الاثنين، يوليو 11، 2011

هجمة - غير - مرتدة

دين، سياسة.
سياسة، دين.

(1)
عندما قال "السادات" جملته الشهيرة، "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين"، فإنه، لم يكن يقصد المعنى الحرفي لما قال، على كل حال، كان عليه – ربما – أن يكتفي بالجزء الأول من الجملة، ويصمت.

السادات نفسه لم تكن لديه القدرة على تطبيق مقولته وإثبات صحتها، نظرة سريعة على نهاية خطبته الشهيرة في البرلمان، التي عزل فيها البابا ووزع على الشعب حزمة من القرارات، ربما تؤكد أنه عجز عن فصل الدين عن السياسة.

في نهاية الخطبة، (كانت خطاباً ثم تحولت إلى خطبة)، ردد السادات أمام أعضاء البرلمان – وأغلبته من المسلمين – الآيات الأخيرة من سورة البقرة، "أعفو عنا، وأغفر لنا، وأرحمنا، أنت مولانا فأنصرنا على القوم الكافرين".. كان النواب مبهورين ببلاغة الرئيس حتى أنهم رددوا بين كلمة وآخرى "أمين"، غير مدركين، أن الرئيس كان يقصد البابا، بكلمة الكافرين، ويطلب من الله أن ينصره عليه!.

هذا ليس موضوعنا، يكفي فقط أن نتأمل إشارة "لا" في مقولة السادات، لنتأكد أن بها بعض التطرف، السياسة، بل الحياة كلها، لا تعرف أو تعترف بالحلول النهائية القاطعة.. يمكن أن يكون بالسياسة بعض الدين.. هذا مؤكد، السؤال هو : هل يمكن أن يكون بالدين بعض السياسة؟.

بداية، يجب التأكيد فقط أن المقصود بالدين هنا هو أي دين، والمقصود بالسياسة هي أية سياسة، بصراحة، لست على استعداد للدخول في نقاشات لا تنتهي، حول الإساءة التي قد أوجهها لأي من الدين أو السياسة، أنا بشكل عام ضد الإساءات، مطلبي الوحيد في العالم أن نلعب جميعاً سوياً..

(2)
أحقر اللحظات التي عشتها في طفولتي كانت حين يقرر الأطفال إقصائي بعيداً عن الملعب وقت المباراة، بحجج فارغة، منها أني بدين، أو لا أجيد اللعب، أو لا أرضى بمهمة حراسة المرمى التي لم تكن تأتيه الكرة أبداً لبراعة الفريق الذي ألعب به، واعتماده خطط الهجوم طوال الوقت.

كنت خلال حراستي للمرمى، أدعو الله أن يتمكن فريق الخصم من تنظيم هجمة مرتدة، حتى تقترب الكرة من مرمانا، وأصبح قادراً على لمسها.

إقصائي في اللعب، خلق مني طفلاً بيضاوياً، عندما تمكنت من شراء كرة، كنت أمنع الجميع من اللعب بها، أو أحملها وأرحل حين يحدث في الملعب أي شيء يزعجني.. كان الجميع حريص على ارضائي، فقط لأني صاحب الكرة، لم تكن لديهم أية أسباب أخرى تجبرهم على احتمالي، حتى إذا ظهرت كرة أخرى، انصرفوا عني، لأبدأ بعدها التفكير، كيف يمكن أن أفسد عليهم لعبهم بكرة غير كرتي؟!.

الإخوة المدافعين عن علاقة الدين بالسياسة، لديهم بعض الحق، السياسة هي فن الممكن، وعلم التعايش، كيف يمكن أن تصبح الأمور ممكنة إذا قرر قادة المجتمع من أهل السياسة عدم الإكتراث بديانة الشعب؟، وكيف سنتعايش جميعاً إذا أهملنا حقيقة أن بعضنا ينتمي للدين (أ)، والبعض الآخر ينتمي للدين (ب)؟.. أغلب الظن أن الدعوة للفصل التام، غير صحيحة، أو لنقل أن بها بعض التعسف.

في المقابل، هل يمكن أن نتخيل ممارسات دينية دون قدر من السياسة؟، يمكن أولاً أن نتوقف أمام لفظة "ممارسة دينية" ونتأملها.. في مصر مثلاً، الذين يطلبون دمج كتلة الدين مع كتلة السياسة، نسميهم الإسلاميين.. هذا حقيقي وواقعي ومنطقي. لكن، ضمن بضعة حقائق علمية وسياسية ودينية..

فالدين اسمه الإسلام، والشخص الذي ينتمي لهذا الدين اسمه "مسلم"، أنا مثلاً مكتوب عندي في البطاقة أمام خانة الديانة "مسلم"، ومعظمنا كذلك، لكن في المقابل، لم نرى بطاقة مكتوب عليها : إسلامي.. إذن، نحن نتحدث عن فئة تدين بذات دين الغالبية العظمى من الشعب، لكنها اختارت أن تتفوق عليه، وتتبع "منهج إسلامي"، وليس "منهج الإسلام"، الفارق بسيط، المنهج الأول منهج سياسي، والمنهج الثاني ديني.. ربما، أنا غير متأكد، لست خبيراً على أي حال.

بالعودة للتاريخ مثلاً، يرى البعض أن معارك أتباع دين الإسلام، حين كان وقتها دين جديد، في مكة المكرمة، ومع قريش.. كانت في الواقع معارك سياسية. قادة قريش كانوا يخافون على تجارتهم ومكانة قبيلتهم ودولتهم، هذا بالنسبة لهم أهم كثيراً من مسائل معقدة مثل : من الله؟، من نعبد؟، ما هو ديننا؟، هل محمد (ص) نبي فعلاً؟..

لعل هذا ما جعل أصحاب الدين، يلجأون لفعل سياسي محترف، وهو الهجرة، ثم تأسيس أول دولة في الإسلام، وهي المدينة المنورة.. ثم بمرور الوقت، وبعد عدد من المعارك، جاء صلح الحديبية كأول معاهدة في التاريخ.. والذي يقرأ نصوصها، يتأكد من كونها معاهدة سياسية كاملة، فيها من النصوص ما هو متعارض مع الممارسة الدينية بشكلها المجرد.

إذن، كانت لديهم قدرة على إدخال بعض السياسة للدين، وعدم الفصل. كانوا مدركين للبيئة التي يعملون بها، كانوا على معرفة بضرورات التعايش، ودرسوا بمهارة فن الممكن، وتمكنوا بمرور الوقت من فتح مكة، وانتصر الدين السياسي.

يمكن إذن أن نجلب إلى الدين بعض السياسة. الدين له جوهر، والسياسة لها آليات، بعض السياسات لا دين لها، هذا صحيح، لكن، لا يمكن تصور دين بلا سياسة.
كيف يمكن إذن أن نخشى على جوهر الدين من آليات السياسة؟..

(3)
يمكن هنا ضرب مثل آخر بعيد عن الإسلام، بل عن الديانات السماوية كلها.. البهائية مثلاً.

عندما يطالب البهائيون بحقهم الطبيعي في كتابة دينهم في خانة الديانة، هذا أمر تنقصه بعض السياسة. يمكن مثلاً أن يحدث الأمر بالتدريج، يمكن أن نطالب جميعاً بأن تكون هذه الخانة اختيارية.. بحيث يمكن حذفها لمن يريد.. هذا حق أي شخص يرى لديه مصلحه في حمل بطاقة شخصية لا توجد بها ديانته.. كما أنه لن يضر أي شخص على كوكب الأرض.

بعد ذلك، يمكن أن نطالب بأن يكون متاحاً أن نكتب خانة الديانة وبجوارها بضعة نقاط أو مساحة فارغة.. ثم نأتي في النهاية لنطالب بأن يكون بإمكان المواطن أن يكتب الديانة التي يريد.

ما أذكره، أن الشعب المصري كان بحاجة لأن يعلم ما هي "البهائية" أصلاً حين أثيرت هذه المسألة، وقد شاهدت في التليفزيون بعض البرامج تشرح معنى أن تكون بهائياً، هذا يؤكد أم مظاهرة صغيرة أمام مجلس الدولة منذ سنوات، ودعوى قضائية أمام القضاء بخصوص مسألة البطاقة، كان أمراً خالياً من السياسة.

يمكن النظر أيضاً لمظاهرات الأقباط أمام ماسبيرو من ذات وجهة النظر، كان الأمر بحاجة إلى ممارسة سياسية. من وجهة نظري كمواطن يرغب في اللعب المشترك، أعتقد أن مشكلة الأقباط الأساسية في مصر أنهم دين بدون سياسة.. دينهم يدخل في السياسة فعلاً، لكن السياسة لا تدخل دينهم.. وهذا ما يجعل البسطاء ينظرون للتظاهرات باعتبارها غير مفهومة أو مبررة..

الخوف ربما، أن يفقد رجال الدين بعض قدسيتهم باستخدامهم السياسة، في المقابل، قلنا مسبقاً أن الإسلاميين في مصر ليسوا رجال دين أصلاً.. فلا يوجد دين اسمه "الإسلامي"، يوجد دين اسمه الإسلام، وغالبية الشعب يعتقد أنه ينتمي له. وبالتالي، ما الخوف إذن أن يستخدم رجال هذا التيار قدراً من فنون السياسة خلال خطبهم ومؤتمراتهم الحاشدة في إمبابة والعباسية وطفط اللبن.

أما بخصوص دخول الدين في السياسة، فالرحمة.. الرحمة فعلاً. كيف يمكن أن نطلب من الناس صراحة أن يتناسون دياناتهم.. خصوصاً في بلد مثل مصر، يحرص فيه أبناء الإسلام على الذهاب إلى صلاة الجمعة، فيما قد لا يهتمون بالذهاب إلى مظاهرة سياسية للمطالبة بالحرية مثلاً.

في المقابل، فإنه من المؤكد أن لا "دعوة في السياسة"، فالدعوة سلوك ديني واضح، يصعب معه أن نطلب من أصحاب تيارات غير دينية أن يلعبوا في ذات اللعبة. فواحدة من أهم قواعد اللعب التي تعلمتها بعد رحلة طويلة من الإحتفاظ بالكرة.. أن قوانين اللعبة يجب أن تكون واحدة، فلا أفضلية لصاحب الكرة على اللاعب الموهوب الذي تمكن من تسديدها عبر هجمة ذكية "غير مرتدة".. فأحكام الكرة سياسة.. والردة لفظ ديني من الأفضل أن يبقى خارج الملعب.

في المرات القادمة، دعونا نسأل عن دين السياسة.. وعن سياسة الدين.. وأن نتأكد جميعاً من قدرتنا.. على اللعب سوياً.

ليست هناك تعليقات: