السبت، فبراير 28، 2009

طنط نادية وطنط سامية

أصبحت مسألة "الإبداع الشعبي" تشغلني بقوة هذه الأيام، خاصة مع عملي على إنهاء فيلم يحمل اسم "رحلة الحجيج" ويركز على الطقوس الشعبية المصاحبة للحج في مصر، وهي طقوس يظهر فيه حجم ابتكار العقل المصري البسيط لقدر من الفنون التي لم يكن لها أصل أو تاريخ عريق.

في الفيديو الموجود نجد شخص ما اختار التعبير عن حبه لحبيبته وأسرتها وأسرته وطنط نادية وطنط سامية وفتاة اسمها سماح يقول أنها محظوظة لسبب لم يذكره.

الفيديو إهداء للصديقة إيفون نبيل وللدكتور عبد الحليم حواس الذي ناقشت معه الفكرة الأسبوع الماضي.

الجمعة، فبراير 27، 2009

قبلات مسجونة.

إذن، فأبويا مسجون في سجن المرج منذ شهرين وأكثر، بقرار من وزير داخليتنا باعتقاله و150 شخص قرروا التظاهر يوم جمعة لفتح معبر رفح.. وقد انتهت الحرب، ولا يزال أبي معتقلاً.

أزوره كل خميس، وأجد نفسي مجبراً على مراقبة ما يحدث في الساعتين – مدة الزيارة – داخل القاعة الواسعة، التي تجمع المساجين والزائرين، مقسمة إلى قسمين، واحد للجنائي وآخر للسياسي، وهو تقسيم غير مرئي، فالجميع في حقيقة الأمر يجلسون في قاعة واحدة، كل نوع في ركن. تميزهم الألوان، الأزرق للجنائي والأبيض للسياسي، ولشخص مثلي، متفرغ للملاحظة، فإن ثمة أشياء أخرى تفرقهم.

في الخميس السابق للسبت، يوم الفالنتين، أدهشتني الكمية الكبيرة من الورود في يد زوجات لمعتقلين سياسين، لم أكن أعلم أن الإخوان يحتفلون بالعيد الرومانسي، الذي يحمل اسم قديس مسيحي، زوج الشباب سراً في وقت منعت فيه الدولة الزواج، فأعدم، وخلده العاشقين بعيد يحمل اسمه.

في اليوم السابق قرأت خبراً عن حملة لشباب الإخوان في جامعة القاهرة، تزامناً مع عيد الحب، مفادها أن حب الله ورسوله هو الحب الحقيقي، وكان رد فعلي متناسباً مع ما قرأت.. وفي المساء ذاته، توقفت قليلاً لشراء بضعة حاجات من سوبر ماركت على ناصية شارعي، فوجدت في الداخل شاشة تليفزيون مثبتة على قناة "الناس" وبها شخص ضخم، يجلس في منتصف الكادر، ويقول "يا مسكين.. تعرف إنت إيه عن الحب.. تعرف تحب ربنا؟ تعرف تحب الرسول.. أنت متعرفش حاجة عن الحب".. كان مظهره أقرب من الداعية لمدرب كرة السلة في النوادي المحلية.. سألت البائع في براءة بعد أن لاحظ وقوفي أمام الشاشة دقيقة أودقيقتين "مين الكابتن ده؟".. فرد باستهجان واضح "كابتن إيه يا كابتن.." وسكت برهة واستعد لقول شيء جديد.. إلا أني سحبت حاجاتي بسرعة، ورحلت.

لكن في داخل قاعة الزيارة كان الأمر مختلفاً.

رأيت من بعيد شاب معتقل يخرج لتوه من الباب الفاصل بين العنابر والقاعة، يبدو في حالة جيدة، هو على الأرجح استحم منذ قليل، ويضع عطراً جميلاً، يبدو متأنقاً، رغم أن ثيابه بالكامل بيضاء، تراه فتعرف أنه اهتم لأمر نفسه قبل أن يأتي إلينا.

ألقى بنظرة واسعة على المكان، يبحث عن أهله، حدد موقعهم وبدأ يتجه إليهم، هم أيضاً فعلوا، والتقوا في منتصف الطريق.

أتى إليه هذه المرة، أبوه، وأمه، وزوجته الشابة، وطفل صغير عمره أقل من عام، ينام معظم الوقت.

قبل رأس أبيه، واحتضنه بقوة، وكذلك فعل مع أمه، وكنت قد عرفت أنه لن يفعل ذلك مع زوجته، مراعاة للزحام، ولكونه من الإخوان المسلمين، الذين يتحدثون خارج السجن عن حب الله والرسول فقط.. أيضاً وجود الأب والأم يضفي على اللقاء جواً من الإحترام والرسمية..

لكن، وكأني مراهق يشاهد فيلم "تيتانك" للمرة الأولى، جذب الشاب زوجته تجاهه، بقوة، وكانت قد سلمت رضيعها إلى حماتها قبل ذلك بثانية، وأسكنها بين ذراعيه في حضن، ستحذفه الرقابة إن وجدته في فيلم لتامر حسني ومي عز الدين.

هي مخمرة، لها عيون جميلة، وأقصر منه ببضعة سنتيمترات، وتحبه، ويظهر ذلك في عيونها المثبتة تجاهه.. وفي هدوئها بين ذراعيه.

وهو رفيع، طويل، بشرته سمراء، وذقنه محددة ومهذبه، قصيرة للغاية، ستحتاج بعض الوقت لتعرف إن كان يتركها كعنوان إلتزام أم ضرورة روشنة.. يعشقها، سيظهر ذلك في أمرين.. القبلة القصيرة التي سيعطيها لها بعد الإحتضان.. ويده التي ستتحرك بعد ذلك مباشرة، تجاه بنطلونه، تشده لأسفل، وكأنها تحاول أن تداري تضخم عضوه.

وسينتهي الحضن والقبلة، وسيجلسون.

وسترى، إن كنت معي، في ركن الجنائيين، فتاة في العشرين، تقبل هي الأخرى يد أبيها.. وستخبر نفسك بقدر من التخمينات اللاإرادية.

تبدو الفتاة وكأنها غير موجودة، تنظر لساعتها كل دقيقتان، ولا تتحدث على الإطلاق.. كما أنها تثبت نظرها تجاه "طفاية حريق" معلقة على الحائط المقابل، وكأنها ترى فيها أمر يستحق الإهتمام عن أبوها الجالس إلى جوارها.

ستفهم أنها قررت في لحظة سابقة أن تلغي هذا الجزء من حياتها، ألا تصنع فروقاً بين زيارة أبيها في السجن، وزيارته في القبر، تغلق هذا الجزء وتضعه ضمن ذكريات الطفولة القديمة.

لهذه الفتاة صديق في الخارج، لا يعرف شيئاً عن أمر أبيها المسجون، وهي تمنعه من زيارة البيت، وستقبل الزواج منه دون علم الأهل.. أما عن القبلات التي وضعتها على يد والدها، فهي – على أفضل الأحوال – عادة طفولية قديمة، تشبه قراءة الفاتحة أمام القبر.

ستفكر في التخمينات السابقة، وتلوم نفسك، وسترى في الركن السياسي مشهد مطابق، فتاة أكبر قليلاً تقبل يد والدها، وستضع التخمينات ذاتها، وستتوقف عن لوم خيالك.. وترك له العنان.

وفي الركن السياسي أيضاً، وفي مكان منزوي به، سترى زوج وزوجة، أكبر من السابقين، تجاوزا الأربعين بقليل، وأمامهما طفلان، ينظران إليك، وظهرهما للأب والأم، المقتربان قليلاً وثمة حركة أيادي خفية في الأسفل يكاد لا يلمحها أحد.. وإن راقبت أكثر، فسترى قبلات مسروقة بين الفمين، وستعرف أن ممارسة الجنس بعد الأربعين ليست كابوساً كما كنت تتخيل.

سألت أبي، "كلكم هنا إخوان؟"، فقال "أيوة، واحد بس سلفي هناك أهو".. ونظرت إلهي، يرتدي ترينج أبيض من ماركة يرتديها الجميع اسمها "SKY TOP SPORT" وتباع في التوحيد والنور بمقاسات متعددة، لكنه يرفع بنظلونه إلى أعلى، ويثني أطرافه عند القدمين، فلا فارق بينه وبين أي سلفي في الطالبية بالهرم.

ويقف أمام زوجته المنقبة، التي ترتدي نقاباً أسود وأسفله يظهر بنطلون جينز، وحذاء رياضي أبيض، وتقف في مواجهته تماماً، وبينهما مسافة أقل من المسافة التي سيتركها المخرج بين ممثل وممثلة في فيلم رومانسي أمريكي يعرض للكبار فقط.

فضفاضة الجلباب التي ترتديه الزوجة، لا يسمح لأحد بالتفكير في أن الجسدين متلاصقين، لكنهما كذلك، وهناك قبلات كثيرة تؤخذ من ناحية اليسار حيث لا يجلس أحد، كما أن الشفايف تتلامس وبينهما نقاب، وهو أمر جيد.

أدرت نظري، فرأيت الشاب الأول وزوجته، يقفان بجوار البوابة بعيداً عن الزحام، ويمسك الشاب بشيكولاتة، ويكسرها أجزاء صغيرة، فيمسك بجزء جزء، يضعه في فمه، ويقطم نصفه، ويسكن النصف الثاني في فم الزوجة الشابة.

في الجانب الآخر، السياسي أيضاً، كان شاب وفتاة أصغر في السن، أخبرني أحدهم بأنهم كانوا على وشك الزواج، إلا أنهم "كاتبين كتابهم"، كانت الفتاة تريح رأسها إلى كتفه، وكان هو يمسك أطراف كفها، ويعبث بأظافرها الطويلة المهذبة.. وعلى وجه كل منهما، ابتسامة مطمئنة.

....

في طريق العودة، سألتني زوجتي، خدت بالك؟.. قلت "طبعاً، وكان أمراً مثيراً".. سكت قليلاً، ورأيت أن أصلح المعنى، فقلت أنه كان جميلاً أن أرى وجه أخر لهؤلاء، وأني اسمتعت بتلك الحرية الجماعية التي قرر الجميع ممارستها.. وأضفت أشياء كثيرة.. منها أن ما رأينها ليس أكثر من قبلات حلال مسجونة.. في سجن المرج.

الاثنين، فبراير 16، 2009

حمادة


قال، وسأعرف بعد ذلك بساعة أن اسمه "حماده" : يا باشا أنت تسيبها ورجالتك يركنوها.

مساء الفلانين، وقد تحول فجأة إلى عيد قومي يحتفل به الجميع ويجعل الشوارع أكثر إزدحاماً من ليلة العيد الصغير.

أجبرتني الظروف، لا الحب أو الرومانسية، على الذهاب إلى باخرة تحمل اسم "نايل سيتي" ترقد في مكان مميز على ساحل الزمالك.

نصف ساعة لتجاوز الأمتار المائة الفاصلة بين ناصية الشارع ومدخل الباخرة، أخبرت زوجتي وصديقتنا المشتركة أن دخول الباخرة في تلك الساعة حلم جميل كنت غير متأكد من قدرتنا على تحقيقه.. لكن "حمادة" ظهر فجأة، وأشار بكفه الصغير محركاً إياه أعلى وأسفل يسألني إن كنت أبحث عن "ركنة" في مكان قريب.

فتحت الزجاج الكهربائي، وأملت رأسي للخارج قليلاً، وسألت : "ينفع أركن؟".. فقال جملته الأولى بثقة، وفتح بابي.. ودعاني للنزول بإنحناءةبسيطة من جسده الرفيع.. وكنت قد أدركت أنه انخدع ربما بمظهري، وأعطاني أكثر مما أستحق من المعاملة الطيبة.

سألته : "أسيب المفاتيح؟".

قال، "الباشا يسيب أي حاجة.. وإحنا نحطها في عنيننا".

شيء ما جعلني اسأل زوجتي، حين عادت خطوتان للخلف، لأخذ كيس بلاستيكي يحتوي هدية صغيرة كانت ترقد في الكنبة الخلفية للسيارة، "ليه هتاخدي الشنطة؟، الدنيا أمان".. رغم أنها رأتني قبل دقيقة أسلم مفاتيح سيارتي لشاب كل ما سأعرفه عنه بعد ساعة أن اسمه "حمادة".

لا تزال زوجتي قادرة على البقاء حريصة معظم الوقت، ودعت الحرص في وقت مبكر من حياتي.. بدأت أفهم فكرة أننا نكمل بعض، وقد ظلت لفترة تقنعني بها دون أن تجد مني أي اهتمام.

في الداخل، تناولنا عشائاً مكسيكياً ساخناً، كنت قد راهنت زوجتي، وصديقتها، أننا لن نجد فرصة لتناول العشاء في المطعم الذي قصدناه، وهو واحد من عدة مطاعم انتشرت في القاهرة في السنوات العشر الأخيرة، وكانت نقطة قوتي في الرهان أننا لم نتصل للحجز، وإن اتصلنا فالإجابة معروفة.. "للأسف يا فندم كله مشغول عشان الفلانتين".

لكن مظهرنا، أنا وزوجتي والصديقة، وابنتي الصغيرة على كتفي بابتسامة لا تفارقها، جعل مدير المطعم عند البوابة يؤكد وجود مكان، يبدو أنه أدرك أننا لم نأتي للفلانتين أو غيره، هي مجرد سهرة صغيرة للإحتفال بصديقة ستغادر القاهرة بعد ساعات لإنجلترا.. وستعود بعد ستة أشهر.

ساعة، كنا قد انتهينا من الطعام، ومن شرب خليط من الكولا بدون السكر والكريز، بناء على نصيحة من الصديقة المشتركة، تذوقته للمرة الأولى بحذر وفهمت أنه كان يستحق.. وخرجنا.

سأقتل هذا الشخص، رأيت سيارتي مركونة فوق الرصيف، هي في الواقع بين الرصيف وأرضية الأسفلت، أدركت أنني لو ركبتها، وبفعل وزني الثقيل، فإن أسفل السيارة ستصيبه أضرار كثيرة، إلتفت أبحث عن الشاب صاحب فكرة الركن..رأيته يجري قادماً.. بابتسامة واسعة، ومفاتيح سيارتي في يده "الباشا يستنى لحظة واحدة بس..".. ورأيت سيارتي تنزلق بليونة من أعلى الرصيف لتقف بمحاذاتي وبابها مفتوح يدعوني للركوب.

وصلت زوجتي وصديقتها لمكان السيارة، نويت أن أعطيه عشرة جنيهات لمعاملته الطيبة، تأكدت من أن زوجتي لن تراني، ستقتلني إن رأتني أفعل.. لكن صوتها جاء من الخلف.. "مش أقل من عشرة جنيه أكيد"، هي أيضاً تراه شخص يستحق.

أزعجني أن يكون تقدير زوجتي للأمور بقدر تقديري، فأضفت خمسة أخرى، ووضعتها في يده.. وسألته "اسم الكريم إيه؟".

تعلمتها من أصدقائي، أن اسأل هؤلاء الذين "نشاهدهم ولا نراهم" على حد تعبير صديقي أحمد، عن اسمائهم وأعمارهم وطبيعة دراستهم.. قالوا أن الأسئلة الصغيرة، تجلب لهؤلاء قدر لا ينتهي من البهجة، كما أنها تعطي لأمثالنا موضوعات دائمة يمكن الحديث عنها مع الأصدقاء المشتركين.

قال، بلهجة رسمية، وكأنه يعرف نفسه لقائد كتيبته، "حمادة.. رابعة آداب، من أمبابة، ومش مرتبط".

عجبتني الطريقة، سألته، كام سنة يا حمادة، قال "22 يا باشا.. فاضلي تيرم واتخرج".

فكرت أنني أستطيع أن أمنحه شيئاً إضافياً، شعرت أنه يجب أن أفعل لحمادة شيء أكثر من مجرد 15 جنيه أطويها بعشوائية وأدسها في يده.. كدت أعطيه كيساً بلاستيكياً به بقايا وجبة مكسيكية لم تتناولها صديقة زوجتي. لكني تراجعت. فما يحتاجه حمادة أكبر ربما من الطعام..

سألته "أقولك سر؟"..

رد "في بير ملوش قرار"..

كدت أسأله عن الطريقة التي يستطيع بها الرد بسرعة على أي جملة غير متوقعة، وعن روحه المتدفقة الدافئة في ليلة باردة كليلة الفلانتين، وعن حماسه المبالغ فيه، وعن ابتسامته، وعن قدرته على التكيف مع الواقع، وعن حبيبته التي غاب عنها عشية الفلانتين ليساعد أمثالي في إيجاد مكان مناسب لركن سياراتهم.. هو بالتأكيد لديه حبيبة مخلصة، رغم أنه أخبرني بكونه "مش مرتبط".

قلت "أنا كمان درست في آداب، صحافة وإعلام، ودلوقتي بشتغل مخرج ومتجوز وعندي بنت، أنا اشتغلت شغلانتك يا حمادة من 6 سنين"..

رد في سرعة "وماله يا باشا هو عيب؟؟"..

قلت "عمره ما هيبقى عيب، بس قلت أقولك إن المكان اللي أنت واقف فيه ده هيوديك مكان تاني أحلى وأحسن..كل سنة وأنت طيب يا حمادة.. أنت بطل".

تعلمتها أيضاً من "أحمد"، هو أخبر الطفل البدين – وقد كان يشبهني - ماسح الأحذية في المقهى بأنه بطل، وقال يومها أنه من المفيد أن نفعل ذلك مع الذين اختاروا أن يفعلوا شيئاً آخر غير التسول.

تحركت بالسيارة، وكانت زوجتي ترمقني بنظرة جميلة، تعرف هي أنني كنت أكذب، وأنه لم يحدث يوماً أن عملت كحمادة، لكني مستعد لفعل ذلك.. بدت زوجتي متفهمة لكذبتي الصغيرة وأسبابها.

قلت لصديقتنا المشتركة، الجالسة في الكنبة الخلفية، وقد كانت تعاني من بعض الحزن والضيق، أنني أخبرت حمادة بذلك لأنه يستحق أن يخبره أحدهم بأن مستقبل أفضل ينتظره.

لم تستوعب الفكرة تماماً، غيرت الموضوع.. قلت أنني سأكتب يوماً كتاب صغير، اسمه "حوارات صغيرة" أدون فيه ما جرى بيني وبين الناس في الشارع، وهي حوارات تستمر دقيقة أو دقيقتنا، ويمكن استخلاص بعض الأفكار منها.. كانت صديقتنا مشغولة بسفرها فلم تعلق، وكانت زوجتي منشغلة بالطفلة، تابعت القيادة، وكنت منشغل بحمادة.

الخميس، فبراير 05، 2009

عمق المأساة!




ما الذي فعله مطاوع حين غادرت زوجته إلى منزل والدتها؟

من الطبيعي أن نتوقع الكثير، فداخل مطاوع يجلس نموذج صغير للشيطان، صنعه مطاوع بنفسه، ومنحه بعضاً من قدرته السحرية على التفلسف والتمنطق والتنظير، لذا فالنموذج يعطيه الأفكار، ويدله على الطريق الصحيح للخطيئة، كما أنه يهون عليه من آثار الـ"عط"، ويجعله في كامل إدراكه، بأن ما سوف يحدث، لن يكون بأي حال، أسوأ مما حدث بالفعل.

لدى السيد مطاوع يوم كامل من الحرية، المرح، القدرة على التجاوز والطيران، السهر، مرافقة هؤلاء السفلة في شوارع وسط البلد، التدخين داخل المنزل، والنوم بملابس العمل، والضغط على علبة المعجون من أي مكان، ورفع صوت التليفزيون، والحديث مع الصديقات حتى الفجر، وطلب دليفري من أي مطعم وبأي كمية، والإستماع لشريط هيفاء وهبي في السيارة، وأشياء أخرى يمكن التغاضي عن ذكرها..

لكن السيد مطاوع اختار، بإرادة حرة كاملة، وبإدراك كامل لحجم المغامرة، أن يجلس بجوار الدفاية، بملابس قطنية منزلية أنيقة، ويمسك بكتاب ضخم لـ"ميلان كونديرا" عن فن كتابة الرواية، ويشاهد فيلم "The Leading Man" على أو تي في، ومتابعة تقارير إخبارية مختلفة على الجزيرة والعربية، ثم النوم مبكراً، والإستيقاظ بفارق ساعة زائدة عن موعد استيقاظه الذي طالما حددته زوجته دون رغبة منه أو رضا.

فقط دخن سيجارة صغيرة، وطلب وجبة بسيطة من كوك دور، وخلع فردتي شرابه في الصالة، دون وضعهما في المكان المخصص، السلة البلاستيكية الخضراء في الحمام.

في الصباح، لم يختلف الأمر كثيراً، استيقظ وحده، ارتدى الـ"بورنس" على اللحم، وجلس يشاهد الجزيرة، قرأ صفحتين من كتاب "كونديرا" في الحمام، وأخذ "دشه" اليومي، ثم نزل إلى العمل.

يمكن هنا الإنتقال للسؤال التالي مباشرة، ما الفارق إذن الذي صنعه غياب زوجة مطاوع؟.

لا شيء على الإطلاق، فقط حصل مطاوع على حقه الطبيعي في الهدوء والسكينة والراحة والحرية، وهي أشياء لم يكن مطاوع يهتم لها في الحقيقة، كان يعتقد أنه يحب الضوضاء، ويكره السكينة ويمقت الراحة، ولا يحتاج الحرية. لكنه – كزوج يفكر جدياً في أن يصبح مخلصاً لزوجته – أدرك أن الإستغناء عما سبق ترف لا يقدر عليه.

وهل يجتمعان؟، مممم.. تفهمني؟.. اسألك.. هل تجتمع الزوجة مع الراحة والسكينة والهدوء والحرية والمتعة والفرحة والكسل اللذيذ؟..

فيما سبق، ظن مطاوع أن زوجته على علم بما يحتاج، هي أخبرته بذلك، هل اختلفت احتياجاته إذن؟. أم أن قدرة زوجته على المعرفة أصابها شيء ما.

ستنزعج زوجة مطاوع فور علمها بأن زوجها قضى ليلته جالساً في المنزل وحده يشاهد التلفزيون ويقرأ الروايات.. هل لأن زوجته تكره ميلان كونديرا، هل لأنها تخشى على زوجها من مشاهدة بعض الـ"مزز" في قنوات القمر الصناعي الأوربي "الحمامة الساخنة" أو "hot bird"، الحقيقة أنها ستنزعج لأنها تعرف – دون أن يخبرها أحد – أن قضاء زوجها ليلته في المنزل وحده، يعني فردتي شراب في مكان غير صحيح، وبقايا طعام من كوك دور على الأرض، وطفاية سجائر على مسند الكنبة، كما أنها متأكدة من أن زوجها لن يهتم لأمر ترتيب شلت الكنبة بعد قيامه، فهو يرى أن المظهر العشوائي للشلت على الجنبة أجمل وأرق.

يحتاج مطاوع من زوجته هذا الإنزعاج ولكن لأسباب مختلفة، يحتاج منها أن تفكر في السؤال الذي طرحته عليه مساء الأربعاء الماضي "مطاوع، هو أنت فعلاً بتنتهز الفرصة عشان تفضل وقت أطول برة البيت؟".. لم يرد مطاوع وقتها لكنه أعطاها إشارات بصرية ولفظية بأنه يوافق على ما قالت.

إن فكرت زوجته في سؤال ليلة الأربعاء، فستعلم بالتأكيد أن هناك أشياء بسيطة يمكن منحها له لضمان وجوده لمدة أطول. وهي أشياء، يرى مطاوع كأي ذكر، سهولة منحها. وضرورة الحصول عليها.

أثناء كتابة هذه السطور، تتصل زوجة مطاوع لسؤاله.. "آجي النهاردة ولا بكرة؟"، يجيب بصراحة وصدق نادرين، "النهاردة طبعاً.. ليه تستني لبكرة؟".. يدرك مطاوع أنه حصل على جرعته التي يريد، وأن الفرار من القدر سيزيد من عمق المأساة.