الثلاثاء، أغسطس 30، 2011

عن مقدشيو.. وأشياء أخرى


(1)

هل أنا هنا حقا؟..

كنت لا أزال أحاول طرد النوم خارج رأسي، بينما أقف على مطار مقدشيو بجوار أحمد، وأستمع لحديثه حول طريقة هبوط الطائرة إلى الأرض.

لم يكن هبوط الطائرة يشغلني في الواقع، كانت هناك مسائل أهم، كيف طارت الطائرة أصلاً؟، وكيف حلقت لساعتين ونصف في السماء بين نيروبي ومقدشيو؟.

كنا سبعة عشر شخصاً، في طائرة بها سبعة عشر مقعداً. فقط لا غير. وكان الباب الفاصل بين مقاعد الركاب وكابينة القيادة مفتوحاً، بحيث استطعنا أن نشاهد معجزتين، الأولى هي قدرة الطائرة الصغيرة على الطيران، والثانية هي قدرة الطيار على قيادة الطائرة الصغيرة وجعلها تطير.

في ظروف كهذه، ولأن المسائل تصبح معقدة بما يكفي، ألجأ للنوم فوراً. تشغلني مسألة موتي، وأكره أن أموت في حادثة. وأفضل، أن أموت نائماً.. توجد أسطورة قديمة تقول أن الذين يموتون وهم نيام، يقبض الله أرواحهم بهدوء أولاً، ثم تموت أجسادهم بعد ذلك نتيجة الحادث، سقوط طائرة أو انهيار جدار أو زلزال.. موت بلا ألم، مجرد نوم طويل دون استيقاظ.

قضيت الرحلة إذن في النوم، واستيقظت لأجدني واقفاً على أرض الصومال وأحمد يحدثني عن الطريقة التي هبطت بها الطائرة، بينما يسألني العقل الذي أحمله : "هل أنا هنا حقاً؟".

(2)

لم تكن هناك أية لوحات مكتوب عليها "أهلاً بكم في الصومال"، أو "ابتسم أنت في مقدشيو".. لم يزعجني الأمر، لكل بلد ثقافته الخاصة بالتأكيد. لكن عندما توقفت السيارة دقيقة عند بوابة المطار، ثم ظهرت جرافة صغيرة بجوارنا، وتجاوزتنا لحمل كتلة أسمنتية كبيرة تسد الطريق، حتى عبرت سيارتنا، لتعيد الكتلة الأسمنتية مرة أخرى وتبقي الطريق مسدوداً.. هنا بدأت الفكرة تضرب في رأسي.. لم تكن هناك لوحات ترحب بنا في مقدشيو.. لأن مقدشيو نفسها.. غير موجودة.

قضيت النهار أحمل الكاميرا وأتجول بين مخيم وآخر. لدى الرجل الصومالي الذي يقود سيارتنا الصفراء طموح حقيقي لأن يقود طائرة يوماً ما. جلست بجواره بينما في الخلف جلس ثلاثة من أصدقائي يتأوهون نتيجة ارتطام السيارة بعنف بمطبات لا يمكن أن تكون صناعية.. بل هي طبيعية تماماً.. فلا يوجد طريق أصلاً، نحن نسير في الصحراء مباشرة.

في المخيمات، وبينما أصور دون توقف. فكرت في ردود فعل مناسبة يمكن لبشري أن يفعلها حين يجد نفسه فجأة داخل مخيم صومالي لللاجئين.. كانت الأفكار كلها تدور حول مسدس قديم ببكرة دائرية، ورصاصة عتيقة، وفوهة داخل الفم، واللعنة على هذه الحياة التي تحدث فيها هذه العجائب.

(3)

في بلدي الذي جئت منه إلى هذه الأرض، يقضي الناس أوقاتهم في المنازل والمكاتب والمساجد والمقاهي والكنائس والبارات، في نقاشات طويلة حول ترتيب الأمور.. الدستور، الانتخابات، المليونية، الإصلاح، تشكيل الوزارة، الدينية، المدنية، العسكرية.. في مكان مثل الذي أكتب منه الآن، يمكن وصف كافة الأشياء التي يفعلها أبناء بلدي بالعبث..

الناس هنا، يبحثون عمن يعرف لهم كلمة "انسان".. أعتقد أن هذه هي المشكلة. في النهاية أنا لست خبيراً، وهذه ليست ورقة بحثية حول أسباب المجاعة أو دعوة للتبرع لأهالي الصومال.. هذه مجرد انطباعات مبدئية، لشخص وجد نفسه في مقدشيو ويسأل : هل أنا هنا حقاً؟.

حاولت أن أدقق النظر في وجوه الأطفال وأبحث عن مستقبلهم.. ذكرت نفسي أن الله خلقنا على هذه الأرض لفعل أشياء أخرى غير الأكل والشرب والتكاثر.. إذن، على هؤلاء الأطفال أن يخرجوا لهذه الأرض مفكرين وفنانين وعلماء ورجال اقتصاد.. على هؤلاء، أن يفعلوا في المستقبل شيئاً مختلفاً.. لأن الله موجود في السماء، ولأن المعونات ستتوقف يوماً ما.. ولأن الإنسان موجود على الأرض لسبب أو لآخر.

الأمر معقد. في النهاية، سأعود ومعي فيلم مليء بصور عديدة لأطفال وذباب. صور ملونة ومتحركة. تخبر العالم بالمأساة.. ما الذي سيحدث بعد ذلك؟. وما الذي كان يحدث قبل ذلك؟.. كيف كانت مقدشيو قبل المجاعة؟، بل أين هي مقدشيو أصلاً؟.

كان على أحدهم أن يخبر هؤلاء أن عليهم أن يتعلموا الحياة. علينا أن نتوقف عن ترديد الحكمة الصينية عديمة الفائدة : لا تعطهم السمكة، علمهم الصيد.. علينا أولاً أن نخبرهم أن في الحياة ما هو أهم من أكل السمك، أو حتى صيده.

في الحياة حضارة يجب أن تستمر، أو أن تنهي إذا كان جزءاً من هذا العالم لا يعرف عن هويته إلا كونه شعباً في انتظار المساعدات، وإذا كان التعريف الحقيقي للسياسة في العالم الثالث هو فن تعذيب البشر، وجعل السياسين السفلة يأكلون طعاماً أفضل.

(4)

أرسلوا المساعدات للصومال إذا كان بإمكانكم فعل ذلك. وإن كانت لديكم أولويات أخرى.. فقط عليكم أن تعلموا، أن حرمان بعض البشر من الطعام أمر عادي تماماً. إذا كنا سمحنا قبلها، أن نحرم بعض البشر، من أن يكونوا بشراً بالفعل.

الأمر يتجاوز الصومال. في النهاية، قد تأتي مثلي إلى مقدشيو وتسأل : هل أنا هنا حقاً؟.

حضورك إلى هنا لن يغير في المسألة شيئاً. فقط ستعرف أن الصور التي تتبادلها مع أصدقاءك على الفيس بوك حقيقية، وأن القنوات الإخبارية ليست كاذبة هذه المرة. لكن في النهاية، سيظل الناس في الصومال يفهمون أن المطلوب منهم أن ينتظروا البعض منا لتصويرهم وهم يتسلمون المساعدات.

في النهاية، نحن نعيش في عالم قاسي، وأنا أقضي العيد وحدي هنا بعيداً عن الأهل والأصدقاء. ومن حقي أن أشعر بقدر من الحزن. سأعود إلى القاهرة قريباً، إن كانت الخطة الإلهية تقول ذلك، وسأجيب عن أسئلة الأصدقاء حول المأساة. وسأتلقى ردود أفعالهم المتضامنة مع الصومال.. لكني فقط أريد أن أقول، أنني معترض على هذه الترتيب.

شيء ما يجب أن يحدث، شيء ما يجب أن يتغير.


الأحد، أغسطس 07، 2011

اسمع بقى يا سيدي

عندما يبدأ النهار بخبر وفاة حسن الأسمر. فإن الأمر أعمق من كونه مجرد مصادفة.

حين يكون إعلان حسن الأسمر هو آخر ما أشاهده قبل نومي، وحين تفلت مني ابتسامة، وأفكر دقيقة في الشخص الذي فكر في إحضار الأسمر من المكان الذي كان يختفي به، لجعله يروج لشركة اتصالات. حين يحدث هذا، فإن الأمر عميق.

الأمر عميق، لذا، سيكون من السخيف أن نقول المعتاد : "أوه يا حسن، لقد رحلت فجأة، وفي نفس الوقت الذي صنعت فيه إعلاناً مدهشاً".. هذه سخافة بالتأكيد. لا علاقة لرحيل حسن بالإعلان. أي شخص يموت هذه الأيام يخرج أحدهم ليقول أن توقيت الوفاة يحمل مصادفة ما، وهذه سخافة حقيقية. كل التوقيتات تحمل مصادفات. ما الداعي إذن لاستخدام الفلسفة في غير موضعها.

الأشياء تحدث لأنها تحدث. وحسن الأسمر مات لأن قلبه توقف. علينا أن نفكر بشكل أعمق. ما الذي تركه الأسمر فينا.. الأسمر نفسه، بما فعله في حياته. وليس فقط بتوقيت وفاته الذي جاء للمصادفة وهو يظهر على الشاشة من جديد.

كنوع من أنواع الوفاء، للأسمر حسن. سأعيش مع موسيقاه ساعة، وسأتذكره لوقت طويل وهو يلهو بدراجة هوائية في "أرابيسك". وسأعتبر حقاً أن "اسمع بقى يا سيدي".. هي البداية الحقيقة للعذاب..