الاثنين، يوليو 11، 2011

الجلسة الثالثة : نصف كيلو لبن.

في الصالة الضيقة، جلس الأستاذ عبد الحميد يشرح لطفلته الصغيرة سلمى مسألة مهمة، لماذا يأكل النمل السكر؟

وجهت سلمى هذا السؤال إلى والدها، مؤمنة أنها ستجد لديه الإجابة دون شك، وكيف لا، وقد اعتادت على إيجاد أجوبة نهائية وواضحة على كل سؤال تسأله في حضرة أبيها مدرس الجغرافيا الأستاذ عبد الحميد الرحيمي.

في المطبخ المجاور للصالة، والضيق أيضاً بطبيعة الحال، فشقة صالتها ضيقة لن تكون أبداً ذات مطبخ متسع. كانت السيدة حنان، زوجة الأستاذ عبد الحميد، مدرسة اللغة الأنجليزية، تقطع ما تبقى من أصابع الموز، داخل طبق نصف دائري كبير، ممتلي بقطع صغيرة من الفاكهة تعوم وسط مياة مذاب بها السكر، فيما تسميه باسم سلطة الفواكه، وهي تتركه في الثلاجة بعض الوقت، ثم تخرج الطبق الكبير وتعيد توزيع السلطة داخل أطباق صغيرة، حافظة لكل فرد في الأسرة "منابه"، وهذه كلمة تدل بطريقة أو بأخرى على القدر الذي يستحقه كل فرد من طبق سلطة الفواكه.

الساعة تقترب من التاسعة، والأنباء التي ينقلها الراديو في المطبخ، والتليفزيون في الصالة، وشباك الجيران من المنور، كلها تقول أن البلد ليست على ما يرام. إذن، يمكن أن تصبر سلمى قليلاً على أجابة سؤالها، خاصة وأنه فيما يبدو، فإن بقاء والدها في المنزل دون عمل سيستمر بضعة أيام..

بميكانيكة معتادة، وضعت السيدة حنان ورقة مستطيلة بجوار التليفزيون، وأخبرت زوجها، أنها طلبات مهمة، يجب احضارها من البقالة القريبة، أو الذهاب إلى السوبر ماركت في الحي المجاور، ذلك أن البقا ء في المنزل يستلزم وجود احتياطي من الغذاء يكفي لكل فرد في الأسرة منابه.

سحب الأستاذ عبد الحميد الورقة، ثم نزل. لم يجد أهمية لارتداء قميصه وبنطاله، اكتفى بالجلابية الواسعة، والشبشب البلاستيكي.

أمام ثلاجة زجاجية باردة، ممتلئة بأصناف مختلفة من الجبن، قال الأستاذ عبد الحميد طلبات زوجته، زجاجة زيت عباد شمس، وكيلو كامل من الجبن الأبيض ملح خفيف، وأربعة أكياس من العيش البلدي المغلف، وكيلو ونصف من اللبن كل نصف وحده في كيس منفصل.

لم يعرف الأستاذ عبد الحميد أبداً الحكمة في تقسيم اللبن إلى أكياس متساوية، ولم يكن يرغب في معرفة السبب. في النهاية هذا أمر يخص زوجته ويريحها. وغالباً، فإن ابنته سلمى لن تسأله يوماً عن أمر كهذا، وإن سألته، فسيكتفي بالقول : اسألي ماما.

عندما عاد الأستاذ عبد الحميد إلى المنزل، كان شكله قد تغير بعض الشيء. جلبابه متسخ، وعليه بقع بيضاء. ورأسه متورم قليلاً، وهناك ثقب صغير يتوسط جبهته، بالتحديد في مكان زبيبة الصلاة التي تمنى يوماً أن يمتلكها.

كانت إحدى فردتي شبشبه مفقودة، ويمكن أن نفهم، إن الرصاصة التي اخترقت جبهته، جعلته يسقط على الأرض، ما جعل أكياس اللبن تنفجر كانفجار رأسه تماماً.

ليست كل أكياس اللبن، كيسان فقط، كيلو واحد، ليختلط الدم باللبن، في مزج غير مريح بين لوني الأحمر والأبيض، وهي ألوان متنافرة، لا نراها إلا على علم مصر بصحبة النسر، واللون الأسود الذي سترتديه الأستاذة حنان وباقي أسرتها حداداً على مقتل زوجها في الشارع الخلفي دون سبب واضح.

الشاشة تقول، أن الفوضى تعم البلاد، وأن السجون باتت مفتوحة، وأن البلطجية في كل مكان، والشباب الذين أحضروا لها جثة زوجها إلى المنزل، يقولون أن زوجها كان بطل لمظاهرة ضخمة خرجت من الحي المجاور، وأن حمله لطلبات المنزل، لم يمنعه من الهتاف "يسقط يسقط.. أرحل أرحل". حتى اصطاده القناصة حين ظنوا أنه قائد المسيرة.

السيدة حنان، لا تصدق أن زوجها مشى يوماً في مظاهرة، ولا أن للبلطجية مصلحة في قتله.

بعد صدور تصريح دفن الجثة، وبعد انتهاء الجنازة السريعة، عادت السيدة حنان إلى منزلها وجلست وحيدة في صالتها الضيقة. كان أطفالها متفرقين في بيوت الأقارب.

نظرت إلى المكان الذي اعتاد الأستاذ عبد الحميد الرحيمي الجلوس فيه، فوجدت كيس أبيض صغير. عليه من الخارج بعض النقط الحمراء، تذكرت على الفور أنه دخل منزلها مع جثة زوجها.

صف كيلو لبن ملوث بالدماء. هذا ما تبقى من الطلبات التي كتبتها في ورقة مستطيلة وطلبت من زوجها النزول لشراءها.

في جلستها الصامتة، سألت السيدة حنان نفسها، عما يجب أن تفعله بكيس اللبن الملوث بدماء زوجها. لسبب أو لآخر تظن أن له قيمة أكبر من قيمة أي كيس لبن آخر.

اللبن لبن كأي لبن، لكن الدم دم الأستاذ عبد الحميد الرحيمي الذي لا يقدره في هذا العالم أكثر من تلامذته إلا زوجته، ثم ابنته سلمى التي لم تعلم بعد السبب في أن النمل يأكل السكر.

فكرت السيدة حنان، أن اختيارتها محدودة، من الممكن رمي الكيس وتناسي الموضوع وكأنه لم يكن، فما أهمية نصف كيلو لبن وزوجها مات.

من الممكن أيضاً فتح الكيس وشرب اللبن، لكن، هل تفارق رائحة الدم الكيس؟. ثم أليست هذه قسوة نادرة، أن تشرب الزوجة اللبن الذي مات زوجها وهو يحاول إحضاره إلى منزلها.

من الممكن إعطاء الأمر بعداً أعمق. ستشرب السيدة حنان اللبن فقط في اليوم الذي يدخل قاتل زوجها السجن، أياً كان اسم القاتل، أو صفته أو وظيفته.

هذا تحدي، من ناحية، لن تتمكن السيدة حنان من شرب اللبن حامضاً أو منتهي الصلاحية، ومن ناحية أخرى، تعلم، كربة منزل محترفة، أن أقصى مدة يمكن الاحتفاظ خلالها بكيس لبن ملوث بالدم، هي عشرة أيام في أفضل الأحوال.. فالدم، لا يحفظ اللبن على أي حال.

ما الذي يمكن تقديمه للسيدة حنان حتى تتمكن من التصرف حيال نصف كيلو لبن ملوث بدم زوجها؟.

هناك 11 تعليقًا:

hamed mostafa يقول...

جامدة جدا ويارب يصبر الست حنان على مقتل جوزها وياريت تعرف ان مع الشهدا يعنى فى مكان احسن مالدنيا المتقلبة دى
بس انت عارف اية اللى مزعلنى ؟؟؟؟
قولتلى اية بنتة الصغيرة وحالتها لما تسمع الخبر
بس يمكن لما تكبر ووالدتها تقولها ان والدها كان شهيد الحرية عمرها مهتزعل
وفى الاخر انا عايز اقول ان
الفراق صعب اوى وسلامات

غير معرف يقول...

انا مانمتش امبارح عشان كان هيحصل ماس عندنا في البيت و ربنا ستر الحمدلله و عندي شغل بعد شوية و بالصدفة دخلت في محاولة يائسة لمدونتك عسى الاقي حاجة جديدة لأني فضلت فترة طوييييييييييلللةةةةة بدخل كش بلاقي حاجة و مش ممكن حصيلتي المتواضعة من الكلام تكفي لوصف سعادتي لما لقيت هذا الكم اللهائل من البوستات اللي مجرد فرحتي بيها ضيعت كل أثر للإرهاق و الأرق بشكرك

غير معرف يقول...

رائع

غير معرف يقول...

للأسف انا قريت امبارح آخر تدوينة جديدة مع اني تباطأت في قراية التدوينات ما أمكنني عشان أوزع المتعة على كذا يوم لكن خلصوا بردو و انت لسة ما كتبتش حاجة جديدة تانية ، يا رب تكتب تاني قريب

melody life يقول...

رائع ,, موفق

غير معرف يقول...

welcome back

دعاء يقول...

راق لي ما كتبت
كثيرا
سلمت !
يسعدني أن تكون من متابعي مدونتي :
http://thusmylife.blogspot.com/

ahmed يقول...

موضوع رائع بالفعل
جزاك الله خيرا
وكل عام وانت بخير

Unknown يقول...

يسعدنى ان تكون متابعا لمدونتي
http://shbabgamed1.blogspot.com/

علوة يقول...

أحسنت
ولكن .. هل ستجيب حنان سؤال ابنتها سلمى؟

نادي حواء يقول...

شكرا علي الموضوع