الخميس، أبريل 09، 2009

أن تحكي.. لتعيش

سيكون مستحيلاً، بعد عشر سنوات، إن بقيت على قيد الحياة، أن أفقد الحكايات، أو أن تفقدني هي.. ستصير حياتي بطريقة ما، مرتبطة بقدرتي على الإستمرار في الحكي، فإن توقف الحكي، توقفت هي، وإن توقفت هي، استمر الحكي.

وأشعر، أنني مخلص للحكايات التي يمكن أن أحكيها بعد عشر سنوات. دربت نفسي على اكتساب مهارة الصمت في حضرة أصدقائي المدهشين، القادرين – عبر حكيهم – على تمرير أفكار ومشاعر موحية، قد تصلح – حال تذكرتها – لإبتكار حكايات غير حقيقية في المستقبل.

كما أني غيرت تكنيكي المعتاد في الفرجة على الأفلام، أصبحت أتدخل في القصة بنفسي، لأضيف مشاهد وأحذف أخرى، لينتهي الفيلم وقد منحني قصتين أو ثلاثة يمكن الإحتفاظ بهن ليوم الحاجة.

وقد كنت أعاني من الـ"نزق" وأنا صغير، وهي كلمة لا أعرف معناها، ولكني أتخيلني كيف كنت "نزقاً" كما وصفني أحدهم، وكان صادقاً.

كنت أقول، أنني قرأت بما يكفي من القصص، بحيث أمتنع عن كتابتها، فالحكايات انتهت كلها، والأفكار البسيطة العادية، حظى بها القدماء، الأفكار غير المدهشة، روميو وجوليت، ورحلة إلى مركز الأرض، وأوليفر تويست، وحتى نهر الجنون.. كلها أفكار غير مركبة كالتي ينبغي أن نبتكرها الآن لنكتب قصة ونحكيها..

فإن كان المطلوب من الحكاية، أن تروي شيئاً ما غريباً، غير عادي، فالأمر إذن يزداد صعوبة كل لحظة، طالما استمرت الحياة بما فيها من غرائب، وطالما كان الله، الصانع الأكبر للغرائب والأمور المدهشة، لا يزال متسامحاً مع البشر، بحيث يبقي لهم الحياة فترة جديدة، قبل أن يعلن النهاية والقيامة، وهي فترة، لن يشعر البشر بأي امتنان لوجودها، وسيستمرون في صنع الغرائب، غير مدركين بأنهم يقتلون الحكايات بذلك.

أصبحت الحكايات، مثل الشعاب المرجانية، بقاؤها مهدد، وقيمتها تضيع، لأنه يجب أن تكون هناك مسافة فاصلة، بين وجودها في قاع سحيق بالبحر، وبين وجود البشر على السطح.

يمكن تخيل البشر يصنعون شعاباً مرجانية في بيوتهم ببساطة ودون تعب، كصنع فطيرة أو إعداد كوب شاي، كيف يمكن إذن التعامل مع الشعاب الحقيقية القادمة من القاع، ما الفرق بين شعب مرجاني خلاب، وبين ورد النيل الذي يتكاثر وحده، كلاهما حال ذلك يجب التخلص منه، والحرص على ألا يستمر في الوجود.

وقد تخلصت من نزقي بمرور الوقت، وفكرت في طريقة جديدة لتوليد الحكايات دون عناء، واسميتها ماكينة الحكي. واحتجت لساعات من الخيال الحر، للتأكد من أن الفكرة قد تكون صالحة وعاملة.

لدينا عشر سلال، أو أدراج، وفي كل واحد توجد شخصية.. مجردة، يوجد مثلاً في الدرج رقم تسعة شخص اسمه براء، وهو بدين، ويرتدي عوينات، ومثير للشفقة والإشمئزاز في آن، وإلخ.. نضع مع هذا البراء في درجه ما يمت له بصلة، بلغة أهل الدراما نرسم شخصيته الكاملة، ونتوقع ما قد يبدر منه حال مقابلته لشخص مثل الساكن في الدرج الثالث، الذي هو اسمه دعاء، وهي فتاة لطيفة، تعمل صحفية، ويمكن أن تقبل ببدين له عوينات مثير للشفقة والإشمئزاز زوجاً لها وأباً لأطفالها.

والماكينة تعمل بهذه الطريقة، تطلب منها خلط سكان الأدراج رقم 9 و6 و4 و1، وإضافة بعض مكسبات الحكي، كالمكان والزمان وحالة الطقس، فتهتز الماكينة قليلاً، دون أن تنفجر، وتخرج لك من المكان المخصص لذلك حكاية جيدة.

ومشروع الماكينة مهم في نظري لدرجة أن خيالي يسمح لي برؤية ماكينة في كل شارع، كما ماكينات الكولا والصراف الآلي وكابينات الهاتف، وها هي فكرة جديدة، يمكن تركيب سماعة للماكينة، وسماع الحكايات بصوت ممثلك المفضل، أو بصوتك أنت نفسك، بعد أن تجعل الآلة تستمتع، عبر الساعة، لصوتك، وتعمل هي على تقليده في دقيقة وتقديمه لك، فتسمع الحكاية وكأنك ترويها.. وتضيف عملة مالية صغيرة في المكان المخصص نظير الخدمة الصوتية الإضافية.

.......

هل ستنتهي الحكايات فعلاً، هل ستصبح مهنتي، حكي الحكايات، والتي اخترتها لنفسي بعد عشر سنوات مهددة بالإنقراض؟. توجد شواهد على ذلك، الأفلام الأجنبية لم تعد مدهشة، الحكايات بدأت تصبح عادية، كذلك الأدباء المحليين، أصبحوا فقراء وضعفاء، وإن كانوا يدعون القوة والعظمة، لاحظت في الجريدة، أن المؤلف الأهم في بلدنا الآن، كتب ثلاثة كتب فقط، فأصبحت شهرته عالمية، وتم تحويل قصته الأهم إلى فيلم.. لكن لا دهشة في كل هذا.

أشعر بالخطر، إن انتهت الحكايات حقاً، ستصبح الأشياء كلها مهددة بالفناء، سيبقى الناس في جحورهم، لن يجلس أحدهم في الحديقة يستمتع بالشمس، فلا معنى لذلك، ولاجديد تحت الشمس بالمعنى الحرفي للجملة، وسيتوقف البشر عن التكاثر، فالذكر لا يملك حكاية عن نفسه يرويها، والإنثى ستفقد الكثير من بريقها بانقراض الثرثرة.

وسنتوقف عن قراءة الصحف، فلن يحدث جديد، وسيجتمع رجال الأديان، ويقررون البدء في صلاة مشتركة لله الواحد، الصانع الأول للحكايات كلها، سيبكون بين يديه، في المحراب وعند المذبح، يا رب، امنحنا المزيد من الحكايات، حكاية واحدة كل يوم، أو ارفعنا إليك، فإنك بالتأكيد تحتفظ بالكثير منها عندك..


هناك 5 تعليقات:

غير معرف يقول...

this is a good one.

Ahmad يقول...

yeah , it was a good one

إبراهيم شعبان يقول...

اسمح لي يا براء المسألة مش مسألة ماكينة بتخلط أوراق في أدراج مرقمة..فين بقى خيال الكاتب،و ثقافته،و ظروف حياته،والمجتمع اللي بيعيش فيه

و بخصوص موت الحكايات فأظن أنك تعرف شطر البيت الشهير لعنترة" هل غادر الشعراء من متردم"..و الكلام دا قاله عنترة من أكتر من ألف سنة،و مع ذلك في شعراء كتيييييييييير جدا كتبوا بعده

و بخصوص الكاتب الأهم زي ما سميته فأحب أقولك إن الشهرة لا تعني الجودة بالضرورة

غير معرف يقول...

ظريفة أوي ،تخيلت المقالة دي فيلم لوالت ديزني مصنوع بجودة عالية علي غرار هاري بوتر ، لا أدري لماذا و لكن تبدو ماكينة الحكايات فكرة جذابة جدا و بالمناسبة يا براء بعض المقالات الأخيرة لك جعلتني أعتقد أن إبداعك قل و لكنك أثبت أنني علي خطأ فعلا أسلوب راق جدا و مليئ بالإبداع

غير معرف يقول...

تدوينة وتحليل راااائع.

وسام كمال