؟، أم سيعتبر حسن الخط من حسن الإجابة، وبالتالي فينال هذا الطالب فرصة جيدة لتحسين خطه في دور أكتوبر المجيد، وربما في العام القادم؟.. تلك مشكلة الدكتور، وزملاءه الذين سيقرأون أوراق إجابتي في المواد الستة الباقية.

أحاول تحسين خطي بقدر ما أحاول أن أفقد قدراً من وزني، إن كنت تعرفني عن قرب، فأنت تعلم بالتأكيد أني لم أحاول ولو مرة واحدة أن أفقد جراماً واحداً من وزني، لم يحدث هذا منذ عصر بدانتي الأول في إبتدائي وإعدادي، لست فخوراً ببدانتي، كما أني لست حزيناً لأجلها، لم أشعر بالعار بعد لأني أشغل حيز أكبر في الفراغ مقارنة بالحيز الذي تشغله أنت أو أنتِ، لم يشتكي الفراغ مني، ولن يشتكي.

أعتقد أنني لن أفعلها وأحسن خطي يوماً ما، كل الشواهد تؤكد ذلك، إنها المرة الأولى التي أمسك فيها القلم منذ ثلاث أو أربع أشهر، منذ الإمتحانات السابقة بالتحديد، ما بينها كان كتابة مستمرة بطريقة النقر على الكيبورد، أصبحت سريعاً جداً على الكيبورد، أكتب وأنا مغمض، وأكتب وأنا متعب، وأكتب وأنا فاقد للتركيز.. لا شيء يمنعني من النقر، لا قلق من الأخطاء المطبعية التي تنصلح وحدها بفضل بعض التقنيات، ولا خوف من صياغة ركيكة يمكن معالجتها في ثواني..

مر نصف الوقت، انتظرت عشر دقائق إضافية لأني لم أكن انتهيت بعد من السؤال الأخير.. أعتقد أن سيرتي الذاتية يمكن أن تحمل يوماً هذا الإسم "الخروج قبل منتصف الوقت".. أو بتعديل آخر، "الخروج عند منتصف الوقت"..

لا أعرف الحكمة التربوية التعليمية التي تجبر الطلبة على الجلوس نصف الوقت في اللجنة، وتمنعهم من الخروج قبل هذا الموعد، كل إمتحان مررت به في حياتي كانت تطبق فيه القاعدة السابقة، لماذا، الله وحده، ومن بعده وزير التعليم، يعلمان سر ذلك القانون الغريب.

ولأمر ما في نفسي، فقد ظلت أمنية الخروج قبل منتصف الوقت تلازمني في كل إمتحان، وبالنظر إلى الوقت القصير الذي مر في حياتي، ربما يمكن فلسفة الأمور بحيث تفهم أن فكرة نصف الوقت تسيطر على تفكيري في كل شيء، في العمل، في الزواج، في العلاقات الإجتماعية، خليط من التهور والإستعجال والفهلوة، خليط من الثقة بالنفس، والثقة بأنه لا يوجد المزيد لفعله، خليط من الرغبة في الإنجاز، وبين الزهد فيما بين اليد، والتطلع لما خارجها.. منتصف الوقت، والخروج بعده بقليل، تلك أمنيتي التي تتحقق غالباً في إمتحاناتي الصغيرة في الحياة، وكما تعلم عن الإمتحانات، ليست كلها تتم في لجان وزارتي التعليم والتعليم العالي..

خرجت، وقفت قليلاً أمام اللجنة، أجريت بضعة مكالمات سريعة، دعاء، ثم العمل مرة أخرى، اتجهت إلى الكافيتريا، اشتريت زجاجة مياة صغيرة، وبيبسي، وجدت عند باب الكافيتريا صديقة قديمة، كانت تجلس خلفي تماماً في اللجنة، هي الأخرى اسمها "ش"، أمر غريب، تقريباً أصبحت لا أعرف في قنا إلا "ش" و"ش"..

وقفنا نتحدث قليلاً، كالعادة، الذكريات التي لم أعد أتذكرها، "فاكر زمان"، "كانت أيام"، "فرحانة إني شوفتك"، "مش ناوي تتجوز؟".

تركت الجمل السابقة وأجبت على الأخيرة "أنا اتجوزت، وعندي دلوقتي مليكة، 4 شهور تقريباً"..

تصنعت الدهشة، تفاجأت، وضعت كفها على جبينها، لم تلصق الكف في الوجه، كان مليئاً بالمكياج، بحيث خافت هي – وخفت معها في الحقيقة – أن تفسد اليد ما وقفت ترسمه – بذات اليد - ساعة كاملة في الصباح.

قالت أنها مفاجأة حقيقية، وأنها غير مصدقة بالمرة، تصنعت الإهتمام بإثبات أن اخبر حقيقي، قلبت في الموبايل، وجدت صورة دعاء أثناء الفرح، واجهتها بالحقيقة، ضحكت، قالت كلاماً جميلاً بحق عروسي، "جميلة"، "ملامحها مسمسمة"، "شكلها بتحبك".. سمعت الأوصاف السابقة كلها مرات عديدة، رددت بما يليق بموقف مماثل، وقررت أن أعزمها على بيبسي.

طلبنا 2 فانتا، وقفنا في ركن مظلل، استكمالنا الحديث، ضحكت، قالت، "تصدق، أنا كنت عاملة حسابي عليك، بس أنت عملتها وإتجوزت، عموماً خد رقمي لو فكرت تتجوز تاني".. وافقت – على أخذ الرقم – ووعدتها بالتفكير في الأمر.. رن موبايلي، انشغلت بالرد عليه، استأذنتها في الإبتعاد قليلاً، وفقدتها بعد ذلك في الزحام.

عدت إلى الشباب، بسام وياسر خرجا من اللجنة بعدي بقليل، راجعنا أجوبتنا، تأكدنا أنها متطابقة – بغض النظر عن مدى صوابها من عدمه – ثم انشغلنا بالتدخين، هذه هي المرة الأخيرة التي أدخن فيها داخل الجامعة، أخرجت سيجاراً صغيراً، ودخنت، قلدتهم، تظاهرت بعدم الاكتراث، لا أفعل شيئاً مختلفاً بالمرة، فقط أدخن داخل الجامعة، سألتهم "مش خايفين العميد يكون معدي ويشوفنا فيرفدنا؟"، سألني ياسر "ليه؟"، قلت "عشان بندخن..!"، ضحكوا جميعاً واعتبروها نكتة جيدة.. ضحت أنا الآخر وتظاهرت بأنها نكتة فعلاً.

وقفت ساعة أو أكثر، لم يكن هناك ما يستدعي وقوفي، فقط إجراء بعض المكالمات واستقبال البعض الآخر، ثم تفرغت لمراقبة فتيات الجامعة، شكل البنات هنا – في قنا – مختلف تماماً عن بنات القاهرة، هن بلا شك أكثر حشمة – داخل الجامعة فقط – لكنهن – والأمر يحتاج إلى تجربة شخصية منك – أكثر إثارة، أو فلنقل - لدواعي الحشمة والوقار والإحترام - أنها أكثر جاذبية.

عموماً الوقت ليس ملائماً للحديث عن الفروق بين بنات وهنا وبنات هناك، كلهن بنات، وقد أخذت نصيبي – المؤقت على الأقل – منهن بالزواج من بنت (جميلة، ملامحها مسمسمة، شكلها بتحبني) هي دعاء..

بدأت طريق الخروج من الجامعة، أقول طريق لأن الأمر استغرق ساعة كاملة، مشيت ما يقرب من كيلو ونصف تحت الشمس، والشمس في قنا مختلفة تماماً عن الشمس في القاهرة وما يجاورها من محافظات.. مشيت تحت الشمس، وتأثر رأسي لدرجة أني تخيلت أني إن جربت ووضعت يدي على شعري، فستدخل أصابعي داخل نافوخي، وتترك أثراً دائماً..

بحثت عن تاكسي دون جدوى، وقفت بعد مدة عند ركن مظلل، اتصلت بسام الذي وصل بعد دقيقتين إلى نفس مكاني، وجدنا أخيراً ميكروباص فارغ، ملأناه في دقيقة، واتخذنا طريقنا للعودة.

لأول مرة أمر من الصهاريج منذ أتيت، لاأعرف سبب تسمية المكان بهذا الإسم، شارع واحد، طويل، مفصل بالكامل عن قنا كلها، لا يشبه باقي شوارعها في أي شيء، ربما لأنه مكان السوق، زحام، محلات لبيع أي وكل شيء.. في نصفه تماماً يرقد مقام لشيخ ما، اسمه غير مكتوب، لا يزال هذا المقام يحتل جزءاً كبيراً من ذاكرتي..

المقام بجوار محل لبيع الملابس الداخلية الحريمي، وصاحب المحل يفتش عن أي متر لعرض قمصان نوم ساخنة فعلاً، لا مانع إذن من شد حبل قصير، بين باب المقام، وبين باب المحل، حتى باب المقام نفسه، لم يسلم من قميص أحمر موديل "البيبي دول"، والعديد من الصديريات، وأكثر من "كيلوت" بألوان متعددة.

جاءتني منذ سنوات فكرة كتابة رواية عن المشهد كله، حتى أني أتيت مرة وصورته من زوايا مختلفة، وباليل والنهار، وحتى وقت قريب، كنت لا أزال أملك الصور، إلا أنها ضاعت في مرة من مرات استبدال ويندوز اللاب توب.

كتبت بالفعل عشر صفحات من الرواية، وبالطبع لم تكتمل.

نزلت من الميكروباص، فعلت الأشياء التي يجب أن تحدث، فرشة الجرائد، المصري والدستور، ثم كويك دور للغداء.

أرهق اللاب توب كتفي، تذكرت نصيحة "رضا" بخصوصه، لم أعد أقوى على حمله إطلاقاً، أحلم بالتخلص منه نهائياً بإلقاؤه على الرصيف، بدأت أراهن نفسي، سأعيش ليلة صعبة، سيسيطر علي الصداع إياه، صداع الشمس، "صداع الدوحة"، أحب أن أسمي الأشياء، أحمد يقول أنها عادة لدي، أطلق على الأشياء أسماء خاصة بي، في المرة الأخيرة أخبرته أنني أصبحت أتعرض لما أسميه "مرض اليوم الواحد".. تعب شديد يستمر ليوم واحد، أشخصه باعتباره برد مثلاً، ثم يختفي في صباح اليوم التالي، بل ويكتسب جسدي قدراً من النشاط بعدها.

"صداع الدوحة" أعرفه جيداً، أصابني للمرة الأولى في الدوحة، خلال وجودي هناك للدراسة في مركز الجزيرة للتدريب، وبالتحديد في يوم تصوير مشروع التخرج، وقفت في الشمس ما يزيد عن الساعتين، وهؤلاء الذين زاروا الدوحة في شهر أغسطس يعرفون خطورة فعلتي.

ليلتها أصابني صداع استمر لأيام، صداع في العين، صداع يتنقل في أجزاء نافوخي، ومع الصداع، ترتفع درجة حرارتي بشدة، ليس الإرتفاع العادي، أشعر كأن جسدي جذب الحرارة طوال النهار واحتفظ بها، ثم قرر طردها مرة واحدة.

ليلتها، قرر "هاني بشر" أن يسعفني بأي طريقة، أجرى اتصالاً مطولاً مع طبيب ما، ونفذ تعليماته التي تلخصت في وضع قطع من الثلج أسفل رأسي، وشرب العديد من العصائر المسكرة، في اليوم التالي لهذا أخبرني "هاني" أن الدكتور بيطرياً، وأخبرته أنا أن كل العصائر التي اشتراها هو لي كانت بدون سكر.

سيصيبني هذا الصداع الليلة، سأشعر به بعد ساعة ربما، بعد أن أعود للفندق وأنام.

عدت للفندق، حاولت النوم، كانت فكرة الصداع تسيطر على أفكاري، أصابني الصداع بالفعل بعد ساعتين من محاولة النوم، قمت بعدها وأنا أشعر بالغضب، شعرت أنني السبب في الصداع وليس الشمس، أنا من هيأت نفسي للمرض.

شغلت التليفزيون، شاهدت برامج مختلفة، ثم قررت النزول فجأة، وقفت تحت الدش فترة كافية، ارتديت ملابسي ونزلت.

لماذا أشعر بالجوع الآن رغم مرور وقت قصير على تناولي الغذاء، لم أهتم بالإجابة على السؤال، الساعة الآن العاشرة، والوقت متأخر كفاية لأسرع في خطوتي، المطعم على وشك الإغلاق، أو هكذا أتخيل.

صعدت للصالة العليا بمطعم "الشيف"، أشعر أنني سأسترد عافيتي إن أكلت جيداً، طلبت ساندوتشين، وجلست أكتب تفاصيل الأيام السابقة على اللاب توب، لماذا أحضرت هذا الجهاز معي إلى المطعم رغم أنه سبب الألم لكتفي في الظهيرة، أنا غبي، لابد أن أعترف بذلك.

أكلت، شاهدت بطرف عيني صينية كبيرة من "الكنافة بالقشدة" ترقد داخل ثلاجة العرض، كنافة بالقشدة وليست بالكريمة، الكنافة المحشوة بالكريمة منتشرة في القاهرة، لكن "أم قشدة" لا توجد إلا هنا، على الأقل لم أجد مثلها في القاهرة.

طلبت من العامل أن يحضر لي كيلو كنافة بالقشدة، سألني وكأنه يعلم أني من أهل مصر "بالقشدة ولا بالكريمة؟"، أكدت أني أريدها بالقشدة، ابتسم، وكأنه يتمنى لي مضاجعة ناجحة لعاهرة تولى هو أمر إحضارها حتى عندي.

دفعت الحساب واستلمت لفة الكنافة، فكرت أن هذه اللفافة ستجلب قدر من السعادة على شقة الطلبة التي يقطن بها ياسر وبسام، ذهبت إلى هناك، وجلسنا نأكلها جميعاً.

كعادة الرجال، ظللت خائفاً من ألا يكفي الكيلو لاحتياجات الشباب، ظللت أنظر للطبق بريبة، كأني أسأله، هل ستكفي؟، امتنعت عن النظر بعد قليل، خشيت أن يضبطني أحدهم وأنا أفعل ذلك فيفهم أنني أخشى أن تنتهي الكنافة وأنني أنوي أخذ الباقي معي إلى الفندق.

كعادة الرجال أيضاً، كان الكيلو كافياً جداً، حتى أن أكثر من الثلث كان لا يزال سليماً، تذكرت دعاء، تغضب دائماً عندما أبالغ في تقديري للكميات، عندما نكون في انتظار زيارة من أقارب أو أصدقاء، أقترح عليها شراء بعض قطع الجاتوة من المحل القريب، توافق، ثم تصدمني بشراءها عدد من القطع يساوي عدد الضيوف المنتظرين، حتى بدون ترك هامش للمفاجأة، اسألها : "طب إفرضي الناس جت زيادة واحد أو اتنين؟"، تجيبني بثقة معتادة "متقلقش".. الغريب أنه في كل مرة تصدق توقعاتها.

ما يسري على الجاتوة يسري على البيض، فأنا غير مقتنع على الإطلاق بنظرة بيضة أو بيضتين لكل فرض، الفرض يمكنه أكل كرتونة بيض كاملة، لماذا إذن الإقتصاد الذي قد يعرضنا للحرج أمام الغرباء، وكالعادة، يكفي البيض، وتصدق نظرية دعاء، وفي كل مرة تنفذ فيها رأيي، وتشتري قطع أكثر، أو تكسر بيضاً زيادة، يبقى من البيض والجاتوة ما تقول أنها ستجبرني على أكله، وهو بالطبع قول لم يصدق حتى الآن، فلم يحدث أن أكلت بيضاً من الليلة الماضية، أو أكلت جاتوة غير طازج.. ربما لأني كنت أصعب عليها فتقبل برمي الأشياء السابقة أفضل من أن تجبرني على أكلها.. وهي قادرة.

لا يزال الصداع يسيطر على دماغي، دخنت سيجاراً، لم يفلح في وقف الألم، قررت العودة للفندق، والنوم المبكر، نظرت في ساعة موبايلي وضحكت، من جاء بسيرة البكور، الساعة الآن الرابعة، يا رب أعرف أدخل الفندق في هذه الساعة المتأخرة.. وصلت.. كان لا يزال مفتوحاً، صعدت لغرفتي.. جلست قليلاً أمام التليفزيون، سمعت آذان الفجر، توضيت وصليت، وكنت قد أعلنت "تسليم النمر" مع الركعة الأخيرة.. استلقيت على السرير.. الصداع يدق في نافوخي.. هو بعينه صداع الدوحة.. تصبحي على خير يا مليكة.