الخميس، يناير 17، 2008

أشعر بالموت..



تعالى حبيبي فما فات مات، وما هو آت جميل كصدري، أمد إليك يدي باشتياق، ودمعي حبيبي من العين يجري، تعبت.. تعبت من البحر لكن قلبي يصر على البعد عن بؤس بري".. كاظم الساهر.


- إرشادات القراءة :


* "السطور القادمة تحمل بعض الخيال، وكل الحقيقة".

* "الأموات الوادرة أسمائهم في هذه السطور، ماتوا بالفعل".

* النص التالي طويل بعض الشيء، وإن كان ينصح بقراءته مرة واحدة.

* هذه السطور.. ليست قصة!


.................

يقولون، أن الميت يشعر قبل موته بأنه على وشك الرحيل، وأن إحساساً بذلك يخترق قلبه، قبل رحيلة بأربعين ليلة كاملة، وأن تصرفات الراحلين كانت تنذر برحيلهم القريب، وأنها حكمة الله، أننا – الباقون على قيد الحياة - نتأمل تلك التصرفات بعد أن ندرك أنهم رحلوا بالفعل.. مكتفين بالبكاء والظهور بمظهر المتأثرين، قائلين.. "كإنه كان حاسس إنه هيموت"..

وأنا، منذ أربعين ليلة وأكثر، أشعر بأني على وشك الرحيل..

بل أني أتأمل تصرفاتي بنفسي، فأعلم أني "كأني حاسس بالموت".. لكني لم أبكي بعد، ولا حتى اجتهدت في الظهور بمظهر المتأثر.

تبدو قضية موتي غير مهمة بالنسبة لي على الإطلاق، في الحقيقة، تكمن أهميتها الوحيدة في كونها توحي لي دائماً بأفكار جميلة لقصص قصيرة، وتدفعني لكتابتها بسرعة، حتى لا أموت تاركاً تلك الأفكار دون أن يعلمها الناس.

إن كنت سأموت صغيراً، كما توقع لي أبي ذات مرة مازحاً، وكما قالها لي أحد أصدقائي في ساعة لوم طويلة "يا أخي أنت هتموت صغير فعلاً، بس ده مش معناه أنك تبقى مستعجل قوي كدة"..

إن كنت سأفعلها وتصدق توقعاتهم لي فعلاً، فلأفعل في حياتي القصيرة ما يغنيني عن طولها، أكتب القصص القصيرة، وأقابل هؤلاء الذين يفترض بي أن أقابلهم في وقت لاحق، ولأفعل الأشياء التي تليق بمن هم أكبر سناً، ولأصالح نفسي على نفسي، ولأبصق على كل الوعود المستقبلية، التي منحتها لنفسي، أو التي منحها لي الآخرون، أو التي منحتها لهم، ولأعتذر لله عن كل الأشياء الشريرة التي فعلتها من قبل، والتي ربما أفعلها إن كان في عمري بقية تسمح لي بفعلها.

أخبركم أولاً كيف أشعر بالموت.. وكيف أتعامل معه..

هو – الموت - يرقد بجواري الآن، نائم على سرير رائحته نتنة، "متكلفت" ببطانية لم يغسلها أحد أبداً، مبدياً استياءه البالغ من البرد و"السقعة" ومن عدم وجود سكر في المطبخ يكفي لعمل "كوباية" شاي تجلب له ولي بعض الدفء، حيث أننا سـ"نخمس" سوياً في تلك الكوباية".

الموت لا رائحة له كما يقولون، ولا صوت، الموت له ملمس، له ضغطة على القلب، له إحساس عند أطراف أصابع قدميك، حيث تبرد أطرافك فجأة، وينسحب قلبك للداخل، وتشعر بسخونة أذنيك، تعلم وقتها أنه حولك، وأنه سيظهر لك بعد قليل، كما ظهر لك في المرة الأولى.

تسمع صوت القرآن، [والتفت الساق بالساق، إلى ربك يومئذ المساق، فلا صدق ولا صلى، ولكن كذب وتولى، ثم ذهب إلى أهله يتمطى، أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى، أيحسب الإنسان أن يترك سدى، ألم يك نطفة من مني يمنى، ثم كان علقة فخلق فسوى، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى].. تردد بصوت خفيض.. "بلى قادر" ثم تستعد لاستقباله.

أنا اقرأ الآيات السابقة في كل صلاة جماعة أكون الإمام فيها، حفظتها من المرة الأولى التي سمعتها فيها، كنا في رمضان، ساعة الفطار، وكان المسجد المجاور لمنزلنا يقيم صلاة المغرب، وصلى الإمام بتلك الآيات، وسمعها أبي فأبدى رفضه لذلك، قال أن تلك الآيات ليست مناسبة لصلاة المغرب في رمضان، فهي تذكر بالموت، وساعة الفطار ساعة حياة، وأنا أحب وجهة أبي تلك، وإن كنت أشعر بالموت دائما في رمضان في ساعات الفطار فقط.

ظهر الموت لي عدة مرات، لم يأتيني مرة واحدة، العلاقة بيننا قبل شهور لم تكن تسمح له بالرقود بجانبي، كان يكتفي بالتلويح لي من بعيد..

لوح لي ذات مرة، منذ خمس سنوات وأكثر، وأنا في "برج القانونين" بكورنيش المعادي، في زيارة عمل لرجل كنت أعمل معه وقتها، وبينما كنا نناقش تفاصيل موقعه الإليكتروني الذي اختارني مشرفاً له، سمعنا صرير عجلات سيارة حديثة، أنت تعلم أن السيارات القديمة لا تصدر مثل هذا الصرير، قام الرجل من على مكتبه، طل من الشباك خلفه، وتمتم بـ"لا إله إلا الله".. و"حسبي الله ونعم الوكيل"..

كأن شيئاً ما يناديني، تقدمت أنا الآخر من الشباك، ونظرت، ورأيت بالأسفل جثة شاب ترقد على جانب الطريق، غطاها أحدهم بغطاء سيارته، وعلى مقربة منه سيارة حديثة، وكان هو يقف بجوار الجثة، يلوح لي، يعلو صوته منادياً، هل تراني؟؟، هل تعرفني؟؟، هل تقبل صداقتي؟؟..

بهدوء يلاءم اللحظة، تركت مكاني، وعدت إلى مقعدي، مستكملاً كلامي مع الرجل عن موقعه الإليكتروني، الذي اختارني مشرفاً له..

عند مغادرتي "برج القانونين"، كانت الجثة قد اختفت، والسيارة الحديثة قد رحلت، وكان هو يستعد لركوب ميكروباص متجه إلى حلوان من الناحية المقابلة، وقد ابتسم لي عندما التقت عيوننا هو من شباك ميكروباصه، وأنا من شباك تاكسي قديم، متجه إلى الدقي، بينما كان هناك رجل عجوز يلمحنا نحن الاثنين، أنا والموت، ويستمر في عمله، حيث قرر غسل الرصيف بالماء، منظفاً إياه من دم الشاب الميت.

................

ثم لوح لي مرة أخرى، حين أتاني مع "عمرو عبد الناصر"..

كان عمرو هو الآخر يدري أنه على وشك الرحيل، وقد رحل بالفعل بعد لقاء جمعنا أخير بمدة قصيرة..

وقتها كنت أنا أبدأ دراستي في قنا، وكان فريق المسرح الذي أسسناه في مدرسة "كرداسة الثانوية المشتركة" مستمراً في العمل، وفي المسرحية التي عرضت ذلك العام، والتي لم أتمكن من حضورها لأنني كنت هناك في قنا أؤدي امتحانات رسبت فيها بعد ذلك، في تلك المسرحية وقف عمرو قبلها يقدم أبطال العمل ويصنع إهدائاً لهؤلاء الذين يستحقون، وكنت أنا منهم.

عندما أبلغني "عبادة" أخي بما فعله عمرو، امتلكنتي الحيرة، فعلاقتي بعمرو لم تكن أبداً جيدة، بحيث يعتبرني هو شخصاً أستحق، يصنع لي إهدائاً يليق.

في أجازتي القصيرة في كرادسة، قابلت عمرو، كان هو يركب دراجته، ويرتدي بنطلوناً جميلاً، طالما تمنيت ان يهبني الله رشاقة عمرو لأرتدي بطلوناً يشبه بطلوناته، نزل عمرو من على دراجته، تقدم مني، قبلني، شكرته في خجل عما فعله في عرض المسرحية، أطرق هو قليلاً، ثم قال "عارف.. أنا عمري ما قلت لحد كدة.. بس هقولهالك أنت.. سامحني".. لم أكن وقتها أعلم على ماذا أسامحه بالضبط، ربما كان يقصد علاقتنا المتوترة ككل، فهو لم يصنع شيئاً يؤذيني أبداً، ولا أنا فعلت.

ثم تركني عمرو ومضى على دراجته.. وكان الموت يلوح لي من المقعد الخلفي للدراجة.. حيث لف ذراعه على خصر عمرو.. ويبدو أنهما صارا أصدقاء بما يكفي.. فقد رحل عمرو بعد تلك المقابلة بأسابيع، غرقاً في الإسكندرية.. عند "بير مسعود"..

توطدت علاقتي بالموت أكثر في جنازة عمرو ولحظة دفنه، حيث أطلت النظر إلى قبره خاوياً، وبالتحديد إلى المساحة الصغيرة التي سيشغلها جسده بعد دقائق، فقد وصلت إلى قبر عمرو قبل وصول عمرو نفسه..

بكيت ليلتها كما لم أبكي من قبل، وجلست أنا و"عبادة" طول الليلة نحاول النوم دون جدوى، تم دفن عمرو في الحادية عشر ليلاً، وكنت على موعد مع السفر إلى الأسكندرية فجر اليوم التالي لإنجاز بعض الأعمال لأبي، وقد ركبت بجوار السائق، دافعاً أجرة "نفرين".. فقد كان "هو" – الموت - يشغل المقعد المجاور..

وصلت الأسكندرية، وأنجزت أعمال أبي بسرعة، ثم انطلقت إلى "بير مسعود"، أنا وهو، وقفناعلى الشاطئ، وشرح لي هو كيف رحل عمرو، وكيف شعر وهو يرحل، وطبطب على كتفي، وجفف دموعي، وتلقى عزائي في صديقي، وتسبب ذلك في تأخري بحث لم أستطع العودة للقاهرة في مساء ليوم نفسه، وبقيت لليوم التالي، وهكذا تغيبت عن عزاء عمرو، وقد كنت الوحيد من طلاب مدرسة كرداسة الثانوية المشتركة الذي فعل ذلك وتغيب.

على شاطئ "بير مسعود" كانت المرة الوحيدة التي أتحدث فيها معه.. وقد عرفته صديقاً مخلصاً بعد ذلك، يعرف كيف يريح ذراعه على كتفي دون أن يشعرني بالحرج، ويعرف كيف "يطبطب" علي دون أن تتسبب طبطبته في بكائي، فهو يعرف أن "الطبطبة" تقودني إلى البكاء مباشرة..

وبالطبع فقد صرت أشعر بالموت في كل مرة أنزل فيها إلى البحر.

ثم احتضنني عند رحيل "محمود"..

ومحمود قريب لي، كان ضابطاً صغيراً، توفى في العريش في حادث إنقلاب سيارة كان يستقلها في طريقه لأداء مهمة عمل..

لحظة دفن محمود، كنت أنا أقف بجوار السيارة، أنظر للصندوق في احترام، وأخاف أن يفعلها أحدهم ويقرر فتح الصندوق أمامي، وقد جائنا صوت من الداخل، بأن "هاتوا الأمانة".. وهو يقصد جثة محمود.. وقد شعر الرجال الواقفين حول الصندوق بخوفي، فقرروا فتحه في الداخل، ومنعني الزحام من رؤية جسد محمود ووداعه.. لكن يد الموت كانت لا تزال تربت على كتفي.. وكان يهمس لي في أذني بأني قد صرت منذ اللحظة "أمانة".. في انتظار أن يناديها أحدهم قائلاً.. "هاتوها"..

لم يكن محمود قريب مني، فهو أكبر مني بسنوات لا تسمح بوجود علاقة صداقة قوية، لكنه شرح لي ذات مرة وأنا صغير معنى كلمة "نتمشى"..

كان هو مع فتاة قريبة لنا يستعدان للخروج، وقد أبديت فضولي لمعرفة المكان الذي يقصدانه، فقال هو "أبداً.. هنتمشى شوية".. ولأني طفل صغير وقتها سألته "يعني نتمشى؟".. فقال هو بابتسامة.. "نتمشى يعني نمشي وإحنا بنحك رجلينا في الأرض كدة".. وحك قدميه في الأرض بشكل جميل، ومن وقتها وأنا أحب التمشية وحدي، لكني أكره أن أسمع صوت أحدهم يتمشى..

بمناسبة الصوت، جعلني صديقي الموت، أكره بعض الأصوات.. منها مثلاً، صوت "قزقزة" اللب.

فأنا عندما أسافر بخيالي، لتلك اللحظة التي أرقد فيها داخل كفن أبيض برائحة المسك، أجدني أسمع صوت "القزقزة"، حيث أن هناك غفير يجلس خارج المقبرة، أمامه نار مشتعلة، ومنشغلاً بقزقزة اللب على راحته، فليس حوله إلا الأموات، وإن كان يعلم تمام العلم أن الأموات قادرين على سماع صوت القزقزة.. وأن الصوت يزعجهم بما فيه الكفاية، لكنه لا يتوقف عن القزقزة أبداً، في كل ليلة يجلب معه "تمن أبيض وتمن سوبر" ويبدأ في ممارسة عمله بمنتهى الحماس.

كلما سمعت أحدهم يقزقز، تذكرت الغفير، وشعرت أنني ميت بالفعل، وأنا منذ الآن، أقول لكم بأني لا أحب هذا الغفير، كما أني لا أحب الفكرة أصلاً.. ما معنى أن تفقد حياة رجل معناها حيث تضيع كلها في حراسة أموات، من يطمع في الميت، وما الذي يضر الميت إن طمع فيه أحدهم..

لا تضعوا عند قبري غفيراً، وإن كان هذا شرطاً من شروط موتي، فأجبروه على الإمتناع عن القزقزة..

.........

ثم لوح لي مرة أخرى، بل مرات عديدة، في كل يوم أذهب فيه إلى المعادي وأمر الطريق إلى برج القانونين.. وقد أصبحت أفعل ذلك كثيراً الآن..

هو لا يكتفي بالتلويح، بل يمسك يدي مساعداً إياي على المرور، مبتسماً ابتسامة واسعة، فهو يذكرني بالمرة الأولى التي التقينا بها..

ويلوح لي في كل مرة أشعر فيها بأن أحدهم ظلمني، يقول لي هامساً في أذني، "ولا يهمك، بكرة لما نمشي أنا وأنت، هيعرف قيمتك كويس.. وهيبكي قوي على ظلمه ليك".. وكم تصبرني كلماته.

ويلوح لي في كل مرة أظلم فيها أحدهم، قائلاً أن الوقت أصبح ضيقاً بحيث أني لن أستطيع إنصاف المظلوم مرة أخرى، وأنه "كفاية كدة.. إحنا خلاص قربنا نمشي"..

كل هذه اللحظات، يكتفي بالتلويح لي من بعيد أو من قريب.. لكنه في أوقات أخرى، يجلس معي جلسات طويلة، يناقشني ويجادلني، ويستمع إلى أسئلتي الكثيرة، رافضاً الإجابة.

اسأله، لماذا أشعر أنني سأرحل الآن.. أو حتى في القريب..

لماذا أختفى شعوري السابق بأن الله سيمد في عمري، لماذا أختفى حلمي القديم بأن أعيش أكثر مما عاش "نجيب محفوظ" وأن أؤلف مائة رواية، وأكتب ألف فيلم، وأخرج عشرة، وأصنع مليون قصة قصيرة تليق بـ"معمر" مثلي.

لماذا أصبحت أخاف من تلك الكلمات التي أنطقها دون شعور، الشهر الماضي كنت أجلس في غرفة المونتاج، وطلبت من المونتير أن ينقل لي الفيلم على "DVD" فأخبرني أن عملية التحويل ستستغرق 50 دقيقة، لأضحك أنا وأقول "لا يا عم خلاص.. أنا حالتي متسمحش إني أعيش كمان 50 دقيقة.. أنا عايز أرتاح وأنام"..

لماذا شعرت وقتها أن دعاء زوجتي ستشاهد فيلمي وحدها.. وعدت إلى منزلي ناظراً كل قليل إلى الساعة، وقلبي متعلق بآخر خمسين دقيقة أعيشها، لكنها مرت، ومازلت أعيش حتى الآن..

مرة أخرى، أخبرت دعاء على الهاتف وأنا مسافر، "مين عارف.. مش يمكن يجيبوني ليكي النهاردة".. كان ذلك رداً على كلامها بأني "طولت قوي المرة دي"، وإني وحشتها بحيث أنها تتمنى أن أحضر لها اليوم بدلاً من الانتظار لأسبوعين كاملين..

لماذا أخبرتها بأنهم سـ"يجيبوني"، شعرت كأنهم سيجيؤنها بي في كفني الأبيض، لن أذهب لها على قدمي، لن أذهب لها وفي جسدي حياة.. سيذهب لها جسدي تودعه، ثم أنطلق إلى حيث أسكن إلى الأبد.. بجوار الغفير المقزقز.

لماذا أخاف من لحظة حضور بنتي إلى الحياة، لماذا يظهر وجه "خالو باهي" في كل مرة أتخيل فيها حضور بنتي التي لم أختر لها اسماً حتى الآن..

رحل "خالو باهي" منذ عشر سنوات، بالتحديد يوم احتفال العائلة بسبوع حفيدة صغيرة لا أعرف اسمها، كان الاحتفال مساء الخميس، في اللقاء الأسبوعي للعائلة، قبلني خالو باهي وأعطاني "خمسين قرش" جديدة، من "فلوس العيد".. تلك التي تشعر أن عليك الاحتاظ بها وعدم صرفها لكونها نظيفة جداً مقارنة بباقي لفلوس.

نزلت يومها إلى دكان "بخيت" أشتري شيبسي، ورحلنا بعد سهرة طويلة كل إلى بيته، وبعد صلاة الجمعة، كنت أستعد لصعود السلم، حين رأيت أبي يركض خارجاً من بيت جدي في شارع الخلفاوي بشبرا.. قائلاً.. "خالو باهي.. في المستشفى".. كان "خالو باهي" هو خال أبي وليس خالي، وهو ما يجعله "جدو" لكني كنت أنادي الناس بما يناديهم به أبي.

وكان "خالو" يجلس صباح الجمعة ذاتها في منزله بعابدين، فسقط فجأة من الشرفة، ليسقط على رأسه، ويغادر الحياة من المستشفى.. ويتسبب في ألم كبير لكل أطفال العائلة، الذين اعتادوا أن يأخذوا منه قبلة مساء كل خميس، وخمسين قرشاً من "بتوع العيد"..

كان ألمي مضاعفاً، فقد تسبب رحيل "خالو باهي" في امتناع جدتي التي هي أخته عن طبخ "الفولية"، فقد كانت الوجبة المفضلة لأخيها الصغير، كما كانت وجبتي المفضلة أيضاً..

امتناع جدتي جاء حداداً على روح خالو، ومنذ رحيله وأنا أيضاً لم أذق الفوليلة، فلا أمي ولا زوجتي يتقن صنعها.

قالت جدتي، أنها حكمة الله، أن يرحل "خالو باهي" صبيحة احتفالنا بميلاد طفلة جديدة، ومن تلك اللحظة أخاف من لحظات ميلاد الأطفال، وأشعر أنها علامة رحيل لأحدهم، وبالتحديد أنا.

هذا طبعاً بعيداً عن الرجفة التي تصيبني مع كل مرة أسمع فيها آية قرآنية تقول "وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعاف خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا".. أخبرني بها صديقي، متحدثاً عن أولاده.. وكم كان هذا موحياً..

ثم لماذا شعرت بقرب الرحيل ليلة زفافي، أنا أتفهم أن أشعر بالموت في كل اللحظات السابقة، لكن أن أشعر ليلة زفافي هي الأخيرة لي في هذه الدنيا، فهو شعور غير ملائم في لحظة يفترض أن تملاءها مشاعر من نوع آخر.. لكني شعرت بما شعرت.. وقد كان شعور فقط، حيث لا زلت أحيا حتى الآن..

أعتقد أنني أعرف لماذا شعرت بذلك ليلة زفافي، أفكر الآن أنني اعتدت الشعور بالموت في نهاية كل مرحلة في حياتي، وفي بداية كل مرحلة..

............

أنا الآن أشعر بالموت..

لعلك تقول أنني شخص عادي تماماً، أشعر بالموت عند الاقتراب من الموت، بمعنى أن أتخيل نفسي ميتاً في كل مرة أقترب فيها من ميت آخر غيري.. لكني أشعر بالموت الآن دون وجود ميت غيري..

أشعر بالموت عند الإقتراب من الحياة، لم أخبركم أن الموت يلوح لي في كليبات هيفاء وهبي، وفي أفلام الجنس على الإنترنت، وفي المكالمات الهامسة القديمة التي طالما سهرت بها ليالي، وفي أول مرة عرفت العادة السرية، وفي قبلتي الأولى المسروقة على كورنيش النيل.

في هذا الوقت الذي أكتب فيه هذه السطور، أبدو غير مهتما بما سيحدث بعد قليل، معلناً امتناني لكل هؤلاء الذين قابلتهم في حياتي الطويلة جداً بحيث مللتها، ومتمنياً لقاء آخر في حياة جديدة.

أشكر الله على كل ما منحني إياه في السنوات السابقة، أشكره بكل صدق، الله يعلم أنني صادق، يعلم أنني لم أكذب عليه من قبل، يعلم أن ذنوبي من نوعان لا ثالث لهما، لكنها كثيرة، ذنوب كثيرة من نوعان، يقولون أن الله يكره الذنوب المكررة، وذنوبي كلها كذلك.. لكن الله سيغفر لي، فأنا استأذنه أن أتوب الآن بسرعة، قبل أن أذهب إليه، استأذنه في أن يقابلني بعد قليل، بعد أن أمتنع عن كل ما يغضبه، وبعد أن أصلي له قليلاً، وحدي، دون أن يكون حولي أي بشر.

أشكر الله أنه منحني الإيمان به، صرت الآن أؤمن بالله أكثر مما أؤمن بأشيائي السابقة، ذات مرة سألني صديق عن إيماني، فأخبرته بأني أشعر أن الله يرضى عني، وأنه يرضيني كذلك، فأخبرني أن لا علاقة لهذا بالإيمان، وأدركت أنني يومها كنت أحدثه عن الاطمئنان، أما الإيمان، فيبدأ في قلبي الآن، وأشهدكم أني صرت مؤمنا بالله، وبما يختاره لي، منذ اللحظة.

أشكر الله أن عدد قليل من البشر رحل عن الدنيا أثناء حياتي السابقة، على الأقل هؤلاء الذين حضرت أيامهم الأخيرة، حين كانوا يشعرون جميعاً بدنو الأجل، كما أشعر أنا الآن.

أشكر الله على أصدقائي الذين ظهروا في حياتي بمشيئته، كل البشر الذين صادقتهم، وأشكره بشكل خاص على صديقي الذي يرقد بجواري الآن.. الموت.. الذي اعتاد التلويح لي في مواقف ذكرتها منذ قليل، وأعتاد النوم إلى جواري، متكلفت بالبطانية، ومبدياً استياءه من السقعة. ومن عدم وجود سكر في المطبخ لصنع كوباية شاي.. نخمس فيها سوياً.

أشكر الله أنه أكسبني صداقة الموت، وأبعدني عن كراهيته وعداوته، مع أن شخص مثلي كان مؤهلاً لأن يكون عدواً للموت، بدين، وأبيض البشرة، كما أنه قبل هذا يحب الحياة، وإن كان حباً عذرياً.

هو يقول دائماً لنفسه أن حب الحياة لابد أن يبقى عذرياً، لا جنس فيه ولا مضاجعة، وأن مصاحبة الموت، جزء من حب الحياة، على أن يبقى ما بينك وبين الحب مجرد صحوبية، لا ترقى أبدا لدرجة التمني، فأنت تصاحب الموت ولا تتمناه، تصاحبه لأنه جزء من حياتك، وتسأل الله أن يفرق بينك وبينه طالما كان ذلك ممكناً، وأن يقرب بينك وبينه، طالما أن وقته قد حان.


...........

السطور السابقة ليست أي شيء..

هي فقط سطوري التي أكتبها الآن، مجردة من أي غرض، فقط دعوة إلى الله أن يمنحني بعض الوقت، بحيث أنشرها لكم على مدونتي، وبحيث أخبركم أنها جزء من مجموعة قصصية جديدة انتهيت من كتابتها الآن، وأبحث لها عن ناشر.. مجموعة تحمل اسم "فز قوم - مذكرات خائف".. فانتظروها.. ولا تبخلوا بالدعاء لي إن كنت رحلت قبل أن تخرج إلى النور، وإن قابلتوني بعد الآن، فلا تذكروا لي أياً مما جاء هنا..

براء

قنا / 17-1-2008