الاثنين، أكتوبر 24، 2011

عن الحكايات والسجائر

تقول الحكاية، أنه بينما كنت أفكر في الماضي، كان صديقي يفكر في المستقبل.

سيقرأ الأصدقاء سطوري، فيعتقد أحدهم أنني أقصده هو، ويعتقد آخر أنني أقصد صديقنا الأول، فيما يظن الثالث أنني أقصد صديقاً آخر رحل بعيداً منذ زمن. شخص آخر، (وهو ليس صديقي بأي حال) سيرى أنني لا أقصد أحد بعينه، بل ربما يستغرق في القراءة معتقداً أنني أقصد نفسي تحديداً، وأن ذلك الصديق، الذي يفكر في المستقبل، لا وجود له في الواقع، هو مجرد ظل داخلي، تطورت علاقتنا بحيث صار صديقي.

جميع الإجابات صحيحة.. جميع الإجابات خاطئة.

(؟)

تقول الحكاية، أنه بينما كنت أفكر في المستقبل..

ذلك أنني أفكر وأفكر وأفكر، فلا أمل، أي لا يصيبني الملل، ولا أمل، أي أنه لا يوجد أمل في أن ينتهي التفكير بالوصول إلى نتيجة.

أفكر، وأكتب، وأفكر، هل كتبت أولاً، أم أن الفكرة خلقت الكتابة، أظل أفكر، وأكتب، وتتوالى الحكاية، تفكير كتابة، كتابة تفكير. حتى إذا ما تعبت، فكرت، أنه من الملاءم التوقف عن الكتابة والتفرغ للتفكير.


تقول الحكاية، أنه بينما كان صديقي يفكر في الماضي، كنت أفكر في المستقبل.

جاءتني هذه الجملة وأنا أغادر المقهى البارد الدافئ. بارد لأن الجو بارد، ودافئ لأني لم أكن وحدي.

لماذا أفكر في المستقبل إذن بينما يفكر صديقي في الماضي؟.

ذلك، أن البدايات مهمة، لكن النهايات أهم. يقولون هذه الأيام أشياء كثيرة تتعلق بأن النهايات حتمية، فكل شيء ببداية له نهاية، هذه حقيقة. لكن البدايات عادة تبقى مفهومة وقادرة على شرح نفسها. أما النهايات، فهي العبث الكامل. وبين البداية والنهاية، تظل الأسئلة (بينهما) تتعلق بـ : "كيف ينتهي الأمر بنا؟"، لا نسأل عادة أنفسنا عن الطريقة التي بدأت بها الأمور. البدايات غير مهمة، المهم، كيف يمكن أن تنتهي الحكاية دون أن ننتهي نحن؟. هذا هو المهم.

لهذا، ربما، أهتم بالمستقبل، رغم أني لا ألوم صديقي أبداً، على اهتمامه بالماضي.

(!)
أكتب وبين أصابع يدي اليمنى سيجارة. سحبتها الآن من علبة سجائري الثانية (اشتريت علبتان فقط طوال عام كامل). أصبحت أشتري السجائر وأدخنها ببطء بينما أنقر وأكتب. (لماذا؟)، رغم أني تعلمت تدخينها منذ قليل.. ربما لأملك القدرة على طلب سيجارة من صديق على المقهى أو زميل بالعمل. تلاءمني جملة "هات سيجارة".. أحبها، أشعر بود حقيقي بينما يفتح أحدهم علبة سجائره ويناولني واحدة.

أصبحنا في عالم منحط، وقح، من الممكن أن يعطيك أحدهم سيجارة بأريحية شديدة، لكنه يراقب نفسه بينما يسمح لك (دون أن يسامحك) بأخذ قدر قليل من مشاعره. صارت السجائر أرخص من المشاعر. وصرت تعيساً لأني أحب أن يعطيني أصدقائي أشياء تخصهم، ويأخذون حكاياتي في المقابل. أحب تبادل التفاصيل بين الأصدقاء. فالتفاصيل الصغيرة، بداية واضحة لحكايات لطيفة، أنا أحب اللطف، فمن اللطف، تولد الدهشة.. ولا قيمة لهذه الحياة دون دهشة.. إذن، لا قيمة لهذه الحياة دون حكايات.

(@)
تقول الحكاية، أنه بينما كنت أهتم بالعبث، كان صديقي يهتم بالمنطق.

رغم أن المنطق مصنوع من العبث. فقبل وجود المنطق، كانت الحياة عبثية، وبمرور الوقت، تراصت مجموعة من العبثيات بشكل عبثي آخر، بحيث أمكن لنا أن نرى في وجودها متلاصقة منطقاً ما. فاخترعنا المنطق، ونسينا بمرور الوقت، أنه في الأساس عبارة عن عبث.

من العبث مثلاً، أن نسمح لأنفسنا بخسارة الأصدقاء، خاصة، ونحن ندرك يقيناً أن الحياة دونهم تعيسة. لكن من المنطق، أن ندرب أنفسنا تدريجياً على الوحدة. على البقاء وحدنا لأطول وقت، بحيث، يزول ألم الفراق سريعاً، ونبدأ في مصادقة أنفسنا.

ذلك أن الصداقة هذه الأيام، صارت كمخدر قوي، يمنعنا من الإحساس بألم وقاحة الحياة وانحطاطها. لكن الحقيقة، أن الحياة تبقى وقحة ومنحطة. نكتشف هذا فقط حين تفاجئنا الوحدة صباحاً، ونلاحظ، كيف أن علينا البقاء وحدنا لوقت طويل، دون أصدقاء، دون حكايات، دون تفاصيل، دون لطافة أو دهشة.. مع اللاشيء.

تقول الحكاية، أنه بينما كنت أهتم بالمستقبل، كان صديقي يهتم بالماضي. مع أن علينا سوياً، أن نهتم لأمر أنفسنا.

أفكر، في الابتسام بوجه الأصدقاء والزملاء، وسؤالهم بشكل مباشر.. "هات حكاية".. هل يسحب الواحد منهم علبة حكاياته، ويعطيني واحدة. بذات الرحابة والأريحية، التي يناولني فيها سيجارة من علبة سجائره.


علي أن أتوقف عن طلب السجائر والحكايات. ففي المقابل يجب أن أعطيهم شيئاً ما، سجائر أو حكايات أيضاً. وأنا لا أحمل علبة سجائر عادة، كما أن حكاياتي نفذت. تبقى واحدة وحيدة في العلبة. ممنوع علي حكيها أبداً، ذلك أن البقاء دون حكاية، أسوأ كثيراً من البقاء دون سيجارة، لكن كلاهما مؤلم.

في المرات التي أطلب سيجارة، فيفتح الصديق / الزميل العلبة، ويجد سيجارة وحيدة، يصبح من الواجب أن أتظاهر بعدم الرغبة في التدخين، ليس من اللائق إطلاقاً سحب السيجارة الأخيرة من علبة أحدهم. لكن صديقي / زميلي يتظاهر هو الآخر بأن علي عدم التردد في سحبها، قائلاً أن هناك علبة أخرى جديدة في مكان ما. لكن سحب حكاياتي الأخيرة من علبة الحكايات، يعني، أن الحكايات نفذت بالفعل، وأن علي المواجهة.. وفي الحياة الوقحة المنحطة، عليك، بكافة الأشكال، أن تتجنب المواجهة.

تقول الحكاية أن هناك حكاية واحدة باقية. وأن عليها أن تظل باقية، كما أن عليها أن تبقى وحيدة.

الاثنين، أكتوبر 17، 2011

في مسألة ماسبيرو

(1)
بعض التفاصيل الصغيرة، تصلح لتفسير المسائل الضخمة.. إذا كنا نتحدث عن "ماسبيرو" مثلاً، فيمكن الإشارة إلى أن المبنى مصمم على شكل حدوة حصان.

في كتاب ما كنت مضطراً لدراسته للحصول على شهادة الإعلام، كان هناك فصلاً غبياً يتحدث عن تصميم مباني البث الإذاعي والتليفزيوني.. ومن بينها شكل حدوة الحصان. الكتاب يقول أن مبنى ماسبيرو واحد من مباني قليلة في العالم مصممة على هذا الشكل، هناك مبنى أخر في الإتحاد السوفيتي المنهار على ما أذكر..

لماذا هو كذلك؟، سؤال وجيه، لأن الأستديوهات تحتاج إلى عزل عن الضوضاء من الخارج، لهذا، توجد مكاتب الموظفين على أطراف الحدوة، وتوجد الأستديوهات في الداخل.. طيب، فرضنا مثلاً.. العلم نور والهندسة لها أسبابها طبعاً.. لكن، هل هذه أسباب كافية ليصبح المبنى على شكل حدوة حصان؟.

قاعدته ضخمة للغاية، وخازوقه طويل وسميك، ممتد إلى السماء، هو التجلي الأول للقبح في مدينة لم تعرف قبله المباني الأسمنتية الصماء.

حكمة : لا تحتفظ في مدينتك الجميلة بمبنى على شكل حدوة حصان.

(2)
جرت العادة ونحن صغار، أن نذهب مساء الخميس إلى جدتي لقضاء نهار الجمعة معها كاحتفال أسبوعي بالأجازة. وكانت جدتي لديها تليفزيون. فيما كان بيتنا يفتقر إلى واحد مثله.

زمان، كان الأطفال ينامون مبكراً، ويستيقظون كذلك، وزمان أيضاً، كان التليفزيون يعرض برنامج اسمه سينما الأطفال صباح يوم الجمعة.

كنا نجلس أمام الجهاز العجيب نشاهد البرنامج الأعجب. وقضينا سنوات نشاهد بشكل أسبوعي حلقة جديدة من مسلسل تقوم ببطولته كلبة اسمها "لاسي"، وهي كلبة يفترض أنها ذكية وقوية ونشيطة، وتكاد تتحول إلى إنسان من فرط ما تقوم به من أشياء مدهشة.

في مرة من المرات، سألت أخوتي بينما نشاهد "لاسي"، ما الذي نفعله في أنفسنا؟، كيف نسمح لهم بالضحك علينا وجعلنا نصدق أن هناك كلبة تفعل كل هذه الأشياء؟.

بجوار التلفزيون، كانت هناك جهاز سنعرف بمرور الوقت أن اسمه "فيديو"، وكانت هناك عدة شرائط منها فيلم "الإرهاب والكباب". لاحقاً، تغيرت خطتنا بحيث أصبحنا نقضي نهار الجمعة في الفرجة على يسرا ترتدي فستاناً جميلاً.

الآن، تقضي طفلتي وقتها أمام إم بي سي، وبراعم، وسبيس تون، وكلها قنوات تعرض أفلام وبرامج أبطالها ليسوا كلاباً.

معادلة : إذا كانت طفلتي لا تشاهد "سينما الأطفال" والكلبة "لاسي"، فما الذي يفعله ماسبيرو في حياتنا؟

(3)
في المسجد يتحدث الشيخ عن التليفزيون المليء بالعري والنساء والأغاني والفحشاء. ويرى أن هذا حرام.

في الكنيسة يتحدث القس عن أن التليفزيون حرض الناس ضد الأقباط، ويرى أن هذا أيضا حرام.

في المقهى ينزعج الزملاء من أن المباراة تذاع على قنوات مشفرة ويمنون أنفسهم بيوم يشاهدون فيه منتخبهم الوطني على تليفزيونهم الوطني، ويعتقدون أن البث المشفر للمباريات حرام.

في الصعيد أخبرتني صديقة أن القناة الثامنة خير وسيلة لإجبار أطفالها على النوم، فهم يخافون من معظم مذيعينها. تضيف صديقتي : يا حرام.

سؤال : ما كل هذا الحرام؟

(4)
يذاع برنامج "صباح الخير يا مصر" في وقت مريب. بعضنا يستيقظ ويرحل إلى عمله قبل بدايته، وبعضنا يفعل هذا بعد نهايته. من الذي يشاهده إذن؟.

أبناء الطبقات الغنية لا يشاهدون القنوات التعليمية وبرامجها لأنهم - والحمد لله - يحصلون على دروس خصوصية في كل المواد. أبناء الطبقات الفقيرة لا يشاهدونها أيضاً لأنهم لا يملكون تليفزيوناً في البيت. من الذي يشاهدها إذن؟.

تمكنت صغيراً من معرفة سبب ممارسة أمي لبعض الطقوس الغريبة في البيت. كنت أراقبها وهي تفسد أشياء كثيرة في المطبخ. بمرور الوقت، ضبطتها مرة تشاهد برنامج "مجلة المرأة". ثم توقفت بعدها عن فعل هذه الخطيئة. من الذي يشاهد برنامج اسمه "مجلة المرأة" إذن؟.

علل؟!

(5)
إذهب إلى ماسبيرو وقف أمامه في تمام الثانية ظهراً. ثم راقب المشهد.

سترى سيدة في الخمسين، بدينة بعض الشيء، ترتدي خماراً كبيراً لونه أزرق أو بني، تحمل في يدها اليسرى حقيبة بلاستيكية بيضاء كبيرة، ويدها اليمنى مفرودة، أسفل علبة حلويات عليها شعار ماسبيرو، وهو عبارة عن رسم أسود كبير بذات شكل المبنى الضخم.

داخل العلبة، توجد قطع صغيرة من الحلويات، تقول الأسطورة أن الدور العاشر بالمبنى الضخم يحتوى على مطعم وكافيتريا، تقدم الحلويات والوجبات بأسعار مخفضة للعاملين.

تقول الحقيقة العلمية، أن العاملين في ماسبيرو عددهم يتجاوز الأربعين ألف. وحين تذهب إلى المبنى في الثانية ظهراً، ستشاهد عدداً كبيراً من العلب المرسوم عليها شعار ماسبيرو.

فكر : ما كل هذه الحلويات؟

(6)
يوجد في مصر شيء اسمه "حزب الكنبة"، والكنبة هي أريكة كبيرة مريحة، يطيب الجلوس عليها لساعات دون فعل أي شيء، عادة يمكن تسمية الجلوس على الكنبة بالأنتخة.

هذه الأنتخة، تحتاج عادة إلى نوع من التسلية وقتل الملل، بعض الدراسات تشير إلى أن أعضاء حزب الكنبة يميلون إلى مشاهدة التليفزيون المصري بينما يأنتخون على الكنبة.

تعتقد الحكومة، أن حزب الكنبة يقف في طريق تقدم الأمة واستمرار السلاسة البشرية وبقاء الحضارة. وهذه بالطبع أسباب كافية للتخلص من حزب الكنبة. لكنها ستصبح مجزرة، فكيف سنتخلص من كل هؤلاء؟.

توصل العلم الحديث إلى حقيقة تؤكد أنه بإغلاق قنوات التليفزيون المصري، سيختفي حزب الكنبة، بل لعلنا نصبح قادرين على التخلص من الكنبة نفسها.

أغنية شعبية : كل شيء يهون.. حتى التليفزيون.

(7)
مبنى واحد، قادر على قتلنا في منازلنا، حتى إذا هربنا منه ونزلنا إلى شوارعنا، نقتل أمامه، ويملأ الدم جدرانه الخارجية تماماً كما يملاً طرقاته الداخلية.

مبنى واحد. على شكل حدوة حصان، ينتج من الحلويات أضعاف ما ينتج من المعرفة. يحمل اسم اتحاد الإذاعة والتليفزيون، والحقيقة، أن اتحاده فقط ضد الشعب ورغباته وأفكاره وإرادته.

مبنى واحد، لم يعد حتى مسلياً للأطفال، يختطفه بعض الكبار ويجلسون أعلى خازوقه يتحكمون في شاشاته الكثيرة، التي لم تذع يوماً ما هو أكثر إفادة من بيان تخلي المخلوع عن سلطته.

مبنى واحد، يكذب / يقتل / يحرض / يدمر / يشوه / يهدم.. ما فائدة وجوده في بلادنا إذن؟.

جواب نهائي : اهدموا ماسبيرو

الأحد، أكتوبر 16، 2011

القتل اللذيذ

نحن شعب نحب الفوازير، لكننا لا نحب حلها. تأمل معي هذه الحكايات وحاول أن تفكر..

في اعتقاد كاتب هذه السطور، فإن أخر مصري مات في مسألة تتعلق بالوطن وتمكن أبناء الوطن من معرفة لماذا وكيف وأين ومتى مات، هذا المصري الشهيد المغفور له، بالتأكيد كان مجند في الجيش المصري في حرب أكتوبر سنة 1973، وبحسبة بسيطة، فإن هذا التاريخ مر عليه ما يزيد عن 38 سنة..

طيب، الذين ماتوا بعدها..؟؟، تشاء الأقدار وحدها، ثم الحكومة المصرية، أن تبقى كل حوادث القتل مجهولة وغامضة ولأسباب مختلفة. وكأن قدر القتلى في بلادنا أن يموتوا مرتين.. الأولى بالرصاص، والأخرى بالتخمين في الأسباب الواقفة وراء مقتلهم..

تعالى نفكر، ضحايا حريق قطار الصعيد (2002)، لدينا على الأقل تسعة روايات مختلفة للحادث. وبما أننا في الصعيد، حاول أن تجاوبني بالسبب في محرقة بني سويف (2005) التي أكلت النيران فيها عشرات من شباب المسرحيين.. عاجز عن حل الفزورة.. حاول أن تحل الفوازير التالية إذن.

كيف غرقت العبارة (2008)؟، ولماذا؟، وأين هي الجثث المختفية؟، هل تعلم أن بعض أهالي الضحايا يعتقدون أن أبناءهم لازالوا على قيد الحياة؟، تعتبرها نكتة، هي نكتة تعيسة على كل حال.

وبما أننا جئنا بسيرة العبارة والقطار، وهي من وسائل المواصلات المعروفة في بلاد تركب الميكروباص والتكاتك مثل بلادنا، دعني أذكرك بحادث سقوط الطائرة المصرية في رحلة أمريكا (1999)، حاول أن تحصل على إجابة. كيف ولماذا مات ركاب الطائرة؟، ذكر نفسك بالتفسيرات العلمية والشعبية.. تذكر كيف خمنا كل التخمينات الخاطئة، ولم نصل في النهاية إلى أي شيء.

يا راجل، حتى المصريين عندما يموتون في الخارج تبقى ملابسات وفاتهم غامضة، سعاد حسني (2001)، أشرف مروان (2007)، وبينهما إيهاب الشريف السفير المصري في العراق (2005)، وحتى يا أخي مروة الشربيني شهيدة الحجاب (2009)، لا نعرف سبباً واضحاً لمقتلها.. لماذا؟، فقط لأنها مصرية تنتمي إلى بلاد تقتل أبناءها مرتين.

ثم، هل أتاك حديث موقعة الجمل (2011)؟، هل تعرف حقاً أين ذهب القناصة؟، طيب هل أنت متأكد من أن هناك قناصة فعلاً في وزارة الداخلية؟، هل شاهدت أحدهم بنفسك؟. من الذي قتل المتظاهرين إذن بالرصاص الحي؟ عاجز عن الإجابة.. قابلني في ماسبيرو..

من الذي قتل 24 قبطياً في ليلة واحدة (2011)؟، الجيش، الأيادي الخارجية، الأصابع الداخلية، البلطجية.. مرة أخرى تظهر في حياتنا كلمات تنتهي كلها بحروف "ية".. وجميعها لا يعني أي شيء في الواقع.

في صفحة الحوادث كنت اقرأ طفلاً عناوين تبدأ عادة بـ"النيابة تكشف ملابسات جريمة
الأسكندرية"، وفي دهاليز الخبر تقرأ عن المفتش العبقري الذي تمكن من الإمساك بطرف الخيط والوصول إلى الجناة.. أين هؤلاء العباقرة في حوادث قتل جماعي للمصريين. بعضها بثت وقائعها على الهواء مباشرة.

يا صديقي. إذا كان من حقك أن تموت مقتولاً في هذا البلد، فمن حقي أن أعرف كيف مت؟، من قتلك؟، لماذا قتلك؟.. ليس اعتراضاً على القتل لا سمح الله، فهذا وطن سيقلتنا حتى نقتله.. لكنه فقط ملل من الفوازير التي لا تنتهي.. عيب علينا أن نعيش ونحن نبكي على قتلانا فلا نعلم من الذي قتلهم.

يا صديقي، قتل المصريين صار قتلاً لذيذاً، لأن القاتل مجهول طوال الوقت، أرجوك، اترك لنا ورقة جوار جثتك تخبرنا فيها باسم قاتلك، لأن داخليتنا وخارجيتنا وحكومتنا ومجالسنا ما عسكر منها وما تمدن.. كل هؤلاء غير قادرين على حل الفزورة. من قتل المصريين بالأمس، ومن يقتلهم اليوم، ومن سيقتلهم غداً بإذن الله.. وعلى كل حال، البكا على رأس الميت، وإكرام الميت دفنه.. لكن إكرام الشهداء، ألا يتحولوا بمرور الوقت إلى موتى بقاتل مجهول.

ظروف صعيبة

يعتقد بعض الأطفال أنه إذا كان البرتقال لونه "برتقالي"، فإن اللبن لابد وأن يكون لونه "لبني". وبنفس المنطق، يعتقد صديقي أن هناك خطأ إملائي يتكرر في كل خطابات الساسة هذه الأيام.

كنا على المقهى، نجلس ونشاهد أحد الذين يظهرون في المؤتمرات الصحفية، وكالعادة، فقد قال بين كلماته.. "البلاد تمر بظروف عصيبة"..
سألني: عصيبة يعني إيه؟.
قلت : يعني عصيبة..
....

فكرت في انهاء حيرته، قلت، عصيبة يعني صعبة.
قال، طيب، إذا كانت عصيبة تعني صعبة، فهذا خطأ إملائي، كان المفروض أن يقول صعيبة وليست عصيبة..

فكرت، الكلام منطقي.. قلت : "عصيبة" جاءت من كلمة "عصب"، يعني البلاد تحتاج إلى أعصاب قوية هذه الأيام..
قال : عصب؟.
قلت : عصب..
سحب نفساً من شيشته وضحك قائلاً : ناقص تقولي جمعة العصب..
.....

سكت قليلاً، وشرب كثيراً من الشاي والقهوة.. وازدحم المقهى بعدد كبير من الشباب.. وبينما كنت أحدثه في موضوع آخر لا علاقة له بالبلاد، نظر إلي بغضب.. وقال :
على فكرة.. إنت بتقول أي كلام.. بقى عصيبة يعني عصب؟.

حاولت مناقشته، رفض، طلب الحساب ورحل. كان مؤمنا بأن الكلمة خاطئة، وأن الأفضل أن يقول الرجل على الشاشة أن البلد تمر بظروف صعيبة.

جلست نصف ساعة بعدها وحدي، ثم رحلت مبتسماً أشعر بالقلق تجاه المسألة.

الأربعاء، أكتوبر 12، 2011

في مسألة الموت لأجل الوطن

في القاهرة، يمكنك أن تسمع هذه الأيام كلام غريب عن أن الوطن يجب أن يعيش حتى وإن كان المقابل أن نموت نحن.

هنا فقط، يصبح الشاب أكثر أهمية لأنه قتل في المظاهرة وأوصى قبل وفاته بأن تمر جنازته على ميدان التحرير، أيقونة الثورة الأولى.

هنا فقط، نهتم لأمر الشهداء. فقط لا غير. ونسأل أنفسنا ليل نهار، ما الذي قدمناه لهم بعد موتهم.

في بلادنا، توجد لجنة لتعويض أسر الشهداء والجرحى خلال الثورة، اللجنة تضم بعض الوزراء، وبعض رجال المجلس العسكري، وبعض رجال القانون، بالإضافة إلى عدد من الأسماء المعروفة والمشهورة.. من الممكن أن نقول أن اللجنة تضم الجميع، لكنها في النهاية، مجرد لجنة.

هنا، في القاهرة، تتحول حكايات الضحايا إلى مواد للتسلية، نصنع عنها الأفلام، وتشتد المنافسة بين صناع الأغاني.. من يبكينا أكثر ونحن نتذكر شهداء الوطن؟.

ثم، نفكر في الأمر من زوايا مختلفة. فحين تهتم برامج التليفزيون بالشهداء أبناء الطبقات المتوسطة والعليا، يهتم نشطاء الإنترنت بشباب جاءوا من المناطق العشوائية، فتبقى القاهرة عدة أيام لا تنطق بغير "الفقراء أولاً".. لماذا الفقراء أولاً؟، لأنهم قدموا شهداء في الثورة، طيب، وإن كانت الثورة قامت وانتهت بلا شهداء، ما الذي كان سيحدث؟، وما الذي كان سيتغير؟.

ثم، أننا نمارس حيلة عاطفية قذرة، حين نترك الموضوع الأساسي ونجلس للبكاء، مات هذا الشاب وهو يدافع عن زوجته، لهذا المهندس طفلة لديها شهر واحد، كان هذا الشهيد يحلم بالهجرة إلى الخارج.. وهكذا..

طيب، بعض الأحياء أيضاً لديهم زوجات، وبعضهم لديهم زوجات وأطفال، وبعضهم لديهم زوجات وأطفال ويحلمون بالهجرة.. من يهتم لأمرهم؟.. في الواقع هم لم يصبحوا شهداء بعد. من الممكن أن نهتم فقط لأمر القتلى، رغم أن حكمة مصرية قديمة تقول أن الحي أبقى من الميت.

كأنك تظن أني معترض على تكريم الشهداء أو تعويض أسرهم، إطلاقاً. بل على العكس. من الممكن أن نظل نكرمهم ونبكى عليهم ونطلق أسماءهم على شوارعنا وندفع نصف ميزانية الدولة لأسر الجرحى.. طبعاً.. هذا حقهم، لقد ضحوا بأفضل ما لديهم، حياتهم.

ما المشكلة إذن؟، المشكلة فقط، أن علينا ونحن نفعل ذلك، أن نتأكد أيضاً من اليوم سيمر دون مزيد من الشهداء. فتكريم الشهداء جزء منه، أن يبقى الشرف لهم وحدهم. دون أن يتم استهلاك الأمر. انتهت أحداث الثورة الأولى ونحن لدينا مائة شهيد مثلاُ.. فلنهتم بهم، بأن نجعلهم مائة فقط، لكننا نستمر في إضافة المزيد للرقم حتى ننام في القاهرة ونحن عاجزين عن حساب عدد شهداء اليوم الواحد.

الله، خلقنا كي نعيش، والأوطان موجودة كي تحيا ونحن بها، لأنها تحيا بنا ونحيا بها. كيف وصلنا إذن إلى حال نرى فيه الشهادة حل؟.. الشهادة وسيلة. لكن علينا أن نذكر، أن الوطن الذي نموت فيه، ليس وطناً، من الممكن أن يكون مقبرة جماعية..

الشهداء سيدخلون الجنة، لأن هذا حقهم عند الله، للكن حقهم لدينا، أن نمنع أنفسنا من التحول لشهداء واحد تلو الآخر. حتى هذه اللحظة، أبكي على الشهداء بنصف عين، ربما لأني لم أفقد في الثورة صديقاً مقرباً.. لكن، إن مات أحد أصدقائي مقتولاً لأجل الوطن، لعلي أفقد القدرة على البكاء. وأملك القدرة على كراهية الوطن.

معظم أصدقائي يعتقدون أن الحياة دون وطن، أفضل من الموت لأجل الوطن. لأن الله وهبنا الحياة أولاً ثم اختار لنا الوطن. فمن الممكن أن نعيش بدون وطن. لكن من المستحيل أن نشعر بالوطن ونحن نموت – فقط – على أرضه، دون أن نملك القدرة للحياة بشكل حقيقي فيه.

الموت كريه. ما الفائدة من محاولة تجميله؟، ما الفائدة من القول بأن الشهداء يعيشون الآن حياة أفضل؟.. هذا غير حقيقي. الشهداء ماتوا. ينالون قدر كبير من المتعة في السماء، لكنهم ماتوا. قتلوا. اخترق الرصاص أجسادهم. الشهداء تألموا، والأمهات مصابات بالقهر.. الموت كريه، وسيبقى كريه، حتى وإن كان لأجل الوطن.

ثم أننا نفضل دائماً أن نبكي فقط، هل فكرنا يوماً أن لدينا مسئولية ما عن هؤلاء القتلى؟، هل حافظ الآباء على حقوقنا قبل أن نولد، هل اجتهدوا لإقامة مجتمع يمكن أن تحل فيه المشاكل بطرق أخرى غير القتل؟، هل دافعنا عن قيمة الحياة؟، هل اعترضنا على القتل بشكل عام، هل نكره حوادث الطرق والعبارات الغارقة والقطارات المتصادمة والأوبئة المنتشرة.. نحن نفقد احترامنا التدريجي للموت. رغم أن الموت هو الموت.

منذ عامين، كانت الصحف اليومية تتنافس في إضافة رقم جديد في عداد ضحايا فيروس حمل اسم أنفلونزا الخنازير.. بعد مرور أسبوع، أصبحت الزيادة في الرقم عادية.. بل أننا لاحظنا في الأسبوع الخامس أن الرقم يزداد ببطئ، فحمدنا الله أن الوباء انتهى.

ما فائدة شهداء العبارة إذا كانت العبارات تسير بعدها دون صيانة؟، ما فائدة شهداء القهر إذا كان القهر مستمر؟، وما فائدة شهداء الفتنة إذا كانت الفتنة لم تعد أشد من القتل؟.. ما فائدتنا كأحياء وقد صرنا نلتقي في الجنازات وحفلات التأبين، وكفانا الله شر الحياة.

ما الفائدة من أن نصنع في اليوم التالي لاستشهاد صديقنا صفحة على الإنترنت نسميها "كلنا صديقنا".. ثم ينضم لها الملايين. في الواقع، ربما يكون من الأفضل أن نسميها "كلنا هنا حتى نمنع أنفسنا من أن يلاقي واحد آخر منا مصير صديقنا". لأن صديقنا نفسه كان يتمنى أن تستمر حياته، وهو قد يشعر بالسعادة حين يعلم أننا صنعنا هذه الصفحة. سيشعر بالسعادة، لكنه.. لن يشعر بالحياة.

قبل أن نصنع للموت هذه القيمة، من الأفضل، أن نصنع للحياة قيمة أكبر. وقبل أن نسأل أنفسنا، ما الذي قدمناه للشهداء بعد رحيلهم، من الممكن أن نسأل، ما الذي قدمناه لهم وهم أحياء؟. وقبل أن نقول أن الوطن يجب أن يعيش وإن متنا نحن، علينا أن نفكر.. هل يستحق هذا الوطن الحياة، وهو يقتلنا واحد تلو الآخر، ولأسباب متعددة..

المجد للشهداء، وللأحياء أيضاً.

تحيا مصر.. فقط لا غير

أريد أن أحكي لكم قصة بطولية قمت بها صباح 25 يناير، أنا شخصياً أعتبر نفسي بطلاً بعد ما حدث..

كنا في سيلانترو ميدان مصطفى محمود. في العاشرة صباحاً نشرب الأميركان كوفي ونأكل سيزر سلاد، الأول نوع من القهوة والثاني نوع من السلطة، إذن، كنا نشرب القهوة ونأكل السلطة، ونفكر فيما يمكن أن يحدث لنا بعد ساعات.

ندخل على الإنترنت كل دقيقة نتابع الفيس بوك وتويتر لنعرف أي معلومة. نتبادل النكات، ونتواعد على اللقاء مجدداً في المساء في "سبكترا"، حيث مطعمنا الإيطالي المفضل.

أنت تتوقع أني أهزر أو أشتغلك، الله يسامحك. على كل حال لم تكن هذه الأمور مهمة. ما كان مهماً هو التالي : وقفت في منتصف سيلانترو، وأخبرت أصدقائي بأني لن أسمح لأي شخص بالحديث عن استمرار المظاهرات بعد يوم 25، قلت، اليوم أجازة، نعمل مظاهرات، ونرجع بكرة نشتغل.. مفيش 26، ولا فيه 27.. مفهوم؟.

فكرت أنا وأحد أصدقائي في عبور الشارع والوقوف أمام مسجد مصطفى محمود لاستطلاع الأمور. اقتربنا. ويا للهول، عشرات الشباب والرجال والنساء، كلهم بملابس سوداء.. الله أكبر، المظاهرة ستنجح.. استبشرنا خيراً.

مرت دقيقة أو دقيقتين، حتى رأيت عدة نعوش تخرج من داخل المسجد، وكان الرجال والنساء بالملابس السوداء يبكون، ثم أصبح المكان خالياً فجأة. مجرد جنازات حارة لأشخاص اختاروا الموت صبيحة يوم الثورة. الله يرحمهم.

أصابنا الإحباط، واستدرنا للعودة إلى سيلانترو. فوجدنا سيارة أمن مركزي ضخمة تقف أمامه، ورأس صديقة محجبة يدخل إلى الصندوق الخلفي، فأدركنا أن تنظيم سيلانترو المحظور أصبح خلف الأسوار. فوقفنا مكاننا نفكر، هل سنذهب إلى "سبكترا" في المساء فعلاً؟.

أجرينا بعض الإتصالات، لحسن الحظ كانت زوجتي في الحمام داخل سيلانترو، لتخرج وتجد الكافية خالي من الناس، وتغافل الحارس وتهرب. أدركت وقتها أن أفضل مكان يمكن الذهاب له هو داخل المسجد. رغم أن هناك ساعتين تفصلنا عن موعد المظاهرة.

ما البطولة في كل هذا؟. أبداً، ولا شيء. كل ما في الأمر، أنني دخلت المسجد وأمرت بعض الشباب، دون أن أعرفهم بالخروج فوراً لأن المظاهرة ستبدأ الآن.. ولم يكن الأمر يحتاج سوى لنبرة حازة وصوت مرتفع، وبدأت المظاهرة. نظرت حولي خارج المسجد وسألتهم : "حد صوته قوي يهتف؟؟".. فلم يرد أحد، كان الأمن يحيط بنا، وكان الرعب يملأنا، فيما كان بعضنا لم ينتهي بعد من ربط رباط حذاءه.. حالنا كان غريب، وأحلامنا كانت بسيطة.. فقط لا تضربونا.

فكرت أن صاحب الصوت العالي سيظهر وحده عندما ابدأ أنا بالهتاف.. فهتفت : تحيا مصر.. تحيا مصر.. تحيا مصر.. وكرر الشباب الهتاف، فظهرت جماهير من كل مكان، وصرنا عدة مئات.

ولأني أفضل الكلمات الصغيرة القصيرة في الهتاف، كنت أردد : أرحل.. برة..، ولأن الهتاف بحاجة إلى حماس، كنت أشير بيدي للأمام، ففهم البعض أن "برة" المقصود بها كسر الكردون والخروج للشارع، فتحولت الوقفة إلى مسيرة.. وأنتم تعرفون باقي القصة.

بالذمة، ألست بطلاً؟.. طبعاً بطل وألف بطل، بل وأهم بطل في الثورة (بعد الشهداء طبعاً).. ليس لأني أمرت الشباب بالخروج، ولا لأني لم أذهب إلى سبكترا منذ ذلك التاريخ، ولا لأني قررت خروج المظاهرة قبل موعدها..

بطل، فقط، لأني عندما اخترت الهتاف، لم أجد خيراً من : تحيا مصر.. فقط لا غير.

للصغار فقط

عندما جلسنا على المقهى، مساء يوم 11 فبراير الماضي، وكانت الثورة قد حققت أهم نتائجها للتو، تحدثنا كثيراً عما يمكن أن يحدث لبلدنا، بالطبع لم يتخيل أحد وقتها أننا سنعود بعد شهور قليلة للجلوس على ذات المقهى للحديث مرة أخرى عما يجب أن نفعله لإنقاذ البلد.. هذا غير مهم بالمرة.. المهم، ما الذي قلناه في الجلسة الأولى..

أخبرت الأصدقاء وقتها أن الثورة ليست مجرد ثورة. وأن من الظلم والغباء الإعتقاد أننا نزلنا إلى الشوارع فقط لإجبار مبارك على الرحيل. بل لعل هذا أبسط ما في الثورة.. قالوا كيف؟، قلت التالي..

للثورة وجهان، الأول سياسي، ويطالب بانتقال للسلطة السياسية من نظام فاسد وقذر، إلى نظام سليم ونظيف. والثاني اجتماعي، يهدف إلى انتقال السلطة الإجتماعية من فئات عمرية أكبر، إلى شباب أصغر سناً.. وافقني الجميع وقتها، وذهبنا إلى بيوتنا يملأنا الفخر، وصرت أردد وجهة نظري في كل مكان.. حتى كان ما كان.

في الوجه الأول للثورة. ظهرت مشكلة أساسية وهي الفلول والمنتفعين وأصحاب المصالح، وصارت المصائب تأتي واحدة تلو الأخرى بسببهم. في اعتقادي أن هذا سهل ومقدور عليه، ربما لإيماني الشديد أن السلطة سيتم تسليمها عاجلاً أو آجلاً. وأن الثورة السياسية ستنتصر لأن الشعب يريد إسقاط النظام، ما استطاع إليه سبيلا..

في الوجه الثاني للثورة، بات الكبار في كل مكان، في المجلس العسكري، في الأحزاب، في جماعة الإخوان وتيار السلفيين، في الكنيسة، في برامج التليفزيون، وبالطبع في مجلس الوزراء.. في كل مكان يظهر الكبار ويتكلمون، والحق، أنهم يدعون أن الشباب بالفعل يجب أن يأخذ فرصته.. دعنا نعرف الكبار هنا بأنهم دائماً أكبر من الستين، وتسبق أسماءهم كلمات مثل، دكتور، مستشار، مشير، مفكر، وبعضهم نراهم على شاشات مكتوب أسفلها صفة الكبير أو البارز أو القدير.. ثم أما بعد.

الفلول، بين الكبار والصغار، هؤلاء الذين يقفون في المنتصف بين من هم فوق الستين، ومن هم تحت خط النضج. في الأربعينات والخمسينات. تراهم في كل مكان، على المقهى، في المسجد، في البرامج أيضاً لكنهم أوسع انتشاراً، وهم في الواقع يقولون كلاماً مزكرشاً. لا فائدة منه على الإطلاق.

هؤلاء، أصحاب مصلحة في أن تبقى السلطة الإجتماعية في يد الكبار وحدهم، وأن يتعطل وصول الشباب لها، حتى يمر الوقت، ويكبرون هم أيضاً، بحيث ينالون صفات الكبير والبارز.

فكر معي، كل أصحاب التصريحات المستفزة ينتمون إلى هذا السن، كل الذين يهرتلون (من الهرتلة) في حياتنا السياسية والإقتصادية والدينية في الأربعينات والخمسينات. صناع الكراهية والطائفية والعنصرية.. وكل الأشياء التي تنتهي بـ"ية" إلا الديموقراطية والحرية.. كلهم، بلا استثناء، ينتمون إلى معسكر أبناء الأربعين والخمسين، لماذا؟ علمي علمك.

اسأل نفسك، ما الذي كان يفعله ابن الأربعين في شبابه؟، في الواقع لا شيء. قضى هؤلاء شبابهم في بداية عهد مبارك، حيث أزهى عصور الاستقرار. بحيث تحول الاستقرار إلى خيارهم الوحيد في الحياة.

هل هي مصادفة أن شهداء الثورة كلهم شباب؟، طيب، هل هي مصادفة أن صفحة كلنا خالد سعيد يديرها شباب في عمر خالد سعيد الشاب أيضاً؟، هل هي مصادفة أن الذين قتلوا أمام ماسبيرو من شباب الأقباط، والذين اعتقلوا في أحداث السفارة من الشباب أيضاً؟. إذا كانت الثورة قامت لأن الشباب دعوا لها، وانتصرت لأن الشباب قتلوا فيها، واستمرت لأن الشباب يدافعون عنها، وستنتصر لأن الشباب مستمرين في مطالبهم.. فما الذي يفعله هؤلاء في حياتنا؟.

شباب الجيش يدفعون ثمن اختيارات مجلس عسكري من الكبار، وشباب الكنيسة يدفعون ثمن تصريحات غرائبية من بعض رجال الدين، وشباب الإخوان يدفعون سبب العقلية التي تدير مكتب ارشادهم، وشباب الأحزاب يدفعون ثمن خيانة رؤساء أحزابهم..

الغريب، أن اسوأ ما في المجلس العسكري ليس المشير الأكبر سناً، بل لواءات مثل بدين والفنجري والرويني، وهم للمصادفة من نفس الجيل المعطوب، والمرشد ليس مشكلة الإخوان، بل قيادات وسيطة مثل صبحي صالح وعصام العريان ومحمد مرسي، وهم من نفس الجيل. والبابا شنودة هو الأكبر سناً، لكن التحريض يصدر فقط من رجال الدين من نفس الجيل، حتى الشيخ السلفي الذي وقف في إمبابة يحرض على حرق الكنائس، لم يكن كهلاً عجوزاً، بل في بدايات الأربعينات. إذن فهذه ليست مصادفة.

بل وسبحان الله، لا سحر ولا شعوذة، كل أربعيني وخمسيني وستيني محترم في هذا البلد كان في شبابه أكثر احتراما.. عصام سلطان، حمدين صباحي، عبد المنعم أبو الفتوح، حازم صلاح أبو اسماعيل، وغيرهم، ورغم اختلافنا السياسي معهم، نراهم في النهاية أقرب إلى أفكار الشباب وطرحهم.. لكن، اسأل والدك عن رأيه في مرشحي الرئاسة، ليتلو عليك قائمة تبدأ بعمرو موسى، مروراً بسليم العوا والبرادعي.. وحين تسأله عن المرشحين الأصغر سناً يقول : لسه بدري.

وفي الواقع، فإنه وإن كان لازال الوقت مبكراً على مرشحي الرئاسة، فالأمر مختلف في الشوارع والأحزاب والمساجد والكنائس والنوادي والمصالح الحكومية وأجهزة الدولة والوزارات ومجلس الشعب والمحليات.. كل هذه الأماكن تحتاج لجرعة إنقاذ وطني شبابية. فقط، لأن الشباب قدموا السبت، وآن الأوان أن يحصلوا على الحد. حد أدنى للظهور، وحد أقصى للأعمار.

فكر، أننا نحب سلفيو كوستا الشباب، وشباب الإخوان أصحاب صفحات الفيس بوك الجريئة، وشباب الأقباط المشغولين بمسألة الوطن قدر انشغالهم بمسألة قباب الكنيسة، وشباب الأحزاب القادرين على سحب الثقة من قيادات أحزابهم إذا وقعت يوماً على بيان مشين، وشباب الموسيقى الذين انتجوا للثورة أغنيات مبهرة، وشباب المخرجين وشباب الضباط وشباب المهندسين والأطباء. حتى في الإعلام، التليفزيون المصري كبير ينتمي للكبار، يحتاج إلى ثورة، والقنوات الفضائية الخاصة مجرد فلول تقف في المسافة الفاصلة بين تليفزيون النظام، وبين وسائل إعلام شبابية كالإنترنت والفيس بوك الذي اخترعه شاب في العشرينات.

انتقال السلطة الإجتماعية لا يحتاج إلى نزول الشارع، هو فقط يحتاج إلى خروج من الإنترنت لكل بيت ومؤسسة، طيب، وما الذي يمكن أن نفعله في جيل الفلول؟؟.. سؤال مهم، من الممكن أن نخبرهم بهدوء وحكمة، أنه حظ أفضل في المرات القادمة.

الثورة انطلقت من الإنترنت الذي دخلنا عليه من هواتفنا عبر تقنية الثري جي، الجيل الثالث، فالجيل الأول ينتمي له مبارك وقد فسد، والجيل الثاني ينتمي له أبي وكان نائماً صباح يوم 25 يناير لأنه من الإخوان ولم يصدر بعد قرار بالنزول، والجيل الثالث هو أنت وأنا، خالد سعيد ومينا دنيال وسيد بلال ووائل غينم ونوارة وأسماء وإسراء. ومليون اسم آخر، اعتقدوا جميعاً أن الشارع للجميع، وأن "اللي ملهوش كبير يشتري له كبير". رغم أن "اللي ربى" ليس دائماً أفضل من "اللي اشترى".. وهذه ثورة للصغار فقط، إلى أن يثبت العكس.

الأحد، أكتوبر 09، 2011

دعاء ركوب الثورة

مرة جديدة، حسبي الله ونعم الوكيل.
هذه المرة من نصيب الشيخ المحترم صفوت حجازي الذي يعرف وحده حكاية شقة العجوزة. تلك التي استقبلت بعض شباب الثوار ليلة موقعة الجمل، حيث الخمر والنسوان والملذات، فالليلة خمر ومزز، وفي الغد ندرس موضوع اسقاط النظام.

يقول الشيخ العلامة، ابن حجازي. (ولاحظ أنه لا توجد شدة في كلمة "علامة"، فالمقصود أن الشيخ علامة مهمة في تاريخنا المعاصر، بالإضافة إلى كونه علامة تجارية في المحطات الفضائية)، أن الشباب الذين يتهمون الإسلاميين بركوب الثورة، هم أيضاً ركبوا أشياء أخرى في شقة العجوزة، والتي اختاروا ليلة موقعة الجمل بالتحديد كي يعملوا فيها جمال وبغال، ويركبوا خيبتهم القوية، ويتركون شباب الإخوان، الطاهر النقي النظيف الجميل اللطيف الذي لا يذهب للعجوزة ولا للشابة حتى، يتركون هؤلاء الشباب يموتون دفاعاً عن الميدان.

لماذا نقول حسبي الله ونعم الوكيل للشيخ المحترم إذن؟
حينما اتصلت به، وعرفته بنفسي، داعبني قائلاً أنه هو أيضاً له ابن اسمه براء. قلت بركة. وأضفت، "اقبلها مني يا شيخ إذن وكأنني ابنك، حسبي الله ونعم الوكيل".. قال، والدهشة تسيطر على صوته، في مين؟، قلت : في حضرتك، تعليقاً على تصريحاتك بخصوص شقة العجوزة.

قال، بعد تنهيدة طويلة، "بيني وبينك ربنا"، وأضاف حديثاً شريفاً تعني خلاصته، أنه تصدق بعرضه على المسلمين، بمعنى أن كل من سبه أو قذفه أو اتهمه باطلاً، فإنه يرجو من المولى عز وجل أن يجعل هذا في ميزان صدقاته.. وحتى نبدأ الحوار سألته : وماذا عن أعراض شباب شقة العجوزة؟، غالبا هم لم يتصدقوا بأعراضهم.. ماذا سنفعل في اتهامك لهم؟.. سكت قليلاً، ثم قال – مع تنهيدة أخرى قصيرة – مش عارف بقى.

لوهلة شعرت كأني أحدث توفيق عكاشة، وأنا هنا أسخر من الشيخ وأتهكم عليه، ولا يضيرني ذلك كون الرجل تصدق بعرضه ولن يتضايق، فقد أخذ الشيخ يحدثني عن محاولات اغتيال يتعرض لها على يد هؤلاء الشباب، وعن ضربهم له ليلة عيد الفطر في ميدان التحرير، وعن أنهم يتهمونه في عرضه وولده وأهل بيته، ويلومني، لماذا لم أتدخل إذن عندما كادوا يقتلونه؟. تنهدت أنا أيضاً وأضفت : مش عارف بقى.

لمدة ثلاث دقائق ظل الرجل يتحدث في جمل قصيرة تبدأ كلها بـ"مش صفوت حجازي"، نذكر منها ما يلي : مش صفوت حجازي اللي لما يغلط الناس تعلقله المشنقة، مش صفوت حجازي اللي ننسى عمل ايه في ميدان التحرير، مش صفوت حجازي اللي الناس تتهكم عليه.. إذن، فالشيخ الفاضل معترف ضمنياً بالخطأ، لكن مشكلته كلها ليست مع الشباب، ولكن مع صفوت حجازي نفسه، الذي يعتقد أن شخص مثله لا تجوز مسائلته أو سؤاله أو حتى عقابه، رغم أن الشيوخ كانوا يعاقبون – عادي جداً – في دولة الخلفاء المسلمين التي يتمنى صفوت وجماعته أن تعود يوماً.

عاد مرة جديدة وقال : بس أنا معايا دليل بالصوت والصورة من داخل شقة العجوزة. قلت : الله أكبر، هيا بنا يا رجل نفضح الشباب.. هيا بنا، ما الذي تنتظره يا شيخ الإسلام. عليك أن تنتقم لنفسك، حطمهم، اقتلهم، حتى تقوم دولة الإسلام.. الدولة الحرة الجميلة الديموقراطية الرائعة، التي ستسمح للشباب في المستقبل بفعل كل ما يريدون داخل الشقق طالما أنها ملكية خاصة، بمعنى أن الشباب يمكن أن يشربوا الخمر ويلهون مع النساء في شقة العجوزة بعد وصول الإسلاميين في الحكم. لكن قبلها، حرام والفضيحة واجبة.

أضاف أنه لن يترك هؤلاء الشباب في حالهم بعد اليوم، ابتسمت واعتبرت المسألة منتهية، مسألة صورة رجل الدين، الشيخ الفاضل، القداسة التي كنا نراها صغاراً حين نشاهد خطيب المسجد بملابسه الأزهرية الجميلة. الآن، يمكن أن يجعلنا الخطيب في الجمعة المقبلة نشاهد فيلماً إباحياً تم انتاجه في تل أبيب بحجة أنه ينتقم من الأعداء.

سألته، لماذا لم تقل ما قلت في أي برنامج تليفزيوني، واخترت أن تقوله في مؤتمر لحزب الحرية والعدالة، وهل يعبر رأيك هذا عن رأي الحزب؟، سكت، وغير الموضوع، قال، عموماً، من حقي أيضاً أن أقول لك حسبي الله ونعم الوكيل، ابتسمت مرة جديدة، وفكرت في مسألة أخرى.. الشيخ صفوت يقول أنه سيبرز السي دي إذا قال الشباب أن الإسلاميين ركبوا الثورة مرة أخرى، ضمنياً، الرجل لا ينفي أن الإسلاميين ركبوا الثورة، لكنه أيضاً يعتقد أن الركوب حلال طالما كان إسلامياً شرعياً دينياً إخوانياً.. وطالما أننا في النهاية نذكر.. دعاء ركوب الثورة.
أخيراً، ولأن أعصابي ما عادت تحتمل، قلت له، يا شيخ يا محترم، قلت في نهاية خطبتك، أن الكلمة نور، وبعض الكلمات قبور، وأنا غير متأكد من أن كلامك كلام قبور، لكنه على الأقل، ليس بنور. هذا، والله أعلم.

الثلاثاء، أكتوبر 04، 2011

مشروع قتل كرة

(1)

توجد حكايتان عن شارع الخلفاوي، الأولى حين ضربني حمزة في وجهي بقطعة صفيح (أخي الذي يصغرني بخمس أو ست أو سبع سنوات، لا أدري، ولا يهم). وسببت الضربة جرحاً غائراً تداوى بعد ذلك بغرزتين ليترك علامة دائمة أسفل فمي.. وهذه حكاية عادية وغير مهمة. وحين انفجرت كرتنا أسفل حافلة بيضاء كتب عليها بالأزرق شركة القاهرة للأدوية..

عندما اشترينا الكرة الجديدة، الغالية، الجيدة، الجميلة.. اجتمعت اسرتنا ثلاثة اجتماعات هامة. الأول، حين تم اتخاذ القرار.. سوف نشتري كرة، ماذا؟، من أين؟، لماذا؟.. والثاني حين جاءت الكرة.. من يلعب بها؟، أين يلعب بها؟، متى يلعب بها؟.. والثالث حينما فقدناها أسفل الحافلة البيضاء.. متى حدث هذا؟، كيف؟، ومن السبب؟..

وبالطبع، فإن كل ما سبق لم يكن يعنينا كأطفال نحب اصطياد ساعة العصاري ونحن نلعب الكرة في شارع الخلفاوي. الشارع السحري، الذي يضيق ويتسع حسب الحاجة، وحسب ساعة نزولك إليه.

في الأيام التي نزلنا فيها مبكراً، كيوم قتل كرتنا، كانت حافلات شركة الأدوية تحتل الشارع بأكمله، فالشركة في شارع الترعة البولاقية المزدحم، والشركة ضخمة، ضخمة جداً، لم نكن نعرف مكانها ولا حتى شكل البناية.. لكن هذا العدد من البشر لابد وأنه يعمل في شركة ضخمة للغاية.. ضخمة جداً.

نحضر أحجارنا الصغيرة، ونصنع مرمى هنا وآخر هناك، نرسم حدود الملعب بخيالنا، ونقسم عدد الأطفال أياً كان إلى فريقين، ونلعب.

لكل أطفال الخلفاوي في كرتنا نصيب. تجمعنا الكرة وتفرقنا نتائج المباريات، التي لا تنتهي غالباً إلا حين نعجز عن رؤية المرمى بسبب الظلام. أو تتدخل أم أثناء اللعب وتسحب أطفالها لسبب أو لآخر. فنعجز عن صنع فريقين بعدد قليل. نزيح الحجارة وقتها ونذهب لشراء الأيس كريم.

محمد كان آخر من لمس الكرة قبل أن تستقر أسفل القاهرة للأدوية، تدرك أنني أتحدث عن الحافلة.
مرت بسرعة لا تلاءم ضيق الشارع، لم ندركها، فاجتمعنا لنعلن أن حقنا سيعود، وانتظرنا الحافلة في اليوم التالي.

نزلنا إلى الشارع مبكراً، لنكتشف وقتها فقط، أن كل حافلات القاهرة للأدوية نسخ متطابقة، وعجزنا عن كشف الحافلة القاتلة. لكن بقايا الكرة كانت لا تزال بين أيدينا.

أحدنا، أنا أو عبادة، (أخي الذي يصغرني بعام أو نصف أو عامين، لا أدري ولا أهتم)، قررنا أن محمد هو المسئول عن قتل كرتنا. ولذا، فإنه وأحمد، شقيقه الذي يكبره أو يصغره بعامين أو ثلاثة، مطالبان بشراء كرة جديدة، تطابق كرتنا، خاصة وأن أسرتنا لم تكن على علم وقتها بجريمة قتل الكرة.

(2)

لمدة شهر أو شهرين، كنت أصعد ستة أدوار كاملة، وأطرق باب شقة أحمد ومحمد، ليطل وجه رجل طويل، فهمت وحدي أنه والدهما، وأطلب منه أن يشتري لنا كرة جديدة. وفي كل مرة كنت أحصل على ذات الإجابة، أول الشهر.

كانت معلوماتي عن الآباء وقتها محدودة، فقط كنت أشاهد "ونيس" قبل النزول إلى اللعب ساعة العصاري، وكنت أظن وقتها الآباء لطفاء وطيبون. وتشغلهم أمور أطفالهم. لم يخبرني عقلي وقتها أن الرجل الطويل يكذب أو يتهرب من دفع عشرة جنيهات كاملة، هي ثمن كرتنا المغدور بها والمأسوف عليها.

بمرور الوقت اكتشفت عدة أشياء، منها أن الكرة يمكن أن تعود للحياة مرة جديدة. اشترينا كرة بلاستيكية رخيصة، ووضعناها داخل الكرة الأولى، ثم أعدنا نفخها، فحصلنا على كرتنا مرة أخرى، لكنها هذه المرة أثقل وزناً (وهذا أمر جيد) وأكثر متانة.

ثم اكتشفت أن الأسرة التي تسمي طفلين فيها بأحمد ومحمد، هي أسرة لن يدفع ربها عشرة جنيهات ثمن كرة قتلها طفله.

ثم لاحظت أن محمد لا ذنب له في المسألة، وأننا قررنا، زوراً وكذباً، أن عليه دفع الجنيهات العشرة، فقط لأنه آخر من لمسها، وتركنا الجاني الأصلي، سائق الحافلة.

ثم اكتشفت، أن مركز شباب الساحل قريب وواسع ودخوله مجاني من خلال فتحة ضيقة في السور. ثم أن الحافلات لا تمر خلاله.

(3)

توجد في الحي الثاني بمدينة أكتوبر مدرسة اسمها "جيل 200"، تقول الأسطورة أن المطرب محمد فؤاد هو صاحبها ومديرها، وحين كنت طفلاً، كنت أصدق هذه الأساطير، فما الذي يمنعه من أن يكون كذلك، خاصة وأنه يظهر مع عدد كبير من الأطفال في أغنياته المصورة..

وحين كنت أمر أمامها، أفكر في مسألة الأسطورة، كانت كرة جميلة تموت تحت عجلات سيارتي. وكان طفل في مثل سني عندما قتلت كرتي يقف وعيونه تملأها الدموع، يفكر، بأي كرة سيلعب في الأيام القادمة.

بسرعة، غادرت مقعدي وقدمت ورقة مالية تحمل رقم عشرين، وانحنيت أمام الطفل أقدم اعتذاراتي. وقدمت عرضاً سخياً، بأنه يمكنني اصطحابه لأي مكان لشراء كرة جديدة، أو يأخذ النقود ويتصرف هو، وبذكاء طفل يعرف ثمن الكرات جيداً، سحب الورقة، وانتشل بقايا كرته من تحت العجلات، وانصرف يمسح دموعه.

الاثنين، سبتمبر 12، 2011

عرض الدولفين

ما الذي يحدث في عرض الدولفين؟.

يجتمع الناس ويجلسون في حلقة حول بركة مياة. ويأتي شخص يرتدي ثوب سباحة أسود، ثم يظهر الدولفين، ويبدأ العرض.

بصحبة هذا الشخص وعاء بلاستيكي، مليء بأسماك صغيرة ميتة، يلقيها لأعلى تجاه بركة المياة، ليقفز الدولفين ويلتقطها في فمه، مع صوت سعيد يخرج من حنجرته، فيما يصفق الحضور.

ترتفع الموسيقى التشويقية، ويقفز المدرب إلى المياة، ليظهر بعد دقيقة واقفاً على رأس الدولفين، الذي يسبح بسرعة، فنرى المدرب وكأنه يجري على الماء. يفرد ذراعيه ويبتسم، علامة على حسن سيطرته على الدولفين، وقوته كمدرب يجيد التحكم في الحيوان الجميل.

يتمني أحد الحاضرين، وهو شخص رومانسي رقيق، أن يكون مكان المدرب، وينزل إلى الماء ليلعب مع الدولفين، تبقى أمنيته حبيسة قلبه.. لكنه لا يفعل أي شيء.

فيما يفكر شخص آخر، في أن الحركات التي يقوم بها المدرب صعبة، بل أنها بالغة الصعوبة. وتكاد تصبح خطيرة إن حاول شخص عادي مثله أن يفعلها.. يستمر في تفكيره، دون أن يفعل أي شيء.

تفكر فتاة مثقفة، في أن ما يحدث إهانة للدولفين، فمن حق هذا الحيوان أن يعيش في المحيط حيث موطنه الأصلي. وأننا ننتهك كرامته حين نحوله للعبة ترقص مقابل قطع صغيرة من الأسماك الميتة.. ترى في العرض انتهاكاً واضحاً للإعلان العالمي لحقوق الحيوان.. ترى ذلك بوضوح، في حين أنها تكتفي بفعل اللاشيء.

فيما كانوا منصرفين، لاحظ أحدهم لافتة صغيرة على جانب المدخل، مكتوب عليها "أحترس من الدولفين"..

الثلاثاء، أغسطس 30، 2011

عن مقدشيو.. وأشياء أخرى


(1)

هل أنا هنا حقا؟..

كنت لا أزال أحاول طرد النوم خارج رأسي، بينما أقف على مطار مقدشيو بجوار أحمد، وأستمع لحديثه حول طريقة هبوط الطائرة إلى الأرض.

لم يكن هبوط الطائرة يشغلني في الواقع، كانت هناك مسائل أهم، كيف طارت الطائرة أصلاً؟، وكيف حلقت لساعتين ونصف في السماء بين نيروبي ومقدشيو؟.

كنا سبعة عشر شخصاً، في طائرة بها سبعة عشر مقعداً. فقط لا غير. وكان الباب الفاصل بين مقاعد الركاب وكابينة القيادة مفتوحاً، بحيث استطعنا أن نشاهد معجزتين، الأولى هي قدرة الطائرة الصغيرة على الطيران، والثانية هي قدرة الطيار على قيادة الطائرة الصغيرة وجعلها تطير.

في ظروف كهذه، ولأن المسائل تصبح معقدة بما يكفي، ألجأ للنوم فوراً. تشغلني مسألة موتي، وأكره أن أموت في حادثة. وأفضل، أن أموت نائماً.. توجد أسطورة قديمة تقول أن الذين يموتون وهم نيام، يقبض الله أرواحهم بهدوء أولاً، ثم تموت أجسادهم بعد ذلك نتيجة الحادث، سقوط طائرة أو انهيار جدار أو زلزال.. موت بلا ألم، مجرد نوم طويل دون استيقاظ.

قضيت الرحلة إذن في النوم، واستيقظت لأجدني واقفاً على أرض الصومال وأحمد يحدثني عن الطريقة التي هبطت بها الطائرة، بينما يسألني العقل الذي أحمله : "هل أنا هنا حقاً؟".

(2)

لم تكن هناك أية لوحات مكتوب عليها "أهلاً بكم في الصومال"، أو "ابتسم أنت في مقدشيو".. لم يزعجني الأمر، لكل بلد ثقافته الخاصة بالتأكيد. لكن عندما توقفت السيارة دقيقة عند بوابة المطار، ثم ظهرت جرافة صغيرة بجوارنا، وتجاوزتنا لحمل كتلة أسمنتية كبيرة تسد الطريق، حتى عبرت سيارتنا، لتعيد الكتلة الأسمنتية مرة أخرى وتبقي الطريق مسدوداً.. هنا بدأت الفكرة تضرب في رأسي.. لم تكن هناك لوحات ترحب بنا في مقدشيو.. لأن مقدشيو نفسها.. غير موجودة.

قضيت النهار أحمل الكاميرا وأتجول بين مخيم وآخر. لدى الرجل الصومالي الذي يقود سيارتنا الصفراء طموح حقيقي لأن يقود طائرة يوماً ما. جلست بجواره بينما في الخلف جلس ثلاثة من أصدقائي يتأوهون نتيجة ارتطام السيارة بعنف بمطبات لا يمكن أن تكون صناعية.. بل هي طبيعية تماماً.. فلا يوجد طريق أصلاً، نحن نسير في الصحراء مباشرة.

في المخيمات، وبينما أصور دون توقف. فكرت في ردود فعل مناسبة يمكن لبشري أن يفعلها حين يجد نفسه فجأة داخل مخيم صومالي لللاجئين.. كانت الأفكار كلها تدور حول مسدس قديم ببكرة دائرية، ورصاصة عتيقة، وفوهة داخل الفم، واللعنة على هذه الحياة التي تحدث فيها هذه العجائب.

(3)

في بلدي الذي جئت منه إلى هذه الأرض، يقضي الناس أوقاتهم في المنازل والمكاتب والمساجد والمقاهي والكنائس والبارات، في نقاشات طويلة حول ترتيب الأمور.. الدستور، الانتخابات، المليونية، الإصلاح، تشكيل الوزارة، الدينية، المدنية، العسكرية.. في مكان مثل الذي أكتب منه الآن، يمكن وصف كافة الأشياء التي يفعلها أبناء بلدي بالعبث..

الناس هنا، يبحثون عمن يعرف لهم كلمة "انسان".. أعتقد أن هذه هي المشكلة. في النهاية أنا لست خبيراً، وهذه ليست ورقة بحثية حول أسباب المجاعة أو دعوة للتبرع لأهالي الصومال.. هذه مجرد انطباعات مبدئية، لشخص وجد نفسه في مقدشيو ويسأل : هل أنا هنا حقاً؟.

حاولت أن أدقق النظر في وجوه الأطفال وأبحث عن مستقبلهم.. ذكرت نفسي أن الله خلقنا على هذه الأرض لفعل أشياء أخرى غير الأكل والشرب والتكاثر.. إذن، على هؤلاء الأطفال أن يخرجوا لهذه الأرض مفكرين وفنانين وعلماء ورجال اقتصاد.. على هؤلاء، أن يفعلوا في المستقبل شيئاً مختلفاً.. لأن الله موجود في السماء، ولأن المعونات ستتوقف يوماً ما.. ولأن الإنسان موجود على الأرض لسبب أو لآخر.

الأمر معقد. في النهاية، سأعود ومعي فيلم مليء بصور عديدة لأطفال وذباب. صور ملونة ومتحركة. تخبر العالم بالمأساة.. ما الذي سيحدث بعد ذلك؟. وما الذي كان يحدث قبل ذلك؟.. كيف كانت مقدشيو قبل المجاعة؟، بل أين هي مقدشيو أصلاً؟.

كان على أحدهم أن يخبر هؤلاء أن عليهم أن يتعلموا الحياة. علينا أن نتوقف عن ترديد الحكمة الصينية عديمة الفائدة : لا تعطهم السمكة، علمهم الصيد.. علينا أولاً أن نخبرهم أن في الحياة ما هو أهم من أكل السمك، أو حتى صيده.

في الحياة حضارة يجب أن تستمر، أو أن تنهي إذا كان جزءاً من هذا العالم لا يعرف عن هويته إلا كونه شعباً في انتظار المساعدات، وإذا كان التعريف الحقيقي للسياسة في العالم الثالث هو فن تعذيب البشر، وجعل السياسين السفلة يأكلون طعاماً أفضل.

(4)

أرسلوا المساعدات للصومال إذا كان بإمكانكم فعل ذلك. وإن كانت لديكم أولويات أخرى.. فقط عليكم أن تعلموا، أن حرمان بعض البشر من الطعام أمر عادي تماماً. إذا كنا سمحنا قبلها، أن نحرم بعض البشر، من أن يكونوا بشراً بالفعل.

الأمر يتجاوز الصومال. في النهاية، قد تأتي مثلي إلى مقدشيو وتسأل : هل أنا هنا حقاً؟.

حضورك إلى هنا لن يغير في المسألة شيئاً. فقط ستعرف أن الصور التي تتبادلها مع أصدقاءك على الفيس بوك حقيقية، وأن القنوات الإخبارية ليست كاذبة هذه المرة. لكن في النهاية، سيظل الناس في الصومال يفهمون أن المطلوب منهم أن ينتظروا البعض منا لتصويرهم وهم يتسلمون المساعدات.

في النهاية، نحن نعيش في عالم قاسي، وأنا أقضي العيد وحدي هنا بعيداً عن الأهل والأصدقاء. ومن حقي أن أشعر بقدر من الحزن. سأعود إلى القاهرة قريباً، إن كانت الخطة الإلهية تقول ذلك، وسأجيب عن أسئلة الأصدقاء حول المأساة. وسأتلقى ردود أفعالهم المتضامنة مع الصومال.. لكني فقط أريد أن أقول، أنني معترض على هذه الترتيب.

شيء ما يجب أن يحدث، شيء ما يجب أن يتغير.


الأحد، أغسطس 07، 2011

اسمع بقى يا سيدي

عندما يبدأ النهار بخبر وفاة حسن الأسمر. فإن الأمر أعمق من كونه مجرد مصادفة.

حين يكون إعلان حسن الأسمر هو آخر ما أشاهده قبل نومي، وحين تفلت مني ابتسامة، وأفكر دقيقة في الشخص الذي فكر في إحضار الأسمر من المكان الذي كان يختفي به، لجعله يروج لشركة اتصالات. حين يحدث هذا، فإن الأمر عميق.

الأمر عميق، لذا، سيكون من السخيف أن نقول المعتاد : "أوه يا حسن، لقد رحلت فجأة، وفي نفس الوقت الذي صنعت فيه إعلاناً مدهشاً".. هذه سخافة بالتأكيد. لا علاقة لرحيل حسن بالإعلان. أي شخص يموت هذه الأيام يخرج أحدهم ليقول أن توقيت الوفاة يحمل مصادفة ما، وهذه سخافة حقيقية. كل التوقيتات تحمل مصادفات. ما الداعي إذن لاستخدام الفلسفة في غير موضعها.

الأشياء تحدث لأنها تحدث. وحسن الأسمر مات لأن قلبه توقف. علينا أن نفكر بشكل أعمق. ما الذي تركه الأسمر فينا.. الأسمر نفسه، بما فعله في حياته. وليس فقط بتوقيت وفاته الذي جاء للمصادفة وهو يظهر على الشاشة من جديد.

كنوع من أنواع الوفاء، للأسمر حسن. سأعيش مع موسيقاه ساعة، وسأتذكره لوقت طويل وهو يلهو بدراجة هوائية في "أرابيسك". وسأعتبر حقاً أن "اسمع بقى يا سيدي".. هي البداية الحقيقة للعذاب..

الاثنين، يوليو 11، 2011

الجلسة الثالثة : نصف كيلو لبن.

في الصالة الضيقة، جلس الأستاذ عبد الحميد يشرح لطفلته الصغيرة سلمى مسألة مهمة، لماذا يأكل النمل السكر؟

وجهت سلمى هذا السؤال إلى والدها، مؤمنة أنها ستجد لديه الإجابة دون شك، وكيف لا، وقد اعتادت على إيجاد أجوبة نهائية وواضحة على كل سؤال تسأله في حضرة أبيها مدرس الجغرافيا الأستاذ عبد الحميد الرحيمي.

في المطبخ المجاور للصالة، والضيق أيضاً بطبيعة الحال، فشقة صالتها ضيقة لن تكون أبداً ذات مطبخ متسع. كانت السيدة حنان، زوجة الأستاذ عبد الحميد، مدرسة اللغة الأنجليزية، تقطع ما تبقى من أصابع الموز، داخل طبق نصف دائري كبير، ممتلي بقطع صغيرة من الفاكهة تعوم وسط مياة مذاب بها السكر، فيما تسميه باسم سلطة الفواكه، وهي تتركه في الثلاجة بعض الوقت، ثم تخرج الطبق الكبير وتعيد توزيع السلطة داخل أطباق صغيرة، حافظة لكل فرد في الأسرة "منابه"، وهذه كلمة تدل بطريقة أو بأخرى على القدر الذي يستحقه كل فرد من طبق سلطة الفواكه.

الساعة تقترب من التاسعة، والأنباء التي ينقلها الراديو في المطبخ، والتليفزيون في الصالة، وشباك الجيران من المنور، كلها تقول أن البلد ليست على ما يرام. إذن، يمكن أن تصبر سلمى قليلاً على أجابة سؤالها، خاصة وأنه فيما يبدو، فإن بقاء والدها في المنزل دون عمل سيستمر بضعة أيام..

بميكانيكة معتادة، وضعت السيدة حنان ورقة مستطيلة بجوار التليفزيون، وأخبرت زوجها، أنها طلبات مهمة، يجب احضارها من البقالة القريبة، أو الذهاب إلى السوبر ماركت في الحي المجاور، ذلك أن البقا ء في المنزل يستلزم وجود احتياطي من الغذاء يكفي لكل فرد في الأسرة منابه.

سحب الأستاذ عبد الحميد الورقة، ثم نزل. لم يجد أهمية لارتداء قميصه وبنطاله، اكتفى بالجلابية الواسعة، والشبشب البلاستيكي.

أمام ثلاجة زجاجية باردة، ممتلئة بأصناف مختلفة من الجبن، قال الأستاذ عبد الحميد طلبات زوجته، زجاجة زيت عباد شمس، وكيلو كامل من الجبن الأبيض ملح خفيف، وأربعة أكياس من العيش البلدي المغلف، وكيلو ونصف من اللبن كل نصف وحده في كيس منفصل.

لم يعرف الأستاذ عبد الحميد أبداً الحكمة في تقسيم اللبن إلى أكياس متساوية، ولم يكن يرغب في معرفة السبب. في النهاية هذا أمر يخص زوجته ويريحها. وغالباً، فإن ابنته سلمى لن تسأله يوماً عن أمر كهذا، وإن سألته، فسيكتفي بالقول : اسألي ماما.

عندما عاد الأستاذ عبد الحميد إلى المنزل، كان شكله قد تغير بعض الشيء. جلبابه متسخ، وعليه بقع بيضاء. ورأسه متورم قليلاً، وهناك ثقب صغير يتوسط جبهته، بالتحديد في مكان زبيبة الصلاة التي تمنى يوماً أن يمتلكها.

كانت إحدى فردتي شبشبه مفقودة، ويمكن أن نفهم، إن الرصاصة التي اخترقت جبهته، جعلته يسقط على الأرض، ما جعل أكياس اللبن تنفجر كانفجار رأسه تماماً.

ليست كل أكياس اللبن، كيسان فقط، كيلو واحد، ليختلط الدم باللبن، في مزج غير مريح بين لوني الأحمر والأبيض، وهي ألوان متنافرة، لا نراها إلا على علم مصر بصحبة النسر، واللون الأسود الذي سترتديه الأستاذة حنان وباقي أسرتها حداداً على مقتل زوجها في الشارع الخلفي دون سبب واضح.

الشاشة تقول، أن الفوضى تعم البلاد، وأن السجون باتت مفتوحة، وأن البلطجية في كل مكان، والشباب الذين أحضروا لها جثة زوجها إلى المنزل، يقولون أن زوجها كان بطل لمظاهرة ضخمة خرجت من الحي المجاور، وأن حمله لطلبات المنزل، لم يمنعه من الهتاف "يسقط يسقط.. أرحل أرحل". حتى اصطاده القناصة حين ظنوا أنه قائد المسيرة.

السيدة حنان، لا تصدق أن زوجها مشى يوماً في مظاهرة، ولا أن للبلطجية مصلحة في قتله.

بعد صدور تصريح دفن الجثة، وبعد انتهاء الجنازة السريعة، عادت السيدة حنان إلى منزلها وجلست وحيدة في صالتها الضيقة. كان أطفالها متفرقين في بيوت الأقارب.

نظرت إلى المكان الذي اعتاد الأستاذ عبد الحميد الرحيمي الجلوس فيه، فوجدت كيس أبيض صغير. عليه من الخارج بعض النقط الحمراء، تذكرت على الفور أنه دخل منزلها مع جثة زوجها.

صف كيلو لبن ملوث بالدماء. هذا ما تبقى من الطلبات التي كتبتها في ورقة مستطيلة وطلبت من زوجها النزول لشراءها.

في جلستها الصامتة، سألت السيدة حنان نفسها، عما يجب أن تفعله بكيس اللبن الملوث بدماء زوجها. لسبب أو لآخر تظن أن له قيمة أكبر من قيمة أي كيس لبن آخر.

اللبن لبن كأي لبن، لكن الدم دم الأستاذ عبد الحميد الرحيمي الذي لا يقدره في هذا العالم أكثر من تلامذته إلا زوجته، ثم ابنته سلمى التي لم تعلم بعد السبب في أن النمل يأكل السكر.

فكرت السيدة حنان، أن اختيارتها محدودة، من الممكن رمي الكيس وتناسي الموضوع وكأنه لم يكن، فما أهمية نصف كيلو لبن وزوجها مات.

من الممكن أيضاً فتح الكيس وشرب اللبن، لكن، هل تفارق رائحة الدم الكيس؟. ثم أليست هذه قسوة نادرة، أن تشرب الزوجة اللبن الذي مات زوجها وهو يحاول إحضاره إلى منزلها.

من الممكن إعطاء الأمر بعداً أعمق. ستشرب السيدة حنان اللبن فقط في اليوم الذي يدخل قاتل زوجها السجن، أياً كان اسم القاتل، أو صفته أو وظيفته.

هذا تحدي، من ناحية، لن تتمكن السيدة حنان من شرب اللبن حامضاً أو منتهي الصلاحية، ومن ناحية أخرى، تعلم، كربة منزل محترفة، أن أقصى مدة يمكن الاحتفاظ خلالها بكيس لبن ملوث بالدم، هي عشرة أيام في أفضل الأحوال.. فالدم، لا يحفظ اللبن على أي حال.

ما الذي يمكن تقديمه للسيدة حنان حتى تتمكن من التصرف حيال نصف كيلو لبن ملوث بدم زوجها؟.

الجلسة الثانية : عزت والكشاف

من أين حصل عزت على الكشاف؟

كشاف كهربائي أصفر اللون، غريب بعض الشيء، لا يعمل بالبطارية، لا يعمل بالكهرباء. ذلك أنهم في وطن الكشاف الأصلي، هناك في الصين، اخترعوا طريقة تجعل الكشاف يعمل بالشحن اليدوي.

يوجد في جانب الكشاف مكان يمكن الضغط عليه بشكل مستمر لشحن البطارية الداخلية بالطاقة، وجعل الكشاف قادراً على الإنارة.

ما الذي يجعل عزت يحتفظ بكشاف كهذا؟، هل اشتراه من راديوشاك مثلاً، بالطبع لا، لأن عزت لا يعلم ما هي ضرورة وجود محل مثل راديوشاك في الحياة، لم يدخله إلا مرة واحدة، وفشل في فهم طبيعة المحل، وغادره بعد أن لاحظ أن أسعاره غالية بشكل غير مبرر.

ثم أنه من الصعب تخيل عزت يدخل خصيصاً إلى محل لشراء كشاف.
هل حصل عليه – إذن – كهدية من صديق؟.
وهل يمكن أن يعطي أحدهم لصديقه هدية عبارة عن كشاف أصفر يعمل بالشحن. ثم أن عزت يعيش دون أصدقاء.

هل سرقه عزت من أحدهم؟
يمكن تخيل شخص مثل عزت يسرق فعلاً، هو لا يعتبر السرقة فعلاً مشينا بالكامل، عادي يعني. من الممكن سرقة إحدهم إذا كان هذا ضرورياً. لكن، ليس من المفيد أن نسرق كشافاً.

كيف إذن؟
ما حدث، هو أن عزت كان يجلس على مقهى اسمها "الفرافيش"، وهي تقع بجوار ممر البورصة الممتلئ عن آخره بالمقاهي.

وقف أمام عزت شاب لطيف، طلب منه أن يأخذ من وقته دقيقة، وكان يحمل في يديه مجموعة من الأشياء الصغيرة وبعضها يضيء وينطفئ بانتظام.

أخبره عزت أن أياً ما كانت السلع التي يبيعها فهو لن يشتري منه شيئاً. أخبره بذلك بلطف وصدق وهدوء وأدب.

فقرر البائع الشاب أن يرفع الحرج عن الزبون الذي لم يعد زبوناً، بعد أن رفض فكرة الشراء من أساسها. قال : "على فكرة يا باشا.. القهوة دي بتاعة الشواذ". ثم هم بالإنصراف.

كان عزت على استعداد لقبول أي شيء على نفسه. إلا فكرة الجلوس على مقهى يجلس عليه الشواذ، والسبب بسيط، عزت يخاف من كل ما يمكن أن يكون غير طبيعياً. الشواذ، الأقزام، والغرباء بشكل عام.

فكر عزت أن عليه أن يشتري أي شيء من البائع الشاب اللطيف. كان يحمل ماكينة حلاقة كهربائية، وعزت يحلق بانتظام عند الحلاق، ثم مضرب بلاستيكي أحمر يضيء بلون أزرق، فهم بعد ذلك أنه صاعق للناموس، لكن عزت يعيش في منطقة لا ناموس فيها.

ثم كشاف أصفر يعمل بطريقة مبتكرة، قرر شراءه، بعد أن أخبره الشاب أن سعره في المحلات عشرة جنيهات، لكنه سيبيعه له بخمسة، وسيعطيه معه طقم مفكات صغير هدية.

اكتشف عزت أنه لم يستخدم المفك أبداً في حياته، لكنه لم يجد حرجاً في أن يمتلك طقماً للمفكات، قد يستخدمه يوماً لسبب أو لآخر.

في غرفته بالمنزل، فتح عزت الدرج الأخير في مكتبه، ووضع الكشاف بجوار طقم المفكات، وكلاهما بجوار علبة الهاتف المحمول الذي اشتراه عزت قبل عامين ولا زال يحتفظ بالعلبة، عسى أن يحتاجها إذا قرر بيعه يوماً.

أغلق عزت الدرج بهدوء واطمئنان، عادة لا تمتد يد عزت لفتح هذا الدرج لأي سبب. وعند فتحه، فالسبب الوحيد هو الإحتفاظ بشيء لا يحتاجه عزت أبداً.

بعد هذا بعامين، ستمتد يد عزت لفتح الدرج، وإخراج الكشاف.

سيبتسم حين يكتشف أن الكشاف لديه قدرة على العمل بعد كل هذا الوقت، سيأخذه وينزل. وسيستخدمه لمدة يومين، في تفتيش السيارات المارة أسفل العمارة التي يسكنها، وذلك كجزء من نشاط سيعرف بعد ذلك باسم اللجنة الشعبية.

الآن، تمتد يد نسائية للدرج يومياً، تفتحه، تخرج الكشاف، وتتأكد من قدرته على العمل، ثم تعيده إلى مكانه وتغلق مرة جديدة.

لدى صاحبة اليد - وهي أم عزت في الغالب – سؤالين، من أين حصل عزت على الكشاف؟، وإلى أين ذهب عزت؟.

الجلسة الأولى : غسيل

(1)

الشارع ضيق، في نهايته محل بقالة متوسط الحجم، اختار صاحبه أن يكتب اسمه أعلى البوابة بأضواء النيون، بعد أسبوع، لاحظ أن النيون الأبيض مزعج، فطلب من ابنه احضار سلم وقام بدهان خطوط النيون بطلاء أخضر.. عندما تجد نفسك في بداية الشارع من الناحية الأخرى، ستلاحظ أن الضوء الأخضر يملأ نهايته..

في الشارع الواسع الموازي، يوجد محل أدوات صحية جديد، افتتاحه الليلة، وقد اختار صاحبه أن يكتب اسمه أعلى البوابة باستخدام لافتة بلاستيكية ملونة، تصنع بالكومبيوتر، وتضاء بالنيون الأبيض من الخلف.

أمام المحل توجد كراسي حمراء من النوع المستخدم في الأفراح ومجالس العزاء، كما توجد سماعات سوداء ضخمة ينطلق منها صوت مقرئ كويتي معروف يتلو سورة يوسف، وتوجد ماكينة فيها ضوء ليزر أبيض، موجه إلى السماء، وتتحرك بانسيابية، نهاية خط ضوء الليزر تحتك بنعومة مع السحب الكثيفة بأعلى.. فتصنع شكلاً جمالياً لا يلحظه أحد.

إذا كنت تقف أمام منشر الغسيل في الشارع الضيق، فسوف تشعر بالضوء الأخضر من يمينك، وإذا رفعت رأسك قليلاً سترى أضواء الليزر، لكن، ما الذي يمكن أن تراه على منشر الغسيل نفسه؟.

توجد خمسة حبال، كلها مشغولة بأصناف مختلفة من الغسيل، من مظهر الشباك، خلف المنشر، ستفهم أنها ليست شقة جديدة. وبقدرة بسيطة على الملاحظة، ستتمكن من معرفة عدد الذين يعيشون خلف الشباك.

في الحبل الأول، من جهة الشباك، توجد أعداد كبيرة من الملابس الداخلية، بيضاء وملونة، وبمقاسات متعددة. يشعر المصريون بقدر من الحرج تجاه مسألة نشر الملابس الداخلية في الحبل الأخير من ناحية الشارع، يتم سترها عادة في الحبل الأول. بحيث لا يتمكن المار من رؤية شيء، إلا الملابس العادية، التي لا يشكل عرضها أي حرج أو خجل.
هذه مقدمة طويلة، لما يمكن أن نحكيه بخصوص الحبل الأول.

(2)
أقصى اليمين، ترى جوربين، تم نشرهما بواسطة مشبك خشبي واحد. ستشعر أن الجوربين هما آخر ما تم نشره، الحبال مزدحمة بحيث تم حشر الجوربين في النهاية، فقط لأنه من الأفضل أن نقوم بنشر كل شيء، فدورة الغسيل والنشر داخل المنزل لا تتوقف، لا يوجد داعي لتوقفها، ولا توجد فرصة.

"أسماء" هي صاحبة الجوربين، تمكنت أخيراً من الهتاف بـ"الشعب يريد إسقاط النظام". بعد أن سمعت الجملة تتكرر كثيراً في التليفزيون. يمكن أن نفهم أن أسماء تملك أربعة سنوات فقط في هذا العالم.. طفلة صغيرة في بيت ممتلئ بالكبار، لم يخبرها أحد أن مجيئها لهذا العالم كان غلطة في ليلة صيفية جميلة.. فالأب والأم، يمارسان الجنس في الأساس لإنجاب الأطفال، وبالتالي، ليس من المفيد إخبار الطفلة بكذبة سخيفة كتلك.

بجوار الجورب، توجد جيبة قماشية سوداء، طويلة، رفيعة، مثلثة. تصبح أجمل عند رؤية "نهى" داخلها.. نسيت نهى هذه المرة أن تفتش جيوب جيبتها قبل وضعها في السبت البلاستيكي الأزرق المخصص للغسيل. لك أن تعلم أن داخل جيب صغير في جانب الجيبة، ترقد شريحة صغيرة تستخدم لتشغيل الهاتف المحمول، ما الذي دفع نهى لنسيان شريحتها داخل جيبتها، بل، كيف انتقلت الشريحة من داخل الهاتف إلى داخل الجيب؟.

الحكاية، أنه في عصر يوم جمعة، كانت نهى في زيارة إلى شارع محمود بسيوني بوسط البلد، بالتحديد في الشقة رقم 5 في العمارة الرابعة من جهة اليسار، قابلت هناك سعاد، التي تعمل خياطة، وتؤجر فساتين محتشمة تصلح لحضور حفلات الخطوبة والزفاف.

ولأن نهى نحيفة بشكل مثالي، وهي صفة أصبحت نادرة في بنات بلدها، فقد استلزم الأمر القيام يتضييق الفستان المطلوب، بحيث يلاءم جسدها، ولا يلحظ أحد أنه مؤجر.. من العيب أن تقوم فتاة مثل نهي بارتداء فستان تم تأجيره في خطوبة أخوها الوحيد.. أحمد.

وأحمد يرتدي الجينز الأزرق المجاور لجيبتها على الحبل، هو ليس أزرق بشكل كامل، يحمل صفة الـ"بلو بلاك" أي أنه في المسافة الوسط بين الأزرق الغامق والأسود الغامق بطبيعة الحال، وهو لون انتشر بين بنطلونات الشباب في السنوات العشر الأخيرة.

هذه هي المرة الثالثة التي تقوم فيها أم نهى بغسل بنطلون ابنها أحمد، دون أن تفارقه رائحة الغاز. يختار أحمد عادة عدم الدخول في نقاشات مع أمه بخصوص فلسفتها في الغسيل. هو يعتقد أن أمه لديها قدرة مستمرة على إفساد ملابسه الشبابية، بغسلها بماء ساخن، أو وضع ألوان غامقة مع ملابس بيضاء.. بعد خلاف امتد لسنوات قرر أن يستسلم، هو مقتنع بأن عدد الأبناء الذين نجحوا في تغيير سلوكيات أمهاتهم قليل للغاية، وهو على كل حال، ليس منهم.

يستسلم أحمد لأمه أيضاً في الصباحات التي توقظه فيها مبكراً لسبب وحيد، أن يخلع ما يلبسه وهو نائم لتتمكن من غسله ضمن دورة الغسيل الصباحية. حاول مرات كثيرة أن يعترض، دون جدوى.

على كل حال، سيغادر أحمد هذه الشقة بعد عدة أشهر، فقد بدأت رحلة زواجه بخطوبة ستحدث بعد أسبوع.

خطوبة، اختارت نهى أن تحضرها بفستان مؤجر من عند السيدة سعاد، وبينما كانت تعدل من مقاس الفستان، امتد الكلام بينها وبين زبونة أخرى، حول البلد والأحوال، مر الوقت بحيث تأكدت نهى أن أمها مصابة بقلق هستيري الآن، أخرجت هاتفها المحمول، حاولت الإتصال فلاحظت أن الهاتف غير قادر على اتمام المكالمة، حاولت مرة جديدة، دون نتيجة. بعد قليل فهم الجميع أن الهواتف كلها معطلة. كحل بديل أخرجت نهى شريحة كانت تحتفظ بها بعد أن أخذتها هدية عند شراء هاتفها الجديد، الشريحة الجديدة لا تعمل أيضاً، والشريحة الأولى مستقرة في جيب الجيبة السوداء.

(3)
أم نهى ترتدي عادة في المنزل هذه الجلابية الزرقاء المجاورة لبنطلون ابنها أحمد على الحبل. السؤال الوحيد الذي يمكن أن تسأله عن أم نهى هو : لماذا لا تتم منادتها بأم أحمد؟. رغم أنه ابنها الأكبر، وما هو اسمها الأصلي؟، وماذا كانت كنيتها في الوقت الفاصل بين ولادة أحمد، ثم ولادة نهى بعد ذلك بخمسة أعوام؟. الإجابة : لا توجد إجابة.

قد يفسر الأمر الحاج أمين، الذي ذهب إلى المقهى اليوم بالقميص البني، فالقميص اللبني منشور هو الآخر بجوار جلابية زوجته.

توجد مقولتين تلخص حياة الحاج أمين، الأولى أن "مفيش حاجة هتحصل"، والثانية، مطلع أغنية شهيرة لأم كلثوم، اللي شوفته قبل ما تشوفك عنيا، عمر رايح، يحسبوه إزاي عليا.

الجملة الأولى هي شعاره الحقيقي في الحياة، يعتقد الذين يعرفون الحاج أمين، أنه لم ينظر خلفه يوماً قط، لم ينظر خلفه بالمعنى الحرفي، عادة تراه يجلس على المقهى وعيونه مصوبة أمامه بشكل مستقيم، فالحاج يؤمن، أن لا شيء خلفه يستحق.

هو ليس حاجاً أصلاً، مظهره يجعلك فقط تهبه لقب الحاج من باب الاحترام، أو الدعوة له بأن يصير كذلك يوماً، رغم أنه هو نفسه، لم يخطط يوماً للحج أو العمرة. مضى الرجل حياته غير مهتماً بها، فهل من المنطقي أن يهتم لأمر يخص ما سوف يحدث بعد وفاته؟.

أما الجملة الثانية، فهي التي تعمل داخل عقله بلا توقف، وهو يعتقد أنه يغنيها لكل عيل من عياله، أحمد، نهى، أسماء، بترتيب حضورهم إلى العالم، وبترتيب ملابسهم المنشورة على حبل الغسيل.

بدقة، يجر الحاج أمين خطاً بين مرحلة وأخرى في حياته، عندما انتهت دراسته الجامعية، لم يخرج منها بحب أو صداقة أو انتماء سياسي يمكن أن يكمل به الحياة خارج أسوار الجامعة. وكانت أهدافه في حياته العملية واضحة، أن يعمل حتى يحصل على أجر، وأن ينال معاشاً معقولاً حين يتقاعد. وعندما لاحظ أنه أصبح أباً لثلاثة عيال تزوج أمهم في الوقت الذي كان عليه أن يتزوج فيه، قرر أن تكون حياته كلها لهم. مؤمناً بشعاره الأساسي : مفيش حاجة هتحصل. وهو يقرأ الجرائد بانتظام، ويجلس على المقهى يتابع ما يتم بثه على الشاشة، فقط ليتأكد أن شيئاً لن يحدث فعلاً.

(4)
بجوار قميص الحاج أمين، يوجد جاكيت أسود، قماشه ثقيل، هذه هي المرة الأولى له على هذا الحبل. القميص أتى به أحمد، في ليلة باردة، وصل فيها إلى شارعهم الضيق في حلوان منهكاً تملأه رائحة الغاز والخل.

الجاكيت يخص ضابط أمن مركزي، مجهول الاسم، قرر خلع ملابسه الرسمية فور انسحاب الشرطة من الميدان، وكان صديق أحمد يراقبه، بحيث لملم الملابس الملكية ووضعها في كيس بلاستيكي على سبيل الاحتياط، وعندما اشتكى أحمد ليلاً من برودة الجو، كان على الجاكيت أن يبارح الكيس، ويستقر فوق كتفي أحمد، الذي نزع على الفور النجوم الصفراء أعلى الكتفين، وللمصادفة، كان مقاس الجاكيت ملائماً تماماً.

أم نهى لا تعرف كل هذا، جاكيت أسود متسخ داخل المنزل، يجب أن يدخل فوراً إلى دورة الغسيل، بغض النظر عن المكان الذي أتى منه.

لأن الشارع فارغ تماماً، ولأن الوقت سرقنا ونحن نحكي هذه القصة، فإن يداً ستمتد بهدوء، تقطع الحبل من اليمين واليسار، وتحمله هو وما عليه من ملابس، إلى المجهول.

في الصباح، ستعتقد أم نهى أن الفاعل حرامي يسكن شارعهم، وستعتقد أن الحل هو مراقبة الجيران بهدوء ورؤية ملابسهم، عسى أن تظهر القطع المسروقة يوماً، وستقول نهى أنه سجين هارب يبحث عن أية ملابس ليتخلص من زي السجن الأزرق. سيقول أحمد أنه من فلول النظام، فيما سيستمر الحاج أمين في قراءة الصحف، عله يجد خبراً يعرف من خلاله الجاني.

أسماء، صارت مقتنعة أن كافة الأشياء الشريرة التي تحدث في هذا العالم بسبب رجل عجوز اسمه مبارك، لكنها لا زالت غير قادرة على فهم كيفية وقوع سرقة كبيرة بهذا الحجم، أخذت كمية ضخمة من ملابس الأسرة، رغم أن النظام، سقط بالفعل؟!. على كل حال أسماء تردد.. إيد واحدة.

حلقة تجريبية من مسلسل : ثورة مضاعفة
من أعمال ورشة قطع أول

الرسالة الأولى : إلى إياد صالح، بخصوص نكتة يسرا

أما بعد، أما قبل، أما أما..
في القاعة التي لم تكن واسعة بما يكفي، ولا ضيقة، كنا أنت وأنا، ومعنا ستة، نشاهد الفيلم الذي كان علينا أن نشاهده حتى لا نعتقد يوماً أن شيئاً مهماً قد فاتنا..

في الربع الأول من الفيلم، فتحت أنت حقيبتك وأخرجت جهازك، وانهمكت في العمل، كان عليك أن تفعل ذلك، لم تكن هناك قيمة مضافة لمشاهدة ما يحدث على الشاشة..

في الربع الأخير من الفيلم، وبينما انتهيت أنا من فعل كل الأمور المسلية التي يمكن فعلها خلال مشاهدة فيلم ممل، فكرت أن علي أن أكتب لك رسالة، بخصوص الأشياء التي بدأت تحدث مؤخراً، دون أن نفهمها..
ما الذي يحدث يا إياد؟، لماذا يفعلون ذلك بنا؟.. نحن لم نخطئ، ذهبنا إلى هناك بحسن نية.. ما الداعي إذن لفعل ذلك بنا..

تقول أنه ليس علينا أن نفهم كل شيء، هذا مستحيل أساساً، يجب أن تبقى بعض الأشياء غير مفهومة لأن هذا يعطينا أمل في الحياة، ولذة في اكتشاف أمور جديدة.. أنا موافق تماماً. لكن في المقابل، لو استمر الحال هكذا، فمن الممكن أن ينتهي المطاف بنا – أنا وأنت – وقد اتجهنا لحضور ورشة عمل مع المخرج الشاب الجميل، الذي نحبه، (تعلم بالطبع أني أكذب) ليعلمنا أن السينما فن لطيف، وأن علينا أن نكتب أفلاماً وألا نيأس، لأنه هو نفسه كتب أفلاماً كثيرة ثم ألقاها في المرحاض.. المشكلة، أننا لازلنا نعتقد أن حتى فيلمه الوحيد الذي خرج به علينا يستحق أن نلقيه في المرحاض.. هل سنخبره بهذا وقتها، أم سنسأله أسئلة صعبة، من نوعية : أخبرنا كيف استطعت أن تنتج سينما نظيفة لا تظهر فيها سيقان مزة هنا أو هناك..

أوه يا إياد، سأخبرك مرة أخرى أن علينا أن نصنع أفلاماً ثم سأضيف كلمة : بقى.. بمعنى أن علينا أن نصنع أفلاماً لمواجهة الملل.. أنت وأنا والذين يجلسون حولنا على المقهى يعلمون أن السينما غير مهمة فعلاً.. المهم، هو التظاهر بأنك تهتم للسينما، وأن لديك شيء تقوله.. المهم النفس.. والنفس الحلو يحتاج إلى كلام فيه قليل من الموسيقى والحزن والأمل، والكلام عن السينما جميل، إذن، وبينما يذهب عم مجدي لإحضار حجر جديد، علينا أن نتحدث عن السينما، حتى يأتي أحدهم ويغير الموضوع.

لا شيء يهم يا إيدو لا شيء يهم.. ستمر الأيام، وسنفعل في السنوات القادمة أشياء جميلة. وسنجلس من آن لآخر على المقهى نسأل، متى شعر رجل الشطرنج أن السنوات مرت سريعاً؟ قبل أن يركب الباخرة؟، بعد أن وصل؟، أم حين كان يلعب الشطرنج على الرصيف مع الرجل الذي سنفهم في النهاية أنه لم يكن موجوداً أصلاً..

ستسامحني على الفقرة السابقة، أنا الآن أفشي سر خطير.. لكني أعلم مسبقاً أنك ستسامحني.. لهذا أحبك يا إيدو.. لأنك لا تحملني أكثر مما ينبغي..

أنت تفهم في الأصول، لا تحاول أن تفسرني، ولا أنا أحاول أن أفسرك.. ربما من فترة إلى أخرى نجلس قليلاً نتحدث عن أنفسنا.. نضحك على الصورة التي يرانا عليها الآخرون، نجتهد في وصف العلاقات المعقدة التي تجمع بين زملاؤنا.. ونشتكي – بكذب واضح – من هموم الحياة، ثم نعلن قبل رحيلنا أن كل شيء سيصبح جميلاً، وأن الأشياء كلها لا تستحق أن نخسر صحتنا.. وأن الأصدقاء المشتركين لديهم ما يجعلهم يبدون كرجال نزلوا لتوهم على الكوكب، ويشاهدون أفلام الأبيض وأسود بمنتهى الإنبهار..

الإتفاقية المشتركة هي الحل، كانت فكرة لامعة فعلاً. لا أدري من أين أتيت بها.. أصبحت أستخدم الاتفاقية يومياً. شيء مذهل أن يصبح لديك صديق حقيقي تعقد معه اتفاقية كالتي بيننا.. ثم تطبق شروطها بنفس راضية.. لم أكن أتخيل حجم الراحة النفسية التي أشعر بها في كل مرة أنفذ فيها اتفاقيتنا.. خاصة وأن ضميري مرتاح، أنك هناك، فيما وراء البحار، تطبق الجزء الخاص بك بمنتهى الرضا.. صديقي أنت يا إيدو.. صديقي صديقي يعني.. لا هزار..

عموماً، كنت أريد أن أقول أن الفيلم كان يستحق أن تفتح جهازك وتعمل داخل القاعة.. ولأن هذه الرسالة ستنشر على الإنترنت، وسيقرأها أناس غيري وغيرك.. علينا أن نعطيهم شيء يفرحوا به، وبالمرة يمكن أن ينسيهم الموضوع الأصلي فلا يزعجونا بأسئلة عن الاتفاقية وعن الشطرنج وعن عم مجدي.. نحن نهتم للجمهور في البداية والنهاية، الفن فن، لكن الجمهور جمهور أيضاً.. أفكر أن أكتب لهم ما جعلني أؤمن أن وجودك في حياتي ليس حدثاً مستقبلياً، وأنك لم تكن صديقاً عابراً.. وأن صداقتنا جزء أصيلة من خرسانة المجرة الفضائية التي سنزورها يوماً.. إنها نكتة يسرا

حيث تقول الحكاية، أن الفنانة المشهورة كانت تركب طائرة، وبينما تطير في السماء، سقطت فجأة في البحر.. غرق كل الركاب، عدا يسرا، وراكب آخر.. فبعد وقت طويل من مقاومة الغرق، انتهى بهما الحال على جزيرة مهجورة.
في اليوم الأول، ابتسم لها، وفي اليوم الثاني اصطاد خروفاً وجعلها تأكله. في اليوم الثالث تحدثا كثيراً، وفي اليوم الرابع حدث ما كان يجب أن يحدث منذ اليوم الأول عندما تجد نفسك على جزيرة مهجورة ولن يأتي أحد لإنقاذك أنت أو يسرا..
بعد فترة، شهر ربما، وبعد أن شعر الراكب المحظوظ بقدر كبير من الملل.. طلب منها أن تحلق شعرها كله.. وقد فعلت، ثم طلب منها أن تجلب بعض القش من الأرض وتصنع منه لحية كثيفة.. ثم أخذها من يدها وجلسا على الشاطئ.. تأمل البحر قليلاً ثم قال : أما يا براء يسرا دي طلعت حكاية، شهر معاها في الجزيرة لوحدنا.. ياه.. حصل بينا العجب..

وقد أخبرتني يا إياد، أن حكمة هذه القصة، أن الخطيئة بحاجة دائماً لصديق مخلص تخبره عنها.. وقد كانت هذه رسالتي الأولى.. ومن الممكن أن نؤجل الحديث عن الخطايا للرسائل القادمة..

الكلاب أولاً

توجد لوحة إعلانية ضخمة للغاية، تطل على المحور، بالتحديد عند نهايته وقبل دخولك مباشرة إلى ميدان لبنان..
اللوحة بيضاء، لكن كلب أسود ضخم يحتل مساحة لا بأس بها داخلها..

بجوار الكلب، وبخط إنجليزي رديء، مكتوب
The Art of Training
وبخط أقل رداءة وبحجم أصغر، يوجد رقم تليفون في الأسفل، بالتحديد أسفل أقدام الكلب الأسود الضخم..

كما هو مفهوم، فالأمر يتعلق بتدريب الكلاب، ليس فقط القيام بتدريبهم على أمور جميلة ولطيفة ومفيدة، بل أيضاً، فعل هذا بفن.. وهو ما تعنيه حرفياً كلمة آرت. وهذا دون شك، أمر جميل.

فكرت، بينما أقود سيارتي، أن أطلب الرقم المكتوب أسفل الإعلان، وأخبره أن "الفقراء أولاً يا ولاد الكلب"، راجعت نفسي حين لاحظت، أن صاحب الإعلان يقول رسالته بوضوح، حيث يعتقد أن "الكلاب أولاً يا ولاد الفقراء".

عندما وصلت إلى ميدان لبنان، كان أمر اللوحة لا يزال يشغلني، بالصدفة كانت ياسمين حمدان تغني في الراديو.. تخصص الإذاعة ساعة يومياً للأغاني الغريبة والمريبة، مثل ياسمين ومشروع ليلى وزياد رحباني..

"لازم فرحان مبسوط بزحمة الستات عليك". هذا بالضبط ما كانت تقوله ياسمين، خارج السيارة، كانت هناك عدة فتيات ممن يمكن أن نطلق عليهن "مزز" دون مبالغة، الفتيات تفعلن أشياء مختلفة، في انتظار التاكسي، في انتظار أحدهم، في انتظار الانتظار.

بشكل أو بآخر، قررت الإتصال بصاحب تدوينة "الفقراء أولاً يا أولاد الكلب". كانت فكرتي واضحة جداً..
في المرة القادمة، وعندما تقرر أن تصبح جريئاً، عليك أن تتحلى بقدر من الحزم والصرامة. أنت تؤكد أن الفقراء أولاً.. هذا حقك، بل أنه حقيقي فعلاً. لكن أن تخاطب المجتمع بقولك : يا أولاد الكلب، فإن الأمر يبدو بسيطاً وسهلاً. تبدو ليناً ولطيفاً، والأمر لا يحتمل اللطافة.

أقترح عليك، أن تغير العنوان قليلاً، وتبحث عن شيء أكثر قوة.. يعني.. من جانبي تناسبني أكثر كلمات مثل.. أولاد القحبة، أولاد الوسخة.. هذا واقعي أكثر، هذا مناسب.

مظبوط

في المدخل الرخامي البارد، كنا أربعة.
وائل، علاء، أحمد، وأنا.. يجمعنا انتظار الوقت المناسب للدخول إلى الأستديو. أمامنا شاشات صغيرة متنوعة الأحجام، مضبوطة على الإنترنت، نكتب كل قليل عن أي شيء، ونقرأ تعليقات الأصدقاء على مسألة تأخر دخولنا إلى الأستديو.. الجو اللطيف يمنعنا من الملل.

السقف عال، والأصوات حوالنا أيضاً. ومن جهة بعيدة يراقبنا شخص يبدو أنه مدير إنتاج البرنامج.. بعد فترة، اقترب، وسألنا عن أحوالنا، كنا قبل مجيئه صامتين.. وكان الملل على وشك أن يجذب هو الآخر كرسياً وينضم إلينا..

سألنا الرجل، "شربتوا حاجة؟".. تبادلنا جميعاً ابتسامات ادعاء الخجل، وساد صمت للحظة. جاء من بعيد شاب ينتمي إلى البوفية، ودون طلباتنا في ورقة صغيرة..

كان الشاي ضرورياً بالنسبة لي، مع زجاجة صغيرة من المياة المعدنية، واختار أحمد الكولا.. فيما طلب علاء ينسون بجرعة "مظبوطة" من السكر..

بعد رحيل الرجلين، سأل علاء عما تعنيه تحديداً كلمة مظبوط.. وأجاب وائل بأنها غالباً معلقتين ونصف من السكر. فكرت أن أعترض، فقد طلبت شاي زيادة، وكنت أعني أيضاً معلقتين ونصف من السكر. وفي اعتقادي، أن مظبوط تشير إلى معلقة ونصف، وليس إلى معلقتين ونصف.

جاء الينسون، وشربنا كلنا. ثم دخلنا إلى الأستديو وسجلنا حلقة من الممكن وصفها هي الأخرى بالمضبوطة.

في طريق العودة إلى المنزل، كان السؤال يجلس بجواري على الكنبة الخلفية لسيارة القناة. هل يمكن أن تكون لكلمة مظبوط أكثر من معنى؟

هجمة - غير - مرتدة

دين، سياسة.
سياسة، دين.

(1)
عندما قال "السادات" جملته الشهيرة، "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين"، فإنه، لم يكن يقصد المعنى الحرفي لما قال، على كل حال، كان عليه – ربما – أن يكتفي بالجزء الأول من الجملة، ويصمت.

السادات نفسه لم تكن لديه القدرة على تطبيق مقولته وإثبات صحتها، نظرة سريعة على نهاية خطبته الشهيرة في البرلمان، التي عزل فيها البابا ووزع على الشعب حزمة من القرارات، ربما تؤكد أنه عجز عن فصل الدين عن السياسة.

في نهاية الخطبة، (كانت خطاباً ثم تحولت إلى خطبة)، ردد السادات أمام أعضاء البرلمان – وأغلبته من المسلمين – الآيات الأخيرة من سورة البقرة، "أعفو عنا، وأغفر لنا، وأرحمنا، أنت مولانا فأنصرنا على القوم الكافرين".. كان النواب مبهورين ببلاغة الرئيس حتى أنهم رددوا بين كلمة وآخرى "أمين"، غير مدركين، أن الرئيس كان يقصد البابا، بكلمة الكافرين، ويطلب من الله أن ينصره عليه!.

هذا ليس موضوعنا، يكفي فقط أن نتأمل إشارة "لا" في مقولة السادات، لنتأكد أن بها بعض التطرف، السياسة، بل الحياة كلها، لا تعرف أو تعترف بالحلول النهائية القاطعة.. يمكن أن يكون بالسياسة بعض الدين.. هذا مؤكد، السؤال هو : هل يمكن أن يكون بالدين بعض السياسة؟.

بداية، يجب التأكيد فقط أن المقصود بالدين هنا هو أي دين، والمقصود بالسياسة هي أية سياسة، بصراحة، لست على استعداد للدخول في نقاشات لا تنتهي، حول الإساءة التي قد أوجهها لأي من الدين أو السياسة، أنا بشكل عام ضد الإساءات، مطلبي الوحيد في العالم أن نلعب جميعاً سوياً..

(2)
أحقر اللحظات التي عشتها في طفولتي كانت حين يقرر الأطفال إقصائي بعيداً عن الملعب وقت المباراة، بحجج فارغة، منها أني بدين، أو لا أجيد اللعب، أو لا أرضى بمهمة حراسة المرمى التي لم تكن تأتيه الكرة أبداً لبراعة الفريق الذي ألعب به، واعتماده خطط الهجوم طوال الوقت.

كنت خلال حراستي للمرمى، أدعو الله أن يتمكن فريق الخصم من تنظيم هجمة مرتدة، حتى تقترب الكرة من مرمانا، وأصبح قادراً على لمسها.

إقصائي في اللعب، خلق مني طفلاً بيضاوياً، عندما تمكنت من شراء كرة، كنت أمنع الجميع من اللعب بها، أو أحملها وأرحل حين يحدث في الملعب أي شيء يزعجني.. كان الجميع حريص على ارضائي، فقط لأني صاحب الكرة، لم تكن لديهم أية أسباب أخرى تجبرهم على احتمالي، حتى إذا ظهرت كرة أخرى، انصرفوا عني، لأبدأ بعدها التفكير، كيف يمكن أن أفسد عليهم لعبهم بكرة غير كرتي؟!.

الإخوة المدافعين عن علاقة الدين بالسياسة، لديهم بعض الحق، السياسة هي فن الممكن، وعلم التعايش، كيف يمكن أن تصبح الأمور ممكنة إذا قرر قادة المجتمع من أهل السياسة عدم الإكتراث بديانة الشعب؟، وكيف سنتعايش جميعاً إذا أهملنا حقيقة أن بعضنا ينتمي للدين (أ)، والبعض الآخر ينتمي للدين (ب)؟.. أغلب الظن أن الدعوة للفصل التام، غير صحيحة، أو لنقل أن بها بعض التعسف.

في المقابل، هل يمكن أن نتخيل ممارسات دينية دون قدر من السياسة؟، يمكن أولاً أن نتوقف أمام لفظة "ممارسة دينية" ونتأملها.. في مصر مثلاً، الذين يطلبون دمج كتلة الدين مع كتلة السياسة، نسميهم الإسلاميين.. هذا حقيقي وواقعي ومنطقي. لكن، ضمن بضعة حقائق علمية وسياسية ودينية..

فالدين اسمه الإسلام، والشخص الذي ينتمي لهذا الدين اسمه "مسلم"، أنا مثلاً مكتوب عندي في البطاقة أمام خانة الديانة "مسلم"، ومعظمنا كذلك، لكن في المقابل، لم نرى بطاقة مكتوب عليها : إسلامي.. إذن، نحن نتحدث عن فئة تدين بذات دين الغالبية العظمى من الشعب، لكنها اختارت أن تتفوق عليه، وتتبع "منهج إسلامي"، وليس "منهج الإسلام"، الفارق بسيط، المنهج الأول منهج سياسي، والمنهج الثاني ديني.. ربما، أنا غير متأكد، لست خبيراً على أي حال.

بالعودة للتاريخ مثلاً، يرى البعض أن معارك أتباع دين الإسلام، حين كان وقتها دين جديد، في مكة المكرمة، ومع قريش.. كانت في الواقع معارك سياسية. قادة قريش كانوا يخافون على تجارتهم ومكانة قبيلتهم ودولتهم، هذا بالنسبة لهم أهم كثيراً من مسائل معقدة مثل : من الله؟، من نعبد؟، ما هو ديننا؟، هل محمد (ص) نبي فعلاً؟..

لعل هذا ما جعل أصحاب الدين، يلجأون لفعل سياسي محترف، وهو الهجرة، ثم تأسيس أول دولة في الإسلام، وهي المدينة المنورة.. ثم بمرور الوقت، وبعد عدد من المعارك، جاء صلح الحديبية كأول معاهدة في التاريخ.. والذي يقرأ نصوصها، يتأكد من كونها معاهدة سياسية كاملة، فيها من النصوص ما هو متعارض مع الممارسة الدينية بشكلها المجرد.

إذن، كانت لديهم قدرة على إدخال بعض السياسة للدين، وعدم الفصل. كانوا مدركين للبيئة التي يعملون بها، كانوا على معرفة بضرورات التعايش، ودرسوا بمهارة فن الممكن، وتمكنوا بمرور الوقت من فتح مكة، وانتصر الدين السياسي.

يمكن إذن أن نجلب إلى الدين بعض السياسة. الدين له جوهر، والسياسة لها آليات، بعض السياسات لا دين لها، هذا صحيح، لكن، لا يمكن تصور دين بلا سياسة.
كيف يمكن إذن أن نخشى على جوهر الدين من آليات السياسة؟..

(3)
يمكن هنا ضرب مثل آخر بعيد عن الإسلام، بل عن الديانات السماوية كلها.. البهائية مثلاً.

عندما يطالب البهائيون بحقهم الطبيعي في كتابة دينهم في خانة الديانة، هذا أمر تنقصه بعض السياسة. يمكن مثلاً أن يحدث الأمر بالتدريج، يمكن أن نطالب جميعاً بأن تكون هذه الخانة اختيارية.. بحيث يمكن حذفها لمن يريد.. هذا حق أي شخص يرى لديه مصلحه في حمل بطاقة شخصية لا توجد بها ديانته.. كما أنه لن يضر أي شخص على كوكب الأرض.

بعد ذلك، يمكن أن نطالب بأن يكون متاحاً أن نكتب خانة الديانة وبجوارها بضعة نقاط أو مساحة فارغة.. ثم نأتي في النهاية لنطالب بأن يكون بإمكان المواطن أن يكتب الديانة التي يريد.

ما أذكره، أن الشعب المصري كان بحاجة لأن يعلم ما هي "البهائية" أصلاً حين أثيرت هذه المسألة، وقد شاهدت في التليفزيون بعض البرامج تشرح معنى أن تكون بهائياً، هذا يؤكد أم مظاهرة صغيرة أمام مجلس الدولة منذ سنوات، ودعوى قضائية أمام القضاء بخصوص مسألة البطاقة، كان أمراً خالياً من السياسة.

يمكن النظر أيضاً لمظاهرات الأقباط أمام ماسبيرو من ذات وجهة النظر، كان الأمر بحاجة إلى ممارسة سياسية. من وجهة نظري كمواطن يرغب في اللعب المشترك، أعتقد أن مشكلة الأقباط الأساسية في مصر أنهم دين بدون سياسة.. دينهم يدخل في السياسة فعلاً، لكن السياسة لا تدخل دينهم.. وهذا ما يجعل البسطاء ينظرون للتظاهرات باعتبارها غير مفهومة أو مبررة..

الخوف ربما، أن يفقد رجال الدين بعض قدسيتهم باستخدامهم السياسة، في المقابل، قلنا مسبقاً أن الإسلاميين في مصر ليسوا رجال دين أصلاً.. فلا يوجد دين اسمه "الإسلامي"، يوجد دين اسمه الإسلام، وغالبية الشعب يعتقد أنه ينتمي له. وبالتالي، ما الخوف إذن أن يستخدم رجال هذا التيار قدراً من فنون السياسة خلال خطبهم ومؤتمراتهم الحاشدة في إمبابة والعباسية وطفط اللبن.

أما بخصوص دخول الدين في السياسة، فالرحمة.. الرحمة فعلاً. كيف يمكن أن نطلب من الناس صراحة أن يتناسون دياناتهم.. خصوصاً في بلد مثل مصر، يحرص فيه أبناء الإسلام على الذهاب إلى صلاة الجمعة، فيما قد لا يهتمون بالذهاب إلى مظاهرة سياسية للمطالبة بالحرية مثلاً.

في المقابل، فإنه من المؤكد أن لا "دعوة في السياسة"، فالدعوة سلوك ديني واضح، يصعب معه أن نطلب من أصحاب تيارات غير دينية أن يلعبوا في ذات اللعبة. فواحدة من أهم قواعد اللعب التي تعلمتها بعد رحلة طويلة من الإحتفاظ بالكرة.. أن قوانين اللعبة يجب أن تكون واحدة، فلا أفضلية لصاحب الكرة على اللاعب الموهوب الذي تمكن من تسديدها عبر هجمة ذكية "غير مرتدة".. فأحكام الكرة سياسة.. والردة لفظ ديني من الأفضل أن يبقى خارج الملعب.

في المرات القادمة، دعونا نسأل عن دين السياسة.. وعن سياسة الدين.. وأن نتأكد جميعاً من قدرتنا.. على اللعب سوياً.

عن هوس العمق

يعتقد كاتب هذه السطور، أن قصة "هوس العمق" لباتريك سوزكيند، هي واحدة من أفضل القصص القصيرة على الإطلاق.

وقد بحث الكاتب عن القصة على الإنترنت، دون جدوى، كما ذهب لأكثر من مكتبة للحصول على المجموعة القصصية التي تحمل نفس الاسم، دون أية نتيجة.

المرة الوحيدة التي قرأ فيها هذه القصة كانت في سيارة صديق اسمه أسامة العبد، وهو مخرج شاب، قام بعد ذلك بإخراج فيلم قصير عن قصة هوس العمق.

القصة مهمة، وعليها أن تنتشر في كل مكان. سنرتكب هنا خطيئة أدبية ونكتب القصة مرة جديدة، بالطبع لا وجه للمقارنة، بل لا توجد مقارنة أصلاً، لأن الهدف، هو إخباركم بأن القصة عظيمة، وأن المؤلف أعظم..
..........

كانت هناك فنانة شابة جميلة، تسكن في مدينة أوربية هادئة، وترسم لوحات بألوان الزيت. فكرت أن عليها ألا تترك لوحاتها حبيسة مرسمها، وأن الوقت قد حان لعرض اللوحات في معرض صغير بالمدينة.

لأن للفنانة عدد كبير من الأصدقاء، كانت كثافة الحضور إلى المعرض عالية، الكل يرغب في مشاهدة اللوحات الأولى للفنانة الشابة الجميلة.

بعض الصحف كتبت عن المعرض، وقد بيعت معظم اللوحات. في اليوم الأخير، زار المعرض ناقد كبير يكتب في المجلة الفنية الأولى بأوربا.

تفقد اللوحات بهدوء وتأني، تفحص لوحة لمدة ساعة كاملة، ثم التقى الفنانة بجوار لوحة أخرى وقال : أسلوبك جيد، وخطوطك مميزة، لكن ينقصك العمق.

لأنها فنانة صغيرة، موهوبة جداً، لكنها صغيرة، لم تفهم ما الذي تعينه كلمة عمق على وجه التحديد. شغلتها الكلمة باقي الليلة، ثم تجاوزت الأمر في الصباح.

بعد يومين، كتب الناقد الكبير مقالاً في المجلة، يتناول فيه معرضها، وقال أنها فنانة لها مستقبل، لكنه يعتقد أن العمق ينقصها.

مرة ثانية وجدت الفنانة نفسها في مواجهة العمق، فكرت كثيراً، ودخلت على الإنترنت تبحث عن معنى كلمة عمق، لم تفهم في الواقع أي شيء.

في المقهى الذي اعتادت أن تشرب فيه قهوتها الصباحية، سمعت همساً يدور في منضدة مجاورة، كان الرجل العجوز يخبر رفيقه – العجوز أيضاً – أن التي تجلس بجوارهم هي الفنانة الجميلة التي كتب عنها الناقد يقول أنها بحاجة إلى العمق.

عادت إلى مرسمها تحاول أن ترسم لوحات جديدة، كانت كلما بدأت في لوحة، تتوقف لتسأل نفسها : هل هذه لوحة عميقة؟، وكيف يمكن أن تصبح لوحاتي عميقة. لذلك، فإنه لمدة شهر كامل، لم تتمكن الفنانة من رسم أي شيء جديد. وظلت تفكر كل لحظة في العمق.

فكرت أيضاً أن تأخذ أجازة، وانتقلت من مدينة أوربية إلى أخرى، زارت عدد كبير من المعارض والمتاحف، ولم تكن لديها القدرة بعد على رؤية العمق في لوحات كبار الرسامين. كانت تراها لوحات جميلة وعبقرية، لكنها لا تفهم معنى أن تكون اللوحة عميقة، وأن يكون لدى الفنان عمق يظهر في فنه ولوحاته.

عندما عادت إلى مدينتها، لاحظ أصدقاؤها أنها أصبحت تسرف في الشرب ليلاً، وأنها صادقت عدد من الشبان السيئين. حاولوا أن يساعدوها على تجاوز محنتها، لكنها كانت مشغولة بأمر وحيد.. العمق.

لم يكن هناك سبب حقيقي يمنعها من قبول دعوة أحدهم لتعاطي المخدرات، بل على العكس، كان السبب الأساسي الذي دفعها للتعاطي، هو العمق، كانت على استعداد لفعل أي شيء، حتى يصبح لديها عمق.

بعد شهور، زارتها إحدى صديقاتها، طرقت الباب، وانتظرت طويلاً، وبعد أن ساورها القلق، استدعت الشرطة التي كسرت الباب، وكانت جثة الفنانة الجميلة تتوسط غرفة الرسم، بينما كانت لوحة جديدة معلقة، لولا أنها لم تكتمل بعد.

في المجلة الشهيرة، كتب الناقد الكبير، أن المدينة فقدت فنانة جميلة، كان لديها مستقبل كبير، لولا موتها المبكر.

لم يذكر الناقد في مقاله أن الفنانة كان ينقصها العمق.

محاولة لشرح التكنيك

في محاولة للإجابة على سؤال الصديق الذي سأل منذ يومين عن التكنيك.. يمكن اعتبار التكنيك هو التالي، مع التأكيد على أن المعنى لا يوجد في بطن الشاعر، لأن البطن عادة ليس المكان الذي يمكن أن يضع فيه الشاعر معاني الأشياء التي توجد في أبيات قصائده.. وعليه، فإن التكنيك هو :

- عدم الإتصال بسوبر ماركت الطيب، خلال الأوقات التي يفترض أن يؤدي أتباع الدين الإسلامي صلواتهم خلالها.. وعند الإتصال في أي وقت آخر، لا توجد حاجة لطلب أي شيء من الأشياء التي يعترض عليها السادة الأفاضل الذين يظهرون على القنوات التالية بالترتيب، الناس، الحكمة، الحافظ، وغيرها من القنوات التي تبدأ عادة بحرفي الألف واللام. وللتسهيل، علينا أن نعلم أن "الطيب" لا يبيع الدخان بأنواعه المختلفة وبعض أنواع المياة الغازية التي يعني اسمها أن علينا دعم اسرائيل بكل ما نملك حتى تقتل إخواننا في غزة.

في حالة نجاح المتصل في الوصول إلى سوبر ماركت الطيب، وتصادف ذلك مع أن السلعة التي يريدها موجودة، فإن قواعد التكنيك تحتم عليه عدم التفاؤل، بأن أحدهم سيأتي فعلاً ويعطيك ما طلبت، أغلب الظن أن الطلب سيلغى من تلقاء نفسه، خلال متابعة العاملين لبرنامج شيق على التليفزيون، أو أن يحين موعد الآذان بينما طلبك على وشك الخروج من المحل..

- على الفيس بوك، يفضل ألا نتردد في قبول طلبات الصداقة المجهولة، لماذا؟، لأن وجودهم هو الحكمة الحقيقية من وجود الفيس بوك نفسه. يعتقد بعض الذين لا يؤمنون بالتكنيك أن موقع الفيس بوك هو موقع للتواصل بين الأصدقاء.. وهذه أسطورة، الواقع، أن الترجمة الحرفية لكلمتي فيس بوك، تعني كتاب الوجوه، وفي العادة، فإنك لا تطالع وجوه أصدقاءك في الكتب، عادة نرى صور أشخاص لا نعرفهم، ويدفعنا التكنيك، للتعامل معهم وكأننا نعرفهم، نعلق على ما يقولون، نضغط على زر أعجبني على صورة أو فيديو لطيف، ثم نرصد ببطء، كيف يعيش هؤلاء، كيف يسمحون لأنفسهم باعتقاد الترهات..
في حالة امتناعك عن استخدام التكنيك، ورفض الصداقات المجهولة، فإنك تعيش حياة ناقصة، دون أن تتكون لديك تلك القدرة على معرفة الأشياء المدهشة التي يفعلها سكان الكوكب.

- في الليالي الباردة، وبينما يداهمك النوم خلال مشاهدتك لفيلم عربي قديم، أو فيلم أجنبي لم تشاهده من قبل، لا تستسلم للنعاس أبداً، واصل المشاهدة بأي شكل، التكنيك يحتم عليك أن تنتصر لقيمة المعرفة، في مقابل النوم، لأنك يوماً ما، ستلوم نفسك بشدة، على أنك حتى الآن لا تعرف نهاية الفيلم الذي كان مثيراً في منتصفه، بل قد تضطرك الظروف، لتحميله مرة أخرى من الإنترنت، ومشاهدته مرة جديدة، حتى يستريح ضميرك، وتموت وأنت مطمئن أنك تعلم نهايات الأفلام المجهولة، التي شاهدتها في الليالي الباردة بينما يداهمك النوم.

- عند الاستيقاظ، يفضل أن تسأل نفسك، ما الشيء الضروري حقاً الذي يجعلني أغادر الفراش؟، التكنيك يحتم عليك أن تجد في يومك ما يستحق، فإن لم تجد، أكمل نومك في هدوء، لا أنت ستكسب شيء من يوم لا داعي له، ولا البشرية على استعداد لاحتمالك وأنت لا تعلم سبب واحد يدفعها لفعل ذلك. انظر حولك، الشارع مزدحم، ووسائل المواصلات لا تأتي أبداً.. تخيل شكل الشارع بنصف عدد المواطنين، وتخيل مدى سعادة النصف الآخر وهم يمارسون أحد أفضل الأفعال البشرية.. النوم.

- حين تبدأ في تصوير فيلمك القادم، فيلمك الذي تؤمن به، فيلمك الذي انتظرته طويلاً، فكر في مشاهد تعبر عنك، اقترح على المنتج المشهد التالي : البطل يقف على سطح عالي، يمسك بالكاميرا، ينظر إلى العدسة في آسى، ثم يلقيها بقوة في الهواء، لتطير حتى تسقط على الأرض وتتناثر إلى قطع صغيرة، أخبر المنتج أنك تؤمن بالفن، وأن الفن هو التكنيك، وأن التكنيك هو أن تستخرج الشريط من الكاميرا المهشمة، وتستخدمه في فيلمك، وتجعل المشاهد يرى وجهة نظر شيء يسقط من أعلى، ويستسلم للريح، التكنيك نفسه، يملي عليك أن تتوقع من المنتج أي شيء، في الجلسة التي ستخبره فيها بنواياك.

عموماً، الأمثلة لا تنتهي، وسنكون غير منصفين إن افترضنا قدرتنا على شرح التكنيك في جلسة واحدة، يمكنك أنت أيضاً الحديث عن تكنيك الخاص، ويمكن أن نلتقي في وقت قريب لاستكمال الشرح..

عن التنين

في الفترة ما بين العودة من المدرسة، والذهاب إلى النوم، يستطيع بهاء أن يقضي بعض الوقت مع ابن خالته، عمر.
بيت بهاء على بعد بيتين من بيت عمر، وعمر بهاء على بعد عام واحد من عمر عمر. أي أن عمر أكبر من بهاء بعدة أشهر. وهما جيران، فضلاً عن كونهما أقارب.

خلال لعبهما المشترك، تحدث بعض الخلافات الصغيرة، هذا غير مهم، كل الأطفال في حالة شجار دائم ما لم تكن التكلفة عالية.
في الليالي الصافية، يتمكن بهاء وعمر من إجراء بعض المحادثات الفكرية المعقدة..
نقلت لنا أم بهاء هذه المناظرة، وقالت في نهايتها.. لا حول ولا قوة إلا بالله..

قال عمر أنه يصلي، لأنه يريد من الله أن يحبه.
وقال بهاء أنه يصلي أيضاً، لكنه مقتنع أن الله غير موجود أساساً.
اعترض عمر، وقال : ربنا موجود.. ربنا كبير، أكبر من أي شيء وكل شيء.
قال بهاء، بل أنه غير موجود، حتى أن التنين أكبر من ربنا.

اعترض عمر.. واعتبر بهاء يقول كلاماً والسلام. لكن بهاء أصر على موقفه، حتى أنه قال : يا ربنا.. يا ربنا..، ثم نادى بصوت أعلى.. فلما لم يستمع لأي شيء، ولا حتى صدى صوته قال لـ عمر.. أرأيت، إن كان موجوداً لتمكن من الرد علينا.. التنين موجود لكنه في الغابة مع التماسيح والأسود.

بشكل أو بآخر، وصلت هذه المناظرة إلى والد بهاء، الذي رأى من الحكمة أن يتدخل لتصحيح أفكار الطفل عن الله.
قال : بهاء، ربنا موجود.. بل أن التنين غير موجود.. إنه كائن أسطوري..
قال بهاء : طبعاً لا.. التنين في الغابة وأنا أراه في التليفزيون.. لكني لم أرى الله في أي مكان.

عندما استمعت للحكاية السابقة من والد بهاء، فكرت قليلاً، ثم أدركت أن صديقي دون أن يدري، قتل عند طفله اليقين بالحقيقة الوحيدة التي يعرفها حالياً.. وهي التنين.

هل كان عليه ألا يناقش معه قضية التنين، وأن يقنعه فقط بأن الله موجود بالفعل، وأنه هو خالق التنين.. ثم يتركه يكتشف هو وحده.. أن التنين كائن خرافي غير موجود.. وحتى إن لم يكتشف.. ما الذي يضير أن يكبر ويعيش حياته معتقداً في وجود التنانين.. المهم.. أن يكبر وهو يعتقد في وجود الله.

التنين يخص بهاء، والله يخصنا جميعاً.. هذه دعوة لأن نتحدث بعد ذلك عن الله، ونترك التنانين التي تخصنا خارج الموضوع.

مجلس الإدارة

قررت مع بعض الأصدقاء أن نبدأ مشروعاً استثمارياً كبيراً. فكرنا في المجال الذي يستوعب أفكارنا وأحلامنا، ويناسب الأموال التي يمكننا جمعها.. واستقر بنا الحال على افتتاح شبكة للاتصالات، تستفيد من الحرية التي في البلاد، وتحصل على رخصة مجانية من الحكومة. وتنافس شركات المحمول الثلاثة. وقد كان.

كنا نبحث عن التميز، فقدمنا أرخص الخطوط وابتكرنا خدمات جديدة ومفيدة وجيدة. وأصبحنا في أقل من عام شبكة قوية بها ملايين المشتركين، الحمد لله.

حدث هذا بفضل الإدارة الحكيمة، وحرصنا على الابتكار، واجتماعنا شبه الدائم كمجلس للإدارة حتى نحسم كل الأمور بأسرع شكل.. كان بيننا عهد، أن تكون شبكتنا نافعة، تحافظ على الناس، وأن يرضى عنها الله، وأن تساهم في بناء المجتمع.

كنا مختلفين، أحدنا يحب الموسيقى، والآخر يفضل أن يقضى وقته في قراءة القرآن. أحدنا بدين جداً، وكانت شريكتنا الوحيدة رشيقة للغاية تأكل طعاماً صحياً وتشرب الشاي بدون سكر.

هذه الاختلافات المهمة، لم تمنعنا من التفاهم حول أمور شركتنا وخططنا لنصبح في سنوات أكبر شبكة للاتصالات في العالم العربي.

لكن، سرعان ما ظهرت بعض المشكلات غير المعتادة، والتي كانت دائماً تبدأ مثلما تنتهي.. دون تقدم.

لاحظ شريكنا الملتزم مثلاً، أن الخطوط التي نبيعها قد تستخدم في ممارسات إباحية في المساء، بعد أن ينام الآباء والأمهات، وتعبث الفتيات مع الفتيان، وقدم مقترحاً بعدم السماح لأي فتاة بالحصول على خط إلا بعد أن تكون متزوجة، أو مكتوب كتابها على أسوأ الأحوال.. أخلاق المشتركين في الشبكة جزء من أخلاق الشبكة نفسها.. وأخلاق الشبكة جزء من أخلاق مجلس الإدارة، ونحن لا نسمح بالعبث بأي حال.. استغفر الله.

ولاحظت شريكتنا الرشيقة، أن المكالمات الطويلة تؤثر على الصحة، كما أن الاستمرار في الحديث حتى وقت متأخر يمنع المتصلين من الاستيقاظ مبكراً. فقدمت مقترحاً بإغلاق الشبكة عند التاسعة مسائاً، وقطع أي مكالمة تكون أطوال من خمس دقائق، وعلى المتصل الذي يريد مكالمة أطول، أن يرسل إلينا بطلب يوضح فيه الأسباب التي يحتاج لأجلها أن يتحدث لوقت طويل، وحتى إن وافقنا، تكون الدقائق الإضافية أغلى من الدقائق العادية.. لم تكن صحة المشتركين محل تفاوض أو نقاش عند مجلسنا بأي حال..

لاحظ صديقنا المهتم بالموسيقى، أن بعض الأشخاص يضعون أغنيات شعبية كنغمات لهواتفهم، وقد صدمته هذه الحقيقة لفترة، وقدم مقترحاً يمنع أي شخص من وضع أغنية غير جميلة على هاتفه، وأن اختيار النغمات سيتم من خلال قائمة بالنغمات المعتمدة من مجلس الإدارة، وذلك حفاظاً على الذوق العام، ومنعاً للتلوث السمعي.. كيف يمكن أن يتقدم مجتمعنا ونحن نستمع لموسيقى سيئة.. هذه مسؤلية كبيرة، ومجلس الإدارة لا يسمح بأي تنازل قد يعطل عجلة الإنتاج.

لاحظ صديقنا المهتم بأمور الإنترنت، أن كاميرات الهواتف تستخدم في تصوير بعض الأشياء المخلة، ويتم رفعها على الإنترنت. فقدم مقترحاً بنزع الكاميرات من الهواتف، أو منع رفع الفيديوهات إلا من خلال موقعنا على الإنترنت ويقوم قسم كامل بمراجعة فنية وشرعية وأخلاقية للفيديو قبل السماح برفعه.. المصيبة أن هذه الفيديوهات تشوه صورة المسلمين أمام الغرب، كيف يمكن أن تكون شبكتنا جزءاً من ذلك؟؟..

أما أنا، فكانت تشغلني مسألة البلوتوث، كنت أراها وسيلة لمعاكسة الفتيات الساذجات وإقامة العلاقات غير الشرعية، فقدمت مقترحاً بنزع البلوتوث من الهواتف.. يجب أن نحاصر الفتنة ونحافظ على أخلاق بناتنا.. هذا أمر مفروغ منه بالتأكيد.

زوجتي كانت مهتمة بالأمن والأمان، لاحظت أن المجرمين يستخدمون الهواتف للإتفاق على أعمالهم الشريرة، فقدمت مقترحاً من خلالي بإنشاء قسم خاص لمراقبة المشتركين في شبكتنا بحيث نمنع الجرائم قبل أن تحدث ونحافظ على أمن البلاد.. فالعين الساهرة على أمن البلاد، عين لا تدخل النار..

أما صديقة زوجتي، فقد اكتشفت أن زوجها يخونها من خلال بضعة رسائل نصية على هاتفه، فاقترحت أن يكون لدينا قسماً خاصاً يقرأ الرسائل بعناية قبل أن ترسل من هاتف إلى آخر، حتى نتمكن من محاصرة الخيانة الزوجية والقضاء عليها.. فاستقرار الأسرة أول خطوة لاستقرار المجتمع بالكامل، والأطفال هم الضحية للتفكك الأسري، وأبغض الحلال عند الله الطلاق، كما هو معروف.

كنا فخورين بأنفسنا كمجلس إدارة يهتم بأمور المجتمع ويحافظ على الشبكة والمشتركين بها. كان يملأونا الإيمان بأن ما نفعله مفيد وضروري ومهم ويلبي احتياجات الجمهور.. كنا أقوياء، ننجح في اقناع المشتركين بأن كل هذه الإجراءات مهمة ومفيدة.

لم تكن أخلاقنا تسمح لنا بأي حال أن تستخدم شبكتنا في أي أمر غير إيجابي، أو أي فعل يغضب الله، أو يضر بصحة المشتركين، كانت مسؤلية كبيرة، وكنا نتحمل المسؤلية على الوجه الأمثل..

ذات يوم، دخل علينا عامل من البوفية، وكان يقدم لنا الشاي والقهوة والنسكافية. كنا نناقش مقترحاً بإغلاق الشبكة تماماً خلال أوقات الصلاة حتى لا تكون شبكتنا سبباً في عدم صلاة أحد المشتركين عند قيامه باتصال في ذات الوقت.. وبالتالي تكون الشبكة، ومن بعدها مجلس الإدارة، مذنبة أمام الله كونها قدمت خدمة قد تساعد أحدهم على أمر غير جيد..

قال، من أنتم؟..ضحكنا جميعاً، حيث افترضنا أنه يلقي نكتة غير جيدة.. واستمر اجتماعنا فيما خرج هو لجلب المزيد من المشروبات..

اطمئنان على جودة التخزين

الأمر يشبه الاطمئنان – فقط – على جودة التخزين..

يعني، لا أريد أن أستخرج ذكريات التحرير الآن وألقيها على الورق، أولاً : لأن كتابتها الآن لها معنى واحد، نوع من استعراض العضلات، لقد ذهبت إلى التحرير، لقد وقفت مع الشعب، لقد ناضلت وقاتلت وافترشت الأرض، أنا بطل أنا مناضل أنا ثائر..

وهذه بالطبع ترهات، قصة الثورة بشكل عام لا تحتمل غير "أنا" واحدة، "أنا الشعب". فقط لا غير.

إذن، ومن باب الاطمئنان فقط، على جودة التخزين.. يمكن استخراج ثلاثة صور عشوائية، وعرضها على حضراتكم، دون انتظار لاستحسان أو نقد، أو تهليل أو تكبير، أو أي شيء، فالأمر فقط – وللمرة الأخيرة – مجرد اطمئنان، على جودة التخزين.

(1)

28 – 1
بعد صلاة العصر، عند بداية كوبري قصر النيل من ناحية الأوبرا، كنا على وشك تجاوز الكوبري لولا ضربنا والبعض منا يصلي العصر.. يقال أنها لم تكن صلاة العصر أصلاً، وأن العصر في هذا الوقت لم يكن قد حان. على كل حال.. حدث هذا بعد لحظات من الضرب..

كنت أتنفس بصعوبة، وعلى وشك إلقاء نفسي في النيل، لم تكن تعنيني مسألة عبور الكوبري، كان كل ما يشغلني سؤال واحد.. هل يمكن فعلاً أن ينتهي اليوم وبعضنا أموات؟، هل يمكن فعلاً أن يقبل هذا النظام فكرة قتل فرد واحد من الشعب؟..

أنا أؤمن بأن الأرواح كلها جميلة، وأن كل ما حدث كان مجرد هزار، وأن النهاية لابد أن تكون سعيدة دون أن يموت أحد، كيف إذن سمحوا لأنفسهم بضربنا بهذه الوحشية؟.

بجواري يقف شاب يرتدي قميص أبيض، هو أيضاً غارق في تأملاته. لكنه يتابعني، يسير بجواري.. وأسمع صوت أنفاسه بوضوح.. قال، وهو يدرك أنه لا يحدث أحداً غيري : بقولك إيه؟..

كرد فعل طبيعي كان لابد أن أضيف : إيه؟..
قال : هو كوبري قصر النيل ده بيتفتح؟..

سكت، وسكت هو أيضاً.. بعد دقيقة أضاف ما معناه أن بإمكان الثوار أن يفتحوا الكوبري على الشرطة لمنعهم من ضربنا.. لكن ستبقى المشكلة، كيف سنصل للتحرير إذا فتحنا الكوبري..

أدركت إن النظام سيقتل بعضنا بالفعل، لأنه من الصعب أن يصمد أمام خيالنا.

(2)

يوم ما في بداية شهر فبراير.
بجوار مقهى ريش يوجد شارع طويل، في مقابل بار أستوريل مباشرة، لا أعرف اسم الشارع، ولن أهتم بمعرفة اسمه يوماً ما.

في المساء، بينما امتلأ الميدان بحكايات اللجان الشعبية، كان شابين يرتديان الجينز، يقفان في منتصف الشارع الفارغ تماماً. ويلعبان كرة الريشة.

راقبت بهدوء، انسيابية الريشة تنتقل من مضرب إلى الآخر وتسير في الهواء.
كنت أحمل أكياس بيضاء ثقيلة مليئة بعلب الكشري.. وكنت عائداً لتوي من المقهى بعد أن حصلت على حقي الطبيعي في أحجار التفاح..

هل يدرك الجالس في القصر، أن الشباب في التحرير يأكلون الكشري ويلعبون الريشة ويشربون التفاح؟.. وإن أدرك، فماذا هو فاعل بنا؟. أو مفعول به منا؟.

(3)

الميدان واسع، لكن أماكن النوم ضيقة.
الليل بارد، ومليون بطانية لن تجلب الدفء للذين ينامون على الرصيف.

أنا، وحمزة، ومحمد، اخترنا النوم في سيارتي التي خبأتها بعناية في جراج قريب من طلعت حرب.

نمت في مقعدي، وحمزة إلى جواري، ومحمد بالكنبة الخلفية. استسلمت للنوم بسرعة، عائد لتوي من التحرير، من خط القتال مع البلطجية، والصباح سيحمل قتالاً جديداً.

نمت.
ولم أرى في نومي أية أحلام.

في الصباح أخبرني حمزة، أن شخيري كان عالياً.. حتى أنه ظن أن طائرات النظام بدأت تقصفنا..
....

فن الحساب على المشاريب

قال صديقي، أن عصر الخسائر انتهي، فقلت أنه بدأ لتوه.

صديقي هذا شاب من شباب الإخوان، ووالده كذلك، وقد قضى والده السنوات الخمس الأخيرة في السجن، ليخرج بعد أن خرج مبارك من قصره، وأزاحه الله من على صدورنا.

لماذا بدأ عصر الخسائر إذن؟.. حتى أن صديقي قال : ما الذي يمكن أن نخسره مجدداً، لن ندخل السجون ولن نعاني من القمع، إذن فالعصر عصر مكاسب، والله أكبر ولله الحمد.

قلت، بل لا حول ولا قوة إلا بالله، السجن ليس خسارة على الإطلاق.. دعني أشرح لك.

عندما دخل أيمن نور إلى السجن في قضية تزوير، كنا جميعاً نعلم أنها قضية سياسية وأن الرجل يعاقب فقط على ترشحه للرئاسة أمام مبارك، السؤال هو : هل خسر نور فعلاً بسجنه؟.. للوهلة الأولى يمكن أن أقول أبداً، بل العكس تماماً..

تحول سجن أيمن نور إلى رصيد ضخم له عند البسطاء الذين فهموا اللعبة ببساطة، وأكتسبت قضيته مكانة دولية، حيث تحدث عنه أوباما ورؤساء أوروبا، والأدهى أن الرجل كان يكتب في الصحافة بشكل يومي مقالاً يقال أنه كان يهربه، وكانت تلك نكتة طبعاً أن يتمكن سجين من تهريب مقاله السياسي بشكل يومي، ثم ينشر في الصحف..

إذن، السجن والقمع هنا، كان سخيفاً من ناحية، لكنه كان من ناحية أخرى يصنع رصيداً للمعارض السجين المقموع.. لاحظت هنا تغير نظرات صديقي، وارتفاع حاجبيه.. وكأنه يريد أن يعترض..

قلت : أعرف ما تريد أن تقول، ما الذي جعل أيمن نور يصل لهذه الحالة إذن؟..

عندما خرج من السجن، استقبلته وسائل الإعلام استقبال بطولي، فعلى كل حال الرجل دفع ثمن موقفه.. ويستحق قدراً من الشهرة..

أيام قليلة وبدأ عصر خسارته، وستندهش حين تعرف كيف خسر هذا المحامي كل ما كسبه في سجنه.. في خناقة زوجية يقال أنها كانت عادية جداً، طلق نور زوجته جميلة إسماعيل. لم يكن نور ذكياً كفاية ليعلم أنه بينما كان داخل محبسه، كان الشعب يغزل حكايات رومانسية جميلة عن الحب الذي يجمع زوجين عارضا الرئيس، وعن الزوجة المخلصة التي تلف بلاد العالم تروج لقضية زوجها.. ولأن أبغض الحلال عند الله الطلاق.. فقد أيمن نصف رصيده.. ولم يكن في حاجة إلا إلى حادثة بسيطة أخرى ليفقد ما تبقى..

خرج أيمن على الصحف يقول أنه تعرض لاعتداء من بلطجية بعد أن أكد نيته الترشح مجدداً للرئاسة. في اليوم التالي كشفت بعض الصحف أن الإصابة التي يقول أيمن أنها نتيجة الضرب المبرح، هي في الواقع حرق نتيجة إساءة استخدام الـ"سيشوار" خلال عملية لزرع الشعر..

فقد أيمن ما تبقى من رصيد لأنه طلق زوجته وكان ينوي أن يزرع شعره.

لم يتذكر أحد أنه قضى في السجن سنوات، حتى الذين أعطوه أصواتهم في الانتخابات، أصبح من الصعب عليهم أن يثقوا في رجل مطلق يستخدم الـسيشوار.

أخذت رشفة من قهوتي، بينما كان صديقي مشغولاً بالتقليب في موبايله، لاحظ أنني أنتهيت من الحديث، نظر لي قائلاً : أنت عايز تقول إيه؟.

أخبرته أنني أريد أن أقول أولاً أن هذه قهوة سيئة جداً، وأن إدارة هذا الكافية سخيفة ولا تحرص على راحة الزبائن.. أما بخصوص موضوع الخسائر والمكاسب.. فالأمر سهل يا صديقي لو تعلم..

فما كان كان، وما لم يكن لم يكن، أفعل أو لا تفعل وأجب عن أسئلتك بنفسك..

لم تعد هناك فرصة للتستر وراء قمع نظام أو رقابة أمنية. عصر الخسائر بدأ لأن الرجل الحر مربوط من لسانه وأفعاله. لأن الفرعون مات ورحل، ولأن الشعب أصبح أكثر وعياً.

سألته، هل يعلم الإخوان – مثلاً - ما الذي تغير في مصر؟.. هل أدرك الإخوان أن حسني مبارك لم يعد موجوداً؟. الأدهى.. هل يدرك الإخوان خسائرهم..

يقال أن أسوأ ما في الدنيا، ألا يكون لديك شيئاً تخسره.. ويقال أيضاً.. ألا يكون لديك شيئاً تكسبه.

زمان، كان الإخوان يحاربون اليسار وكان النظام يوازن بينهما في المجتمع.. كان الإخوان أقصى يمين المجتمع، وكان اليسار أقصى يساره.

بعد يمين الإخوان نبتت قوى آخرى، السلف الذي لم يعد صالحاً بالضرورة، وألف مبروك عبود الزمر خرج من السجن.. أما يساراً فقابل يا صديقي ورحب بالضيوف الجدد، ليبرالين، أقباط، بهائيين.. هؤلاء الذين لم يعد لديهم حرج في التحرك سياسياَ، بعد أن أستوعبهم الميدان، وأرفع راسك فوق.. أنت مصري.

هذا بالطبع يحدث في لحظة لم يعد هناك نظاماً من الأساس يصنع نوعاً من التوازن، هنا وجد الإخوان أنفسهم في لحظة نادرة، لحظة التطوع الإجباري على الحساب على المشاريب.

السلف يتحركون بحرية، يفتشون عن كاميليا وعبير، تحرق الكنائس، فيما يعتقد البسطاء أن هذا من فعل المتدينين الأشرار، ولأنهم ليسوا خبراء في شئون الحركات الإسلامية.. يصفون الجميع بلفظة وحيدة سهلة وبسيطة.. "الإخوان"..

يا راجل، سائق التاكسي قال لي أن "أسامة بن لادن" من الإخوان، وأن الاحتمالات قوية أن يتولى "عصام العريان" قيادة "القاعدة" بعد أن يعود "أيمن الظواهري" من أفغانستان ويرشح نفسه في انتخابات مجلس الشعب، لأن أيمن – يا عيني – تعب من السفر ويريد أن يعود ويستقر في بلده..

من الناحية المقابلة، تطوع الإخوان أيضاً للحساب على مشاريب "نعم" في الاستفتاء، أقول لك على سر، تأسست الإخوان 1928، ومن ساعتها يا مؤمن لم يفصحوا عن رأيهم في أية انتخابات رئاسة أو تعديل دستوري.. كانوا دائماً يحسمون الأمر داخلياً ويخرجون على الإعلام بذات العبارة "نترك حرية الإختيار للأفراد"، علل إذن حرصهم في مارس الماضي على الحساب على مشاريب "نعم". وحشد الناس لها بفجاجة، واستخدام الدين بشكل مثالي، والوقوف أمام تيارات ليبرالية لم تكن لتصبح بهذا العداء معهم لو أن الإخوان ميعوا موقفهم كما اعتادوا، وهذه هي السياسة..

لكنه استعراض العضلات دفعهم للحساب على المشاريب، فيخرج شيخ سلفي يسميها "غزوة الصناديق"، ويصر سائق التاكسي أنها كانت أيضاً غزوة "إخوانية".

اقتربت منه هامساً وقلت : "بذمتك، هل تعتقد أن الانتخابات البرمانية سيتم تأجيلها فعلاً؟".. قال : "طبعاً لأ".. قلت : "وهل يعلم الإخوان بأن الانتخابات لن يتم تأجيلها؟"، قال : "بالتأكيد"..

صرخت في وجهه : "لماذا تتقدمون إذن وتعلنوا أنكم لن تشاركوا في المظاهرات، وهل طلب منكم أحد أن تشاركوا أساساً.. اسكتوا، قولوا أنكم تعبتم من إرهاق الثورة وقد اخترتم اليوم نفسه للسفر إلى الساحل الشمالي في معسكر ترفيهي يضم كل أعضاء الجماعة، اسهروا يوم الخميس سهرة طويلة جداً واستيقظوا عصر الجمعة والنوم سلطان، أفعلوا أي شيء، بعد أن تدركوا أن ما تبقى في جيوبكم لم يعد يسمح بالحساب على مزيد من المشاريب".

عصر الخسائر بدأ يا صديقي، كل يوم يخسر الإخوان عدد لا بأس به من البسطاء الذين يصوتون لهم، وكل يوم يكتشف هؤلاء البسطاء أن مصر فيها رجال محترمين لا ينتمون للإخوان، ويعملون لصالح البلد، ويقررون أن أصواتهم ستذهب لهم هذه المرة.

كل يوم يرى الشعب صورة أكثر وضوحاً، أن الإخوان ليسوا جزءاً من الحركة الوطنية، بل هم جماعة تبحث عن فرصة، وتستغل الوقت، تجري هنا وهناك تنشيء في مقرات وتطبع بيانات تقارن بين موقفها النبيل، وموقف "العلمانيون" أعداء الأمة.. والشعب.. أصبح مدركاً أن العدو الوحيد له رجل اسمه مبارك يرقد الآن في المستشفى في انتظار الموت أو المحاكمة.

الخسائر بدأت، والنتيجة الأخيرة فيما يبدو هي.. خشيت أن أقول، فما تبقى في جيبي قد لا يكفي للحساب على ما طلبنا.. تصنعت الإنشغال وقت له.. "بقولك إيه.. ما تحاسب إنت".. ورحلنا.