الاثنين، أبريل 11، 2011

عن الإنسان الذي لا يبكي

يوجد نشيد إسلامي يبدأ بسؤال صعب جداً هو: يا أيها الإنسان هل تبكي لما أبكاني؟؟.. والحقيقة أنه نشيد كئيب، تزداد جرعة الحزن فيه بزيادة كل كلمة جديدة، حيث يمضي المنشد سائلاً الإنسان : أرأيت ماذا قد حصل للعالم الحيران؟، اليأس يعبث بالأمل، ويهز كل كياني.

في جامع الرحمن، الذي يقع أمام منزلنا مباشرة في "كرداسة"، كنت، والأطفال من "أشبال الإخوان" نغني هذه الأبيات صباح كل جمعة، ضمن طقس يسمى بـ"مدرسة الجمعة"، حيث نستيقظ مبكراً، ونذهب إلى المسجد لإنشاد الأناشيد ولعب "البينج بونج" وقول أذكار الصباح والهتاف بأن "الله أكبر ولله الحمد".


والحقيقة، أني كنت فخوراً بهذا الطقس، والحقيقة أيضاً، أني لازلت فخوراً بنسبة كبيرة، كانت مدرسة الجمعة مناسبة سعيدة للأشبال بشكل عام، وكان نشيد "الإنسان الذي لا يبكي" كما كنت أسميه، يكسب الأجواء طابعاً سحرياً، كنت أتخيلنا جنوداً في معركة التحرير (دون أن أدري أية بلاد سنحرر، ومن أي شيء سنحررها). وكنت أتصور أن الجنود الذين يقاتلون الأعداء فعلاً، يقضون أوقات فراغهم وهم ينشدون مثلنا نحن أشبال المسجد نشيد الإنسان الذي لا يبكي.

بالنسبة للأطفال، فإن كافة الأشياء التي تشعرهم بأنهم مختلفين، أو أكثر أهمية من أقرانهم، هي أشياء جيدة جميلة تصنع السعادة، وقد نجحت مدرسة الجمعة، والأناشيد كلها في صنع هذا، كانت لدينا أناشيد أخرى، مثل "أن تدخلني ربي الجنة هذا أقصى ما أتمنى وتهب لي الدرجات العليا يا ذا المنة.. يا رب"، وقد كانت علاقتي طيبة بهذا النشيد أيضاً، خاصة الجزء الذي يذكر الدرجات العليا، والتي كان خيالي يتوقف عند تصورها الدرجات التي نحصل عليها في المدرسة، في العلوم والحساب وغيرها من المواد، دون أن أتصور مطلقاً فكرة أن الجنة بها درجات وأننا ندعو الله أن يضعنا في درجة عالية بها.

أيضا نشيد "ناداك الإسلام فأقبل، يا ابن الإسلام لتسمعه" ولا أذكر من باقي النشيد إلا جملة ختامية تقول "يريدك أن تأتي معه"، وهذا نشيد لم أحبه، لأني لم أفهمه، وكان هناك حواراً يدور بين شخص هو "الإسلام"، وطفل هو "ابن الإسلام" حول حال العالم وأحوال المسلمين.

كانت كل معلوماتي عن العالم تتلخص في أن الناس تقتل في كل مكان، والناس كلهم مسلمين إلى أن يثبت العكس، حكى لنا الأستاذ قصة في مدرسة الجمعة، عن التتار الذين دخلوا إلى البلاد، (لم يقل وقتها من هم التتار، ولا ذكر اسم البلاد)، وقتلوا كل من فيها، حتى أن رجل تتاري خرج من بيته فوجد رجل من أهل البلد، فقال له قف مكانك، وضع رأسك على هذا الحجر، وسأدخل إلى بيتي لأحضر السيف وأقتلك، وهو ما حدث فعلاً، حيث لم يملك المسلم الضعيف وقتها إلا تنفيذ الأوامر، وتم قتله والحمد لله.

بالطبع لم يذكر المدرس العظة التي يجب أن نفهمها من القصة، وحتى إن ذكرها، فما تبقى من الجلسة في ذاكرتي هو القصة، والآن، أجد أن العظة الحقيقية من قصة كهذه هي ألا نحكي للأطفال ما يمكن أن يصدقوه بسهولة، وما يمكن أن يكتشفوا بمرور الوقت كذبه بذات السهولة.

في بعض الأوقات، أضبط نفسي متلبساً بغناء نشيد الإنسان الذي لا يبكي، وحين أفعل ذلك، أمنح عقلي بعض الوقت للتفكير
..

كوكو يختار الحرية

كعادة الذين يتزوجون حديثاً، كانت لدي ميولاً رومانسية، ويمكن ملاحظة هذا خلال عدة مواقف..

اقترحت على خطيبتي أن نشتري حوضاً لأسماك الزينة، وقد وافقت.

اقترحت أيضاً، حين ذهبنا للمول الضخم لشراء بعض الأدوات الكهربائية الناقصة، ولم تكفي نقودنا لشراء كل شيء، اقترحت أن نشتري دبدوباً كبيراً، نضعه في الصالة ونلعب به، وقد وافقت.

وأضفت اقتراحاً أخيراً، بخصوص شراء قفص صغير للعصافير، يضم عصفوراً وعصفورة، والحقيقة أن خطيبتي رفضت الأمر، وبشدة، وكان علي أن أبدأ حياتي الزوجية محروماً من العصافير، ومكتفياً بحوض الأسماك والدبدوب الضخم.

ثم.. ثم ماذا؟

يبدو أن أخي الأصغر لاحظ هو الآخر ظهور بعض أعراض الرومانسية علي، وعليه.. فقد أهداني في زيارته الأولى لمنزلي المتواضع، قفص عصافير صغير، يضم عصفوراً وعصفورة، وكانت مفاجأة سارة.

بمرور الوقت، اخترت مع زوجتي اسمين للعصفور والعصفورة، ربما كان "كوكو" و"كوكة"، بالطبع كانت إحدى صفات المتزوجين حديثاً، تلك المسحة السخيفة من الدلع التي تغلف كل شيء.

في البلكونة قمت بدق مسمار صلب طوله عشرة سنتيمترات، وثبت القفص من خلاله، وقد اعتدت أن آخر ما أفعله في يومي قبل الدخول إلى السرير، هو سحب القفص من الخارج، وبالتالي فإن أول ما أفعله صباحاً هو إعادة القفص إلى مكانه.

في الصباح، كنت أطمئن على منسوب المياة في الزجاجة الصغيرة التي تشرب العصافير منها، وكنت أضيف قدر من الحبوب إلى صندوق الطعام. وكنت أستغرق دقيقة أو دقيقتين في مراقبة القفص، وألاحظ مجدداً أني على وشك التحول إلى زوج رومانسي يحب العصافير ويلعب بالدبدوب ويراقب أسماك الزينة.

كانت أحلامي بخصوص العصافير محدودة، فقط تمنيت أن ينجب "كوكو" و"كوكة" عصفور صغير، لكن حقيقة أني لست متأكداً من أن "كوكو" ينتمي لذكور العصافير، وأن "كوكة" عصفورة أنثى، جعلت القفص يضمهما سوياً، حتى نهاية القصة.

ما الذي جعل للقصة نهاية؟

كنت أفكر أحياناً أن "كوكو" و"كوكة" قررا الاستغناء عن الحرية مقابل الحب، لا مانع من التضحية بالطيران الحر في سماء الله الواسعة، طالما أن قفصاً صغيراً يجمعني مع من أحب.

أنا وحبيبي فقط، في قفص، نلعب، نلهو، نأكل، نشرب، نمارس الجنس، نتكاثر، نغني، نزقزق، نفعل ما نشاء، مملكتنا الخاصة، لنا وحدنا، فقط هي مغلقة، لكن، لا شيء يهم.

كنت أراه اختياراً منطقياً، الحب مقابل الحرية، والحرية مقابل الحب، عدل كافي، لا يحسدون أحد، ولا يحسدهم أحد. والحمد لله رب العالمين.

لم أكن رومانسياً كفاية لأعرف أن "كوكو" و"كوكة" ليسا على ما يرام. لذلك، فقد صدمت.

خرجت إلى البلكونة ليلاً لأجذب القفص إلى الداخل، لاحظت فتحة صغيرة في الصندوق الخشبي الملحق بالقفص، لقد هرب "كوكو" بعد أن نجح في إزاحة الباب من الداخل. وقد ترك "كوكة" وحدها.

هرب "كوكو" وترك وراءه الأسئلة التالية..
كيف يمكن التضحية بحبيبة في قفص، والمغامرة بالطيران في عالم لم يكن مسموحاً بتجربته من قبل؟
هل كان الهارب على علاقة بحبيبة أخرى خارج القفص، جملت له متعة الطيران في الفضاء المفتوح، وجعلته يزهد في الحب الدائم، المحبوس؟
أي شجاعة تلك كانت تفتقدها الحبيبة، لتترك رفيقها يغادر وحده؟، هل خافت؟، هل غضبت؟، هل عجزت هي الأخرى عن تخيل الحرية؟، أم أن البقاء وحيدة، والبكاء على الحب الذي كان، هو خيارها الأفضل؟.
هل كانت حرية الهارب مضمونة؟، وهل كان البقاء مريحاً للدرجة؟
هل افتقد الهارب – بعد ذلك – سكون القفص؟، وهل ندمت الحبيبة على قرارها؟
كيف وجد الهارب قوت يومه؟، وكيف أكلت الحبيبة وحدها وجبتها – الهنيئة – الأولى؟

..
"كوكو" اختار الحرية، "كوكة" اختارت البقاء.