عن "بشر" الصعيد.. أحكي لكم!
تريد أن تعرف المزيد عن "بشر" الصعيد؟.. أنا أحكي لك!
قلت لك أنهم ينتمون إلى زمن الدهشة.. لكن قبلها، دعني أفهمك عن أي بشر أتحدث..
هؤلاء الذين أقصدهم، هم رجال وكهول الصعيد.. لا شبابه وفتياته!
شباب هذا البلد، يدخل على النت، ويعاكس البنات، ويرتدي الجينز، لكنه مازال يتعامل مع كل هذه الأشياء بمنطق الدهشة..
لا هو مقتنع بأن الجينز يلائمه، بل أنه يفعل ذلك تقليدا للغرباء الذين يأتون للدراسة في جامعات بلاده، والذين قادهم حظهم العاثر ونتيجتهم الضعيفة في الثانوية إلى كلية حقيرة في هذه الجامعات..
ولا هو يعاكس أي فتاة، فالمعاكسة من نصيب البنت الغريبة فقط، لا مجال لمعاكسة واحدة من بنات البلد، لأنهن بنات عمومته وخالاته.. وهن صنعن للزواج فقط، وعيب جدا إن الراجل يعاكس مراته قبل الجواز.. ميجيبش منها عيال!
الغريب في موضوع المعاكسة، أن الغرباء الدارسين في هذا البلد، يستغلون فرصة انصراف شباب البلد عنهن، وحاجتهن لمن يشبع غرورهن الفطري، وحاجتهن الأنثوية لشاب يتأمل جمال كل واحدة منهن..، ستجد معاكسة بنات البلد عادة يومية لكل شاب مغترب، والأغرب أن الأمر يتطور أحيانا لتصبح لدينا علاقات غير شرعية وحمل وولادة وهند وأحمد ولينا..
السؤال الطبيعي.. طيب ما شباب البلد يعاكسوا بنات البلد، ويتجوزوا ويخلصوا.. إنه زمن الدهشة.. ورفض كل ما هو طبيعي والإصرار على هدم رؤية أشياء بعينها رغم أنها.. واضحة زي "السمس".. هكذا ينطقونها!
أما النت كافيه، المزار الطبيعي لكل شاب قناوي صعيد جدع أو مش جدع.. فستجده يدخل يوميا ساعات طويلة يقضيها كلها بتركيز واهتمام بالغين.. في لعب الفيفا.. أو الشات مع بنات خليجية، أو البحث عن أحدث صور لنانسي عجرم و.. جورج وسوف!
في النت، ستجد تناقضية غريبة، بين ملابس بعض الجالسين، والجهاز الذي يجلسون أمامه، قمة البدائية، وقمة التكنولوجيا.. بجلباب وشبشب بصباع، أمام الويندوز إكس بي.. أو إخص بي كما نطقها أحدهم أمامي بالأمس!
في النت يدهشك الحوار الذي يدور بين الجالسين.. لكنه يعمق الصورة الأولى التي أخذتها عنهم.. هؤلاء البشر، يعرفون جيدا أن الدنيا تطورت، وأن الوضع تغير، لكن داخلهم رغبة غريبة، وحب مرعب، لأن يظلوا ينظرون لكل شيء من الخارج، دون الدخول إليه والاشتباك معه..
هنا ستجد كل الأجهزة عليها النسخة العربية من الويندوز، وبدون أي برامج يحتاجها أي مبتدئ لكتابة ورقة أو رسم صورة.. وعلى "الهارد"، تمتع بمشاهدة أروع وأسخن أفلام البورنو، ولا مانع من وجود بعض أفلام الأكشن.. وفي فولدر منزوي ستجد أفلام أجنبية مترجمة.. للشباب المثقف!
هل وقعت في خطيئة التعميم أثناء حكاياتي لك.. ربما.. إذن سأحاول تصحيح الأوضاع..
ليسوا كلهم بالصورة التي نقلتها لك.. ستجد منهم التاجر الشطار الذي يسافر كل أسبوع للأقصر وأسوان والغردقة التي لا تبتعد كثيرا عن قنا..
هذه النوعية – وإن كانت قليلة – أدركت أن الدنيا تطورت فعلا، وأنه من الواجب ألا نجعلها تتطور وحدها...
يسافرون إلى هناك، يتاجرون، ويتعلمون جملتين من كل لغة، ويصبح كل واحد منهم قادر على الحديث مع أي سائح مهما كانت جنسيته، وحتى ولو كان قادما حالا من المريخ.. سيحدثه بالمريخي..!
الغريب أن صديق لي منهم.. يرسب كل عام في المادة ذاتها.. الإنجليزي.. ورغم أن يتحدث بها بطلاقة.. لكنه لا يعرف شيء عن كتاباتها!
وحكايات هؤلاء لا تنتهي.. تزوجها رغم أنها أكبر منه بـ50 عام، نظير شراكتها له في البازار الصغير الذي ينوي شراءه، وهو لن يخسر كثيرا، ستأتي مرة كل عام، وربما ترسل له بعد شهور ليقضي معها أجازة الكريسماس في بيتها المتواضع.. بالباهاما!
هو الآخر سيستغل المبلغ الذي أخذه للزواج، سيتزوج بنت عمه التي أحبها رغما عنه، كم تمنى أن يحب فتاة أخرى غيرها ليبدو مختلفا، لكن القلب وما يريد، لقد انتظر طويلا حتى يدق قلبه، وحين دق.. دق لبنت عمومته.. رب صدفة غير من ألف جواز!
هذا نموذج من الخارجين طازة من زمن الدهشة، والنماذج كثيرة، واحد آخر منها ينطبق على الراحل من قنا منذ سنوات طويلة، أخذ شهادته الثانوية، ومعها حقيبته المليئة بالملابس التي لن يستخدمها أبدا لأنها لا تناسب أي بلد آخر إلى قنا.. ومعها طعام أمه الثمين، وخطابات أبوه وأصدقاءه لأصحابهم في القاهرة.. ورحل!
التحق بالدارسة في أي كلية محترمة، لأن مجموعه في الثانوية أكبر بكثير من مجموع نظرائه من أبناء القاهرة ووجه بحري، أولئك مشغولون بأشياء كثيرة، أما هو فلم يشغله شيء عن المذاكرة.. إلا المذاكرة!
يعمل بجانب الدارسة، يتغير سريعا، المدينة تفعل أكثر من ذلك.. ينسى كل ما له علاقة ببلدته الصغيرة المجاورة لقنا.. ويتوه (رغم أنه ليس تائه) في دوامة المدينة!
من هؤلاء مصطفى بكري وأخوه.. وأسماء كثيرة أخرى.. تعيش بيننا تاركة جذورها الأولى في الصعيد..
هؤلاء ينجحون جدا، لأنهم لم ولن يستطيعوا أن ينسوا أنهم غرباء عن هذا البلد، وأنهم أتوا في مهمة ما.. ربما لن تنتهي.. لكنها في النهاية مهمة.. ويجب تنفيذها على الوجه الأمثل!
ونوع ثالث منهم، واحد من الخوارج عن الزمن ذاته الذي ابتلع الصعيدي في ظروف مجهولة.. المهاجر، هو ينتظر أن يحصل على شهادته، وتنفعه كورسات اللغة التي يأخذها منذ شهور، واستيفاءه لكل شروط الهجرة إلى كندا.. وتحويشه لثمن التذكرة من عمله كبائع في محل ملابس شبابية.. ينتظر كل هذه الأشياء ليهاجر ويترك ورائه مصر كلها تشبع بما فيها.. فقد سأم..وقرر التمرد!
أنت طبعا تعرف عن الهجرة أكثر مني.. كل ما سأخبرك به أن شريف قد قابلني بنفس الوضع في عامي الأول في هذه المدينة منذ أكثر من أربعة أعوام.. وهو مازال منتظرا حتى الآن.. ينتظر الشهادة والتحويشة واستيفاء الشروط.. وأشياء أخرى ينتظرها لم تكن في حسبانه.. هو يقول.. أنه أصبح يشبه خاصية الانتظار التي ركبها السيد والده في البيت، رغم أن التليفون لا يرن أصلا إلا مرة واحدة كل ليلة حين تكلمهم أخته الوحيدة لتثرثر قليلا مع أمها.. لكنها نصيحة أحد أصدقاء والده بأن يركب الانتظار لأنها مفيدة وجديدة.. فركبها أبوه.. وشريف لا يرى فيها فائدة سوى أنها تشبهه!