الصعيد الخارجي.. والداخلي.. والجواني
في نشرة الأخبار ستجد دائما هذه الجملة.. "وعلى الصعيد الداخلي".. أو "وعلى صعيد خارجي آخر"..
في طفولتي لم أكن أفهم أن هناك اختلافا كبيرا بين الصعيد المذكور في نشرة الأخبار، والصعيد الذي أنا متواجد فيه الآن.. على اعتبار أن كلها "أصعدة" (جمع صعيد)!
الشيء الملاحظ، هو أن الصعيد الجواني هو الوحيد الذي لا يتم ذكر اسمه في النشرة، وكأنه من بلد ثانية غير بلدنا.. فأنت لا تشاهد أن الرئيس قام بجولة تفقدية للصعيد مثلا، أو أن مؤتمر علمي أقيم في قنا مثلا، أو أن أسيوط تشهد مظاهرات لحركة كفاية..
بشكل لا إرادي تغيب أحداث الصعيد عن النشرة، بل وعن الحياة المصرية القاهرية أصلا.. يتم التعامل مع الصعيد باعتباره بلد مجاور لا يمت لنا بصلة..
أتذكر الآن فيلم النوم في العسل.. عندما دخل النائب الصعيدي - والذي أدى دوره الممثل الجميل أحمد عقل - على مكتب الصحفية الشابة – شيرين سيف النصر - ليسألها.. "يا بنتي الإشاعة دي حقيقية ولا لأ.. الرجالة كلموني من البلد وقالولي إن الفلوس جاهزة يعملوا سور بينا وبينكم من بعد بني سويف"..
لا أعرف إن كان وحيد حامد – مؤلف الفيلم – كان يقصد المعنى الذي وصلني أم لا، لكن ما أتخيله، هو أن الصعيد، وخصوصا جنوبه، مؤهل لأن يصبح دولة أخرى داخل الدولة دون أن ندري..
هم يعيشون هموما غير همومنا، وتشغلهم قضايا غير قضايانا، ويفكرون بأسلوب آخر غير ذلك الذي يسيطر عل عقولنا.. هم لا يعرفون عنا غير اسم رئيسنا، والنكات التي نطلقها عليهم كل لحظة.. هم يشعرون دائما أنهم هناك ونحن هنا.. أنهم الماضي ونحن الحاضر والمستقبل.. أنهم الـ"بعيد" ونحن الـ"قريب"..
ونحن لا نعرفهم عنهم أي شيء، فقط كل ما نعرفه أنهم "تحتنا" على الخريطة، وطبعا بما أننا "فوق" في الخريطة ذاتها فإن منظومة الـ"فوق وتحت" تحكم دائما نظرتنا لهم، ونتعامل معهم باعتبارهم "بلاد جوة" بنظرة سياحية مليئة بالجهل.. والازدراء!
ركز قليلا، في صورة الصعيد المحفورة داخلك، وتذكر أنك لم تقرأ عنه سوى مذكرات نائب في الأرياف لتوفيق الحكيم، أو مذكرات دكتور في الصعيد الجواني لنبيل فاروق..
تذكر أنك اندهشت حين قرأت خبر "قطار الصعيد" للمرة الأولى، السؤال الأول الذي قفز إلى عقولنا جميعا.. هو من أين أتى الـ 3000 بني آدم الذين ركبوا هذا القطار، وكيف لم نسمع من قبل عنهم..
قد تكون نظرتي قاصرة، بل هي كذلك بالفعل، فأنا لا أعرف عن الصعيد أي شيء، رغم أني أدرس فيه منذ 4 سنوات كاملة، كنت أستغرق فيها في نظرة السائح، وأحلم (ولا زلت) في أن أصنع يوما فيلما تسجيليا عن قنا المدينة الوحيدة التي شاهدتها في الصعيد وأسميه.. (قنا.. عذاب النار)..
أتذكر الآن أيضا ما ورثته أفلام السينما في عقولنا عن الصعيد، ويمر في ذهني سريعا، ما حدث في الثمانينات من إرهاب وفتنة، كان الصعيد هو مسرح أحداثهما.. ولعل تلك الأحداث هي آخر احتكاك حقيقي بيننا وبينهم!
لن أطيل عليك في الحديث عن علاقتنا بهم وعن نظرتهم لنا، أنا متأكد من أن شخص ما كتب عن هذا من قبل.. لكن ما أريد أن أحكي لكم عنه، هو عن الطريقة العظيمة التي نستخدمها "نحن" هنا.. للسيطرة عليهم هناك..
فمئات الكيلو مترات التي تفصل بيننا، تجعلهم في وضعية الاستعداد لأن يكون هم "هم" ونصبح نحن "نحن" بشكل حقيقي، فما الذي يجبرنا على الارتباط، وما الذي يجبرهم على الاحتمال؟!
أضف إلى ذلك أن حصص الجغرافيا وتاريخ الثورات التي درسناها، تقول جميعها أن "الجنوب" دائما ما يفكر في الانفصال، ولديه دائما حججه التي تتعلق بالاضطهاد أو القمع، أو حتى تجاهل أهل الشمال له.. وهو ما يحدث معنا فعلا..
نظامنا الحاكم نظام عسكري قبل أي شيء، تعلم أن كسب المعركة يتعلق في النهاية بالـ"سيادة" على أرض العدو..
وفي السيادة، فإن لنظامنا أساليب مبتكرة، تعالى معي لتعرف كيف يسود "هنا"..(لأول مرة أتنازل عن "هناك").. في صعيد مصر وجنوبها..
في قنا.. ستجد صورة الرئيس تحاصرك في كل شارع.. بل أن الصور موجودة على كل رصيف، وبين كل صورة وصورة.. يوجد عامود نور .. وصورة ثالثة.. وتضيء الصور الثلاثة بوجه الرئيس وبالإنارة النيون (التي كانوا محرومين منها حتى خمس سنوات مضت) وبابتسامته الدافئة، والتي يزيد دفئها من حرارة الجو حتى تشعر أن الرئيس هو السبب في الحرارة وليست الشمس..
كأنها – الصورة – تقول لكل مواطن جنوبي صعيدي قنائي (يكتبونها هكذا وليس "قناوي").. أنا الرئيس لا كذب أنا ابن محمد حسني مبارك..
صورة الرئيس، تجدها على لوحات مغروسة في الأرض، على عكس أخواتها في القاهرة الموجودة "فوق" على عواميد الإنارة.. غرسها في الأرض يوحي بأنها اثبات لملكيته لها... تماما كتلك المكتوب عليها "أرض ملك فلان وغير معروضة للبيع"..
لاحظ معي، أن عدد رجال الأمن والشرطة في قنا يكاد يزيد عن عدد المواطنين أنفسهم، في قنا، ستكتشف أنها المحافظة الوحيدة في مصر التي يوجد في كل شارع بها عسكري.. وأنك لو ناديت بطريقة اسماعيل ياسين الشهيرة .."يا بوليس.. يا شاويش".. فسيأتي البوليس والشاويش ليأخذا لك حقك.. وربما ليأخذاك أنت ومن ظلمك على القسم وهناك تتفاهمون!
الأمن الكثيف، يعطي لكل بني آدم قنائي دائما إحساس أنه في خطر، وأن هؤلاء موجودون لحمايته، أو احساس آخر أكثر صدقا أنه هو نفسه خطر، وأن هؤلاء موجودين لحراسته ومحاصرته.. ومراقبته!
واقعة شهيرة، يحكيها كل أبناء قنا، عن اليوم الذي انتشرت فيه إشاعة قوية بوجود قنبلة مزروعة في الساعة الكبيرة في ميدان الساعة أهم ميادين قنا.. الساعة 2 ظهرا، ساعة خروج الموظفين، تمت محاصرة الميدان بالكامل، وغلق كل المنافذ، وشل حركة المرور ساعة كاملة، كنت هناك بالصدفة.. وسألت أحد المارة.. "في إيه يا خال".. رد في حزم.. "جنبلة.. جنبلة"...
العالمين ببواطن الأمور يؤكدون لي (وأنا أصدقهم) أن القنبلة كانت وهم ليس أكثر، وأنها فقط رسالة للناس هنا، ليفهموا أن الأمن موجود، وأنه مسيطر.. ويسود!
أنا أصدقهم لعلاقتهم القوية بالأمن من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن التوقيت ذاته كان مناسبا لمثل هذه الرسالة.. فالبلد تم تجديدها بالكامل، وعمل المحافظ الجديد بدأ يؤتى ثماره، وبدأت المحافظة تباهي أخواتها بجمالها وحلاوتها، وحصلت المدينة على جائزة أوربية كأفضل مدينة في العام ذاته، ولأول مرة.. بدأت مظاهرة في الجامعة ضد احتلال العراق.. والمظاهرات (كما يفهمها الأمن) دليل على أن الناس تفكر، والناس تفكر حين لا تجد ما يشغلها.. ولا شيء يشغل المواطن الصعيدي أكثر من العنف.. والـ"جنابل"..
اسأل أي مواطن قناوي عن المحافظ الجديد، سيقول لك كلاما كثيرا لا يعنينا، لكن لاحظ في عباراته الضمير الذي يتحدث به عن "هم" الذين أرسلوه له كي يصبح محافظ..
سمعتها أكثر من مرة خلال أيام.. "لقد أرسلوه كي يفعل.."، دائما تحيط هذه النظرة بالمسئولين القادمين من القاهرة كي يحكموهم.. وتسيطر الفكرة التي تؤكد أن شكل وطبيعة المحافظ الجديد هي التي تحدد مدى رضاء النظام (في القاهرة) عنهم!
في قنا مثلا، وفي صورة جديدة من صور "السيطرة"، ستجدهم يحترمون إشارات المرور الصارمة (والغبية)، وستجدهم يدفعون ببساطة شديدة أول كل شهر مبلغ ما للمحافظة للمشاركة في رصف شارع أو إنشاء كوبري..
أبسط الأشياء التي تؤكد لك أن الذين يحكمون هذا البلد الصغير يدركون جيدا ما يفعلونه بأبناء الصعيد، هو السياسة العقيمة في إغلاق الشوارع وفتحها.. فهو لا يغلق شارع معين لحاجة مرورية بحتة، لكنه يفعل ذلك حتى يفسد سيطرة عائلات بعينها على شوارع أخرى.. وهو ما يدركه أبناء الصعيد أنفسهم..
لست أنا وحدي صاحب الملاحظات السابقة، لكنها كلها (تقريبا) سمعتها من رجال ونساء يعيشون في هذا البلد ويشعرون بكل الذي مضى.. ويسكتون عليه!
نتيجة كل هذا أن الأستاذة (أ) وهي مدرسة ومثقفة ولها علاقة بمثقفين قنا، عندما جلست تتكلم معي عن الأوضاع الآن أخذت تشرح لي كيف أنهم "يقرأون" ما يحدث "لدينا" وما تفعله المعارضة "عندكم" مع النظام..
كلها ألفاظ تفصل بينهم وبين ما يحدث الآن، هم ينتظرون الصحف الصادرة في القاهرة، ليتابعوا أخبار القاهرة، والمعارك التي تحدث في القاهرة، وما تفعله معارضة القاهرة بنظام القاهرة في أزمة قضاة القاهرة..
هذه هي الحقيقة للأسف.. لأن صورة الرئيس، والعسكري الموجود في شارع، والغرامات التي يدفعونها، والنظام المروري الغبي.. والمحافظ الذي يأتي من "عندنا".. كل هذه الأشياء تجعلهم غير مهتمين كثيرا بما يحدث هنا، باعتبارها معاركة بشر آخرون غيرهم.. وأن نتيجة المعركة.. ستصلهم يوما.. لكنها.. متأخرة كالعادة!
يبقى أن أقول أن كل ما جاء في السطور السابقة ينطبق على قنا فقط دون غيرها من بلاد الصعيد، لأني لا أعرف غيرها، وإن كانت الحكايات التي تتردد عن تلك البلاد.. لا تختلف كثيرا..
هناك 4 تعليقات:
حتى في الكلام عن الصعيد حسني مبارك محشور في النص يابيرو والنبي بلاش كلام في السياسة كفاية بقى
وبعدين موضوع الصعيد ده الناس مش فاهمة ويمكن يفتكروا انك عنصري زي الاخ بتاع البلوج اللي فات خليك في الضل ياخطيبي
كل دا و انت بتتكلم عن الصعيد الجوانى ما بالك لو عديت الجبل او رحت قري النوبيين
دة جزء من بلدي وبلدك ما كناش نعرف عنه حاجة إلا في المسلسلات المتخلفة أمثال الضوء الشارد وثورة الحريم وخزعبلات مجدي صابر ، جزء مفيش فيه القصور الفارهة الملكية الطراز ولا الستات المتمكيجين 24 ساعة ، ولا اللهجات الغريبة اللي اخترعوها في المسلسلات دي ، واللي لا تمد للصعيد غير السعيد بصلة..
والمؤسف أن بعض أبناء الصعيد قد يكونون سبباً في نكبته .. مصطفى بكري اللي بيفخر إنه صعيدي تخلى عن دور أباحمد في حادث قطار الصعيد الذي قيد في نهاية الأمر ضد عفرتكوش ابن برتكوش .. واللي القاضي قال في حكم القضية فيه إن الجناة التانيين برة أحرار وطلقاء.. همة مين وعملتوا إيه علشان تقبضوا عليهم ؟ ولا حاجة!..قس على بكروروتي رجل المستحيل أشخاص آخرين أول ما يروحوا للقاهرة ينسوا أهاليهم وأساميهم كمان .. كأن فيه كراهية غير مفهومة بينهم وبين المكان اللي عايشين فيه..
كانت ليا تجربة شغل مع مجموعة من أبناء الصعيد في بورسعيد ، واللي كانت مكان غربة ليا وليهم .. قيل لي إنهم شغالين لفترة مؤقتة في الصيف وراجعين بلادهم .. لكن كل ما أشوفهم نايمين في العراء باحس إنهم هربانين من ألف حاجة .. المجتمع المغلق المتناقض ، والإهمال الحكومي المفترس ، وتغليب ثقافة القبيلة على احترام الدولة ومؤسساتها ، وطبعاً وأولاً وآخراً وأخيراً الفقر ، ثم الفقر ، ثم الفقر..
ياريت الدولة بفلوس المسلسلات تعمل حاجة للصعيد غير السعيد..
ربّما يكون من افضل ما يمكن قراءته عن الصعيد و ناسه كتاب "مذكرات قريه" وله جزءان .. و كتبه المستشار عصمت سيف الدوله و نشرته دار الهلال .. حول قريته البعيده فى صعيد مصر .. كتاب لا يصوّر الصعايده فى صورة ابطال مغاوير على طول الخط ولا شياطين و مرده فى كل وقت ..
إرسال تعليق