صياعة في الجنة!
عندما قرر الأستاذ محمد أن يجري اتصالاً هاتفياً بأبي في المنزل، بخصوص سلوك ابنه الأكبر، الذي هو أنا، وعلاقاته المشبوهة مع ثلاث فتيات يدرسن في الفصل ذاته بالمدرسة الثانوية التي أدرس بها، والتي كان الأستاذ محمد مدرس اللغة العربية الوحيد بها.. عندما قرر.. لم يكن يعلم!
لم يكن يعلم وقتها أن أبي سيغضب بشدة ويلطمني على وجهي عدة مرات قائلاً أني أصبحت بـ"وش مكشوف"، وقد كنت وقتها عاجزاً بالفعل عن فهم معنى الكلمة..
أيضاً، لم يكن الأستاذ محمد يعلم، أن علاقتي بالثلاثي، والتي طالما أثارت ضيقه، ستتحول بين يوم وليلة، من مجرد علاقة صداقة جميلة بين شلة ولاد وبنات، إلى "قضية"، و"مبدأ"، و"اختيار"، وهي أشياء لم يكن الأستاذ محمد ليدرك أنها قابلة للتواجد في حياة طالب ثانوي مثلي.
فالأستاذ محمد، كان يعتقد، ولازال ربما، أن الإنسان نزل إلى الأرض للصلاة، فهو، كغيره من مدرسين العربي، يعطينا حصص الدين الإسلامي بجوار حصص العربي، قد أخبرنا بوجهة نظره الشخصية في مسألة "لماذا خلق الله الإنسان وأنزله إلى الأرض؟"، فبعد أن شرح وجهة نظر العلماء والفقهاء بسرعة مبالغ فيها، استغل باقي وقت الحصة، بل وحصص أخرى تالية، لشرح نظريته.
قال الأستاذ محمد، أن الصلاة لا تنقطع عن الأرض، بينما تنقطع باقي الأمور، بمعنى أن الإنسان يعمر الأرض في الصباح فقط، أما الصلاة، فهي مستمرة صباح مساء، كما أن فروق التوقيت تجعل هناك ميقات للصلاة دائم في مكان ما في العالم، صلاة الفجر في مصر تقابلها صلاة المغرب في أمريكا، وعصر الأردن عشاء ماليزيا.. وهكذا!
أخبرت أصدقائي وقتها، بأن الأستاذ محمد ليس مسلماً على الإطلاق، بل هو على أغلب الظن مسيحي متزمت، بالطبع كان السؤال على لسان أصدقائي "مسيحي إزاي يا فالح واسمه محمد؟"، أخبرتهم وقتها بأن الممثل محمد صبحي مسيحي هو الآخر رغم أن اسمه محمد، حكيت لهم القصة التي انتشرت وقتها، عن أن صبحي كان الابن رقم عشرة لأب وأم من أبناء الكنيسة، وقد مات قبله تسعة من الذكور، فقررت الأم تسمية ابنها القادم محمد عله لا يموت، وهو ما حدث.
لم يقتنع أحد من أصدقائي، لكني أخبرتهم، من باب التأكيد، أن المسيحيين هم فقط من يعتقدون أن الله خلقنا لنصلي، وقد قال لي شادي – زميل الفصل – وقتها أنني أقول هذا الكلام لأني لا أصلي، ولأني أحمل في رأسي أفكاراً فاسدة بسبب الإفراط في قراءة كتب "أنيس منصور"..
أخبرته أنني ذهبت خلال الأجازة الصيفية إلى دورة في التنمية البشرية، وأن المدربة كانت اسمها فاطمة، وقد أخبرتنا في الحصة الأخيرة، أن اسمها الأصلي "سحر"، وأنها دخلت الإسلام منذ عام واحد، بعد أن تركت دينها الأول، المسيحية.
أخبرتنا فاطمة، أن رجال من الدين المسيحي جلسوا معها لمراجعتها في قرارها، ليتأكدوا من عدم تعرضها لأي ضغط عاطفي أو مادي أو سياسي، وأنها سألتهم "هي الجنة بتاع ربنا المسيحي فيها إيه؟"..
أخبروها بأنها مليئة بالمؤمنين الذين يقضون الوقت في الصلوات والترانيم والدعاء لله، قالت لنا أنها ضحكت ضحكة غير مهذبة قائلة لهم "يعني أنا مفروض أعيش في الدنيا أصلي وأتلو الترانيم وأدعي أدعية كتير، عشان أدخل الجنة بعد ما أموت عشان أدعي وترانيم وصلوات وكلام من ده؟؟.. لا لا دي جنة مؤدبة قوي".. اقتربت أكثر منهم، هامسة، "عارفين جنة المسلمين فيها إيه؟"..
بفضول رجال الدين، وبحكمة من هم فوق الخمسين، سايروها فيما تقول، سألين.. "ها.. فيها إيه جنة المسلمين؟".. ضحكت سحر، أو فاطمة كما أصبح اسمها قائلة "منتهى الصياعة.. حريم للرجالة ورجالة للحريم، وأكل ومرعة وقلة صنعة، والمؤمنين بيقابلوا ربنا كل خميس وجمعة، والأصحاب بيتقابلوا يلفوا شوية في الجنة، وممكن أقابل كل الأنبياء من أول آدم لحد محمد، وكمان فيها شجر عليه كل أشكال الفاكهة اللي مفيش زيها في الأرض.. بذمتكم.. أسيب كل الحاجات دي وأروح جنة تانية كلها صلاة من غير أي حركات"..
تقول فاطمة، أنهم أدركوا وقتها إن مفيش فايدة، وتركوها تفعل ما تريد، قال راعي الكنيسة التي كانت تصلي فيها سحر لأمها أن بنتها تحسبها حسبة مختلفة، وإنها لا هتدخل جنة المسلمين ولا جنة المسيحين، وعندما وصل الكلام لفاطمة – عن طريق صديقة لها والدتها تعرف أمها - ضحكت وهي تلبس الحجاب للمرة الأولى قائلة، "يروح يتشطر في الجنة بتاعته، ملوش دعوة بجنة المسلمين".
كانت القصة مسلية بالنسبة لشادي، وبالنسبة إلى كل مراهق مثلنا، يفرح عندما يقرأ الإمام سورة "يوسف" في الصلاة، ويترقب الجزء الخاص بـ"هيت لك"، ويبحث عن تفسير لتلك السورة بالذات في كتب الدين بمكتبة المدرسة.
قصة مسلية، لأطفال غادروا لتوهم مرحلة الإبتدائية القريبة، والتي كان بلطجي الفصل يفتخر بأنه يقف على صدر طالب مسيحي، ويسأله.. "هتسلم ولا لأ يا مرقص.. رد يا مرقص.. عندكم أسلحة في الكنيسة ولا لأ يا مرقص؟"..
القصة مسلية بالفعل لشادي، وإن كان لا يعرف أي علاقة بين كل ما أقوله، وبين الأستاذ محمد الذي يرى أننا خلقنا للصلاة، فيما أرى أنا أنه كلام مسيحيين، كنت وقتها لا أعرف شيء عن فكرة "عمارة الأرض"، التي هي الهدف الحقيقي من وجودنا، لكن على كل حال، فإن هذا لم يجعلني أتراجع ولو لحظة واحدة، كانت علاقتي بالأستاذ محمد لا تسمح لي بأي تراجع من أي نوع.
دخلت إلى المدرسة الثانوية وكلي آمال تتعلق بأنها فرصة حقيقية لتغيير حياتي، كان أدائي بشعاً في المدرسة التي قضيت فيها مرحلتي الإبتدائي والإعدادي، كنت أحتاج إلى تغيير حقيقي يلاءم أهدافي وأحلامي.. وكم كان جيداً أن ألاحظ، منذ اليوم الأول للدراسة، أن مدرستي الثانوية مدرسة مشتركة للبنين والبنات، وهو ما يعطي للتحدي بعداً جديداً، يتعلق بالمراهقة والجنس اللطيف..
ثم ظهر الأستاذ محمد، نموذج للدرعمي الريفي الذي لا يرى أبعد من السبورة، ولا يحلم بأكثر من مجموعتين من الطلاب في الدروس الخصوصية تمكنه من الإنفاق على زوجته وطفله الصغير.
لم يكن الأستاذ محمد يفهم أن الجالسين أمامه يحملون داخلهم أحلام تمثل كوابيس حقيقية بالنسبة إليه، كنت أنا، وزملائي جميعاً، ندخل في رهان مفتوح يتعلق بعدد البنات الذي يستطيع كل واحد منا أن "يعلقه"، كانت نظريتي الشخصية مبنية على أن المدرسة بها 3000 طالب وطلبة، ألف واحد من الذكور، وألفان من الإناث، إذن فمن حق كل طالب أن "يعلق" بنتين على الأقل، وقد أخبرت أصدقائي أن هذا حق مشروع للجميع، وأن البنات يعرفن بالتأكيد تلك المعلومة التي تنظم العلاقة بين الجنسين في المدرسة المشتركة.
على كل طالب إذن أن يستخدم كل الأساليب الممكنة لتعليق البنتين، بل عليه أيضاً، أن يطور أدائه مزيداً من هذا الرقم، خاصة وأن بجوار مدرستنا مدرسة فنية ثانوية مشتركة، فيها النسبة ذاتها بين أعداد الولاد والبنات.
كان قراري أن طالب بدين مثلي، تكمن كل مناطق سحره في عقله، وليس في إجادته للخناق، أو شرب السجائر، أو لعب الكرة، أو المعاكسة الصريحة، أو حتى الشياكة منقطعة النظير، كل تلك الفنون لم أكن أجيد أي منها، مكتفياً بمحاولاتي الأولى لكتابة الشعر والقصة، والجوابات العاطفية بالتأكيد.
كان قراري، بعد أن قمت بدراسة متأنية لنفسي، أنني أحتاج لغزو العالم الجميل للفتيات، أن أصنع لنفسي سفراء داخل هذا العالم، وأني – وإن كنت لن أتمكن من لعب دور الحبيب – سأجيد لعب دور الصديق المخلص، كاتم الأسرار، المستمع الجيد، حلال المشاكل، العاطفية بالتحديد.
والصدفة وحدها قادتني، لأصبح بين يوم وليلة الصديق الصدوق لـ"رحاب"، "عزة"، و"داليا"، اللاتي يسكن الديسك الأول من الفصل الذي أدرس به، واللاتي تمكن خلال أسابيع الدراسة الأولى من أن يصبحن صداعاً حقيقياً لكل مدرس يدخل الفصل ويعاملنا معاملة غير لائقة.
كل هذا كان يجعلني في نظر الأستاذ محمد فتى شرير، أرعن، تلزمه علقة بالفلكة تعيده إلى صوابه، خاصة وأنه كان زميل أبي في الكلية، وكانا شريكان في سرير واحد بأحد معسكرات الجوالة، وهو ما جعله يشعر تجاهي بشيء من المسؤلية، لا أعرف سببها.
في العام الدراسي الثالث، كانت علاقتي به قد وصلت بالفعل إلى طريق مسدود، لا أعتقد أنني كرهت شخصاً بقدر كرهي له، لم أكن أحب أياً من تفاصيله، وقد كانت النتيجة أنني طلبت نقلي لفصل أبلة "راندا"، التي يطلق عليها أصدقائي "لمبة" نظراً لطريقتها الغريبة في نطق الحروف، وقد كان.. ومع أن راندا كانت بشعة بكل تفاصيل الكلمة، إلا أنها رحمتني من فكرة مقابلة الأستاذ محمد مرة كل يوم.
كما العادة، مضى الوقت، وأصبحت أنظر الآن لكل هذا باستخفاف غير ملائم.. وبسخرية كبيرة.. لكن الأمنية الباقية من كل هذا.. هي أن أقابل الأستاذ محمد مرة أخرى الآن، أخبره عن أمر نفسي، عن السنوات التي تفصل بيننا الآن، وبين لقائنا الأخير، في مدرستي الثانوية..
لا أنظر إلى هذه الأمنية بأي استغراب، هي فقط رغبة طالب ثانوي وحنين منه، في مقابلة هؤلاء الذين ساهموا في تكوينه.. بشكل.. أو بآخر.
هناك 15 تعليقًا:
مش عارف لو قلتلك اني شبهك في حاجات هتصدقني ولا لا
ولا هتقول عيل وبيستهبل يعني بس بجد والله حاسس اني شبهك في شوية حاجات أكدها البوست الاخير دا
وعلى فكره والله دا شرف ليا اني اكون شبهك ويا ريت ابقى زيك كمان .
مدونة جميلة يا براء...
بس على فكرة اشاعة ان محمد صبحي مسيحي دي شبعت نفي و منه وه بالذات...و قال ان الهدف من الاشاعة دي هوه ضرب الوحدة الوطنية في مقتل..
خد بالك على نفسك بقى يا مشعل الفتن
;-)
استمتعت بالبوست ده اوي ...
رغم اني اشعر بفتور رهيب عند المرور في المدونات منذ مدة ...
يمكن عشان خفيف حقيقي بسيط دمه خفيف مسلي ...
بحب نمط الكتابة ده عموما ...
و بحب مدونتك :)
تحياتي
يمكن انا مش عارفة اعلق على البوست ..بس بجد انت اسولبك متميز و بيشدنى انى اقرى ..رغم انى مش من هواة انى اقرى البوستات الطويلة ..
اللى انا حكيته دة تقريبا عقلية اى واحد فى السن دة..بتكون مرحلة صعبة و فى ناس بتحاول تعدلها بس بتنيلها ..وفى النهاية سواء ساعدونا او دمرونا فى كلا الحالتين غيروا فينا حاجة و كونوا شخصيتنا
يا فندم أقلك بكل ثقة ، يخربيتك انا اتفشخت ضحك
حقيقي صعبان علي يا بني...
مش باسبح ضد تيار والله، ومش قصدي أعارض..
ممكن أقولك مدونة جميلة ودمك خفيف والذي منه، بس يا ترى حينفعك ده؟
ربنا يهدينا ويهديك...
أنا معجب جداً بيك وبأسلوبك وأتمنى لك المذيد من النجاح وأيضاُ أتمنى أن يقيق الشباب التعبان والناس الكبيرة ذات الأفكار السلبية حتى نتمكن سوياً من النهوض لحياه أفضل من زمن مبارك جداً!!!!!!!!!!!!!!
حقيقة لا اعرف ان اتكلم وقد تلجم السان وتحجرت العنينان ولال امكلك الا ان اقول الله
بوست جميل ودمه خفيف
رجعني لأيام الثانوي
شكرا لك
متوقعه منك
براء هو القباحه والقباحه هى براء
شكرا براء :-
أسلوبك شيق و قد جذب إنتباهي فقد قرأت كل ما كتبته ،،،و هو يثير كثير من الأسئلة داخل نفس أي إنسان باحث عن الحقيقة ،،،و هو أيضا يدعوا للتأمل في ثوابت حياتنا العائقة لتقدمنا ،،،الخانقة لإبداعنا...
و لكن هل يوجد من يفهم ؟؟؟
صوت الحق
لو سمحت يا براء شيل تعليقات النصراني الوسخ اللي بيشتم في الإسلام
ثانيا : قبل ما أقرا البوست ده كنت قريت بوست جديد عن الفالانتين عندك .. و عرفت ان ابوك من الإخوان (حسب فهمي المتواضع) و مما يزيد شكوكي نحو هذا الفهم اسمك غير المنتشر الا في الأوساط المتدينة الملتزمة ..هذا الشك كان يتم تكذيبه بحالك .. من الغريب إن ابن واحد من الإخوان يبقى كاتب (مش ملتزم) الى حد ما .. و حتى لا تتهمني بأني ضدك أو أكرهك أؤكد لك أني مثلك تماما مريت بفترة المراهقة ( بس برة مش في مصر) و كان والدي (و بالمناسبة هو أيضا من الإخوان) صعب معانا خصوصا في موضوع الصلاة (يبدو ان هذا الموضوع منتشر في اوساط الشباب) لكن من الواضح أنك شخص عنيد .. فمع خناقة تشبه التي تحكي عليها مع أبي (و لكن لأسباب أخرى) تغيرت و الحمد لله الى الأفضل .. و ما أشعره فيك أنك تمارس كره أبيك و معتقداته حتى الآن بسبب ربما قسوته و عدم تفهمه لك.. يبدو هذا واضحا جدا في تلك التدوينة التي وضعت فيها صورة يظهر فيها والدك و انت معه ترتدي (هاي كوول) و تحدثت عن نظرة والدك لك و التي لم تتغير منذ .....
براء .. أنت شخص عبقري .. بالفعل ..
مشكلتك فقط هي أنك لم تسامح والدك حتى اليوم..انت بعيد تماما عن المكان الذي كان لا بد ان تكون فيه.
إرسال تعليق